Uncategorized

محاكم التفتيش

محاكم التفتيش اسم ذائع الصيت يرمز إلى التوحش والسادية والظلم وارتكاب الفظائع باسم الدين، وقد نشأت محاكم التفتيش في أوروبا عبر سلسلة من البابوات بدأهم غريغوري التاسع 1099م  وكانت تهدف إلى محاكمة الهراطقة والخارجين على أصول الديانة المسيحية، وبشك خاص تلك الفرق التي تختلف في فهم الإيمان عن سلطان الكنيسة، ولكنها اشتهرت بشكل خاص أيام الملكة إيزابيلا وفرديناندو أواخر القرن الخامس عشر في سياق القضاء على الوجود الإسلامي واليهودي في إسبانيا، وقد اتخذت طابعاً أشد هولاً على يد الامبراطور شارل الخامس عام 1542 وقد كانت تشتمل على أشكال من التعذيب يعجز إبليس الرجيم نفسه عن ابتكارها من آلات الحرق والسحل وتكسير العظام والمحارق والمقصلة التي صارت جزءاً من شعائر الكنيسة وقد واجه فيها الملوك الأوربيون خصومهم الدينيين بعد أن حصلوا على تفويض من البابا لعرض الهراطقة على التعذيب حتى الموت للتخلص من جرثومة البدعة في الدين حيث أفتى كليمنت السابع بأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وأن من حق الكنيسة أن تعرض المنحرفين على السيف والنار ليكونوا للناس عبرة ونكالاً.

أما لماذا نثير هذه الذكريات الأثيمة اليوم فلاننا نواجه محاكم التفتيش من جديد في دولنا العربية البائسة التي تعود بنا إلى العصور الوسطى وتحاكم الأحرار والمفكرين وفق قوانين جائرة لا تؤمن بالحرية ولا كرامة الإنسان.

قبل أيام حكمت محكمة مصرية على الكاتب المصري الذي يبلغ الثمانين من العمر أحمد عبده ماهر بعقوبة السجن خمس سنوات عقاباً لما نشره في كتابه ضلال الأمة في فقه الأئمة وهو كتاب ينتقد فيه بشدة عدة كتب من التراث الإسلامي وعلى رأسها البخاري ومسلم.

ولابدَّ ان أشير بوضوح أنني لا أتفق مع أحمد عبده ماهر في أسلوبه النقدي الجارح حيث يهاجم البخاري ومسلم والطبري والشافعي ليس كمجتهدين مخطئين وإنما كأشرار متآمرين، يرتبطون بالمؤامرة الكونية ويعملون في المؤامرة العالمية ضد المسلمين، وهذا فهم عقيم لا يمكن أن يأتي بنتيجة موضوعية كما أنه يقوم بتضخيم أخطاء وردت في الكتب الصفراء ويتجاهل جهود العلماء في نقدها الموضوعي وتحييدها من التداول، ولكنه على كل حال يقدم رايه في المسالة ويكشف النقاب عن فتاوى مظلمة طالما شوهت صورة الإسلام.

ولكن نقدي لما كتبه أحمد عبده ماهر لا يعني على الإطلاق أنني أرضى محاكمته بأي لون من القمع، فهو مجرد صاحب قلم، ولا يصح الرد عليه إلا بالقلم، وهو صاحب قول ومنطق وسبيل الرد عليه هو القول والمنطق ولكننا ابتلينا بعبادة السلطة وفرض رايها على الناس، ويعتبر خطباؤنا الغاضبون أن هذه الأحكام الجائرة هي جزاء وفاق لما افتراه الرجل على الإسلام والمسلمين، وأنه لا ينفع معه شراب الليمون ولا بد من عصا الليمون.

هذا السلوك البربري من وجهة نظري في مواجهة المفكرين الأحرار يتناقض بشكل حدي مع موقف رسول الله في القرآن الكريم الذي أمر مرات كثيرة ان ينصح للناس وليس أن يكون قاضياً عليهم: فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر، وما ارسلناك عليهم وكيلاً وما ارسلناك عليهم حفيظا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.

وفي خطاب أكثر تخصيصاً ينص القرآن الكريم على أن الأمة غير مخولة بإجبار الأفراد على اعتناق أي عقيدة بالقهر والعنف، يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم.

ولست أدري أين يهرب القضاء الديني الشرعي من آيات بهذا الوضوح، يزيد عددها في القرآن الكريم عن ثلاثين آية وكلها تكرس حرية الاعتقاد وتمنع من ممارسة أي قمع ضد المفكرين، ولها آية مركزية محورية جامعة واضحة: لا إكراه في الدين.

وليس القضاء المصري وحده من يسلك هذا السبيل فقد قام النظام السوري فجاة بإلغاء منصب المفتي العام للجمهورية وهو منصب رمزي تشريفي واستعاض عنه بجهاز حكومي تحت اسم المجلس الفقهي والشرعي، وهو مجلس حكومي غامض يتم تعيينه بالكامل من قبل أجهزة الدولة، ويتولى تحديد التفسير الصحيح للإسلام.

وربما يقال إن إلغاء منصب المفتي والتحول إلى مجلس فقهي هو أمر ديمقراطي متطور، فالجماعة خير من الواحد ومن شأن الحكم الرشيد أن يتطور إلى العمل الجماعي، وقد يكون هذا وارداً لولا أن المجلس نفسه قدم نفسه بطريقة مختلفة تماماً، وفي جريدة الثورة عدد 20/11/2019 أعلن هذا المجلس الذي يرأسه وزير الأوقاف أنه قاددم لسحق ” فكر أعداء الأمة والصهيونية والوهابية وتيار الإسلام السياسي واخوان الشياطين، وكذلك من ينكر أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان”

ولا شك ان هذا الاستهلال الحربي العدواني لا يدع أدنى مجال للشك ان مهمة هذا المجلس لم تعد تلك الوظائف الرمزية للمفتي الذي كان يتصرف بحذر ومداراة، بل إنه مجلس رادع ومحارب وجاهز للمواجهات الضارية دفاعاً عن الإسلام وهو مستعد أن يصدر ما أصدرته محاكم التفتيش في العصور الوسطى من أحكام مباشرة ضد من يسميهم المنحرفين من أعداء الأمة وهو اسم جاهز لييتم تلبيسه لنصف هذا الشعب السوري التائه في الأرض، من دون أن يصيب تلك العمائم المكورة فيه أي وخزة ضمير، وهو ينعقد باستمرار لانتقاد فتوى هنا واجتهاد هناك، ويواجه تأويلات سورة التين والزيتون ولكنه لا يرى سبباً لمهاجمة سلوك فروع المخابرات التي تقوم على بتعذيب الناس حتى الموت وانتزاع الاعترافات منهم تحت سلطان التعذيب والقهر، ولا يزال يتسرب إلى الإعلام مشاهد المعذبين حتى الموت، ولا يجد هذا المجلس العلمي الفقهي الشرعي الاجتهادي بألقابه التي لا تنتهي لا يجد سبباً لاستنكار شيء من ذلك.

لا أدري أين سيتجه هذا المجلس، وهو يتغول في حياة الناس ويرصد اجتهاداتهم وتأويلاتهم، وقد كان أول ضحاياه ذلك المفتي البائس نفسه الذي تقدم باجتهاد خاطئ في تفسير آية من الكتاب العزيز فقام المجلس بواجبه وأفتى بجهل المفتي وضلاله وتخريفه وخلال أيام فقد المفتي منصبه وسق منصب الإفتاء كله.

قلقي كبير ان يكون لهذا المجلس الجديد مهمة قمعية ضد الفكر الحر، وأننا نعيد توليد محاكم التفتيش سيئة الصيت من جديد، وأن نستحدث إلى جانب محكمة محكمة الإرهاب ومحكمة أمن الدولة محكمة أمن الدين! وبذلك نمضي لإدخال بلادنا من جديد إلى ظلمات العصور الوسطى.

Related posts

د.محمد حبش-حوارات البحر الميت.طاعون الطائفية وصناعة الأقليات

drmohammad

نحو أنسنة الدولة في الإسلام

drmohammad

الآشوريون في صخب الصعود الأصولي

drmohammad