Uncategorized

د.محمد حبش-مولد الأنبياء

إنه حدث فريد يمر كل 32 سنة مرة واحدة، حيث يتصل مولد الرسولين الكريمين محمد والمسيح في اسبوع واحد.
حصل ذلك عام 1982 وسيحصل أيضاً عام 2047 أيضاً، وأرجو أن تكون المأساة السورية قد انتهت آنذاك وأن تكون سوريا المدمرة قد استعادت عافيتها كما هي هيروشيما وناغازاكي اليوم.
قد لا يروق للبعض أن نتحدث عن مناسبة دينية على صفحات نشرة سياسية، حيث يريد كثير من الأصدقاء أن يفصلوا بضرامة الدين عن الحياة، سبيلاً وحيداً لبناء مجتمع يخلو من الانقصام والاصطفاف.
قناعتي أن العلم والإيمان رسالتان متواصلتان وأن الأولى في خدمة الثانية، والثانية في خدمة الأولى وكلاهما في خدمة الإنسان.
لم يقدم الأنبياء رؤى فلسفية عميقة، وإنما عزفوا على أوتار صحيحة، ولم يتحدثوا عن جدل ديالكتيكي يفسر الهيولى والعقل الكلي، ولم يتيهوا في ابستمولوجية معرفية غنوصية محددة، ولا يجري عادة تدريس فكرهم في حمئة تهافت الفلاسفة… أنهم باختصار بشر طيبون عزفوا على أوتار صحيحة وأدركوا الانسان كما لم تدركه الفلسفة، وخاطبوا من الإنسان قلبه وروحه، حيث الأفق الذي عزفت فيه الأنبياء، وتحدثوا للإنسان في ضناه وقهره وعذاباته يحملون له ملامح البسمة والرضا ليعيش مع عالمه الطافح بالعذاب في مصالحة ورحمة ومحبة.
وإلا فأين مكان الفلاسفة في ضمير العالم وأين مكان الأنبياء؟ وهل يحفظ الناس من كلمات الفلاسفة مجتمعين مقل ما يحفظون من كلمات محمد والمسيح؟؟
ترقص الدنيا على ميلاد الأنبياء، ولكن من يذكر في هذا العالم ميلاد أرسطو وسقراط وأفلاطون وصوفوكليس وأفلوطين وفرنسيس بيكون ونيوتن وجان جاك روسو وفولتير وغيرهم من أعلام الفلسفة والحكمة والعلم؟
وهل هناك وجه شبه بين مكان هؤلاء في نفوس الناس ومكان الأنبياء….
إنها النبوة يا أبا سفيان… إنه أفق آخر للإنسان الحائر… حيث هدأة القلب وروعة الإشراق……
والاحتفاء بالنبيين العظيمين ليس هروباً من المأساة المتفجرة في النكبة السورية، إنه أفق آخر يلتقي فيه السوريون في ظلال المعابد التاريخية المتجاورة مساجد وكنائس، منارات ومآذن، أجراساً وتكبيرات، حيث يشعر السوري بنعمة الأمل ونفحة الرجاء وهو يعيش مع إخوانه في الوطن الواحد عبر مدرستين متقابلتين من نور النبوة، تعزز الإخاء والرحمة كل يوم.
وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن، هكذا قال الانبا تواضر وهو يشرح تماما مكان الدين في الحياة ودوره في نشر السلام والمحبة.
في غمار طاحونة العذاب التي يعيشها الناس في سوريا هذه الأيام العصيبة انتشرت الفتاوى القاسية التي تحرم التهنئة بين السوريين على أساس الانتماء الديني فلا يصح تهنئة النصارى بعيدهم ولا تهنئة المسلمين بنبيهم….
ومع أنه ليس من سبب للتهنئة في عام النكبات هذا، ولا يوجد مكان للفرح في هذه المأساة الرهيبة ولكن إصرار المشايخ على استيراد نص السلفية الجهادية بتحريم التهنئة بين المسلمين والنصارى هو أمر مؤلم بكل تأكيد، ويقابله بالطبع استدعاء بعض النصوص الصليبية الطافحة بالكراهية التي ارتفعت اليوم تذكر بقسوة الفتوح الاسلامية وداعشياتها في بلاد الشام.
الإنسان كائن انتقائي، وانتقاء الرجل قطعة من عقله، وفي التراث الإسلامي كما التراث المسيحي ركام من فتاوى الكراهية ورياض من خطاب المحبة والسلام، ومن العقل أن نختار كلمة المحبة ونبشر بروح السلام، وأن نواجه بمسؤولية أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أسوأه.
إنها سلسلة خطايا مارسها الاستبداد واستخدم فيها الفتوى الدينية لتعزيز الانقسام الطائفي ومنع المشاركة بالمناسبات بين أبناء الديانتين حتى جاءت داعش أخيراً قدراً على قد ذنوبنا وأعلنت دون تمييز تحريم الاحتفال كله بمحمد أو بالمسيح، واعتبر الأول احتفاء شركياً والثاني بدعة مذمومة وفي الحالتين فإن سياط داعش تنتظر كل من يفكر بالفرح بأي من الرسولين الكريمين.

السوريون يريدون أفقاً آخر ولا يؤمنون بفتاوى الكراهية، ومولد المسيح كان تاريخياً عنوان خطبة الجمعة في كل مساجد سوريا وتلاوة سورة مريم في دير صيدنايا كان أكثر الأحداث طرباً بين السوريين، ولا أنسى أبداً يوم دعتني كنيسة اللقاء في صيدنايا لافتتاح مغارة الميلاد بتلاوة سورة مريم…. كان الثلج يهطل بغرارة وكان الناس يذرفون مدامع الحب والشوق لمحمد والمسيح معاً في نعيم تلك السورة العظيمة التي تخلد ميلاد المسيح في سورة خاصة في القرآن الكريم.
السوري الايطالي الثائر باولو داليلو القادم من كنيسة بطرس والمعتكف في دير مار موسى الحبشي دعاني لأعلم سورة مريم لأبناء السيد المسيح في مدرسة الفرنسيسكان، ولست أنسى ملامح ذلك الثائر الرهيب الذي كان أعلى الهاتفين بصرخة الحرية والكرامة، حين مضى ذاهباً على قدميه إلى داعش تحمله ثقافة الخلق كلهم عيال الله ولكنه كان يواجه قدره المحتوم كأول صليب يرفع من أجل الحرية والكرامة في سوريا.
الإخاء الإسلامي المسيحي عنوان مرحلة طويلة من الإخاء بين السوريين عمرها بعمر هذه الكنائس والمساجد هي ممتدة من فجر الرسالة المسيحية، وسوريا هي مقر خمسة كراسي رسولية من أصل ثمانية كراسي رسولية للمسيحيين الشرقيين، وبطاركتها الخمسة يمثلون إصرار أتباع المسيح في العالم على الدور المركزي لرسالة المسيح في سوريا وانطلاقها من كنيسة المهد في فلسطين.
المسيح سوري من فلسطين يجب أن ترسم له الأيقونات بكوفيته وغترته وزنده الأسمر تماماً كما هو شأن كل فلسطيني، وحين كنت أزور الكنائس في العالم الغربي كنت أحزن لرؤية السيد المسيح بشعره الأشقر المسدول على كتفيه وعينيه الخضراوتين وكأنما هو شاب اسكندنافي غارق حتى الثمالة في نعمة الرفاهية والأمل.
قلت لهم في رومانيا إن المسيح سوري فلسطيني أسمر ولد في بيت لحم وأوى إلى دمشق وسكن الناصرة ووعظ على الجبل، والحواري بيتر الذي تقولون إن رومانيا قد اهتد به ليس إلا صياداً سوريا من طبريا واسمه بدر على الأرجح فهذه هي الاسماء الشائعة هنا، وبطرس الذي اهتدت به ايطاليا حواري كريم من أصحاب المسيح من طبريا واسمه على الأرجح عنتر فهذه هي الأسماء التي يسمي بها الناس أولادهم هنا في مهد السيد المسيح.
حين زارت نانسي بيلوسي سوريا قبل خمس سنوات قلت لتلك السيدة التي كانت تشغل منصب رئيس مجلي النواب الأمريكي: هل أعجبتك سوريا؟ قالت لي هي رائعة وجميلة !! وما أجمل شيء رأيتيه سيدتي؟ قالت: إنه المسجد الأموي!! ولمه؟ قالت نانسي بيلوسي: في الأموي زرت ضريح يوحنا المعمدان أهم رسل المسيحية في قلب الجامع الأموي ، لقد رأيت الناس تطوف حوله ببالغ الاحترام.. إنه شيء لا يحصل في بلادي.. لا يوجد في أمريكا قديس إسلامي وسط معبد مسيحي ولا قديس يهودي وسط معبد بوذي.. مستحبل!!
قلت لها سيدة نانسي .. ولو ساعدك الوقت فيمكنني أن أصحبك إلى وسط سوريا حيث تزورين قديساً إسلامياً وسط معبد مسيحي… إنه عمر بن عبد العزيز الذي اختار أن يدفن في دير سمعان في محافظة إدلب المنكوبة وإلى جواره رقدت زوجته فاطمة بنت عبد الملك بعد رحيله بعشر سنين.
إننا أيتها السيدة نؤمن بكل أنبياء الله ومرسليه، دون استثناء، ولكننا في الإيمان بالسيد المسيح نزيد حبة سكر، نؤمن به نبي الله ورسول الله وكلمة الله وروح الله، ونؤمن أنه النبي الذي ما زال حياً وأنه يعود في آخر الزمان على مهرودتين يقطرمنه الجمان على المنارة البيضاء شرقي دمشق، حيث سيشاهد الناس ذلك الحلم الجميل الذي تغنى به الحكماء وتنتهي الحروب وتحرم البنادق ويلعن الرصاص وتوضع الدبابات في المتاحف .. ويرعى الحمل مع الذئب، وتسرح الأفاعي والحمام.. ويعود الناس إخواناً…
إنها أمنيات العام الجديد من سوريا المنكوبة، وربما كان هذا المعنى وراء اختيار الأنبياء دمشق موعداً لنزول المسيح واكتمال السلام العالمي.
هذه بالفعل بعض صور التسامح التي يعرفها السوريون خلال تاريخهم،
كذلك كنا…… ثم قست القلوب…… ولست أدري ما الذي تبقى من رسالة التسامح اليوم في هذا الوطن المنكوب؟؟
أما الإخاء السوري المسيحي فأنا أتركه للشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي رسم ملامح الإخاء الديني بين السوريين في رائعته الخالدة:
عيد البرية عيد المولد النبوي في المشرقين له والمغربين دوي
عيد النبي ابن عبد الله ما طلعت شمس الهداية من قرآنه العلوي
يا قوم هذا مسيحي يذكركم لن ينهض الشرق إلا حبنا الأخوي
فإن أتيتم رسول الله تكرمة فبلغوه سلام الشـــــاعر القروي

Related posts

هل الإسلام في أزمة

drmohammad

د.محمد حبش-من موسكو إلى جنيف….

drmohammad

الإنسانية قيم مشتركة

drmohammad

Leave a Comment