ناديا مراد الصبية الإزيدية الهائلة التي خرحت من قبور داعش وهي سبية محطمة، واستعادت عافية الحياة ووقفت أمام العالم كالنخلة تهزأ بالموت وتنقل للعالم مأساة الشعب اليزيدي المنكوب.
لم تكن تروي مأساة اليزيديين، لقد كانت تروي مأساة بؤسنا وجاهليتنا وعجزنا، حين نهاجم داعش في الخطب والبيانات ولكننا نقف كعنزة الزمخشري بائسين فاشلين أمام الحجج التي تدلي بها داعش من مناهجنا التي لا تزال تدرس في مؤسسات التعليم الديني في طول العالم الإسلامي وعرضه.
لا أريد أن أضيف مرثية جديدة لمراثي الأسى اليزيدي، وهو محض سطور في قافية الرثاء الطويلة التي تشمل البلاد العربية المنكوبة، التي تعاني العذاب نفسه بأشكال وألوان لا تنتهي.
ليست ناديا مراد وحيدة، إنها واحدة من 3400 امراة قام المحاربون القساة باختطافهن وممارسة ابشع أشكال الاغتصاب والقهر والظلم والقتل، وينسبون ذلك كله لله، يظنون بالله غير الحق ظن الحاهلية.
ناديا مراد اختارت أن تتقدم بنفسها على خشبة الصلب الإعلامي لتعلن للعالم عذابات النساء اليزيديات وقهرهن، اختارت أن تكون كاوا الكرد الجديد مرة أخرى، تتحدى نمرود والضحاك وأفاعيه الفاجرة وتقدم للعالم نيروزا جديداً للخلاص يكشف عن المآسي المريرة من القهر والعذاب.
السبي والاسترقاق سلوك ملعون في كل مكان في العالم يلعنه كل ذي عقل سليم، ولكن هل نجرؤ على القول إننا مارسنا السبي والاغتصاب قروناً طويلة في غمار فتوحاتنا العظيمة، وهل نجرؤ على الاعتراف أن منابرنا ودروسنا الدينية لا تزال تعلم الطلبة أحكام الاسترقاق والوطأ بملك اليمين على أساس أن ذلك من محاسن الإسلام وواقعيته.
أستعين بشجاعة هذه الفتاة النبيلة التي تبكي كل قلب، وهي تشرح قيام المحاربين الجفاة القساة باغتصابها تحت عنوان الفقه الإسلامي والشريعة وتحت أصوات التكبير، وأتقدم خطوتين وألتمس الشجاعة ذاتها لأقول للعالم إننا ما زلنا ندرس باب الاسترقاق في معاهدنا ومدارسنا الدينية وعلى منابر الجمعة دون أن يقع في خواطرنا ذلك المعنى السلبي الرهيب لسلوك وحشي كهذا.
كان بالإمكان أن نروي ذلك عن جيل الصحابة لو اننا قبلنا أنهم بشر كالبشر وأنهم قطعة من التاريخ، فالتاريخ للتاريخ، ويوجد اهوال أشد من هذا في حياة الاسكندر ويوليوس قيصر وهانيبعل وجنكيز خان وهي لا تخجل اليونانيين ولا الرومان ولا البرابرة ولا المغول اليوم لأنها سطر من التاريخ السحيق، ولأن الأمم كلها تتعاطى مع تاريخها بواقع الحكمة القرآنية العظيمة: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون.
وحدَنا من بين الأمم نحنط تاريخنا بالأيقونات المقدسة، ونعتبر أن ممارساتهم قدوة كل زمان ومكان وأن ما قاموا به هو تشريع للإنسانية لأبد ابد، وأن منكر هذه السلوكيات منكر على الله ومعترض على أنبيائه وملحد في الدين.
نعم لقد مارس الصحابة هذا اللون من السبي والاسترقاق، ومن الجنون أن نتصور أن السبية كانت تساق إلى مالكها باسمة راضية وهي تشاهد مصارع آبائها وإخوانها وبني أعمامها، ومن الجنون أن نصدق انها كانت ممتنة لهذا القدر اللعين، وقد كتب كثير من مؤرخينا عن الإماء الشواعر والإماء الغواني والإماء من حريم السلطان، ولكن أحداً لم يكتب لنا عن عذابهن وقهرهن ومدامعهن على الوسائد ومحاولات الانتحار التي كانت دأب كل امرأة شريفة تقع في الأسر.
قناعتي أن الرسول الكريم كان أشد الناس كراهية للسبي والاسترقاق، ومع أنني أشعر بالأسى أنه لم يقل صراحة إن هذا اللون من البغي حرام وإثم وكفر، ولكنه فعل الكثير ليوقف جنون السبي والاسترقاق، ويبعث إرادة الإعتاق والتحرير، وفي حين أن الحروب كانت تنتهي دوماً بالاسترقاق والسبي، فإن الرسول الكريم نجح في أن يمنع الاسترقاق في 24 غزوة من غزواته، ووقع الاسترقاق في ثلاثة ايام منها، وهي أيام قريظة والمصطلق وخيبر، وفي يومي المصطلق وخيبر بادر مباشرة إلى إعتاق سيدة من السبايا وأعلن زواجه منها وأسهم ذلك إلى حد كبير في تحرير سائر السبايا.
وفي يوم حنين وهي آخر التحام حربي في حياة الرسول واجه غزوة من أربعين ألف مقاتل من ثقيف بقيادة عوف بن مالك الذي أمر المحاربين بإحضار نسائهم معهم ليكونوا أحرص على القتال، وحين فر الرجال وقعت النساء أسارى، واعتبره المحاربون عيداً للنصر والجنس، وقد فضحهم القرآن في سلوكهم المشين هذا في سورة الفتح، ولكن النبي الكريم كان صارماً إلى الغاية، وعاملهن معاملة الأسرى ولم يأذن لاي من المحاربين أن بأخذ من السبي شيئاً مع أن الذين حاربوا معه كانوا في غالبهم من الأعراب ومن المؤلفة قلوبهم الذين قالوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد واجه عناء شديداً في إقناعهم بعدم الاسترقاق، ولجأ إلى حيلة طويلة استمرت شهرين ليرد السبايا لثقيف، وسط معارضة شديدة كادت تتحول إلى تمرد عسكري خاصة من قبيلة تميم وزعيمها الأقرع بن حابس، وقبيلة فزارة وزعيمها عيينة بن حصن.
لا يمكننا سرد التاريخ هنا، ولكن يجب القول أن الإسلام واجه كارثة السبي كتراث حربي تتعارفه الأمم آنذاك، ومارس لعبة السياسة في التخلص منها، ونجح مرات كثيرة في تجنب السبي والاسترقاق، وأخفق جزئياً مرة واحدة.
وقناعتي أن موقف النبي الكريم تطور مراراً بشان الأسارى، حتى بلغ النهاية المقبولة وهي ما ورد في النص القرآني الأخير في حكم الأسارى: فإما منّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها، وهذا النص القرآني يحرم أي استرقاق من أي نوع، ويحصر التعامل مع الأسرى بواحد من اثنين فقط وهما: المن أو الفداء، وهو ما يطابق القانون الدولي واتفاقيات جنيف بشان الأسرى.
ولكن الكارثة أن الفقه الإسلامي لم ينظر أبداً إلى سعي الرسول في الخلاص من الرق والسبي نظرة مقاصدية، واكتفى بأن السبي حصل يوم خيبر وقريظة ليعتبره قاعدة شرعية ينبغي النظر في حكمتها وفوائدها والنسج على منوالها.
ومن المخجل ان نتذكر ما كنا نعلمه لطلابنا من أن الوطأ بملك اليمين هو لون من النعمة التي منحها الفقه للمراة المنكوبة، وأنه اعتراف شرعي بحقها في الجنس والسعادة، ولم يخطر في بالنا كيف يمكن لامراة مقيدة شاهدت مصارع إخوتها وأهلها أن تجد المتعة في سعار المحارب المتوحش يجبرها على الفظائع ثم يمن عليها بانه يعترف بحقها في السعادة!!!
ومراراً درَّسناهم ان من رحمة الفقه أنه لم ياذن بالتفريق بين المرأة وأطفالها في السبي، وكان السبي للعذراء هو عمل أخلاقي بريء، وأن السبي لا يقع على المتزوجة إلا بعد استبراء رحمها بحيضة، وأن سبيلها لنيل حريتها أن تحمل من غاصبها وتضع له مولوداً لتصبح ام ولد وتجري عليها بعض التخفيفات من أحكام الاستعباد اللعينة.
لا يمكن لمقالات كهذه على الإطلاق أن تغير من الواقع شيئاً، نحن نصرخ في الوادي، ولكن المؤسسات التعليمية الإسلامية لا تزال تقف عاجزة أمام مواجهة ركام التاريخ المقدس، وستبقى تفرخ للأحيال مزيداً من الدواعش المؤمنين بما يصنعون، فدرس الوطأ بملك اليمين موجود في كل كتب الفقه الإسلامي، التي تدرس في الأزهر وكليات الشريعة والمعاهد الشرعية في العالم الإسلامي بلا استثناء، ومهما قمنا برش السكر على هذا الموت، وتجميل هذا السلوك القبيح المخجل فلن نغير من بؤس الجهل شيئاً، وحتى الآن فإنه لم يجرؤ معهد واحد أن يقول إنكم تكذبون على الله ورسوله!!، او أن هذه الفظائع هي من مخازي تاريخنا، وعلينا أن نقوم بمراجعات عميقة وجريئة ونقدم تنازلات مؤلمة حقيقية لصالح قيم الإسلام الكبرى في العدالة والحرية، ونرفض تلك الفظائع المخجلة مهما كانت منزلة مرتكبيها، وفق القانون القرآني الذي تكرر مرتين في صفحة واحدة: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون.