ظل الحديث عن حوار فقهي علماني غير ممكن من الناحية العملية لسنين طويلة، وكان الحديث عن هذه الحوارات يقتصر عند حدود المجاملة، بل إنه لم يبلغها في أحيان كثيرة، وكان فتح هذا الملف عادة يقابل بقدر غير قليل من الريبة والظنون على أساس أن الاتجاهين مختلفان في الجذور، ومن المستحيل توفر أي مشترك كاف لهدم جدار الوهم بين الاتجاهين.
وقد اخترت أن أنقل المسألة من محض حوار بين الفقهاء إلى حوار بين الفقه وبين الاتجاه العلماني الحاضر في الساحة الإسلامية رفيداً ومشاركاً، محاولة للكشف عن مظان اللقاء والفراق بين التيارين الأكبر في العالم الإسلامي.
وهنا أختار التعبير عن المسألة بأنها نزاع فقهي علماني وليست نزاعاً إسلامياً علمانياً ، والهدف واضح هنا وهو نقل الحوار برمته إلى الدائرة الداخلية، تأكيداً على حق الفريقين في الانتماء إلى الشريعة الخاتمة المظللة بقول الله تعالى: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً.
وقد طبعت ظاهرة النزاع بين الفقيه والعلماني بطابعها تلك العلاقات المتوترة أصلاً والتي كانت ترسم إلى حد قريب حدوداً دموية بين التيارات القائمة في الساحة العربية، وللأسف تم تربص الطرفين في مواقع متباعدة على أساس التناقض الكلي بين المناهج والغايات، الأمر الذي أسهم في تكريس صورة لا دينية تطبع الاتجاه العلماني، وصورة لا عقلانية تطبع الاتجاه الإسلامي، وبدا كما لو أننا على أعتاب ثورة ثقافية أشبه بالثورات الأوربية الإصلاحية على الكنيسة في الغرب.
هذه المقالة محاولة للنفاذ إلى جذر المشكلة وقراءة المسالة وفق المقاربة التاريخية لأزمة الفكر الإسلامي، ورسم الموقع المختار للاتجاه العلماني في الوسط التراثي ، وبيان أن التفكير العلماني ليس طارئاً في التاريخ الإسلامي، والتأكيد على أن إرهاصاته الأولى كانت على يد فقهاء كبار كانوا يدركون أكثر من سواهم مبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان.
وفي تحفظ ضروري فإن العلمانية التي اختارت الإلحاد عقيدة، هي تيار غير مقصود بهذه المقاربة أصلاً، وإنما نتحدث هنا عن العلمانية الذي تتبنى الصلح بين الإيمان في أصوله الكبرى وبين العقل، ولو كان ذلك على حساب كثير من الموروث الثقافي وإن اكتسب طابعاً ثيولوجياً، وهؤلاء من وجهة نظري يشكلون معظم العلمانيين في منطقتنا.
يمكن تلمس منهجين مستمرين في فهم الشريعة: الأول منهج الفقهاء والثاني منهج الظاهرية.
والخلاف بين الفقهاء والظاهرية قديم في الثقافة الإسلامية، ويمكن إدراك بدايات هذا الخلاف منذ عهد النبوة، ثم إن مظاهر هذا الخلاف تحددت وتوضحت أيام التابعين، يوم كرّس النشاط العلمي في الإسلام عبر مدرستين اثنتين مدرسة الفقه (الرأي) ومدرسة الحديث، غير أن ملامح المدرستين أسساً ومناهج لم تستكمل إلا على يد عالم مهم جداً هو ابن حزم الأندلسي الذي صنف كتابه الشهير المحلى، والإحكام في أصول الأحكام، ومن خلالها رسم مدرسة محددة المعالم من الفقه الظاهري مقابل مدرسة سائر الفقهاء، الذين كانوا يعتمدون للشريعة مصادر أخرى غير التي يتوقف عندها الظاهرية، ومن المناقشات والردود بين ابن حزم وخصمائه توضحت لنا حدود المدرستين.
تأصلت مصادر الشريعة الإسلامية في مدرسة الرأي على يد الإمام الجليل أبي حنيفة الذي أطلق القرائح الفقهية للاستنباط على أساس مصادر أخرى بعد الكتاب والسنة وعد منها الإجماع والقياس والاستحسان والعرف ومذهب الصحابي، وأضاف الأمام مالك المصلحة المرسلة، ثم تتالى اجتهاد الفقهاء بعد ذلك في تقرير مصادر الشريعة المعتبرة.
ولكن في حين بلغت مصادر التشريع الإسلامي عشرة مصادر عند الفقهاء ، تُقرر مرونة الشريعة وتجاوبها مع التغيرات في الزمان والمكان، فإن الظاهرية ظلوا يرفضون سائر هذه المصادر على أساس أن المصدر الوحيد للشريعة إنما هو الكتاب والسنة.
وهكذا فقد نشأ الفكر الظاهري منذ القرن الثالث الهجري رداً على مناهج الفقهاء في التجديد والاجتهاد وذلك على يد المفكر الإيراني داود بن علي الظاهري 201-271، فقد تقلب هذا المفكر بين العراق وإيران، وذلك بعد أن اكتملت مناهج الفقهاء الأربعة في الاستنباط.
الإمام أبو حنيفة 70-150هـ،
والإمام مالك بن أنس 93-179هـ،
والإمام الشافعي 150-204هـ،
والإمام أحمد بن حنبل 164-241هـ.
وكان داود بن علي الظاهري شديداً على الفقهاء، ولم يكف عن التصريح بأن هذه المذاهب الأربعة إنما هي بديل عن الدين الواحد الذي جاء به النبي ص ، ولم يتورع عن القول بأن مذاهبهم في الاجتهاد إنما هي هدم للشريعة، وأن النجاء إنما هو في ترك هذه المصادر التشريعية جميعاً والوقوف عند الكتاب والسنة دون سواها من المصادر.
ففي حين أقر الفقهاء مبدأ تعدد مصادر التشريع فجعلوا منها الإجماع والقياس والاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع والعرف وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي فقد أنكر الظاهرية ذلك كله، وعدوا التشريع بواحد من هذه المصادر افتئاتاً على الله وعدواناً على الشريعة، وقد كتب داود بن علي كتاباً مبكراً في ذلك أسماه: إبطال القياس، وكانت عبارته التي تكررت في مواضع كثيرة ثم صارت كالعنوان لدراسته: (القياس منهج إبليس، وأول من قاس إبليس بقوله: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)!..
والحق أن الظاهرية كتيار كانت أسبق من داود بن علي، فقد ظهر في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي من أحجم عن التفكير، ورأى أن البعثة المحمدية حسمت المسائل جميعاً بالنصوص، وأنه لا مبرر لأحد أن يجتهد إذ النصوص المعصومة تكفلت ببيان كل شيء، ولن يظهر على هذه الأرض شيء إلا وفي الكتاب والسنة بيانه فصلاً جزماً، وكان هؤلاء يتمسكون دوماً بالآية الكريمة: }اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً{ .
وإذا كان خلاف الظاهرية والفقهاء قد حدد مذاهب الأمة في الفقه، فإنه قد سبق للأمة أن انشطرت إلى مذهبين متناحرين فيما يتصل بالعقائد منذ أيام الصحابة وذلك إبان ظهور الخوارج، فقد اختارت الأمة مؤازرة العقل للنقل، وقدرته على تقييد النص وتخصيصه وتأويله والتوقف فيه، فيما صرح الخوارج بعبارتهم المشهورة (لا حكم إلا لله).
إن عبارة لا حكم إلا لله، كلمة لا تفتقر إلى المصداقية، وليس بوسع مؤمن ـ من أي مذهب كان ـ أن يتنكر لها، ولا شك أنها تختصر جهاد الأنبياء وعطاءهم، فلم يكن سعي الأنبياء والرسل منذ فجر عهد النبوة إلا لتقرير هذه الحقيقة، ولكن الإمام علياً رضي الله عنه رفض هذا الشعار الساذج وقال فيه: (كلمة حق يراد بها باطل).
لقد أدرك الإمام علي رضي الله عنه أن مقاصد الخوارج تتجه إلى تعطيل العقل والتماس سائر التوجيه في الحياة من ظاهر النصوص، وهو أمر غير ممكن، شرحه بقوله: أما إني أعلم أنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يريدون لا إمرة إلا لله، أما إنه لا بد للناس من أمير، يجبي الخراج ويكتب الديوان وينكأ العدو!!
وبذلك فقد رسم الإمام علي ملامح الوعي بالحاجة إلى التجديد والاجتهاد في وجه التيار الظاهري الذي يرى التناقض بين العقل والشرع ضرورة، وأن المطلوب هو تحكيم الشرع نظراً لقصور معارفنا ووهن عقولنا.
إن السمة التي ميزت فكر الخوارج هي ارتكازهم على مبدأين اثنين:
الأول: تحكيم ظواهر النصوص، ولو أدى ذلك إلى نتائج متناقضة، أو معاندة لمقاصد الشريعة نفسها .
الثاني: رفض الآخر، إذ أسقطوا مقولة الاختلاف، وجزموا بتلازم الاختلاف في الرأي مع اختلاف الحق في ذاته، وقد أدى بهم ذلك إلى خيار تكفير الآخر، وهدر دمه، بل وعدم قبول توبته.
وهكذا فإن الخوارج هم الذين تبنوا الفكر الظاهري، وطبقوه عسكرياً، قبل أن ينحسر بعدئذ إلى فتاوى ورؤى يقدمها غلاة الفكر الظاهري.
ولو كان لنا أن نستعير مصطلحات عصرنا الحاضر، فنحن أمام منهج واحد، تجلى في جناحين: الأول: الجناح العسكري، وهو الخوارج، والثاني: الجناح السياسي: وهم دعاة الظاهرية ومنظِّروا الفكر الظاهري.
ويقوم الفكر الظاهري على أساس أن النصوص ـ من كتاب وسنة ـ قالت كلمتها في كل شيء، وأن دور العقل ينحصر فقط في فهم هذه النصوص وفق ظواهرها، وأن قياس ظاهر النص على أمر لم يتناوله النص مباشرة إنما هو عبث وافتئات على الله ورسوله، وأن في النصوص من الإعجاز والبيان ما يقطع الحاجة إلى وجود أي مصدر تشريعي آخر، ويستدلون لهذا المعنى بظاهر بعض نصوص الكتاب والسنة:
}ما فرطنا في الكتاب من شيء{ }ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء{ }كتاب فصلت آياته ثم أحكمت من لدن حكيم خبير{ }اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً{
وكذلك قوله r : تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وقوله r : تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي.
غير أن الظاهرية لم تتبلور كمذهب شامل، يقول كلمته في المسائل كلها إلا على يد علي بن أحمد 384-456هـ، المعروف تاريخياً باسم ابن حزم الظاهري، فقد صنف ابن حزم كتابين كبيرين الأول: الإحكام في أصول الأحكام، وهو في تقرير أصول الظاهرية، والثاني: المحلى، وهو في تقرير فروع الفقه الظاهري.
ولا يملك المرء وهو يقلب صحائف هذين الكتابين إلا أن يأخذه الأسى والأسف، فأنت هنا أمام عملاق ولكنه سخر نفسه لقضية قزمة، فقد كان ابن حزم بالفعل من أقوى الناس عبارة، وأبلغهم خطاباً، ويبلغ اعتداده بفكره حداً يجعلك تجزم بأن ليس في قلب الرجل ذرة شك مما يعتقده، وقد تكررت أكثر من عشرين مرة عبارته لخصومه: (من قال ذلك فهو كافر مرتد حلال الدم والمال!!).
وأجد من الأمانة هنا أن أتحدث عن أفق آخر في فقه ابن حزم، فمع أنه اعتمد منهجاً شديد الصرامة لالتزام حكم النص مما انعكس تشدداً في جانب من فقهه، ولكنه في الوقت نفسه اتخذ موقفاً صارماً أيضاً في نبذ النص الضعيف سنداً أو دلالة فلم يقبل إعماله مطلقاً، ولم يقبل أن تتعدى دلالة النص في غير ظاهره، الأمر الذي فتح آفاق الاجتهاد في فضاء كبير مما سكت عنه النص، ووسع محل الاجتهاد بحيث تجاوز ما اعتبره الفقهاء أموراً محسومة.
إن حجج الظاهرية كانت حاضرة دوماً من ظاهر النص ولكن الأمة رفضت تاريخياً هذا الخيار وصارت إلى إحياء مقاصد النصوص وليس الوقوف عند ظواهرها ، وقد تجلى ذلك في اعتماد مصادر الشريعة الكثيرة كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع وغيرها وهي كما لا يخفى مصادر زائدة على الخطاب الخارجي: لا حكم إلا لله، وهو ما كان يفهم منه تماماً عبارة : لا حكم إلا بالكتاب والسنة، ومن الجلي أن الأمة اختارت مذهب الفقهاء أيام المجد الحضاري وانحسر بذلك مذهب الظاهرية .
ولكن هل مضى الأمر بهذه الصورة؟
إن قراءة سريعة للمشهد الثقافي في العالم الإسلامي اليوم تجعلك تشعر بالمرارة حيث يتنامى الخطاب الخوارجي (لا حكم إلا لله) على حساب تيار الفقهاء الذي يلتمس غايات الأحكام ومقاصدها بدل الوقوف على ظواهرها، ويقرر مبدأ حيث ما كانت المصلحة فثم شرع الله، ويتفهم قاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان، ويعتمد أدوات كثيرة للاجتهاد إلى جانب الكتاب والسنة.
إن الخلاف بين الفقهاء والظاهرية، أو بين العلمانية والأصولية وفق التعبير المعاصر، ليس حدثاً تاريخياً قاصراً على فترة محددة، بل إنه في الحقيقة أكبر أشكال الخلاف التي لا تزال تعصف بالأمة إلى اليوم، وتحول دون تحقيق وحدتها أو تعاونها على الأقل، أو حتى إحسان الظن بين أبنائها على أقل تقدير.
وأعتقد أن تحليل هذه الظاهرة والتنبيه إليها يمثل أول الخطى التي تكشف عن الآفات الخطيرة التي تعصف بالأمة، ومعرفة الداء أول وسائل الدواء.