Uncategorized

د. محمد حبش: ترانس ايريا – مؤتمر جامعة روستوك

د. محمد حبش- مجلة رؤية سورية ع33/ تموز 2016م

الترانس أيريا مصطلح جديد في الدراسات السياسية يهدف إلى التركيز على مناطق التفاعل الثقافي والحضاري التي تنشأ حين تفرض الحروب والكوارث هجرات واسعة للشعوب، أو حين تنهض الحضارات بشكل مفاجئ في مكان ما فيرحل إليه الطامحون، وفي الحالتين ينشأ صدام وتفاعل ثقافي وحضاري، يتطلب إدارة حكيمة وجهوداً وطنية وإنسانية لتحويل هذا الصدام إلى واقع تفاعل إيجابي.

شهدت جامعة روستوك في الشمال الألماني نهاية الشهر الماضي حزيران مؤتمراً فريداً في الترانس إيريا جمع نخبة من قادة الفكر الألماني وعدداً من المفكرين الإسلاميين للتداول في شأن الظاهرة اللجوء الإسلامي إلى الحواضر الأوربية.

كانت ورقتي في اللقاء تتناول ظاهرة اللجوء الإسلامي إلى أوروبا بوصفه طريق حرير جديداً يسمح بتداول الثقافات والخبرات، وحمل قيم اسلامية وعربية جديدة الى العالم، وبالتالي فإنه مورد لكثير من القيم الحضارية التي يحتاجها المجتمع الإسلامي.

اللجوء تفاعل قسري بين الأمم ولكن هذه الكارثة الإنسانية بمكنها أيضاً أن تولد مشهداً فريداَ من التفاعل الحضاري والإخاء الإنساني.

وخلال التاريخ الإسلامي فقد شهدت المجتمعات الاسلامية نموذجين اثنين من موجات الهجرة، سلبية وايجابية..

الأولى: الحروب السياسية التي كانت تنطلق بين الحين والآخر بهدف الانتصارات السياسية والعسكرية وكانت تتطور دوماً إلى معارك طاحنة، ومن المؤسف أنها كانت ترفع رايات دينية مؤثرة مع أنها تتناقض مع جوهرالدين في السلام والحرية.

ولا نحتاج هنا إلى سرد الصراع العسكري على شاطئي المتوسط بدءاً من غزوات الاسكندر وانتقال الامبراطورية الرومانية الى بيزنطة ثم الفتح الاسلامي الذي شن حرباً وطنية لإخراج الروم والفرس من جزيرة العرب، ومع أنه قد تم تحرير الارض العربية ولكن ظلت ارتدادات هذه الحروب بين العرب والروم والفرس مستمرة بين الحين والآخر.

وفي تطور خطير شهد العالم الحملات الصليبية الرهيبة التي كانت ترفع شعارات الدين وتكرس القطيعة بين الشرق والغرب وهي حروب رهيبة استمرت مائتي عام وتبعتها حروب الاتراك في اوروبا لمدة مائتي عام آخر، وأخيرا الحروب الاستعمارية الغاشمة التي قاومها المسلمون ببسالة وانتهت بخروج المحتل الاوروبي من ارض العرب.

الثانية: وفي مقابل هذه الموجات الحربية الدامية كانت هناك موجات أخرى من التواصل بين العرب واوربا قائمة على المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة، ولم تكن فيها مواجهات حربية او عسكرية ونجحت في تحقيق وفاق كبير في التواصل الحضاري بين أوربا والعرب، وهنا نذكر السفارات المتبادلة بين العباسيين والروم وبين الاندلس والامبراطورية الرومانية والبابا، تلك العلاقات التي بلغت اوجها في عهد البابا سلفستر الثاني والخلافة الاموية في الاندلس، وأسست بالفعل لمشروع تبادل حضاري شارك فيه تالياً آلاف المستشرقين والمستغربين، وسافر بالمقابل جيل كامل من النخب العربية الى اوروبا ونصبت جسور كثيرة للتلاقي والتعاون البناء على شاطئي المتوسط.

وأحب في هذا المقام أن أشير إلى دور كبير للخليفة الاسلامي عمر بن عبد العزيز الذي كان أبرز رجال الترانس ايريا في الاسلام وحقق نجاحات تاريخية في التحول من الحرب الى الدبلوماسية وبالتالي بناء تفاعل ترانس ايريا مع الأمم التي كانت تشتبك مع العرب في الحروب.

ولي هذا الخليفة العادل عام 717 م في دمشق حيث كانت الخلافة الاموية تحكم المنطقة الممتدة من الهند إلى اسبانيا وكانت حيوشه في كل مكان ولكنه استطاع أن ينجز تحولات اسلامية تاريخية غير متوقعة باتجاه بناء ثقافة الترانس ايريا.

فور توليه الحكم أمر جيوشه التي كانت تحاصر القسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الملك ان تفك حصارها وتنسحب عائدة إلى الشام وفتح علاقات دبلوماسية ناضحة وصريحة مع الروم في القسطنطينية وتبادل معهم السفراء.

كما أمر جيوشه في اسبانيا أن تنسحب منها وأمر والي الاندلس السمح بن مالك الخولاني بسحب الجيوش من اسبانيا والعودة الى الشمال الافريقي وأمر بفتح سفارات وعلاقات سلمية مع البلاد الاوروبية.

كما أمر جيوشه في الشرق التي كانت على حدود الصين بالعودة مباشرة من هذه الفتوح وشكل لجنة قضائية للنظر في طبيعة هذه الفتوح وبنتيجة القضاء أمر الجيوش ان تترك تلك البلاد التي فتحتها بالحرب سمرقند وطشقند وفرغانة، وأعاد طريق الحرير بين العرب والصين وهو أهم مشروع ترانس إيريا حقيقي في الإسلام.

إن عمر بن عبد العزيز ليس شخصا عاديا في التاريخ الاسلامي انه خامس الخلفاء الراشدين، ويعتبر بدون منازع المثل الأعلى في التاريخ الاسلامي في العدالة والإيمان.

وهكذا فإنه نجح في تحويل مسارات الجيوش الحربية من منطق المعارك الطاحنة الى منطق التواصل الحضاري.

وفي هذا الصدد فإنني اشير إلى كتابي الأخير: الدبلوماسية بدل الحرب الذي استعرضت فيه ستة تجارب تاريخية من الترانس ايريا قدمها أبرز خلفاء الاسلام وهم النبي محمد 609-632 وعمر بن الخطاب في المدينة المنورة 634-644 والحسن بن علي 670 وعمر بن عبد العزيز في دمشق 717-720 والحكم المستنصر الأموي في قرطبة بالأندلس 915-976 والناصر لدين الله العباسي في بغداد 1180-1225

وقناعتي ان الموجة الأخيرة التي نشهدها من لاجئي العرب وبشكل خاص لاجئي سوريا والعراق مرشحة ان تكون تطورا ايجابيا حقيقياً في حقل العلاقات بين الشرق والغرب وتحويل منطقة الترانس ايريا الى منطقة تفاعل ثقافي وعلمي وحضاري فريد.

ويمكن الاشارة هنا الى هذه الخصائص الاساسية في طبيعة اللجوء الجديد الى اوروبا:

1- انطلقت الهجرة الى اوروبا في اعقاب الحروب الاهلية التي عصفت بلبنان وسوريا والعراق، وهي حروب داخلية محضة ولم تكن تحمل طابع تأثير او كراهية تجاه الأوربي، بخلاف الحروب الاستعمارية، وهنا ينطر المسلمون إلى أوروبا على أنها دار هجرة وليست جيوش استعمار.

2-إن مواقف الدول الاوربية عموما من مسالة اللاجئين جيدة ومرضية ولا تقارن انسانيا بالموقف المخجل الذي مارسته دول عربية قريبة ، وبعض الدول العربية منعت السوريين من الدخول الى اراضيها منعاً قاطعاً، وحتى تلك الدول التي استقبلت اللاجئين مشكورة وهي لبنان والاردن وتركيا فانها لم تستطع توفير الخدمات الاساسية للاجئين من طبابة وسكن وتعليم وأمن، كما هو الحال في اوروبا التي تنص قوانينها على كفالة اللاجئ وحمايته وتامين حياته وسكنه.

3- ان الحريات العامة التي يوفرها المجتمع الاوروبي لابنائه وللمقيمين على ارضه جيدة ومقبولة، لا تقارن ايضا بالحقوق المقيدة والمنتهكة في البلاد العربية، وحتى في الحريات الدينية الأساسية فإن ما توفره المجتمعات الأوروبية جيد ومناسب.

ويدفعني هذا الاستنتاج إلى التأكيد على أن بوسعنا أن ننظر إلى المهاجرين على أنهم ثروة وليسوا أزمة، وأنهم حدث إيجابي كبير وليس كارثة على المنطقة، وأن مسؤوليتنا عظيمة في تقديم الدعم النفسي والمعنوي لهذه الجحافل الهاربة من الموت والقهر لتقدم دورا ايجابيا في الادماج الاحتماعي وتفاعل الحضارات.

في أعقاب الحرب الأمريكية في العراق 2003 نزح إلى سوريا نحو مليوني نازح عراقي واقاموا في ظروف صعبة ضمن بيوت السوريين ضيوفا او مستاجرين، وانتشر هؤلاء الاخوة العراقيون في الاحياء والبلدات والقرى السورية بشكل كبير، ونشأت عدة مشكلات اقتصادية واجتماعية بسبب هذا التطورالديموغرافي غير المتوقع.

ولكن قناعتي كانت أن هؤلاء اللاجئين ثروة حقيقية في المجتمع، وأن علينا أن نستفيد من وجودهم بيننا، وأسست بالتعاون مع بعض زملائي في البرلمان السوري لجنة خاصة للتنقيب عن علماء العراق وكنا نبحث في أحياء اللجوء وتجمعات العراقيين عن المواهب العراقية التائهة في جحيم الحرب، وتعرفنا بالفعل على المئات من المواهب العراقية النادرة التي كانت تعيش طروف اللجوء ولا يتاح لها أن تتفوق في برامج المعرفة والسلام.

لقد نجح العراقيون على سبيل المثال في تأسيس عدة جامعات في سوريا خلال محنتهم، ووجد الاكاديميون العراقيون الفرصة لعطاء أفضل بعيدا عن ظروف الحرب المشتعلة في بلادهم.

إن قناعتي أن المجتمع السوري والعراقي التائه في أوروبا ليس مجرد ارقام، إنه كتلة هائلة من المواهب والقدرات العلمية المميزة، وقد أضفت عليه ظروف اللجوء والشراد إرادة العزيمة والاصرار والصدق وهو يتنظرالفرص الممكنة ليقدم من خلالها موهيته وقدراته المكنونة.

وحتى لا نكون حالمين فإن علينا أن ننتبه إلى عدد من المخاطر الحقيقية في إطار الترانس ايريا التي يتفاعل فيها وجود اللاجئين في المانيا واروربا:

تصاعد الفكر التكفيري والارهابي الذي ينشا عادة في الظلم والقهر، وعلينا أن نبقى حذرين فالمظالم المتوحشة التي تشهدها سوريا والعراق لا بد أن تترك أعتف الآثار على من يصيبهم أو يصيب أحبتهم نارها وشرارها من المنكوبين داخل حجيم الحرب.
ويتم مواجهة هذا اللون من التفكير بدعم التيارات المتسامحة المؤمنة بالاخاء الانساني وهي تيارات عريضة في المجتمعات الاسلامية، وتوفير برامج ومنابر لهم ليكونوا دون سواهم صوت المسلمين في دار الغربة وأن لا يترك للمتطرفين أن يتصدروا مشهد الخطاب الديني والاحتماعي مستفيدين من الحريات والمساواة التي توفرها القوانين الغربية عموماً.

تسلل فكر التشدد الديني الذي يقسم الناس الى مسلمين وكافرين، ويفرض على المجتمع المسلم قيوداً صارمة قاسية في التعامل مع الآخرين ويستبطن ثقافة كراهية ضد الاديان على اساس انها انحراف عن عقيدة الحق، وما يترتب على ذلك من سلوكيات تعزز ثقافة القطيعة وتحول دون تحقق ادماج حقيقي قائم على الاحترام والمساواة.
تسلل العاملين لاجندات خاصة داخل مجتمعات اللجوء سواء لحساب دول او جماعات او تيارات، وهذا التسلل سيسيء بكل تأكيد لتجمعات المهاجرين التي تبحث عن حياة أفضل للجيل الآتي من الأبناء والأحفاد، والتي يفترض أن تكون مجتمعات تؤمن بالمطلق بسيادة القانون وحقوق الإنسان.
الدور الغائب للحكومة السورية الوطنية في احتضان رعاياها، حيث لا يوجد سفراء سوريون في اوروبا، ولا شك أن غياب دور مؤثر هو اقل ضرراً من وجود دور سلبي يقوم به دبلوماسيون يعملون لصالح انظمة الاستبداد الاخرى التي لا ترى في الهجرة الا تآمراً عليها وانخراطاً في مشاريع أجنبية خيانية ضد الاوطان.
تفاقم النظرة السلبية في حياة اللاحئين والاكتفاء ببرامج المعونة الاجتماعية وموت الطموح لدى الشباب الذين يفترض ان ينخرطوا بفاعلية ونشاط في برامج التنمية الوطنية والاجتماعية
وتفرض هذه التحديات جهوداً كبيرة لمعالجة آثارها والتعامل معها بحكمة وبصيرة، وتأهيل المجتعات المسلمة المهاجرة للاندماج الايجابي في المحتمعات الغربية، وبالمقابل لتأهيل المجتمع الأوروبي أيضا لبناء نظرة إيجابية إلى القيم الإسلامية، والتعرف على المسترك بين الاسلام والمسيحية، وتمييز ما هو قيم اسلامية صحيحة وما هو سلوكيات تمارسها بعض المحتمعات والافراد في البلاد الاسلامية.

وفي مواجهة هذه المخاطر فإننا نركز على المطالب الآتية:

تعزيز الروابط الحقيقية مع المؤسسات الاسلامية المتنورة في الشام والعراق، والتي نجحت في البقاء خارج العنف والحرب، وبشكل خاص خارج دائرة الصراع السني الشيعي والعلوي، وكذلك الدرزي والمسيحي، وحافظت على مسافة امان من الجميع، وذلك في مواجهة التيارات العنيفة التي اندفعت بشكل مرير في أتون الحرب.
توفير البرامج الحقيقية عبر الجامعات المتخصصة لدراسة الترانس ايريا وبيئتها الاجتماعية واشراك اكبر عدد ممكن من المهاجرين في خطط الادماج والتنمية، والاصرار على أن لا يبقى أحد خارج قطار التنمية، مهما كان الدور المسند اليه محدوداً وضئيلا.
طرح برامج أكاديمية ومدرسية واجتماعية للتعريف بالاسلام في المجتمع الاوروبي وتصحيح النظرة السلبية عن الاسلام والمسلمين، وبناء موقف ايجابي يميز بين قيم الاسلام في القرآن والسنة والتراث الاسلامي، وبين ممارسات الاستبداد والتوحش في البلاد الاسلامية.
إن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، توجب الايمان بان الناس جميعاً صنعوا بيمين الله وفيهم روح الله، وأن المشترك بين الإنسان والانسان كثير، وهذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهذا هو اعتقاد المسلمين الديني الذي لا تردد فيه وفق نص القرآن الكريم: ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر

وفي حديث القرآن عن الإنسان يشير إلى أنه مخلوق من روح الله أياً كان مذهبه أو دينه أو اعتقاده: وبدا خلق الإنسان من طين ثم سواه ونفخ فيه من روحه.

وفي النصوص المؤسسة للإسلام فإن الدعوة إلى حوارالحضارات والإخاء الإنساني لها شواهدها الكثيرة في القرآن الكريم والسنة والنبوية وهما المصدران الرئيسان في فهم كل مسلم، ويحظى كل منهما باحترام المسلمين في العالم كافة.

يا ايها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ان الله عليم خبير.

ونؤمن بأن الأديان خلقت لتعيش متجاورة متراحمة، وأن الأنبياء إخوة، وليس من هدف أي دين أن يقضي على دين آخر، بل ياتي مصدقاً لما بين يديه كما تكرر ذلك في القرآن الكريم 14 مرة، وأن من أركان الإيمان الإسلامي أن تؤمن بكل أنبياء الله سواء من ذكر في القران ومن لم يذكر فيه.

نعمل من أجل أمة بين الأمم وليس من أجل أمة فوق الأمم، دين بين الأديان وليس دينا فوق الاديان، نبي بين الانبياء وليس نبياً فوق الانبياء، وهذه حقائق اكد عليها القرآن الكريم مراراً: لا نفرق بين احد من رسله

ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

إني على يقين أن صوت الاعتدال والإخاء بين الاسلام والمسيحية متاح تماما في هذه المجتمعات الجديدة وأن بإمكاننا صناعة مجتمع نموذجي على قواعد الإخاء والاحترام والعيش المشترك ومواجهة تيارات التطرف والقهر التي تتفاعل كل يوم نتيجة الظلم والقهر في بلاد المسلمين.

Related posts

الإسلام أو الجزية أو السيف!!

drmohammad

د.محمد حبش-اليسار التكفيري

drmohammad

د.محمد حبش-فرنسيس فاندرلخت أيقونة للسلام بين السوريين

drmohammad

Leave a Comment