أعلنت القوى القيادية في الشمال الكردي في سوريا (روج آقا) العقد الاحتماعي للفدرالية الديمقراطية وهو ما يشبه المدخل السياسي لدستور يحكم هذا الجزء العزيز من الوطن السوري بعد أن صار في حكم وحدات الحماية الكردية.
وجاء في ديباجة النص التأسيسي:
“يعتمد النظام الفيدرالي الديمقراطي لروج افا – شمال سوريا في هذا العقد على ثقافة الالهة الأم وعلى التراث الإنساني والأخلاقي للرسل والأنبياء والفلاسفة والحكماء الباحثين عن الحقيقة والعدالة والمساواة وعلى الإرث والغنى الثقافي لحضارة سوريا وكردستان وبيت نهرين….”
ومع أنني لا أرغب أن أفسد روح التوثب التي يسعى لها الكرد في سياق تحقيق وجودهم وذاتهم على الأرض التاريخية التي عاشوا فيها مشردين في البلدان الأربعة التي غاب فيها حلم كردستان التاريخي، بين ايران وتركيا والعراق وسوريا، أو بتعبير آخر أراضي الميديين الذين بنوا حضارتهم الكردية الرائعة هنا قبل نحو ثلاثة آلاف عام.
ولكنني في الوقت نفسه لا أرغب لهذا التوثب الظافر ان يمارس الانفعال إياه الذي مارسه خصومه خلال التاريخ وفرضوا فيه إراداتهم ورؤيتهم على الشعب الكردي المنكوب.
وأفهم كذلك حجم ردة الفعل التي سببتها ممارسات التكفير المتوحشة ضد اليزيديين، تلك الممارسات التي قامت على أساس طائفي محض ودفعت بكثير من الكرد إلى اعتبار الاسلام مسؤولاً بشكل مباشر عن هذه النكبة الإنسانية الفظيعة.
وفي هذا السياق ومن باب داوها بالتي كانت هي الداء فإن الساهرين على الوثيقة الجديدة اختاروا الانتساب إلى الإلهة الأم! في تأكيد صارخ إلى رفضهم قيم التوحيد التي هي محور الدين ورأس قيمه.
والسؤال الآن: إلى أين يريد الكرد التائهون أن يتوجهوا في خطابهم القومي والتاريخي؟
الآلهة الأم مجرد ميثولوجيا واساطير لم يتقبلها الناس ولم تبلغ في ضمير الشعب الكردي نفسه مكان الأسطورة التاريخية، وإقحام هذا المعنى الرمزي في مرجعية حقوقية وقانونية ودستورية لن يخدم المقصد في شيء، وسيكرس تلقائياً اصطفافاً دينياً وطائفياً وقومياً في هذه المنطقة المتخمة بالجراح الطائفية والعرقية ختى الثمالة!
ومع أن الكرد يريدون تعزيز تميزهم في تحقيق المساواة التامة بين المرأة والرجل، وهو موقف يستحقون عليه التحية، ولكن ذلك الهدف النبيل لا يجوز أن يمر عبر تأنيث الآلهة، والاصطدام بثقافة الامة وتاريخها والتنكر للتوحيد الذي هو محور الإيمان لشعوب هذه المنطقة.
لا ينبغي لآمال الحداثة مهما كانت نبيلة وبيضاء ان تكفر بعقيدة الشعب، ولن تجني من خيار متهور مثل هذا أي نتائج على صعيد التوحد ولا على مستوى الحداثة.
لا أعتبر نفسي خبيراً بالشان الكردي، ولكنني أعتبر نفسي مغرماً بالتراث الكردي والأدب الكردي والأمل الكردي، وتائقاً إلى العيش في جنة كردية عربية لا يبغي فيها جبل على جبل، ولا غمر على قفر، ولا تراث على تراث.
إنني أفهم مبررات التحول العلماني الصارم في الحالة الكردية ولكن أصدقاءنا يتخيرون تحولا علمانيا بلا قلب ولا تاريخ يبشر بدولة انور خوجة وكيم ايل سونغ، ولا يمكنه على الإطلاق أن يتبيأ في أرض تاريخها التوحيد، وأجدادها الأنبياء وضميرها الوحي.
من المؤكذ أن المشهد الكردي تسيطر عليه اليوم نخبة من الذين عانوا من الظلم والقهر عبر موقف البعث القومي الشوفيني ضد الكرد وموقف التطرف الإسلامي ضد اليزيديين، فاستباح الأول حقوقهم ككرد ، وفرض تغييراً ديمغرافياً بالغ القسوة والظلم والقهر بحق الكرد، وتداول تهجير الشعب الكردي وترحيله وفرض خططه الديموغرافية الخالية من الإنسانية لبناء وهمه القومي، وأسس لعلاقة متوترة متحفزة بين العرب والكرد، والثاني موقف التكفير المتوحش الذي ضرب في رقابهم وأعناقهم ونسائهم وأرزاقهم ثم رفع راياته بشعار التوحيد الاسلامي.
وربما كانت هذه المنعطفات الخطيرة سبباً في تحول المزاج الكردي إلى تطرف آخر ارتدادي في سياق القاعدة الفيزيائية لكل فعل ردة فعل مشساوية له في القوة ومعاكسة له في الاتجاه، وهكذا تتجه أدبيات النضال الكردي نحو خطاب كاره لكل ما هو إسلامي ولكل ما هو عربي، ودون أدنى شك فإن المنطقة تبيت على فوهة بركان لا مصلحة لأحد فيه في صراع قبلي مباشر عربي وكردي سيدفع فيه الشعب المنكوب مزيداً من المآسي والجراح والنكبات.
ليس من مصلحة الكرد في نظري أن يردوا على مكر التاريخ بمكر مماثل، وان يداووا جراحهم بالتي كانت هي الداء، بل إن خطاب المستقبل المأمول هو خطاب التشارك والتكامل، وليس القطيعة والمنابذة، والارض البيوريتانية خرافة لا وجود لها، والناس مرغمون على العيش في المجتمعات متعددة الثقافات على الأقل في هذه الأرض الطيبة التي أذنت خلال التاريخ بالتعدد العرقي والديني والمذهبي والسلوكي، ولا يمكن أن تيقى في التاريخ إلا هكذا.
الكرد ليسوا نسيجاً مناقضاً لمحيطهم العربي والإسلامي، فقد كانوا شركاء كاملين ومدهشين في البنيان الحضاري لبلاد الشام والرافدين والهضبة الإيرانية الاناضولية، وتاريخهم يحمل هذا الخلود كله.
والكرد في الأدب العربي والإنساني أمل وعمل وعطاء وحب وثورة وقصيدة، ومنهم أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعرالعراق جميل صدقي الزهاوي وبلند الحيدري ومحمد كرد علي وغيرهم من أعلام الشعر العربي المعجز الذي يقفز فيه حرف عربي بعشق كردي يجمع تضحية كاوا وجراح فرهاد.
والكرد في التراث الإسلامي حققوا أكبر قفزة معرفية وصار الناس عليهم عالة في فهمهم ووعيهم، وقدموا مئات العلماء والفقهاء وجزيرتهم التاريخية في بوطان قدمت الثلاثي الفريد ضياء الدين ابن الأثير وعز الدين بن الأثير ومجد الدين بن الأثير، وعنهم صدرت أكبر موسوعات التفسير والتاريخ والفلسفة في التاريخ الإسلامي، وتمكنوا من تصدر قائمة المؤرخين في التاريخ الإسلامي وصار الناس عالة على عطائهم في الفقه والتراث الاسلامي كله.
والكرد في المحدثين حققوا النبوغ على الجميع وانتهى علم المصطلح كله إلى ابن الصلاح الكردي الشهرزوري، ولا يستطيع محدث مهما بلغ منزلة في العلم والرواية أن يتجاوز ما نقله ابن الصلاح في المصطلح من أجماع أو شذوذ
والكرد في المؤرخين هم ذؤابة عقدهم وهم ابن الأثير في الكامل في التاريخ وعماد الدين أبو الفداء الأيوبي وابن خلكان صاحب وفيات الأعيان، وهو رجل أنصف الموتى من الأحياء، وأفرد لهم على سور كتابه مكانهم في المجد، فماذ كره باق وما نسيه زال.
والكرد في العلوم الفيزئاية والرياضية هم أبو حنيفة الدينوري صاحب كتب النبات والبلدان والجبر والمقابلة
والكرد في التضحية والفداء هم صلاح الدين الأيوبي ورجاله الذين سعدت بهم دمشق ومنحتهم جبلها الشامخ، قاسيون، جبل الأكراد.
والكرد في مشاركاتهم السياسية هم ابراهيم هنانو وخالد بكداش وحسني الزعيم ونوري السعيد وكمال حنبلاط.
والكرد في الضمير الشعبي والتعلق الصوفي اليوم هم بديع الزمان النورسي واحمد كفتارو وسعيد البوطي ومعشوق الخزنوي.
ليست هذه مغازلة انتهازية لنضال الكرد، إنها بكل بساطة إصرار على رؤية مجدهم ونجاحهم في المكان الذي يستحقون، إخوة في محيطهم العربي والإسلامي كما هو شكل التاريخ والحاضر والمستقبل.
هل سيدرك الكرد أن مستقبلهم في المنطقة لا تعرفة الآلهة العتيقة وأنها لا تستطيع نصرهم ولا أنفسهم يتنصرون، وانها لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن شمس كردستان شيئا!.
لا أعتقد ان أحداً من الكرد كرمانجيهم أو كلهودهم أو كورانهم أو لورهم سيعترض لو غاب ذكر الآلهة العتيقة عن الميثاق التأسيسي ولكنني على يقين ان الكرد وشركاءهم سيعترضون على ازدراء العقل بهذه الطريقة ورد القضايا المصيرية والحياتية إلى إرادات الآلهة ومزامير الأوهام.
إنها دعوة صادقة لخطاب التفوق الكردستاني ان لا يغرق في أوهام الحداثة الثورية، وأن يؤمن بالشراكة الحقيقية مع جيرانه على الأرض، فما في هذه المنطقة من فتيل الحرب والجنون يكفي لعدة عقود أخرى ولا يحتاج أي مزيد.