مقالات

كفتارو…رسالة إخاء الأديان

يتجدد الحديث عن الشيخ كفتارو في ذكرى رحيله 2004 مطلع أيلول كل عام، كرائد ديني نجح في الانتشار بشكل واسع وترك عدداً من المؤسسات الدينية، وسلسلة من التساؤلات، وبعيداً عن الدور السياسي الذي يتعرض باستمرار لنقد التيارات الديمقراطية والثورية، فإنني أريد الحديث تحديداً في رسالته في إخاء الأديان.

اختار الشيخ كفتارو رسالة واضحة في الإخاء الديني منذ أن كان مفتياً لدمشق، وسجلت له مبادرات متعددة بحضور الرئيس شكري القوتلي، ولم يكن الشيخ كفتارو بدعاً في المشايخ في تواصله مع رجال الدين المسيحي فقد سبق إلى ذلك أعلام مهمون مثل الأمير عبد القادر الجزائري والشيخ بدر الدين الحسني والشيخ بهجت البيطار، ولكن يجب الاعتراف بأن التيار السائد كان يرفض ذلك بقوة، ولا تزال فتاوى الشيوخ المعاصرين له حبنكة والبوطي والرفاعي ومن قبلهم ابن تيمية وابن القيم تكرّس تحريم زيارة النصارى في كنائسهم وتحريم تهنئتهم بأعيادهم لأن ذلك يعتبر بمثابة إقرار لهم على الشرك، وعلى المسلم أن ينصحهم بترك أديانهم لا أن يهنئهم بالشرك فيها.

ولكن الشيخ كفتارو اختار وعياً آخر، وخاصة في الانفتاح على الديانة المسيحية بوجه خاص، فهم شركاء الوطن والتاريخ، وكنائسهم إلى جانب مساجدنا، مآذن ومنارات، وكان يرى أن رحمة الله وسعت كل شيء، وكلهم عباده وعياله، وقد بادر بزيارة كل الكنائس في الأعياد المجيدة، ولم يتوقف عند الجانب البوتوكولي الذي يفرضه المنصب الديني، بل فتح أفقاً للجمهور للمشاركة في هذا الوعي، وكان أسبق الناس بفتح رحاب مسجده لرجال الأديان، وقد اعتاد الناس في المسجد أن يشاهدوا البطاركة والمطارنة والقساوسة، يتحدثون في المسجد وهم يرتدون رموزهم وصلبانهم ويقدمون خطبهم من روح الكتاب المقدس وفق تراتيلهم المعهودة.

وكان الشيخ حقيقة ينطلق من رؤية صوفية نقشبندية عميقة لا ترى في الإنسان إلا أثراً من الخالق سبحانه، وتؤمن بوجود الروح الإلهي في النفخة التي نفخها الله في الإنسان، وكان لا ينكر اختلاف الناس إلى فرق وأديان ومذاهب، وكان يرى ذلك إرادة الله ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.

في الواقع لقد صنعت تلك الذكريات الجميلة وعينا في الإخاء الديني، وكنا أطفالاً نتلقى هذا اللون من التعليم بالمحبة والمودة، على الرغم من التناقض الصارخ بين ما كنا نمارسه مع الشيخ من وداد للأديان وبين ما يطالبنا به التفسير السلفي في مناهجنا في تحريم ذلك كله.

ذات عيد كنا مع الشيخ كفتارو في صالة جامع أبي النور حيث اعتاد أن يستقبل المهنئين بالعيد من المسيحيين، حضر البطريرك هزيم بطريرك الروم الأرثوذكس، وكان الود بادياً بين الرجلين، ترسمه الابتسامات الظاهرة، والعناق الحار، وخلو المشهد من الخطاب المتحفظ، وفي جو من الحبور قال الشيخ كفتارو مرحباً… أهلاً بك غبطة البطرك وأهلا بإخوانك من أبناء السيد المسيح، وفي لفتة جميلة التفت الشيخ إليه مبتسماً وقال وهو يحدق في بؤبؤ عينه: يا بطرك انت مسيحي لأنك ولدت في محردة، ثم رد يده إلى صدره وقال ضاحكاً: وانا مسلم لانني ولدت في ركن الدين، ثم أشار بأصبعه وهو يطوف ببصره علينا: ولو ولدت مكانك أو ولدت مكاني لكنت أنا البطرك كفتارو وأنت المفتي هزيم… وضحك الرجلان وضحكنا، والتفت بعضنا إلى بعض نتهامس عن الشيخ والبطرك، وسعدنا بطاقة إيجابية في فهم أبناء الوطن وبناء ثقافة إخاء الأديان وحلاوة الإنسان.

كانت روح الوداد الغامرة لا تسمح بتصور نفاق أو مداهنة وراء هذا الحب الظاهر، فقد كنا نفهم الأمور على واقعها، قبل ان نبدأ بالسماع لبعض الواعظين الخلفيين (ربما في كلا الجانبين) الذين كانوا يقتلون كل هذه المبادرات النظيفة بوصفها جهوداً ذكية في الدعوة لبيان ضلالهم وفساد عقائدهم وأننا يجب ان نلتزم ثوابتنا بتكفير الآخرين وأن نفهم أن ما يقوم به الشيخ أوالبطرك هو حكمة ومداراة، بل إن بعضهم كان يتطوع بتلقيننا ثقافة المكر والغدر على وجه أخجل من ذكره.

في لقاء طريف آخر شهدت يوماً مع الشيخ حواراً مهماً حيث زاره المطران توما وهو رجل مرح من الطائفة السريانية، دائم البسمة وسريع البديهة وحاضر النكتة، وبدأ الشيخ يبسط الكلام عن آيات التسامح والغفران والمودة، لتجدن أقرب الناس مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، وعن سورة مريم وسورة آل عمران، وهي اختيارات برع فيها الشيخ رحمه الله، وبادر المطران بولس وقال باسلوبه المازح: شيخي .. لقد غمرتنا بفضلك بآيات التسامح مع المسيحيين، لكن يا ريت تذكر لنا الآيات التي تكفرنا وتبهدلنا وتلعن أبونا !!!

ضحك الشيخ وأخذ بعمامته يركزها على رأسه من جديد، وأخذ بيد المطران وقال له على البديهة: أحسنت .. هي موجودة .. لكن أنا أعطيتك شراب الليمون، وموجود عصا الليمون أيضاً والعصا لمن عصا!!.. وضحك الشيخان وضحكنا وساد جو من الأنس والسرور والإخاء، ثم قال الشيخ: نعم حضرة المطران.. هناك نصوص في القرآن تخص المحاربين المعتدين، وقد نزلت في نصارى الروم الذين كانوا يحتلون أرضنا ويستذلون شعوبنا حتى أنقذهم الفتح الإسلامي، وأشار بتفصيل إلى الموقف الشجاع للبطريرك عيواظ الذي كتب في فضل الفتح الإسلامي على نصارى سوريا وإنقاذهم من بطش الروم ومظالمهم.

ثم التفت الشيخ إليه ووضع يده على يده وقال: في هذه النقطة يختلف الإسلام قليلاً عن وصايا المسيحية في أن من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، بل يوجد في الإسلام أمر برد المعتدي وردعه، سواء كان المعتدي مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، والنبي الكريم قام بحماية الكنائس في نجران بوثيقة مشهورة معروفة، ولكنه قام بهدم مسجد الضرار وهو مسجد كان يؤذن كل يوم خمس مرات ويقيم الصلاة ولكنه انحرف عن رسالته وتحول إلى أداة شر ومكر فهدمه الرسول الكريم، ومنع أصحابه من النشاط الديني.

هز المطران رأسه ورفع يديه ضاحكاً وقال: يعني ما دخلنا بهالآيات نحنا؟ وهنا هز الشيخ عصاه بذكاء وقال: أنت تقرر… السلوك يقرر الوصال أو الصيال..

وفي لقاء ثالث قدم السفير الكندي إلى دمشق وكعادة السفراء يطوفون على رجال الدين، وكفتارو بالطبع أبرزهم في البلد بوصفه المفتي العام، وفي لقائه مع الشيخ سأل السفير الكندي: كم عدد المسيحيين في سوريا يا سماحة المفتي؟ كان السؤال بروتوكولياً عادياً، ولكن الشيخ كفتارو لمعت عيناه والتفت إليه في ثقة وقال: أنهم سبعة عشر مليون مسيحي!!

السفير: عفوا سماحة الشيخ سؤالي عن المسيحيين فقط، وليس عن عموم سكان سوريا!

الشيخ ملتفتاً إليه بثقة أكيد لقد أجبتك عن سؤالك بالضبط إن المسيحيين في سوريا سبعة عشر مليوناً

السفير يقول: عفواً سماحتك.. لقد سالت عدداً من الخبراء وقالوا إنهم عشرة او خمسة بالمائة من هذا العدد

الشيخ يتلفت مستغرباً ولا يظهر أي إشارة توحي بالمزاح وقال بحزم: من هم هؤلاء الخبراء؟ أنا هنا المفتي العام للبلاد والأرقام عندي!! وأنا أقول لك الحقيقة.

التفت السفير في حيرة يقلب كفيه: عفواً يا سماحة المفتي.. لم أعد أفهم شيئاً! كيف؟

المفتي كفتارو يبادر هنا بحكمته المعروفة وقال: اسمع يا سعادة السفير..

في الإسلام لا يمكن قبول إسلام المسلم حتى يؤمن بخمسة وعشرين نبياً أولهم عيسى بن مريم، وببساطة فإنه لا يكمل إيمان المسلم إلا بعقيدة صحيحة بالسيد المسيح عليه السلام!!

وكل مسلم ينكر السيد المسيح فهو شخص غير مسلم.. هنا في سوريا كلنا مسيحيون!!

كانت صدمة للسفير الجديد الذي ضحك وقال: إذن يا شيخ نحن في كندا مسلمون.. إننا نحب نبيكم ونحب إيمانكم!!

لم يتوقف الشيخ عند حدود شركاء الوطن والأرض من المسيحيين بمختلف طوائفهم ولكنه انطلق أيضاً لفتح آفاق الإخاء الديني مع الأديان الأخرى ودخل معابد السيخ والبوذيين وتحدث عن الإسلام رسالة رحمة وإخاء وشارك في برامج إخاء الأديان مع المنظمات الدولية للأديان، وسجل نجاحاً كبيراً مع أتباع الديانة المونية وشاركهم في إعداد كتاب مشترك يجمع الفضائل في الأديان كلها، وكذلك سجل نجاحاً كبيراً مع أتباع ديانة الأوموتو الذين وفدوا إلى الشام وشاركوا في برامج رمضان الروحية، وعادوا بقدر غير قليل من المحبة والمودة للإسلام على الرغم من أنهم حافظوا على أديانهم وثوابتهم ولكنهم سجلوا أروع شراكة في الإخاء الديني وقيمه الروحية.

إننا نتحدث عن الشيخ كفتارو وقد كان فريداً في موقفه قبل ستين عاماً، ولكن هذا الخطاب بات اليوم سائداً في كل مواقف المفتين تقريباً وقد أظهر الأزهر نفسه ورابطة العالم الإسلامي تقدماً كبيراً في خطاب الإخاء الديني.

من المؤلم اننا نروي هذه الحكايا اليوم عن الشيخ كفتارو وغيره من المفتين والقادة الدينيين ولكننا نذهب في جبن وضعف نلتمس لهم المعاذير، ويقول كثير منا إنها مجرد كذبات بيضاء يطلقها الدعاة لتشجع الناس على ترك أديانهم والدخول في الدين الحق!!

عند هذه النقطة أختلف بشدة عن زملاء لي في تقييم هذه المواقف وأفضل أن أعتبر الشيخ رحمه الله رائداً في إخاء الأديان على أن اعتبره مجرد مداهن ذكي يمارس التقية في سبيل الله!!

Related posts

د.محمد حبش- العالم الإسلامي وتحديات 11 أيلول 2001…31/8/2007

drmohammad

الفائض الحضاري ينتج فائضاً أخلاقياً

drmohammad

الفقيه والحرب… قراءةٌ في بؤسِ تدخل الدين في السياسة

drmohammad