كتبت اليوم مقالاً عن كتابي الجديد بعنوان «إخاء الأديان» ونشرته على ويكيبيديا، وبعد نشره بدقائق حُذِف من الموقع ووصلت رسالة أن المقال لا ينتمي لمجتمع ويكيبيديا، ولا يمثل نصَّاً موضوعياً، وهو حافل بالدعاية الشخصية، ولذلك حُذِف!
بالطبع أصابتني وخزة الإحباط، وأكذب عليك إذا قلت لك إنني لم أنزعج لقرارٍ كهذا ضيَّعت فيه ساعة من الجهد وسنوات من الحلم بأن يتعرف الناس إلى إخاء الأديان بوساطة منصة عالمية معروفة.
ولكنني من جانب آخر شعرت بغاية الرضا والسرور وأنا اقرأ قرار ويكبيديا، وهو بالطبع ليس قراراً فيزيكليا صدر عن اجتماع مجلس المحكمين؛ بل هو محض تطبيق لوغاريتمي ذكي يمكنه أن يكتشف بمعايير محددة مدى التزام الكاتب بشروط ويكبيديا في التوثيق والتدوين، ويحدد تماماً تقييم المقال وموضوعيته، وهل هو علمي أم شخصاني، ثم يتخذ مباشرة القرار المناسب في التصحيح أو الإلغاء أو الحظر.
ويكبيديا من وجهة نظري ليست شركة تجارية ولا فرصة تنافسية، أنا مؤمن للغاية بأن ويكيبيديا أشرف عمل إنساني قدمته البشرية للمعرفة التوثيقية، لقد كنت أقول قبل سنوات إنها ستغير حياتنا، ولكنني أقول اليوم إنها بالفعل غيَّرت حياتنا، وفرضت علينا معايير متقدمة جداً للتوثيق والأصالة والمعرفة.
لقد كنا قبل سنين لا نقبل في البحث الأكاديمي أي اعتماد على ويكبيديا، وعلى عادة أساتذتي الأكاديميين فإنني رددت كثيراً من بحوث طلابي؛ لأنهم اعتمدوا على ويكيبيديا، وكان هذا عرفاً شائعاً في الحقل الأكاديمي؛ بل إن أساتذنتا الأكاديميين كانوا يعارضون معارضة كاملة الاعتماد على الكتاب الإلكتروني، وقد اعتبروا ذلك خرقاً للأداء الأكاديمي، وكان الاستدلال بأي مصدر إلكتروني كفيلاً لرفض البحث العلمي واعتباره عملاً بلا مصداقية يتكئ على مصدر إلكتروني يمكن تزويره وتبديله وتغييره، ولا يصح الوثوق به، وقد ظلَّ هذا الحال هو واقع التعليم حتى تخرجنا من الجامعة، وهو الأسلوب الذي فرضناه على طلابنا أيضاً لسنوات طويلة.
ولكن التوثيق الإلكتروني قد تطور تطوراً مذهلاً في أثناء السنوات الأخيرة، وبات الإنترنت فضاء رحباً للتوثيق والتدقيق، وباتت تتم فيه حجوزات الطيران وإدارة الحسابات المصرفية واستخراج جوازات السفر والهوية الوطنية، وبات التزوير والاحتيال محاصراً للغاية تشرف عليه قدرات عسكرية وإدارية هائلة ويجتمع لضبطه، وقوننته رؤساء العالم في الصين وأمريكا وروسيا والدول الكبرى، فيما بات يعرف بالأمن العالمي السيبراني.
فكيف يمكن الوثوق بالإنترنت في استخراج جواز سفر وإدارة حساب بنكي بملايين الدولارات، ثم لا يوثق به في الاستدلال بكتاب متوفر بصيغة بي دي إف، وقد بات من المؤكد أن تزوير الكتاب الورقي بات ممكناً أكثر من تزوير الكتاب الإلكتروني، وعلى كل حال فإن إصرار الطبقة الأكاديمية على رفض الاستدلال الإلكتروني ووجوب التحول إلى النسخة الورقية صار مجرد مزحة، وبات الطلبة يعرفون تدوين تفاصيل المصادر بوجه أكثر دقة من الكتاب الورقي بعد أن نجح الجميع في تصوير الكتاب والاستدلال به وإحصاء ما فيه من حروف وكلمات وعلامات ترقيم.
وفي هذا السياق بدأت أقبل ويكيبيديا كمرجع في تصنيف المعرفة وتنسيقها، ولكنني لم أملك الجرأة لقبولها كمرجع في توثيق المعرفة.
وفيما بعد بدأت أدرك المعنى العميق لرسالة ويكيبيديا، وقد كتبت مقالاً قبل سنتين وقلت فيه إن ويكبيديا مؤهلة اليوم لتقدم تصنيفاً دينامياً للمعرفة، وستكون بعد سنوات مصدراً حقيقياً موثوقاً للمعرفة، وأعتقد أنه جاء اليوم الذي أقول فيه لقد تحقق ذلك وباتت ويكيبديا مكتبة المعرفة الأولى في هذا العالم الأخضر، فقد استمرَّت ويكبيديا دون توقف في إدخال مزيد من المعايير الدقيقة ووسائل التحكيم الافتراضية المتتالية للحكم على جودة المقال والتزامه بالموضوعية، والدقة في الاستدلال، والجودة في التصنيف، والغنى في الوثائق، وقد باتت اليوم أكثر من أي وقت مضى قدرة على الحكم على المعرفة ومنحها المصداقية والكفاءة.
ولكن المعنى الأهم المتصل بويكبيديا في قناعتي هو الإيمان، هو الإيمان بالإنسان، فالمسألة من وجهة نظري تتصل بوعي عميق في بنية الإنسان وتكوينه وفي الثقة بالخالق الكبير الذي جعل الإنسان خليفة له في الأرض، ينهض برسالته وأمانته ويخدم المعرفة والعلم والنور.
تثق ويكيبيديا بالإنسان ثقة خياليَّة، فالتحرير والتوثيق والتشكيك والإلغاء والقبول كله متاح للإنسان بوصفه إنساناً، ولا يتعلق الأمر بشهادات أكاديمية موثقة، ولا بجهاز شرطة له صفة الضابطة القضائية يسهر بالليل والنهار على ما يتم تحريره في هذه الموسوعة الهائلة؛ بل هو في الواقع تطبيق لوغاريتمي يتيح للإنسان التحرير ويتيح للإنسان الرقابة، وليس المحرر ولا المراقب ولا المدقق موظفين عند جيمي ويلز؛ بل كل يعمل على شاكلته، وبإمكانك أن تفتح أي صفحة للتحرير ويمكن لأي آخر أن يراقب ما كتبت، وأن يحذف منه ويعدل عليه، وفق المعايير التي تضعها ويكبيديا، وفي النهاية فإن الزبد سيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في ويكبيديا، وهذه هي عقيدة جيمي ويلز.
ولكن كيف يمكن الموثوقية بويكبيديا مع إمكانية التواطؤ والتحامل والاستغلال وهي واردة تماماً، فلكل أحد حقُّ تحرير صفحات جديدة؛ بل ودعمها أيضاً عبر محررين آخرين، وسيقوم بذلك السياسيون الذين يمكنهم أن يوفروا دارة متكاملة من المتابعين يتبادلون الأدوار لنشر ما يريدون نشره، والتغلب على الأفراد المعترضين، وهكذا يمكن لمن يريد التواطؤ على المعرفة أن يعين محرراً ومدققاً ومتابعاً ويصل لمراده فتقر الصفحة لوغاريتيمياً ما كتب، وتعتبره مقالاً منضبطاً في فضاء المعرفة.
ولكن الواقع أثبت غير هذا، وهو واقعٌ يستند بيقين إلى غلبة الخير في الإنسان، ويستند قطعيَّاً إلى أن الشر محدود والخير أغلب، وأن التواطؤ محدود، وأن الأمانة أغلب، وأنه ما في فضاء ويكبيديا من خائن يلعب إلا ويقابله تسعة مجدون لا يلعبون ولا يمزحون، ويملكون الحق تماماً أن يجعلوا ما صنعه العابث أثراً بعد عين.
لا يمكن تصور ويكيبيديا دون فريق، فهناك اليوم بكل تأكيد فريق يعد بالآلاف يقومون بإعداد البنية السيبرانية والشيفرة اللوغاريتيمية، منهم 3852 محرراً ومدققاً، منهم فقط 27 آدمن باللغة العربية، تنتهي إليهم الدراسات اللوغاريتمية، ولكن هؤلاء المحررين ليسوا هم من كتب 58 مليون مقال في ويكيبيديا، فيها ثلاثة مليارات مادة تحريرية ما بين صورة واقتباس؛ بل إن ويكبيديا تعتمد اعتماداً أساسياً على مئات الآلاف من المتطوعين القادرين والراغبين بنشر المعرفة في الأرض، وقد بلغ عددهم 290 ألف متطوع، ويتفاعل فيها 99 مليون قارئ، وقد كتبوا بـ 325 لغة عالمية مختلفة، يخوضون بكل اللغات في المجرى الذي رسمه جيمي ويلز، ووفق الشروط التقنية والتكنولوجية والموضوعية التي تم وضعها ومراقبتها بعناية، وتختصر فكرة ويلز بأننا لو نجحنا في توفير ملعب يتفاعل فيه عدة ملايين من البشر لإنتاج المعرفة، وحملناهم بشكل تضامني مسؤولية التحرير والتدقيق والتوثيق واكتفينا بالمراقبة الذكية فإننا لا شك سنحصل على أغزر مكتبة معرفة موثوقة في العالم.
ستكون ويكيبديا عبثاً تائهاً إذا فقدنا الثقة بالإنسان، فلو تصورنا أن عدد العابثين هو نفس عدد الصادقين، وأن المؤمنين بالخير لا يزيدون عن المؤمنين بالشر، وأن الذين يمارسون الخيانة يزيدون عن الذين يلتزمون بالأمانة، فعند ذلك ستتعرض ويكبيديا لتآمر وانحياز ولن يكون في قدرة الصالحين أن يؤثروا في قرار الطالحين، ولكن الإيمان اليقيني بتفوق النسبة الغامرة لأهل الخير على النسبة المحدودة لأهل الشر يجعلنا نطمئن أن المعرفة تتموضع لوغاريتمياً في سياق صحيح، فيصلح الإنسان الإنسان، ويأخذ الصالح بيد الطالح، ويغلب الخير وينقمع الشر، وتنتصر الحقيقة وينتحر الشيطان. هكذا أقرأ لوغاريتم الإيمان في ويكيبيديا ولست متأكداً أن أحداً سيوافقني في هذا الفهم، ولا حتى جيمي ويلز نفسه، ولكنني موقن أن جيمي ويلز رسم قانونه اللوغاريتمي بوعي مثل هذا وإن يكن قد استخدم مصطلحات أخرى ومفاهيم مختلفة، إنني مؤمن أننا ندور في فلك واحد محوره الثقة بالإنسان، فنسميه الفطرة، ويسميه السيبرائيون قوة المعرفة، ونسميه إرادة الله في ابن آدم، ويسمونه الضمير، وكلنا نطوف حول الحقيقة إياها، فالإنسان صورة الله وسره ومظهره، وإذ يجعلون الإنسان بوصلة وهدفاً وثقة فنحن نقبل ذلك ونقرأه في الآية: ﴿وَلِلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ﴾ [البقرة: 155].