لماذا لا تكون الفطرة هي هذه القيم العالمية التي يتوافق عليها حكماء العالم ومشرعوه؟؟
لماذا لا تكون قيم العالم الحر في المساواة والحرية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل وحماية اللاجئين وغوثهم وتشغيلهم وتحريم الاسترقاق والتجارة بالبشر وحماية البيئة هي الفطرة التي فطر الناس عليها؟
تبدو فكرة الفطرة في الإسلام كما في سائر الأديان فكرة ضرورية لبيان قدرة الخالق، وعظمته في خلق البشر على قدر كبير من التشابه في الطبائع والغرائز، ولكنها للأسف تقتصر عند حدود هذا الجانب الايديولوجي، الذي يستخدمه علماء العقائد وقل أن تصل إلى ذلك الأفق الذي يقصده علماء الاجتماع.
من المسلم به فقهياً واعتقادياً أن الخالق واحد وأن هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها متشابهة، نظراً لوحدة الصانع، بل إننا نملك في الوعي القرآني أن نقول إنها متطابقة وليست فقط متشابهة لأن الخالق هنا كلي القدرة مطلق العصمة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفي الاطار الايديولوجي فإن الحديث عن آيات الله في الخلق هي الغالبة ومن هنا تناول الفقهاء والمفسرون بتفصيل كبير وحدة الخالق عبر النظر في طباع المخلوق وفطرته وغرائزه، إنساناً وحيواناً، وأصبحت مظاهر التشابه بين الكائنات الحية واحدة من أدق مظاهر التعريف بالله سبحانه والتأكيد على وجود الخالق.
ولكن الأفق الاحتماعي في هذه العقيدة من وجهة نظري هو البعد الأهم حيث تبدو الفطرة هنا حجر الرحى وهي تحدد المشترك الإنساني وآفاق التعاون والتكامل بين سكان هذا الكوكب من بني آدم على اختلاف طبائعهم وشعوبهم وقبائلهم وأديانهم.
أضافت العقيدة الإسلامية فكرة الفطرة التي فطر الخالق عليها الناس إلى مبدأ أشد تأثيراً وفاعلية وهو النفخ من روح الله، فالكائن البشري وفق القيم الإسلامية وهي قيم تتشابه تماما مع الكتب الأولى في التوراة والإنجيل، وخلاصتها أن هذا الإنسان فيه أيضاً نفحة أو نفخة من روح الله، وهذه النفحة هي التي تحقق التشابه بين الإنسان وأخيه الإنسان، حتى يكون مظهرا لروح الله تعالى ووجوده.
ومن المؤكد أن هذه العقيدة قد تطورت صوفياً إلى حد القول بوحدة الشهود ووحدة الوجود، ومن المؤكد أن وحدة الوجود التي عبر عنها ابن عربي والصوفية من بعده ليست على الاطلاق شطحة عابرة قالها في المحو بل هي جوهر رسالته وجوهر دعوته الإنسانية، وقد كررها في الفتوحات أكثر من مئة مرة كما كررها جلال الدين في المثنوي عشرات المرات وهو يتحدث عن روح الله وتجليه وأسراره التي أودعها الله في الإنسان.
وربما يكون للقلم جولات أخرى فيما كتبه ابن عربي في وحدة الوحود والشهود، ولكنني اليوم أرجو أن أبقى في الإطار الاجتماعي لمبدأ الفطرة وتجلياتها في بناء الأسرة الإنسانية الواحدة.
إن الاتفاق بين فقهاء الشريعة على أن الفطرة الإلهية والروح الإلهي المبثوث في الإنسان هو قدر سابغ على جميع الخلق وليس اختصاصاً يخص ديناً دون دين أو شريعة دون شريعة، فتكريم ابن آدم سابق على الأديان والمذاهب والعقائد، ولا شك ان المقصود بقوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم هو الإنسان الأول قبل أن يتم توزيع الناس الى شعوب وقبائل وملل ونحل، ولم يقل أحد من الفقهاء المعتبرين أن الفطرة خاصة بالمسلمين أو انها تكريم خاص بأمة محمد بل ظل الفقهاء يقولون بعموم الفطرة وعموم النفخة في سائر الخلق، وهو العموم الذي جاء به الحديث الشريف: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه إما يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه…. والمعنى واضح تمام هو أن الفطرة قدر متساو بين البشر ولكن التأثيرات الاجتماعية قد تشوش من صفاء هذه الفطرة وتفرض الايديولوجيات تشويشا وتشويها للفطرة الأولى.
ولا يختلف الموقف الفقهي في أن المسلمين كسائر الأمم يعرض لهم ما يشوش فطرتهم ويحيل صفاءها إلى كدر وصوابها إلى وهم ونقاءها إلى مطامع، ولكن جوهر الفكرة وجوهر الروح الإلهي باق في ابن آدم، وهو الغالب على سلوكه وطبعه فيما لم تقم الشياطين باغتياله وفق التعبير النبوي الحكيم.
ولكن أين يمكن التماس هذه الفطرة الأصيلة أو ما تبقى منها في سلوك بي آدم؟
يؤسس هذا التساؤل لمبدأ علمي تحكمه قوانين الرياضيات في البحث عن المشتركات الإنسانية التي هي لون من مظاهر الفطرة التي فطر الناس عليها وهي الصورة الحقيقية لما أودع الله في حوف ابن آدم من أسرار وعجائب.
إن العقل الإنساني والفطرة الإنسانية لها اليوم تجلياتها وآفاقها التي تظهرها الإحصائيات العالمية التي صارت تعتمد قواعد رياضية محكمة لا مجال فيها للشك، أو لنقل إن الشك نفسه أصبحت تنظمه قواعد احتمالية صارمة اتفق عليها العقلاء، وأصبح صدور الحقيقة الرقمية العلمية يترافق دوماً ببيان احتمالات الشك أو الخطأ وفق أرقام محددة لا تتجاوز في كثير من الإحصائيات عتبة الواحد أو الاثنين في المئة وأصبح يمكن القول على الأقل في المجتمعات الديمقراطية التي تشكل اليوم (باستثناء الصين) أكثر من سبعين بالمائة من سكان هذا الكوكب، وأصبح يمكننا الاطمئنان لهذه الأرقام التي تقدمها الأمم المتحدة بمعاييرها الدقيقة عن رأي الإنسان في كثير من القضايا الملحة على ظهر هذا الكوكب.
إن موقف البشرية من التأكيد على العدالة والأمانة والنظام والوفاء بالعهود وتحريم القتل والسرقة والربا الفاحش وتجارة الفحشاء والادمان على الكحول والمخدرات وتحريم الاستبداد والاسترقاق والتعذيب الجسدي والانتقال في العقاب من العقوبات الانتقامية الثأرية الجسدية إلى العقوبات الإصلاحية المتحضرة هو لون من مظاهر الفكرة التي فطر الله الناس عليها.
ويحلو لألئك الذين لا يؤمنون بالأسرة الإنسانية الواحدة أن يتحدثوا بإسهاب عن الخلافات العميقة بين الاتجاهات الديمقراطية في العالم وأن الديمقراطية لا تنتج شرائع متطابقة، والحقيقة أن أحداً لا ينبغي أن يفكر في إنتاج الشرائع المتطابقة، فهذا حلم غير واقعي وغير مطلوب إن المطلوب هو الاتفاق على أصول عامة في المبادئ يكون الإنسان فها هو محور التشريع وغايته، وهو ما أسبح يعرف حقوقياً بالمواد فوق الدستورية، ولا بأس أن يكون لكل أمة شرع ومنهاج، ولا يضير هذا الحقيقة في شيء.
إنني أطوف اليوم بين الحقائق التي أقرتها الإنسانية في مبادئها العامة عبر شرعة حقوق الإنسان واتفاقية سيداو لحماية المرأة واتفاقية حقوق الطفل واتفاقيات منع التعذيب واتفاقيات حماية البيئة، ويدهشني حجم الاتفاق العالمي على مستوى الخبراء والعلماء وقد نجحوا في تحويل كثير من هذه الأفكار العظيمة إلى تشريعات ملزمة تنعم بها الشعوب وتتجه نحو عالم محترم تسود فيه القيم العادلة ويستوي فيه الإنسان مع أخيه الإنسان.
ويتهمني بعضهم بأنني مبهور بالحضارة الغربية، وجوابي بالطبع هو الإيجاب، بل إنني أتغزل بهذا النجاح البشري في حقل العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وكم أود لو أن الخطاب الديني العربي مضى للتغزل بهذه المنجزات الحقيقية للأسرة البشرية وقام بدعوة الناس للدخول في هذا الخير الإنساني بدلاً من الكفاح المضني لتجميل تاريخ ليس بجميل، وتلميع ماض قاس لا يحترم قيم العدالة والمساواة والتغني بأمجاد قامت على ركام من الجماجم والدم.
إنني أجد في الفطرة التي فطر الله الناس عليها مبدأ كاملاً لاحترام المنجز الإنساني على المستوى التشريعي، وبنسب أداء عالية تقدمها الأرقام، وحين ندعو هنا لاحترام المنجز الإنساني فإنني بكل صراحة أحد في هذه الدعوة مبدأ احترام الله نفسه، الذي جبل الناس على حب قيم الخير والفضيلة وكره إليهم الفسوق والرذئل.
متى نجد الخطيب على مبر الجمعة يتغنى بهذا الوفاق الإنساني المعزز بالأرقام والأدلة من الواقع، ويرى في الوفاق الإنساني الديمقراطي المتحضر مظهراً من مظاهر فطرة الله التي فطر الناس عليها بدل التغني بحروب صارخة ظهرت في سياق مظالم اجتماعية شاملة ذاق فيها الإنسان الويلات والشرور.
إنها ملكات عبر عنها إقبال بقوله:
عطرك اللهم في الإنسان ما زال ولونك………
متى يتغنى الخطباء على المنابر بفطرة الله التي فطر الناس عليها والتي أثمرت في العالم المتحضر التضامن الإنساني النبيل الذي عرفه السوريون جيداً في حجيم المحنة وجعل وجهة أتقيائهم إلى السويد أكثر واقعية وعدالة من وجهتهم إلى مكة؟؟؟