Uncategorized

د.محمد حبش-قصتي مع النظام …

التقاني على باب الدار وأقبل علي.. دكتور دكتور .. السلام عليكم….!!
كان ينتظرني عند سيارتي، كان في الواقع عامل النظافة في الحي، وقد تعودت بالفعل أن أحيي هؤلاء الناس الطيبين، ويسعدني أن أكثر من أربعة زبالين كانوا يبادلونني الرسائل والاتصال عبر موبايلي، وكانوا يباهون بذلك، ومن المؤكد الآن انهم حذفوا رقمي ورسائلي ونسوا اسمي، وأرجو أن لا ينالهم أذى بسببي!!…. وحين حييته أهلا بك! بادرني فوراً وقد أعد كلماته بعناية، وقال لي مفتخراً: دكتور!! نحن نخرج كل يوم جمعة مع الحكومة بالباصات ضد المخربين…
قلت له : ماذا تفعلون؟ قال لي : نضرب المخربين اللي عم يتظاهروا …
لم يكن آنذاك في أيار 2011 أي مسلح في الحراك الثوري السوري.. كانت فقط هتافات ومطالبات بالحرية والكرامة وحقوق الإنسان….
سالته: وماذا تحملون معكم ؟ قال لي: العصي وبيعطونا عصا بوري حديد….
قلت له بغضب : تضربون الناس!! … وهل الناس دواب؟؟ من كلفك بهذا؟؟ صدم الرجل.. فقد كان يتوقع مني – بوصفي عضواً في مجلس الشعب- إكرامية على (عمله الوطني)… وتلعثم المسكين، وبقية الحكاية مفهوم…..

مساء ذلك اليوم تحدثت في مجلس الشعب، عن وظيفة الزبال، وهي وظيفة محترمة، تستحق العون والاهتمام، وربما كانت أهم من البطالة المقنعة التي يمارسها في سوريا الآلاف من الذين ينتدبون إلى الحرس القومي بقرار من رئيس مجلس الوزراء ويتفرغون بالتالي للخدمة في الحزب ويتقاضون رواتبهم لسنين طويلة من وزارات الدولة دون ان يكون لهم أي عمل فيها.
قلت للزملاء: نحن مدينون بصحتنا وعافيتنا لهذه الطبقة الكادحة من الزبالين جزاهم الله كل خير…. ولكنني اليوم اكتشفت أن هناك من يحرف وظيفتهم الشريفة عن مسارها ويحولهم إلى وظيفة قذرة من التشبيح والضرب والاعتداء، وويل لأمة تسلط زباليها على أحرارها!!… وهذا قدر مريب يجب ان نضع له حداً وأن نحاسب المسؤول عنه!!.
تعرضت كالعادة لعلقة ساحنة من زملاء في المجلس عرفوا (بوطنيتهم العظيمة) واشتهروا بإدراكهم لحجم المؤامرات التي تحيكها ضد سوريا القوى الامبريالية والاستعمارية والصهيونية وتتطلب حشد كل الطاقات وخاصة زبالي الوطن، ليقوموا بكنس هذه الحثالات التي تريد دمار الأوطان عبر المطالبة بالحرية والكرامة……

وكالعادة تم توجيه الاتهام إلي بأنني لا أدرك الاهداف البعيدة لقرارات القيادة الحكيمة في استنفار جماهير الشعب الكادح لمواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني …. ويبدو أنني لن أدرك ذلك أبداً….

وبالعودة لأحداث ربيع 2011 فقد بدأ النظام يدرك انه أمام استحقاق غير عادي وأن الأمور لن تمر كما تصورها مكتب الأمن القومي الذي كان يصر دوماً أن الأزمة ستنتهي آخر الأسبوع بفضل حزم الجيش العربي السوري وصرامته ويقظة رجال الأمن، ولكن هذا الوهم الكاذب لا يزال إلى اليوم يكرره محللو هذا النظام رغم أننا دخلنا اليوم في الأسبوع الثمانين بعد المائة والمسلسل مستمر…….

عهد النظام لفاروق الشرع برئاسة لجنة الحوار الوطني، وكان قراراً واقعياً، فالرجل نائب رئيس الجمهورية وهو ابن محافظة درعا مهد الثورة، كما أنه حقق نجاحات مهمة في السياسة الخارجية والسوريون يتذكرون تحديه الشجاع لإسحق لشامير أمام زعيمي العالم بوش وغورباتشيف في مؤتمر مدريد1991
حاول فاروق الشرع أن تحضر بعض الأسماء البارزة في المعارضة، وحتى قبل ساعات قليلة فإن الشرع كان قد حصل على شبه وعد من برهان غليون بالحضور، وجرت اتصالات كذلك مع هيثم مناع وحسن عبد العظيم، ولكن لم يتمكن أي منهم من الحضور وللأسف فقد كان غيابهم بسبب يقينهم بعدم جدية النظام، بدليل أنه لم يوقف العنف الثقيل ولا للحظة واحدة من أجل الحوار، فيما رأى النظام ذلك دليلاً على ارتهان إرادة كثير منهم للخارج.

تميز في مؤتمر الحوار الوطني موقف كل من الأب زحلاوي والطيب التيزيني، كان طيب أول من طالب بتحريم الرصاص والمقصود هنا بالطبع هو الجيش بشكل رئيسي، أما الأب زحلاوي فقد طالب لأول مرة بأن تكون مدة الرئيس محددة في الدستور بدورتين اثنتين، وطالب بمنعه من الترشح لدورة ثالثة!
في الواقع اخترت ورقتي بعناية، وقد قام السيد منير الحمش رئيس الجلسة بتقديمي في بدايتها، وحين تحدثت كانت أمامي فرصة نادرة لأقول ما ينتظره السوريون بالفعل، وما كانوا ينتظرونه من هذه الجلسات من أمل واعد.
ركزت في كلمتي على مطلب الشارع بأن سبب الثورة الحقيقي هو الظلم والاعتقالات والدور الأمني المتغول في البلد، وأن علينا أن نضع حداُ لهذا التغول.
إن أصدقاءنا في المعارضة لم يحضروا معنا وقد كنا نتمنى منهم الحضور، ولكن يجب احترام موقفهم لانه يستند إلى أساس أخلاقي متين… فالنظام لم يتوقف عن استخدام السلاح الثقيل ولا حتى ليوم واحد بغية إنجاح هذا الحوار، لقد أصر على الحل الأمني، واستمر إطلاق الرصاص في حمص وبانياس ودرعا خلال جلسات المؤتمر الأمر الذي تم تفسيره تلقائيأً بأن النظام غير جاد بحل شيء من الكارثة.
على حد قول فرويد نحن نسعى لتجنب الألم أكثر من سعينا لان نجد السعادة!..
وكانت قناعتي أن كل المطالب مؤجلة حتى وقف تغول النظام وعنفه وفساده، كما قال تولستوي: إن الحرب التي تشنها الدولة تفسد الناس في عام واحد أكثر مما تفسدهم ملايين جرائم النهب والقتل التي يرتكبها الأفراد في عشرات السنين.
فقد اقتصرت مطالبتي على أن يتم وقف العلمليات الحربية ومنع الجيش من الانخراط في المعارك في المدن، والإفراج عن جميع المعتقلين من سجناء الرأي ومن بعدهم سجناء الأزمة…. وكان السبيل إلى تحقيق ذلك هو تأسيس المجلس الأعلى لحقوق الإنسان، وهذا المجلس من مهمته أن يذهب إلى كل مكان يهان فيه السوريون، وكان إصراري على أن تكون للمجلس سلطة رقابية وتفتيشية حقيقية على الجيش والأمن والمخابرات، وأن يتولى رئاسته شخصية بارزة من المعارضة وخاصة من أولئك الذين ذاقوا مهانات المخابرات في فروع الأمن وسجون النظام.
كما طالبت بصراحة بإلغاء المادة الثامنة التي يحتكر فيها البعث السلطة، وإلغاء المادة 84 التي تحصر ترشيح رئيس الجمهورية بحزب البعث، وطالبت بالتحول إلى نظام ديمقراطي تعددي.
كما طالبت بإلغاء القانون 49 الذي يقضي بإعدام الإخوان المسلمين وهو قانون همجي ليس له نظير في العالم، حيث يحكم بالموت على من ينتسب لحزب سياسي، وهي مطالبة كررتها عشرات المرات في مجلس الشعب ووسائل الإعلام المحلية والدولية.
كنت سعيداً بما قلته في المؤتمر وقد نقلته كل وسائل الإعلام وهو موجود على اليوتيوب بكثرة، ولكنه كان صادماً تماماً لفريق السلطة الذي رأى في ذلك تجاوزاً لكل الخطوط الحمر، ولكن كثيراً منهم ظلوا يتحفظون ويفترضون وجود ضوء أخضر من الرئيس لرفع سقف الحوار!!.
تطورت الأمور بشكل إيجابي وتولى السيد السفير الياس نجمة صياغة البيان الختامي وبعد جدل صاعق تم بالفعل إقرار هذه المطالب كلها في توصيات المؤتمر.
كان الأمل حقيقياً في تجاوز الأزمة، ومع أنني لا أعلم الغيب ولكن الطريقة الوحيدة للتنبؤ بالمستقبل هو أن يكون لديك القدرة على صنعه، وهكذا كان وأعلن الرئيس بشار أنه مستعد لتحويل هذه التوصيات إلى مراسيم!!! وأعلن فاروق الشرع مراراً قال لي السيد الرئيس أعطوني توصياتكم وأنا أحولها إلى مراسيم.
لم تكن سوريا تحتاج أكثر من هذا لتتجاوز الأزمة، وبالفعل فقد تم إقرار ذلك كله، وأنجزت لجنة الصياغة المطلوب، ووضعت الأوراق على الطاولة…
قرأ فاروق الشرع التوصيات وشعر بأنها أكبر من تفويضه، وأن عليه ألا يتعجل، واستأذن لمدة ربع ساعة، دخل خلالها ومعه مسودة التوصيات إلى غرفة خاصة وأجرى اتصاله بالأسد..

لم أتوقع أن يخرح الرجل ومعه موافقة الأسد لأن المطالب كانت عالية جداً، وقد اعترض عليها بشراسة أعضاء بارزون في حزب البعث، ومنهم عمران الزعبي وعمار ساعاتي وشعبان عزوز… بالمناسبة تم تعيين الأول وزيراً للإعلام والثاني والثالث عضوين جديدن في القيادة القطرية !!
بصراحة كانت أكثر أربع وعشرين ساعة طافحة بالأمل في حياة هذه الثورة فقد أعلن الأسد أنه سيحول توصياتنا إلى مراسيم وكنت على يقين أن حصول ذلك يعني انتهاء الأزمة.

لم تمض إلا ساعات قليلة حتى كان محمد حمشو في بيتي بعين الخضراء وهو صديق قديم ولكنه كان خصمي في الانتخابات الأخيرة، وما قصرنا بحق بعض في المعركة الانتخابية، وقال لي بالحرف الرئيس غضبان منك، وقالوا له أنك تجاوزت كل الخطوط الحمر!!
قلت له: أعلم بالطبع أنني تجاوزت كل خطوط الحزب والأمن والمخابرات، ولكن يجب القول كما قال ديزموند توتو أنك إذا كنت محايدا في حالات الظلم فقد اخترت أن تكون بجانب الظالم!! ونحن هنا من أجل أن نتخلص من هذ التغول الأمني وكنت على يقين أنهم سيغضبون ولم أكن أنتظر ثناءهم، ولكنني كنت أتصور أن الرئيس سيفرح بذلك لأنه يحتاج إلى موقفنا الجريء ليواجه به الأمن والجيش ويقول لهم يجب ان نحترم الشارع ونستجيب له.
كانت المفاجأة أن الرجل لا يفكر أبداً بهذه الطريقة، وبعد اتصالات متعددة مع الرئيس، قال لي: الناس فهمتك غلط وعليك أن تصحح!! وبالطبع تولى السيد محمد حمشو ترجمة ذلك عبر قناة الدنيا التي كانت قد استنفرت بالكامل بكل كوادرها للقاء صارم لرد هذا الطير الآبق عن سربه، وقد تولت الحوار المذيعة هناء الصالح.
تلقت هناء توجيهاً صارماً بأن لا تتلقى اي اتصال، فقد كان هناك انقسام عنيف في الشارع، فهناك من وقف مع مطالب المؤتمر وأيدها وهناك من رفضها بالمطلق وتم تصنيفنا خونة وانتهازيين، وكان من الممكن أن تكون الاتصالات نارية ومحرجة، وكلمني السيد العميد حسام سكر مدير مكتب الرئيس وقال لي بالحرف الواحد الرئيس يتابعك في كل كلمة، وهو ينتظرك بعد ساعة في مكتبه..
وعلى الرغم من الجو المتوتر فقد قدمت الحلقة وأنا في غاية التفاؤل وقناعتي أن الحل قادم، وأن المعتقلين سيجدون رياح الحرية خلال الساعات القادمة، وأن المجرمين الذين عذبوا الأطفال في درعا سيحاكمون، وأن أوامر صارمة قد أعطيت للجيش لسحب الدبابات من المدن كما قال لي فاروق الشرع، وأن سوريا ذاهبة الى مجلس أعلى لحقوق الإنسان، وتعديل الدستور وكنت سعيداً أن يتم هذا الاصلاح كله على يد بشار الأسد فهذه أفضل طريقة لتجنب لخراب والفوضى في سوريا.
قلت يومها في سكاي نيوز الأمريكية: يجب أن تتم هذه الاصلاحات مع الرئيس بشار، في هذه اللحظة ليس من مصلحة سوريا أن يرحل، قلت لهم : لو أن بشار ركب الطائرة الآن ورحل هو وأسرته وأخوه ماهر وكل الأسرة واختار بلداً آخر فهل نكون قد خدمنا سوريا أم أدخلناها في نفق مظلم؟؟؟ هكذا كانت قناعتي… ومن يدري الغيب… كنت أظنه سينجز الإصلاح، ولم أكن أتصور أن يفشل في تحقيق آمال الناس بهذه الطريقة، وأنني سأقف على المنابر ذاتها لأقول له….. ارحل… وارحم نفسك وارحمنا…………….

خلال شهر تموز 2011 تحدثت في أكثر من مائة منبر ووسيلة إعلامية وأنا أبشر الناس بتوصيات المؤتمر العظيمة، وبالوعود التي أطلقها الأسد والتي ستنهي كل الصراع في سوريا.

تراجعت تلك الآمال تدريجياً بعد أن نامت التوصيات في أدراج الاسد ولم يتحول أي منها إلى مرسوم كما وعد، وبعد أن رفعت إليه توصيات فلاسفة الاستبداد والقهر الذين حذروه من التورط في تلبية مطالب الشعب التي لا تنتهي، وأن عليه أن يستمر في اللعبة ذاتها التي مارسها أبوه والحكم بالحديد والنار.
وبعد نحو ثلاثة أشهر شكل الأسد لجنة لصياغة دستور جديد ولم يخطر على بالي أبداً أن الدستور الجديد سيكون مصمماً على مقاسه، فقد ظلت فترات الرئاسة سبع سنوات، كما نصت مواده على أن الدستور يجب ما قبله ومعنى ذلك ان الأسد سيستأنف دورتين جديدتين من عام 2014 إلى عام 2028 وعند ذلك سيكون حافظ بشار الأسد قد بلغ 26 عاماً ومن الممكن بتعديل دستوري بسيط أن نطمئن على مستقبل سوريا!!!……

كانت الأسئلة تنهال علي من كل صوب، وكانت أجوبتي تبدو يوماً بعد يوم أكثر برودة وتعاسة، وأدركت أنني تورطت في نشر الأمل، ولكن هل لدينا شيء نصنعه إلا الأمل، وهذ ما فعلناه، في حين أن الجيش والمخابرات استأنفوا مشروعهم الدموي، عبر مكتب الأمن القومي الذي كان يقوده رجل بلا قلب ولا مشاعر، وهو هشام اختيار، وقد أعلن مباشرة لأهل درعا ومن قبل ذك لأهل عامودا في القامشلي أننا مستعدون لتكرار مجازر حماه!! وبالطريقة ذاتها .. لحماية هذا الوطن العظيم!!
هكذا فقد تبخرت الآمال التي عقدناها على المؤتمر التشاوري، فلا السجناء وجدوا الحرية ولا المجرمون سيقوا للمحاكم ولا المهجرون عادوا ولا المادة الثامنة تم تغييرها ولا المعارضة ساعدتنا في شيء، وبدا أننا مارسنا دوراً سخيفاً في تجميل نظام قبيح لا يفكر أبداً بتغيير قواعد لعبته الدنيئة القائمة فقط على القمع بالبسطار، وبدلاً من العمل بتوصيات الخلاص فقد قام النظام بتعزيز ثقافة الخضوع للبسطار العسكري، وفي صورة مؤلمة لم يعد النظام يتحدث عن عقل الجندي ولا مهارته ولا ثقافته الحربية، واقتصر التركيز على البسطار العسكري ووضعت له المجسمات في المدن واحتفل المحافظون بتكريم البسطار العسكري، ورسمت عشرات اللوحات القميئة للبسطار العسكري وتم تلوينه من أسفل بلون السماء الزرقاء… ومشى العشرات من النسوة خصوصاً في ساحات عامة وعلى رؤوسهن بسطار الجيش، ووضعت فيه زهور تعيسة!! واعتبر ذلك شهامة وطنية، تغنى بها التلفزيون السوري، ووخصصت برامج تلفزيونية بحالها للحديث عن البسطار العسكري وما أودعت فيه الجماهير من قيم نبيلة وعظيمة!!
بعد أشهر قليلة ونتيجة الإصرار على الحل الأمني، والمظالم الرهيبة التي ذاقها المعتقلون في السجون، ونتيجة لرفض النظام تقديم تنازلات حقيقية للشعب الثائر، أعلن عن تأسيس الجيش السوري الحر، وانتكست بشكل مريع كل آمال السلام والوئام التي لاحت آخر بوارقها في اللقاء التشاوري برئاسة الشرع.
من صاحب قرار تسليح الثورة؟ ومن بارك له وهلل له؟ وما دور النظام في صناعة هذا التحول،؟ هذا ما نقرؤه في لقاء قادم.

Related posts

ماذا وراء الحملة على صلاح الدين؟

drmohammad

هل اكتمل الإسلام؟

drmohammad

عبد الحميد الأتاسي – يرحلون وتبقى مدارسهم

drmohammad

Leave a Comment