لعلَّ أكثر ما تواجهه من جدل في رسالة التنوير ونشر الوعي هي الواعظون الكرام الذين يقولون لا تقترب من الثوابت، وأن الاجتهاد مكانه في المتغيرات ولا اجتهاد في الثوابت!
وحين تبدأ الحوار وتسأل عن الثوابت فإنك تفاجأ بقائمة طويلة لا تبقي على شيء، فكل ما دلَّ عليه النصُّ ثابت، على الرغم أن الخلاف في التأويل كبير وواسع بحجم اختلاف المذاهب الإسلامية ولكن كل مذهب يعتبر تأويله للنص هو الثوابت التي لا يجوز الخروج عليها.
وإضافة للنص فقد أضيفت عبارة ما علم من الدين بالضرورة، وبذلك فإن ألف باب من الثوابت يتم إغلاقه بناء على اختيار عدد من الفقهاء الذين يمنعون الاجتهاد في هذه المنطقة من الفقه.
إن فكرة الثابت والمتحول هي جزء من ثقافة الإعذار التي تهدف إلى توفير مظلة وافية يأوي إليها أكبر عدد ممكن المفكرين، ولا تضيق بأحد من أهل القبلة، وهنا فإنني أطرح معياراً للمناقشة والتساؤل في تعريف الثابت والمتغير، بحيث يكون الثابت من الأحكام هو ما انعقد عليه الإجماع بحيث لم ينهض إمامٌ معتبرٌ بالخلاف فيه، والمتغير هو ما تردد في قبوله إمام أو مذهب محترم، وبذلك فإن ما خالف فيه إمام معتبر أو مذهب معتبر لابدَّ أن يكون من باب المتغيرات، خاصة أن الأمة استمعت إلى خلافه وأعذرته في اختياره، وأقرت منزلته ومكانته على الرغم من اختياره هذا.
وبتعبير رياضي فإن الثابت هو القاسم المشترك الأعظم بين أبناء الأمة اليوم، بحيث يكون كل خلاف فقهي أو تشريعي تعتمده مدرسة فقهية سائدة هو من باب المتغير، وبذلك فإن المذاهب التي تنتشر اليوم في العالم الإسلامي، وتتجه إلى القرآن الكريم هادياً ونوراً، فهي أهل أن تعيش في جنة الفقه الإسلامي وتسعد بالروح الغامرة في الإسلام التي تجتمع عليها القلوب والأفئدة.
إن منطق الثوابت والمتغيرات ينبغي أن يتبرأ من الشخصانية والطائفة والفئة، ويحلق صوب المقاصد الكبرى للإسلام، ولا يقتضي ذلك مفهوم التذويب والصهر بحيث تنتهي الخصوصيات، وإنما هو إقرار بالخصوصية الناشئة لدى كل فريق، وفي الوقت عينه، بالروح الجامعة التي يأوي إليها الكل، فما كان ثابتاً في مدرسة فقهية معينة قد يكون من باب المتغير في مدرسة فقهية أخرى، وهو ما يعبر عنه عادة بلازم المعتقد ولازم المذهب، فقد لا يتم الاتفاق في إطار لازم المذهب ولكن يلزم الاتفاق في لازم المعتقد، وعلى منطق الثابت والمتغير أن يرتقي إلى أفق توحيد جمعي يتسع للكل ولا يضيق بأحد من أهل لا إله إلا الله.
إن عليَّ أن أشير هنا إلى أن الأمة الإسلامية في وعيها الأول بدلالات الكتاب الكريم لم تكن تتعاطى معه بالطريقة التغييبية التي نمارسها اليوم، وهو أيضاً ما يدل له القرآن الكريم، فالقرآن الكريم واضح في أن سطور الكتاب الكريم على رغم جديتها وحتمها فإنها تحتوي على كثير من المنسوخ والمتشابه والمبهم والمجمل، وهذه مصطلحات فقهية مشهورة وإن كان بعضهم سيتلقاها اليوم بالغضب والاستنكار؛ بل إن فقهاء الحنفية المتقدمين صرحوا بوضوح بأن نصوص الكتاب نوعان واضح وغير واضح وقسموا غير الواضح إلى مجمل ومشكل ومنسوخ ومتشابه، وكل هذه النصوص لا يمكن الاتفاق على معناها وستبقى في دائرة الجدل إلى الأبد.
من جانب آخر فإن الفقهاء يتحدثون بوضوح أيضاً أن الكتب المقدسة القرآن والإنجيل والتوراة لا تحتوي كلَّ كلمات الله ولا كل آياته، ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عليم خبير، ومن المعلوم هنا أن آيات القرآن الكريم كلها يمكن أن تكتب بقلم واحد ولا حاجة لبحار من الحبر، ولا لأطنان من الأقلام، والمعنى نفسه يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾، [يوسف: 105].
إن التأكيد على هذه الحقيقة هو الذي جعل كثيراً من علماء الإسلام يتحدثون عن قرآن مسطور وقرآن منشور، فالمسطور هو هذا الوحي الذي تلقته الأمة بين دفتي المصحف، والمنشور هو هذا الكون الذي يقرأ الإنسان عجائبه في كل شيء، وربما قالوا وحيٌّ متلوٌّ ووحيٌّ مجلو، الأول تتلوه في صحائف الكتاب، والثاني يتجلى في صحائف الأكوان، وهكذا فإن سنن الله في الآفاق وهو ما يتجلى في القوانين الفيزيائية والطبيعية والاجتماعية التي اتفقت عليها كلمة البشر، وقرأها الإنسان بوضوح في كتاب الكون المنشور، لها قوة الدليل في الكتاب المسطور.
الثابت وفق التصور الذي يفهمه المتعصبون هو شيء لا وجود له فلسفياً ولا فقهياً، فالديالكتيك يحكم فلسفياً هذا الكون كله بمنطق الأطروحة والتركيب والنفي ونفي النفي، وكل حال يزول وكل حاكم معزول، ولا أول للأشياء ولا آخر؛ بل جدل مستمر، وتحول يتم كل يوم، وهذا المعنى تعرض له القرآن الكريم في أقدس المقدسات حيث وردت الآية الكريمة: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن﴾، [الرحمن: 29].
وأما فقهياً فلا وجود للثابت بهذا المعنى الذي يتصورون، فالصلاة والصوم والحج وهي أركان الدين الأساسية يعرض لها ما يوجب الأداء والمنع، والقصر والجمع، وهي ترتبط بظروف الإنسان وحاجاته، وبعض الاستثناء فيها، ورد بالنص وأكثره بالعقل والمنطق والبرهان.
لقد حرم الفقهاء التصاوير قروناً طويلة ولكنهم اليوم باتوا يبيحون ذلك دون حرج، وأباحوا الإماء والعبيد قروناً ولكنهم اليوم لا يترددون في القول بالتحريم، وهذا على الأقل حال جمهور الفقهاء اليوم بما فيهم الأزهر ورابطة العالم الإسلامي والجامعات الإسلامية ومشاهير الواعظين، ويردد رجال الدين اليوم عبارة تتغير الأحكام بتغير الأزمان.
وما طرأ على أحكام الاسترقاق والتصوير من تحول وتغير هو ما سنشهده في الأيام القريبة من توقف القول بتحريم النحت وصناعة التماثيل، وتحريم الإقامة في بلاد المشركين وتحريم بناء المعابد لغير المسلمين في البلاد الإسلامية، والسماح للنساء باختيار لباسهن دون إكراه، وهي مسائل تشهد مخاضاً كبيراً اليوم، ولا شكَّ في أنها ستنجلي بعد فترة قصيرة عن انتهاء هذه الفتاوى التحريمية والدخول في عصر التسامح الاجتماعي، ولا أشك أبداً في أنها ستصبح خلال عقد واحد من الزمن من باب المباحات عند أكثر الفقهاء، وسيغدو طبيعياً أن ينافس المتدينون في النحت والغناء والفنون، وأن تقوم العلاقة مع غير المسلمين على منطق القانون الدولي وسننه وليس على قاعدة دار الحرب ودار الإسلام.
ولا أشك في أن الأمة ستذهب بكل تأكيد إلى الدخول في السنن الاجتماعية من الديمقراطية والمساواة والحرية وحقوق النساء والأطفال، وستصبح كل الفتاوى التي ينادي بها رجال الدين على أنها من المسلمات أموراً متغيرة ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
ببساطة كل شيء متغير، والزمان لا يتوقف، والأحكام خاضعة لظروف المجتمع وحاجاته ومطالبه، والثابت الوحيد في هذا العالم هو وجه الله، وكل شيء هالك إلا وجهه، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.