ماكرون وأردوغان
الصراع في ثوب العقيدة
تتدهور العلاقات بشكل مرعب بين تركيا والغرب، بشكل غير مسبوق، وهذه المرة حول شأن ديني بحت، وآخرها الاتهامات العلنية المباشرة بين أردوغان وماكرون واستدعاء السفراء والتهديد بمزيد من الإجراءات، ولست أدري عند كتابة هذه السطور كيف سيكون اتجاه الريح العاصفة بالإيديولوجيا في وجه لم نعتد عليه منذ عهد سليمان القانوني والأرشيدوق فرديناند والامبراطور ماكسيميليان الثاني، يوم كان الصراع على أشده بين القوات العثمانية المحاربة وأوروبا المهددة على تخوم فيينا.
مع أن الجدل لم يتوقف في العقدين الخيرين بين التيارات المتعصبة في العالم الإسلامي وأوروبا، وهو عاصف بحمى الإيديولوجيا، ولكن الفصل الجديد أكثر رعباً وخطورة، لأنه انتقل من الدين إلى السياسة، وفيما كانت أدواته الجدل والصراخ والدعاء والغضب صارت أدواته التهديدات السياسية والمناورات الحربية، وبات قادة الصراع ينفخون فيه كيره على أنه الصراع التاريخي بين الصليبية والإسلام.
كان على ماكرون أن يكون أكثر وعياً، وأن يدرك انه في خضم حرب انفعالية كهذه فليس الكلام هو الذي يترجم بل خفاياه وافتراضاته واحتمالاته، وأن كلامه عن قيم الثورة الفرنسية سيصل مسامع الإسلام الغاضب أنه الدفاع عن الإساءات المتعمدة للأنبياء، وأن قيم الثورة الفرنسية تتلخص في حق احتقار الأنبياء.
لم يقل الرجل شيئاً من هذا، ولكن ترجمة كلامه إلى العقل العربي والتركي لن تتم بغير هذا، وكان بحاجة لتمهيد صريح وواضح يصرح فيه باحترام الإسلام قيماً وفضائل وعقيدة قبل ان يتحدث عن موقفه في حماية الحريات، والتي لا تستهدف الدين الإسلامي الذي ينعم فيه ستة ملايين مسلم في فرنسا بأكثر من 1700 مسجد تشتمل على مئات المدارس الإسلامية وعدد من الجامعات الإسلامية أيضاً وجمعيات وهيئات ومؤسسات قوية، تضاهي عواصم الإسلام الرئيسية.
أما أردوغان فقد اندفع في سياق الشارع الغاضب، وبدلاً من أن يكون ضميره الهادئ الوقور فإنه تحول أيضاً إلى صوت صارخ يلوح بتاريخ الصراع المحموم، ويرسم ملامح المعركة على أنها الفسطاطان فإما الإسلام وإما الكفر، وأنهم لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، وإنه الجهاد الماضي إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر.
لقد تحول الصراع الديني من كونه جدلاً في اللاهوت يتورط فيه بعض رجال الدين المتحمسين إلى صراع سياسي على اعلى المستويات يتم فيه استحضار التاريخ بأقسى فصوله المريرة من التحدي والتحدي المضاد.
وخلال أيام قليلة أعادت المحطات الإعلامية بكثرة فصولاً من مواقف السلطان عبد الحميد في تهديد فرنسا حين همت صالات السينما في باريس بعرض مسرحية يقال إنها تسيء إلى النبي محمد عليه السلام، وأمام إصرار السلطان وتهديده بالحرب المباشرة أجبرت فرنسا على وقف المسرحية والانصياع لرغبة السلطان.
فهل هذا الصراع هو بالفعل ما تحتاجه شعوبنا المنكوبة اليوم؟
وهل نحتاج اليوم إلى هذا الصراع مع الأمم التي احتضنت اللاجئ السوري دون أن تسأله عن دينه وجنسه ولونه، بعد أن قصف الاستبداد العربي بكل مدافعه وراجمات صواريخه على الشعب الثائر وخيره بين السجن أو القبر أو الهرب، وبعد أن أغلقت بلاد العرب حدودها بالشمع الأحمر!
لماذا يجب أن توضع قدرات وطن هائل كالوطن التركي تعلق عليه آمال المسلمين في العالم في مواجهة رسام كاريكاتور مغمور يتصرف بلامبالاة ولا مسؤولية ضمن حدود الحرية التي ينص عليها القانون.
من يستفيد من حملة صاخبة كهذه الحملة المشحونة طائفياً بعيار الألف صاعق، تذكرك بصخب فتوى الخميني ضد سلمان رشدي التي أربكت علاقات المسلمين مع العالم عشرين عاماً وانتهت بفشل ذريع ولم يكن لها معنى ولا مبرر.
الإسلام الغاضب اليوم يتحرك في أعماق الشعوب المقهورة، فالغضب نتيجة طبيعية لشعوب مقهور أرضها محروقة وخيراتها مسروقة وشعوبها مشردة في الأرض، ولكن هل كان هذا الهوان كله بالفعل بسبب رسوم الكاريكاتير؟؟؟
نحن نذهب في الاتجاه الخاطئ لتحليل مأساتنا، وما فائدة السرعة والإرادة والعزيمة وجودة المركبة إذا كنت تسير في الاتجاه الخاطئ؟؟؟
كوارثنا في نظم الاستبداد، التي اختارت طريقاً خاطئة من الاستبداد والديكتاتورية وكمت الأفواه وضيقت الأرزاق وحاربت العالم وصرخت لا صوت يعلو فوق صوت المعركة… وبعد عقود أفاقت على انهيار اقتصادي واجتماعي وسياسي شامل، وبدلاً من الاعتراف بأننا كنا نسير عكس التاريخ وعكس الواقع راحت تفضل إلقاء فشلها وانهيارها على تآمر الآخرين!!
كارثة الفصل الجديد من الصراع أنه بات بيد قيادات سياسية فعالة، وأن الأدوات والوسائل المتاحة مرعبة ومتوحشة، ومع أن ان العلمانية التركية قامت القرن الماضي ضد الإسلام، والعلمانية الفرنسية قامت قبل قرنين أصلاً ضد المسيحية، ولكن موجة غضب شعبوية واحدة أعادت خلط الأوراق وعاد الاصطفاف جذعاً كما كان يوم الحروب الدينية الحمراء في عصر الظلمات.
الأيام القادمة حبلى ولا يبدو أن شيئاً سيوقف غبار المعارك الجديدة القائمة على الشحن الطائفي الغاضب، والمقاطعات والمظاهرات والمشاتمات لن تتوقف عند حدود الراي والراي الآخر، ومن المؤلم أنها قد تتخذ أشكالاً دموية مريعة، ونرجو أن نكون واهمين وأن تكذب الأيام ظنوننا!
ومع أنني لست طرفاً في الفصل السياسي من المعركة، ولكنني طرف في الفصل الديني،
وأعتقد جازماً اننا في حملات الغضب الصاخب هذه نذهب في اتجاه خاطئ تماماً مناقض
لقيم الأنبياء، وأن التاريخ الصحيح للنبي محمد يجب ان يشبه تاريخ زملائه من
الأنبياء وأقصد بالضبط إبراهيم ونوح وموسى وعيسى بن مريم، وليس الاسكندر وجنكيز
خان والحجاج وأبو العباس السفاح!، تاريخ الأنبياء لا يحتمل هذا الجنون، فقد أوذي
الأنبياء جميعاً في الله، وسمعوا بآذانهم أشد أشكال الشتائم قسوة: ساحر مسحور مجنون
كذاب مفتري، ولكنهم لم يقودوا أتباعهم لمثل هذه الحرب المجنونة، واكتفوا بقولهم:
اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
سبعون آية صريحة في القرآن الكريم يشرح فيها القرآن طريقة التعامل مع المكذبين والمستهزئين:
- وقد نزل عليكم في كتاب الله أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزا بها فلا تقعدوا معهم،
- وإذا رايت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره
- فاصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً
- قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بىيات الله يجحدون
- ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين
- فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر
- قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله
وكل حكاية يرويها الرواة عن اغتيالات وقتل ضد المستهزئين فهي حكايا فاجرة كافرة بنور القرآن وروح التسامح ولو رواها ألف كتاب، وهي لن تقوى على الرد على سبعين آية صريحة في القرآن، مهما قال المتعصبون إنها نسخت بآية السيف!!