ومع أن القاهرة ومكة والمدينة أقرب اليهم من النرويج والسويد، ولكن العرب من أبناء الرسالة الخاتمة قاموا بختم حدودهم في وجه السوري بالشمع الأحمر على الرغم من طوفان العمالة الوافدة القادم كل يوم إلى عواصمهم من بلاد راجستان وبوذاستان وهندوستان ….
وحتى اليوم لم أجد أي بلد عربي طرح إمكانية استثمار هذه الملايين من النازحين في مشاريع تنموية في بلدان الجوار، وفيها سواعد قادرة على بناء مدن وزراعة سهول وإطلاق مؤسسات تعليمية جبارة، وظلت النطرة قاصرة على جهود الإغاثة والطبابة المتعثرة في اطار جهود الامم المتحدة.
يستطيع الزعتري على سبيل المثال أن يزرع الأرض المجاورة له وفق برنامج حكومي مخطط ويحول صحراءها إلى أرض تنبت الخير ويأكل الأردنيون والسوريون من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، كما تستطيع شواطئ السعودية بناء مدن بحالها على شواطئ البحر الأحمر، بسواعد السوريين المحكومين بالقهر إذا توفرت لهم ظروف إنسانية كريمة.
حين يقفون على شفير القوارب، ويطل عليهم القرصان الماكر بعينه المعصوبة، يستلم منهم جنى العمر بيدين أثيمتين وعيون شريرة، ويمن عليهم بأنه يتحدى الصعاب من أجلهم وأنه يغامر بمراكبه وسمعته التجارية من أجل أن يوفر لهم العيش الكريم، وأنه من شدة حبه لسوريا وللسوريين لن يرفض أي سوري يملك الفلوس الكافية (كاش)، بل سيحملهم جميعا الى القدر المحتوم، ولا ينجو من نعمته هذه الا المفلسون والمفلسون في امان الله…..
ومع أن هذه الحقائق لا يجهلها أي سوري بركب البحر، ولكنهم في ازدياد، وهذا يعكس واقع اليأس من الحلول القريبة للمأساة، ومن وجود امل في آخر النفق الطويل، وهي بكل تأكيد خيار مر، ولكن من أحوجك للمر؟ الأمرّ!!!
ورغم كل المخاطر فإن البحث عن هذه المراكب اللعينة لن يتوقف طالما أن هناك نظاماً لا يكترث بشعبه، ولا يرى في نزوح ثلاثة ملايين خارج الوطن إلا عملية تطهير ذاتي ضرورية ليبقى الأوفياء والمخلصون في حضنه (وللضمير المتصل هنا احتمالات كثيرة لا يجهلها القارئ) وطالما ظل يرى أن هذه الخيام تنصب فقط للتآمر على سوريا، وليس لإيواء الإنسان الذي فقد في بلده المأوى والطعام والشراب بسبب براميل الموت وما يتصل بها من وسائل المقاومة والممانعة ورفض المشروع الأمريكي الاستكباري الامبريالي.
البلاد الاسكندنافية صارت حلم السوري المحاصر بالجنون من كل مكان، بين نظام حطم المدن السورية فوق رؤوس أصحابها وهو لا ينفك عن دعوى حماية الامن القومي، وبين فصائل من المعارضة تحتمي بالمدنيين تحت شعار حمايتهم، وبين دول جوار لا ترى في اللاجئ إلا عبئا وكارثة، ولا تحمل أي فكرة عن امكانية إدارة تلك الطاقات البشرية الهائلة المستعدة للعمل في ظروف بالغة القسوة والشدة.
اسكندنافيا… تلك الدول الخمسة الغارقة في أرغد عيش، تنطلق من قاعدة احترام الإنسان وترى في البشر الراغبين في الوصول إليها رصيداً مفيداً للحياة والبلاد، وتعتقد أن الأرض تتسع للجميع وتجدد قوانينها بحيث لا ترد مستغيثاً ولا تمتنع من جوار.
لم يقم الاسكندنافيون بالترويج لبلادهم وشواطئهم وخدماتهم كما تفعل وزارة السياحة السورية العتيدة، ولم يقوموا بمزاحمتك في شوارع بلدك واعلانات مطارك وهاتفك وكمبيترك ليتحدثوا عن ما توفره الحكومات الاسكندنافية من فنادق وشقق مفروشة ولوازم السياحة الحمراء التي كانت تشير لها ضمنا اعلانات السياحة العتيدة يوم كان في سوريا سياحة وسائحون.
لقد اقام الاسكندنافيون عالماً أخلاقيا وحسب، ينبعث من شعور الإنسان بأنه أخو الإنسان وأن الإنسانية برمتها مسؤولة أمام الله والتاريخ عن مساعدة الأبرياء وأن الدولة مسؤولة مسؤولية مباشرة عمن يستغيث بها من البشر الذين يتعرضون لاضطهاد في أي مكان في العالم، وبمجرد أن يصل إلى الأرض الاسكندنافية إنسان وفيه عرق ينبض فهو يستحق الحياة والكرامة والمعاش الاجتماعي والتأمين الصحي والسكن الكريم والحماية القانونية وجواز السفر وحق الاقامة الدائمة ولم الشمل له ولافراد أسرته، وهي حقوق لم يسبق للمواطن العربي أن تخيلها إلا مكرمة من السلطان !! وبالقدر الذي يحدده لرعيته في الزمان والمكان!!!.
والمجتمع الاسكندنافي مجتمع لا ديني في عمومه ولكنه يكن احتراما كافيا لنصوص الانجيل الداعية الى المحبة والاخاء والغفران، وحين قرأت قوانينهم أحسست بصدق أنهم القوم الذين نزل فيهم قول الله: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، وأنهم المقصودون بقول الرب سبحانه: ليس كل مصل يصلي إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي… وآوى الغريب ورحم المسكين وأغاث الملهوف.
لم أقرا لقلاسفة الاسكندناف، إلا نثارا مما كتبه اوغست كونت وكارستن نيبور، والملكة الحكيمة كريستينيا ولكنني قرأت فلسفتهم في تلك القوانين الإنسانية الرائعة التي تمكن عقلاؤهم من تحويلها لنصوص تشريعية آمرة تلزم الحكومة مهما كان توجهها السياسي أن ترفع مكان الإنسانية فوق أي اعتبار آخر، ويملك الصومالي والغاني والأفغاني الذي وصل إلى تراب تلك البلاد وما معه أي وثيقة تثبت شخصه أن يدعي على رئيس الدولة إذا فرط في حقوق الإنسان التي تضمنها قوانين تلك الأرض.
لقد قمت بزيارة الدول الاسكندنافية الخمسة مرات عديدة، وتابعت عن قرب حال عائلات كثيرة وصلت الى هذه البلدان، واستفادت من تلك القوانين التي وضعها رجال حقوقيون أخلاقيون، يؤمنون بأن الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره، ويؤمنون بأن الحياة تتسع للجميع وأن الأرض خلقت ليعمرها الناس، والناس للناس من عرب ومن عجم بعض لبعض ولو لم يشعروا خدم.
ولكن أرجو أن لا أتورط في رسم الجانب الوردي من هذا العناء، ويجب القول أيضاً أن هناك بكل تأكيد جوانب أخرى قاسية يعانيها اللاجئون، فقد وضعت هذه القوانين لخدمة أشخاص يفترض أنهم لا يملكون أود العيش، وحين يكون لدى اللاجئ ما يخفيه فيجب أن لا يتوقع الغفلة والبلاهة من الجانب الآخر، وسيكون السوشل (المعونة الاجتماعية) التي يحصل عليها اثما وحراما وفسادا يحاسبه عليها القانون، وقد تطاله المحاكمات ويفقد المزايا التي كان يحلم بها.
وفي المقابل التقيت بعدد من المتعصبين القساة الذين راحوا يمارسون تفكيرهم المؤامراتي بحق تلك الشعوب وحدثني مصري يعيش على سوشل فنلندا بان الفنلنديين لا فضل لهم فيما يصنعون بل هي ابواب رزق بسرقون بها اموال الامم المتحدة التي تم جمعها من الشعوب الفقيرة وذلك لتحقيق ارباح اضافية من دمائنا عن طريق ايواء اللاجئين والاستثمار بمآسيهم.
لم أملك جوابا لهذا العربي الثائر المطلوب للسجون العربية، والممنوع من دخول كل اراضي العرب، وتؤويه هذه الحكومة الكافرة لمعالجة وضعه الانساني الزفت وليس لأي شيء آخر، ولكنه أصر أن يقرأ الإحسان بالأسلوب المؤامراتي المقيت، وما نقموا منهم إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله.
اعتذر من قارئي الكريم أنني تناولت الأمر كما لو كان مناقشة فلسفية تدور في اطار حوارالحضارات في حين أنها اليوم أبشع أشكال المأساة الإنسانية الرهيبة.
يختار السوريون اليوم هذه المراكب من شواطئ تركيا أو ليبيا حيث يصل السوريون بدون تأشيرات ومن هناك إلى اليونان البلد الضغيف في خاصرة الاتحاد الاوروبي، ليتحولوا من هناك عبر المتاح من المراكب للوصول الى شمال الكوكب البارد حيث لا زال في هذا العالم متسع للحياة والأمل.
ما الذي يدفعهم لركوب هذه الأهوال؟ البحث عن الكرامة.. إنها الشعارات التي رفعها السوريون السلميون القدماء المنقرضون الهاتفون للحرية، يوم تلقاهم الرصاص فحصد من حصد وسجن من سجن…. وبعد أن قام النظام بشراسة بسد أبواب الحياة أمام هتافهم ركبوا الاهوال من جديد بحتاً عن الكرامة.
آخرالقوارب 700 سوري في عرض البحر الهائج تحت بصر العالم وسمعه الذي انطلق من ليبيا الى المجهول وعصفت به عواصف الجوع والقهر قبل أن يعصف به عاصف البحر، وعلى الرغم من الجهود الاغاثية التي قام بها الطليان ولكن الجثث تراكمت على شواطئ صقلية ترسم ابشع معالم القهر للسوري التائه في الأرض.
أما الإعلام السوري فإنه لا يكتم الشماتة والمكر بهؤلاء الذين اختاروا أن يخرجوا من حضن الوطن وأن يرتهنوا للامبريالية العالمية والصهيونية الاجرامية التي جعلت سواحل اسكندنانافيا ناديا لحشد الخونة والمتآمرين على نظام المقاومة والممانعة الذي يطلق براميل (الزهور) على بيوتهم السعيدة بحكم البعث العربي الاشتراكي.
لا يشير هذا الاعلام الفاجر بكلمة واحدة إلى مسؤولية هذا النظام الذي دمر بلده وهجر شعبه وأجبر السوري أن يركب مراكب الموت من أجل الخلاص من مشاربع المقاومة والدجل التي أفقرت البلاد والعباد وقادت الناس إلى هذا المصير الأسود.
هل يتعين شرعا وعقلا ركوب هذه الاهوال المؤكدة للوصول الى شاطئ الهول الذي يريدون؟
إن ركوب البحر بدون ضمانة كافية وصكوك تأمين حقيقية يعتبر إثماً وحراماً يرتكبه أول من يرتكبه تجار الموت من القراصنة الأشرار ومن واجب الدول حماية المجتمع من شر هذه التجارة السوداء، ويأثم فيه أيضاً أولئك الذين يلقون بأيديهم إلى التهلكة، ويقامرون بالروح التي ائتمنهم الله عليها.
والهجرة ليست هي الخيار الذي ينبغي أن يفكر فيه السوري، وهو ابن الأرض المقدسة التي تنبت قمحاً وأنبياء، ومن واجبه أن يعيش في وطنه بالحب والأمل، وسيذكر التاريخ ببسالة أولئك الرجال الذين رفضوا الخروج من وطنهم وعاشوا فيه عيشة الكفاف والصبر حتى لا تخلو هذه الأرض المعذبة من أهلها وأبنائها الذين يعلمون فيها للخير والياسمين.
لا اطن ان احدا من هؤلاء السوريين الذين ركبوا هذه الاهوال راغب بتلقي النصائح منا نحن معاشر النازحين الذين وصلنا الى بلاد العمل والامل، فلهم شغل آخر ولسان حالهم يقول: يا ريت توفروا نصائحكم وفتاويكم وتبعتوا لنا الفيزا.
من يدري أين كتب الله أفضل الأرزاق وأغرب الآجال، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير.