مقالات

د.محمد حبش- نهضة المرأة في الفقه الإسلامي

دراسة في رسالة الفقه الإسلامي

في نهضة المراة وحقوقها في الكرامة والمساواة

إعداد
د.محمد حبش

بحث مقدم لمركز الملك عبد الله لحوار الحضارات
جامعة الإممام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض

والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
ويطيعون الله ورسوله
أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم

النساء شقائق الرجال

أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد

تصدير

تهدف هذه الدراسة إلى التأكيد على النهضة والتمكين التي عززها الفقه الإسلامي في شأن المرأة خلال العصور، وإبراز القيم القرآنية والنبوية التي أكدت حرية المرأة وكرامتها وعزتها، في مقابل ثقافة العجز والضعف التي انتبذت فيها المرأة المسلمة في عصور الضعف، وتهدف إلى التأكيد على أن نهوض المرأة الحقيقي هو ذلك الذي يتحقق في ظلال هدى الشريعة وثراء الفقه الإسلامي.

لقد تم إعداد هذه الدراسة استجابة لحاجة المرأة المسلمة التي تشهد نهضة حقيقية في حقل تمكين المرأة، وهو حدث بالغ الأهمية، حيث كانت سهام النقد للشريعة الإسلامية تترافق مع بعض صور التغييب والتجهيل الذي مورس ضد المرأة المسلمة عبر حقب تاريخية مختلفة، وعبر توجهات مذهبية ضيقة، لم تلتفت لسعة الإسلام ورائع مقاصده في تحقيق كرامة الإنسان، وقد كانت الخطوة الرائدة التي اتخذها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بتمكين المرأة المسلمة حدثاً تاريخياً من وجهة نظري، حين دفع بشجاعة وحكمة باتجاه مشاركة المرأة في مجلس الشورى ومنح ثلث كراسي المجلس للنساء وهو تقدم لافت لم تبلغه أشد البلاد العربية انفتاحاً وتحرراً، وقد وضع المرأة أمام مسؤولياتها العمية والتشريعية والإدارية والسياسية.
كما كان قراره الكبير بإطلاق جامعة الأميرة نورا التي بنيت وفق أرقى قواعد الإعداد الأكاديمي جواباً عملياً للذين ينكرون نهضة المرأة المسلمة، ويطالبون بخروجها من حيائها وعفافها لانخراطها في الحياة العامة.
إننا لا نعتبر التطور اللافت في شان المرأة السعودية شأنا محلياً سعودياً، بل هو شأن عربي وإسلامي، ونهضة المرأة السعودية هو موقف ريادي وقيادي بامتياز للمرأة المسلمة في كل مكان في العالم، وهو بالتالي أمل تنتظره المرأة المسلمة في كل مكان في العالم لتشارك إخوانها من الرجال في بناء الحياة، وفق منطق الهدي النبوي الحكيم: النساء شقائق الرجال.
ونحن لا نتحدث في هذا السبيل عن الكمال، بل إن كثيراً من قضايا المرأة لا تزال تواجه تحديات ثقافية واجتماعية كثيرة، وليست المرأة السعودية استثناء في ذلك، ولكننا مقتنعون بأن مزيداً من المعرفة بحقائق هذا الفقه الإسلامي الغزير وخيارات الفقهاء الكرام تحمل الحلول الواقعية لقضايا المرأة.

وقد ذهب البحث إلى إحياء رسالة النهضة الحقيقية للمرأة وفق مبادئ الإسلام الحنيف وذلك ثقة بهذا الفقه الإسلامي العظيم، ولا شك أن الاقتراب من هذا التراث الفقهي الزاخر الذي قدمه لنا الآباء المجددون من فقهاء كرام وعلماء عاملين كان هدفاً دقيقاً قصدناه، وذلك ثقة بالعقل الإسلامي الذي دوَّن الفقه الكريم في فترة صعود حضاري كنا فيها بجدارة سادة هذا الكوكب وكانت عواصمنا المعرفية في دمشق وبغداد وشيراز والقاهرة والقيروان والرباط والأندلس تمنح خزائن العالم كتب الحكمة والمعرفة وتؤسس لفقه متين محكم سيمتد عطاؤه وخيره في أمم القرون قروناً طويلة متتالية.

تريد المرأة المساواة في حقها في التعلم والتعليم، وهو ما ستجده وارفاً في حديقة الفقه الإسلامي الكبير الذي قدم نماذج لآلاف النساء اللاتي أصبحن مراجع للعلم والمعرفة والنبوغ والتفوق، ووجدن فرصتهن الكاملة للإبداع في ظلال ثوابت الشريعة الإسلامية.

وتريد المرأة إنصافاً في مسائل تعدد الزوجات حيث يقوم كثير من العابثين بإطلاق ما شاء لهم الهوى من غرائز سائبة في تطبيق سيء لفقه التعدد في الإسلام الذي شرع لضرورات مخصصة وبشروط دقيقة تحقق مقاصد الشريعة وتمنع العبث فيها.

وتريد المرأة إنصافاً لها عندما يعبس وجه الدهر الكالح فيها وتجد نفسها مطلقة أو أرملة، تفتقر إلى النصير ويتولى الغضب والقهر التشفي منها وإذاقتها ألوان العذاب، وستجد في دوحة الفقه الإسلامي ما ينصفها ويرد عنها العناء وهو ما ستجيب عنه هذه الصفحات.

وتريد المرأة المساواة في حقها في جنسيتها لها ولأطفالها، وهو ما تناضل من أجله المرأة العربية اليوم، ولها إلى هذا الحق ألف دليل ودليل، وستجد المرأة أن الإسلام قد أنصفها أعظم الإنصاف في مطالبها تلك، وأن القرآن الكريم جعل الولاية بين النساء والرجال مطلباً مشتركاً اعترافاً بدورها الاجتماعي والحضاري والإنساني: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض .

وتريد المرأة حقها في السفر والانتقال في عصر أصبح فيه الإنسان مضطراً للانتقال كل يوم، بعد أن أصبحت العائلة نفسها تعيش في أرجاء مختلفة متباعدة وبعد أن أصبح الرزق والتعلم والثقافة يتطلب أن نمشي في مناكبها ونأكل من رزقه وإليه النشور.

وتريد المرأة المساواة في حقها في المشاركة السياسية والاجتماعية، بعد أن انفتح العالم على حقوق النساء، وستجد المرأة أن الفقه الإسلامي وفق منهج النبي الأكرم قد منح المرأة الحقوق الكاملة في هذا السبيل، وقدم لنا نماذج رائدة من النساء في مواقع قيادية عالية، شاركن بكفاءة واقتدار في إدارة الحياة وبناء المجتمع، وتركن بصمات طيبة في تراث الأمة الباقي.
وتريد المرأة المساواة في حقها في المشاركة في الرياضة والفنون والمسؤوليات المختلفة، وستجد أن الفقه الإسلامي وفر لها البيئة الصالحة لتتفوق في مواهبها وإبداعها وفنها، وتنافس في النجاح ضمن ثوابت الشريعة الغراء.
وتريد المرأة المساواة في حقها في فرص العمل، ورفع العوائق الموهومة التي تحول دون مشاركتها الفاعلة فيما تستطيعه من العمل، وتريد أن تكون فرص العمل موزعة بين المواطنين على أساس من الكفاءة والموهبة والثقافة وليس على اعتبار الجنس.
وتريد المرأة إنصافاً لها من العابثين المجرمين الذين يمارسون الاعتداء على الحياة الأسرية المستقرة الآمنة، عن طريق الفحشاء والاغتصاب والتجارة بالخطيئة والاعتداء على القاصرات، وستجد أن الشريعة السمحاء واجهت هذا الانحراف بشجاعة ومسؤولية وصرامة، وفرضت العقوبات الرادعة التي توقف عبث من تسول له نفسه هدم الحياة الأسرية والإساءة إلى طهرها ونقائها وصفائها، وحققت على الأرض المجتمع الآمن الذي لا مكان فيه للفساد والفحشاء والذي يأتي فيه الخاطئ والخاطئة إلى منصة القضاء ليقر كل منهما بانحرافه ويطالب بإصرار أن يتم تطهيره ومعاقبته لأنه صار شذاذاً ونكراً لا مكان له في مجتمع عفيف طاهر.

ولا بد من التأكيد هنا أن البحث قد تخير من منجم الفقه الإسلامي الكبير الذي حرره علماؤنا الأفاضل، ما يلتقي مع الأهداف الكبرى للمرأة الناهضة، مع علمنا الأكيد بوجود اختيارات لا تتفق مع هذه الأهداف أفتى بها فقهاء مختلفون في ظروف مختلفة، وقد تجاوزنا هذه الآراء لقناعتنا أنها لا تتفق مع سماحة الشريعة ومقاصدها، ونحن على ثقة تامة بأن الفقه الإسلامي غني وثري ويتضمن الإجابات الوافية على مختلف المسائل، ولكن ما يجب تقريره في صدر هذه الدراسة أن الاختيار من الفقه الإسلامي يتم وفق تخير الأصلح في الزمان والمكان، وفق القاعدة الذهبية للإمام ابن القيم: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، وقد قمنا بدورنا في الاختيار من دوحة الفقه الإسلامي العظيم لما هو أصلح للعباد والبلاد، واختيار الرجل قطعة من عقله، والرجاء بالله سبحانه أن يهدينا إلى الحق ويلهمنا سواء السبيل.

على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.

.

مخطط البحث

تبدأ الدراسة بتمهيد حول منزلة المرأة في القرآن الكريم والسنة الشريفة
ثم تتوزع الدراسة في أبواب أربعة:
• الحقوق الأساسية للمرأة التي رعتها الشريعة
• نماذج من الفقه الإسلامي المضيء في تمكين المرأة
• موقف الشريعة من الأهداف الوطنية لتمكين المرأة
كما تم إضافة فصل خاص للتعريف بأهم نساء السلف اللواتي شاركن مشاركة حقيقية في تمكين المرأة، وعرفن بأدوار جريئة في النضال من أجل حقوق المرأة بعنوان:
• نساء رائدات
ثم يشتمل البحث على خاتمة وتوصيات حول تمكين المرأة.

الباب الأول: الحقوق الأساسية للمرأة في الشريعة:
أ‌- الحقوق المتصلة بالأسرة:

• حق المرأة في الحياة العاطفية والغريزية
• حق المرأة في الزواج
• حق المرأة في الاشتراط في عقد نكاحها
• حق المرأة في المهر
• حق المرأة في النفقة والسكنى
• حق المرأة في الإنجاب
• حق المرأة في الأمومة والحضانة
• حق المرأة في إنهاء الحياة الزوجية
• حق المرأة في التملك
• حق المرأة في الميراث والتوريث

ب‌- حقوق عامة للمرأة:
• حق المرأة في الأهلية
• حق المرأة في التعلم والتعليم
• حق المرأة في العمل
• حق المرأة في المشاركة الاجتماعية
• حق المرأة في المشاركة السياسية
• حق المرأة في الشهادة
• حق المرأة في تولي القضاء
• حق المرأة في ممارسة الرياضة
• حق المرأة في المشاركة في الفنون

الباب الثاني: نماذج من جهود الفقهاء لتمكين المرأة:
• حول تعليم النساء
• السفر بدون محرم
• نظام الأراضي الأميرية
• الوصية الواجبة لأبناء البنت
• مذاهب الفقهاء في أجرة الرضاع
• حق المرأة في السكنى
• حول مسائل العدة
• في المهور

الباب الثالث: موقف الشريعة من الأهداف الوطنية لتمكين المرأة:
• حقوق المطلقة
• صندوق النفقة
• حقوق الحضانة
• منح المرأة جنسيتها لأبنائها
• تقييد تعدد الزوجات
• تنظيم النسل
• تجريم الاعتداء على الحياة الأسرية
• قانون جرائم الشرف

الباب الرابع: نساء رائدات في الإسلام:

آسيا بنت مزاحم المرأة التي تحدت الاستبداد وواجهت الفرعون
خديجة بنت خويلد الكفاح من أجل الحرية والاختيار والتغيير
عائشة بنت أبي بكر التفوق العلمي والمشاركة السياسية
الخنساء بنت عمرو الشاعرة المحاربة وأم الشهداء
أسماء بنت يزيد خطيبة النساء، المحامية الأولى
أسماء بنت عميس كفاح من أجل البناء الاجتماعي
أم هانئ بنت أبي طالب رائدة الوعيوأم الأيتام
خولة بنت ثعلبة ناضلت وأنجزت تعديلاً تشريعياً هاما للنساء
زينب بنت علي كفاح الحرية، وأكبر ضريح امرأة في العالم
سكينة بنت الحسين أول صالون أدبي في الإسلام
الشفاء بنت عمرو رائدة النساء في العمل العام وأول قائد شرطة في الإسلام
رابعة العدوية فيلسوفة الصفاء والإشراق

الخاتمة والتوصيات

الباب الأول:

الحقوق الأساسية للمرأة في الفقه الإسلامي

الحقوق الأساسية للمرأة في الشريعة
مقدمة:
تتساوى المرأة والرجل في الإسلام في الحقوق والواجبات والحريات، كل بحسب ما آتاه الله من نعمة وقدرة وفضل، والعلاقة بين الجنسين علاقة تكامل وتشارك واحترام وكرامة، وقد بين القرآن الكريم بوضوح في نص جلي لا غموض فيه المساواة الحقوقية بين الرجال والنساء، فقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) التوبة 71
ولكن هذه المساواة ليست صماء بل إنها مساواة تستجيب لأصل الفطرة الإنسانية، وما ينبني عليها من تفاوت الوظائف والقدرات التي منحها الله تعالى لكل من الرجل والمرأة، ولكن اختلاف الوظائف وتفاوتها لا يعني أبداً تفاوت المنزلة أو المكانة أو الحق في المساواة في الاعتبار، وهي حقيقة شرحتها الآية الكريمة: فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعضٍ[آل عمران: من الآية195]
وهكذا فإن مصدر حقوق المرأة إنما هو إنسانيتها التي تتمتع بها ويقر لها بها الإسلام، وبما أن المرأة والرجل يظلهما جامع مشترك واحد في صفات الإنسانية إذن فيجب أن تكون حقوقهما متساوية أيضاً.
لقد تراكمت عبر الأزمنة أفكار وتقاليد وثقافات مشوهة أخرجت المرأة عن دائرة إنسانيتها التي منحها لها الخالق سبحانه، وضمنها لها تشريعنا الخالد فإذا بهذه الاعتبارات البالية تعيد زمن الجاهلية الأولى وتكرّس عصور الانحطاط البائدة وتهمّش تعاليم الإسلام التي جعلت المرأة شريكة للرجل في بناء المجتمع على أسس من المنافسة الشريفة والندية الكريمة والمسؤولية المشتركة.

ونعرض فيما يلي جملة من الحقوق الأساسية للمرأة في الشريعة الإسلامية، وهي الحقوق التي بشر بها الأنبياء الكرام لإنقاذ المراة من مظالم الجاهلية التي عانت منها حين غاب عن الأرض هدي الأنبياء.

جاء القرآن الكريم واضحاً في بيان منزلة المرأة في الإسلام واشتراكها على قدر المساواة مع الرجل في المسؤولية فيما يخصها من أمور، وفي القرآن الكريم بيان ذلك:
فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعضٍ [آل عمران: من الآية195]
والتعبير بلفط بعضكم من بعض يعني أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة فلا تفرقة بينهما ولا تناقض ولا انفراد بل بينهما تكامل وتناسق وتعاون.
وفد أشار القرآن الكريم إلى عقد الزواج وميثاقه المؤكد بتعبير قريد في القرآن الكريم، حيث سمى سبحانه هذا العقد بالميثاق الغليظ لما قال مخاطباً الرجال:وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً [النساء: من الآية21]
وإضافة إلى الجانب الحقوقي المبني على مقاطع الحقوق فإن القرآن الكريم أكد دوماً على الرابط العاطفي والإنساني في العلاقة الزوجية، وأنها تتسامى فوق المراتب الحقوقية:
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّةً ورحمةً إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكّرون [الروم:21]
وفي تعبير بالغ الدلاة على العلاقة العاطفية الفريدة، وأنها تتجاوز الجانب الحقوقي والنفعي والمادي عبر القرآن عن نوع العلاقة بين الزوجين بقوله سبحانه: هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ [البقرة: من الآية187]
ولا شك ان التعبير باللباس يشير إلى طبيعة الخصوصية الفريدة في العلاقة بين الزوجين وما تحمله كلمة (لباس) وتوحي به من معاني الستر والحماية والرعاية والدفء والزينة بين الزوجين.
وهذا اللون من اللقاء بين الرجل والمرأة هو في الواقع صورة الكون والخلق كما أبدعته يمين الرحمن، فهو موجود في الإنسان والنبات والحيوان والنبات والجماد، في صورة واضحة لطبيعة التكامل الذي بنيت عليه الحياة، وسر الله تعالى في جعل الناس أزواجاً: ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجين لعلّكم تذكّرون [الذاريات:49]

ومن هنا تتأكد الحقيقة الواضحة وهي أن الإسلام كما كل شرائع السماء لا ترى في المرأة خصماً للرجل ولا منافساً له، وكذلك الرجل بالنسبة للمرأة، بل كل منهما مكمل للآخر لا تتم حياته ولا يستقيم أمرها إلا به.

ونعرض فيما يلي للحقوق الأساسية للمرأة في الشريعة، وقد قسمنا هذا اللون من العلاقة إلى قسمين اثنين: الأول الحقوق في إطار الأسرة، والثاني في إطار الحقوق العامة التي ضمنتها الشريعة الغراء للمرأة في الحياة العامة.

أولاً: حقوق المرأة في إطار الأسرة:
– حق المرأة في الحياة العاطفية والغريزية.
– حق المرأة في الزواج.
– حق المرأة في الاشتراط في عقد زواجها.
– حق المرأة في المهر.
– حق المرأة في النفقة والسكنى.
– حق المرأة في تنظيم حملها.
– حق المرأة في الأمومة والحضانة.
– حق المرأة في الميراث والتوريث.
– حق المرأة في إنهاء الحياة الزوجية.

ثانياً: الحقوق العامة التي ضمنتها الشريعة الإسلامية للمرأة:
– حق المرأة في الأهلية.
– حق المرأة في التعلم والتعليم.
– حق المرأة في العمل.
– حق المرأة في الحياة الاجتماعية.
– حق المرأة في المشاركة السياسية.
– حق المرأة في الشهادة.
– حق المرأة في تولي القضاء.
– حق المرأة في ممارسة الرياضة.
– حق المرأة في المشاركة في الفنون.

أولاً: حقوق المرأة في إطار الأسرة:

الحق الأول: حقها في أن تعيش حياتها العاطفية والغريزية
جاء الإسلام مطابقاً للفطرة السليمة، فأقر حاجة المرأة الطبيعية للعاطفة، وأكد حاجتها الغريزية الفطرية، وفتح لها الأبواب لإشباع هذه العاطفة في حلال مشروع، ومنع الرهبانية والتبتل الذي دعت إليه الأديان الغنوصية والرهبانيات المتشددة، كما أنه لم يأذن بتحول المرأة إلى سلعة للهوى تبيع لذاتها على قارعة الطريق.
والأسرة هي الخلية الأولى في بناء المجتمع، والدعامة الأساس في النظام الاجتماعي للأمم، فإن الزواج هو سبيل تكوين هذه الخلية والدعامة، ولذلك عنيت كل الشرائع بالزواج وهيأت له أسباب قيامه واستقراره واستمراره وإثماره على نحو يضمن تحقيق أهدافه، ويحقق مطلوبه في الاتجاهين المعنوي والمادي، أما المعنوي فإنما يتمثل في ذلك الجانب العاطفي الذي أشارت إليه جملة آيات في كتاب الله من مثل قوله تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّةً ورحمةً  [الروم:21]
والخطوبة فترة مصيرية في حياة المرأة، إذ يتقرر بسبب منها مصيرها الذي سيلازمها إلى آخر حياتها.
والخطوبة حق أقرته الشريعة للمرأة والرجل، ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم.
ولكن المرأة اليوم تعيش بين نمطين من الخطوبة الأول: لا يمنحها أكثر من فرصة النظر إلى وجه الخاطب والتحدث إليه مرة أو مرتين حتى يتم عقد القران الشرعي الذي يكون عادة مستعجلاً من أجل الحرام والحلال، والثاني: تخير الخاطبين واحداً إثر الآخر عبر صداقات حميمية، وتجارب مختلفة، ثم اتخاذ القرار بعد ذلك في وقت متأخر غالباً، ويسمى النمط الأول خطوبة إسلامية، فيما يسمى النمط الثاني خطوبة متحررة.
فهل المرأة حقاً ملزمة بواحد من الخيارين؟‍..
إن من المؤكد أن النبي الكريم أمر الخاطب بالنظر إلى مخطوبته بقوله: «انظر إليها فإنه أحرى أن يودم بينكما» والحديث ظاهر في النظر، وتتعدى دلالته إلى استحباب المحاورة والمجالسة والمراقبة حتى تنكشف لكل من الخاطبين حال صاحبه.
ولكن حتى ظاهر الحديث ودلالته الواضحة تم تعطيلها بضراوة بحجة فساد الزمان وخشية الفتن، واختار بعض الفقهاء أنه لا ينظر منها أكثر من استدارة وجهها،( ) بل إن حالات أخرى في الواقع الاجتماعي كانت تمنع حتى من النظرة إلى الوجه والكفين اكتفاء بنظر الأم والأخت واختيارهما وبعد ذلك (حظك يا أبو الحظوظ)‍..
واستقر الأمر عند الشافعية أنه ينظر من المرأة إلى وجهها وكفيها، والحكمة عندهم في الاقتصار على ذلك أن في الوجه ما يستدل به على الجمال وفي اليدين ما يستدل به على خصب البدن( )ونصوا هنا على أن الأمة ينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة.( )
وإني في الواقع أحس بالحرج تجاه هذا النقل عن الفقهاء حيث لا يبدو أن أي أهمية أعيرت لمسألة دراسة المرأة المخطوبة غير الجانب الجسدي، ولا تكاد تقرأ عن واجب الخاطب في التعرف إلى عقل المرأة ووعيها وثقافتها، وكذلك تعرفها إلى عقله ووعيه وثقافته وجديته في الحياة.
على كل حال فقد يكون هذا الاختيار مسألة اختصاص، وتلتمس المعاذير للفقهاء في أنهم يتحدثون عن جانب واحد في هذا المقام وهو العورات، فيما تركت دراسة المسائل الاجتماعية والنفسية إلى مقام آخر.
ويجب القول هنا أن الفقه الإسلامي لم يتوقف عند حدود اختيار الشافعية في مسألة العورات، بل ذهب الفقهاء مذاهب شتى في النظر إلى المخطوبة، ويمكن هنا أن نورد اختياراتهم وفق ما حررها العلامة الدكتور وهبة الزحيلي في موسوعته: الفقه الإسلامي وأدلته:
«يرى أكثر الفقهاء أن للخاطب أن ينظر إلى من يريد خطبتها إلى الوجه والكفين فقط، لأن رؤيتهما تحقق المطلوب من الجمال أو ضده لأنه مجمع المحاسن، والكفان على خصوبة البدن أو عدمها».
وأجاز أبو حنيفة النظر إلى قدميها.
وأجاز الحنابلة النظر إلى ما يظهر عند القيام بالأعمال وهي ستة أعضاء: الوجه والرقبة واليد والقدم والرأس والساق، لأن الحاجة داعية إلى ذلك، ولإطلاق الأحاديث السابقة، «انظر إليها»، ولفعل عمر وفعل جابر أيضاً، وهو الرأي الأرجح لدي ولكن لا أفتي به.
وقال الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم.
وقال داود الظاهري: يجوز النظر إلى جميع البدن لظاهر حديث: «انظر إليها»( ).
وإذا تجاوزنا الحديث عن مسألة العورات فإن جوانب كثيرة تم تغييبها مثل غايات الخطوبة وآدابها وحق المرأة والرجل فيها، وما تشتمل عليه من توفير فرصة حقيقية ليتعرف كل من الخاطبين على الآخر، وهذه الحقائق من المصالح الضرورية التي تتأكد الآن أكثر من أي وقت مضى نظراً لاختلاف البيئات وظروف المدن الكبيرة المزدحمة، فقد كانت ظروف المدينة المنورة أيام الرسول الكريم قائمة على البساطة من تواصل العوائل ومعرفة الناس بعضهم ببعض، إذ لم يكن الخاطب يتقدم إلى أسرة إلا وهو عارف بعاداتها وطباعها وتقاليدها، وكانت النساء متقاربات في الثقافة والبيئة والرأي، وهذا كله يجعل الاحتكام إلى عمل أهل المدينة في تقرير أصول شرعية للخطوبة منهجاً غير مبرر.
إن الحاجة تقتضي اليوم أن يتعرف الخاطبان إلى بعضهما أكثر فأكثر، وأن تتاح لهما فرص اللقاء المتكرر الذي يوفر لهما تجاذب الأفكار بحرية أكثر ووقوف كل منهما على طباع صاحبه وثقافته وذلك قبل إجراء العقد الذي هو من الناحية الشرعية عقد زواج كامل سواء كان في المحكمة أم عبر عاقد أهلي (شيخ).
والأسر المحافظة الآن تعتبر أن الخطوبة تبدأ مع إجراء العقد وتنتهي عند الدخول، وهذا الفهم مخالف في الواقع لحكمة الخطوبة وغاياتها، ومنطق الشرع في تقريرها، حيث أن العقد في الشريعة هو نهاية الخطوبة وثمرتها وليس بداية لها.
عادة ما تندفع الأسر إلى إجراء عقد أهلي عاجل بعد النظرة الأولى وذلك من أجل (الحرام والحلال)، أو بتعبير العامة (حتى يدخل علينا) ولكن ذلك في الواقع غير مبرر، وقد رأيت قبل قليل خيار الفقهاء في دخول الخاطب على مخطوبته وترجح أن حقه في مجالستها والنظر إليها ومحادثتها أوسع مما هو شائع في الأعراف السائدة.
والذي يحصل نتيجة الأعراف السائدة أن الخاطبين يلتقيان في ظروف بروتوكولية خاطفة، ثم يعقد العقد ومع أن كثيراً من الاختلافات الجوهرية في السلوك والتفكير تتبدى جلية واضحة بينهما، ولكن أي تفكير بفسخ الخطوبة هو في الواقع شروع في طلاق كامل، وهو ما لا يرغب به الخاطب ولا المخطوبة ولا الأسرتان في العادة مما يجعل المضي في الزواج الخاسر في غير مصلحتيهما، كما أن الطلاق في غير مصلحتيهما أيضاً.
والسؤال الآن هل هناك مانع شرعي اتفاقي من تلاقي الخاطبين مرات متعددة بدون خلوة شرعية وبدون رقابة صارمة من الأهل؟ ولماذا نصر على استلاب إرادة الفتى والفتاة في تخير قرارهما المصيري؟ ولماذا نتصور حتمية انجراف المرأة إلى سلوك غير حميد لمجرد لقائها مع الخاطب؟
إني لا أتجه هنا إلى تحييد دور الأهل الجوهري في إنشاء علاقة الزواج ولكن اتجه إلى ترشيده وتوجيهه، بل إن تلاقيهما قبل إجراء العقد هو أيضاً من حق الأهل الذين يكسبون فرصاً أكبر في التعرف على القادم الراغب.
تنص الآية الكريمة التي تعرضت لمسألة الخطوبة ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في انفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سراً إلا أن تقولوا قولاً معروفاً، ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم.
ومع أن الآية هنا تتعرض للمرأة المعتدة، ولكن مضى الفقهاء على استنباط أحكام الخطوبة منها عملاً بالمنهج الأصولي في تحقيق المناط وتنقيحه.
وفي الآية إشارة واضحة إلى الحب الذي ينشأ بين الخاطب والمخطوبة قبل العقد علم الله أنكم ستذكرونهن وهذه منه سبحانه إشارة إقرار ورضا، ومع أن هذه الكلمة العذبة (الحب) تنشأ في أجواء الطهر والعفاف والنظافة ولكن استعمالها الشائع اليوم للأسف ينصرف إلى العلاقات الخاطئة، والليالي الحمراء، ومواعيد الظلام، بحيث أصبح إطلاق لفظة (الحب) يقترن مباشرة بالفحشاء، وكأن الحب لا ينشأ في ظروف الزواج الشرعي النظيف.
وتستكمل الآية بيانها في تحديد الضوابط التي ينبغي عدم تجاوزها في فترة الخطوبة:

ولكن لا تواعدوهن سراً إلا أن تقولوا قولاً معروفاً.
ويمكن إجمال آراء المفسرين في قوله ولكن لا تواعدوهن سراً في قولين:
ـ الوعد الصريح بالزواج من المواعدة وهو يتصل بالمرأة الأرملة أو المطلقة طلاقاً بائناً، وهو أن يأخذ عليها عهداً أو ميثاقاً أن لا تنكح غيره.( )
ـ المواعدة بالسر هي الزنا.( )
وليس من العسير الجمع بين القولين فيكون القول الأول واضحاً في منح المرأة وقتاً أطول في التفكير والاختيار وحماية من تورطها في اتخاذ قرار متسرع بالزواج في ظروف الخوف والرهبة التي تعتريها عند فقد الزوج.
وأما القول الثاني فإنه واضح في تقرير مسؤولية المرأة وإرادتها ووجوب عدم استسلامها للرغبات الجسدية التي قد ينجر إليها الخاطب.
وقد اختار ابن عباس القول الثاني، وهو أن المنهي عنه هنا هو الفحشاء (الزنا) وقال الشافعي: لم يرد بالسر ضد الجهر، وإنما أراد الجماع( ).
وهكذا فإن الضابط الذي قدمته الآية لعلاقات الخاطبين إنما هو التحذير من التسرع في اتخاذ القرار، والتحذير من الفحشاء التي قد يتهاون بها الخاطبون بحجة حتمية الزواج الآمل، ولا ريب أن الخاطبين وأهاليهما مأمورون بإغلاق الذرائع التي قد تجر إلى هذه المعاني أو تهون من وقوعها( ).
وهذا يعود بالمسؤولية كاملة على الخاطبين، فلا تعود عملية الزواج محض صيغة بروتوكولية وتنفيذية وفق ألف قيد صارم تحول دون تعارف الخاطبين على الوجه الأمثل والأتم، وحيثما قلت إن الخاطبين غير واعيين ولا يمكن أن يعهد إليهما بمسؤولية تطبيق ذلك فمن الواجب إذن أن نكفهما عن الشروع في الزواج من أصله، إذ ما فائدة دفع طرفين مراهقين غير واعيين إلى بناء الأسرة الذي هو أدق مرحلة في البناء الاجتماعي؟.

الحق الثاني: حقها في إبرام عقد الزواج.
وبعد أن منح الشارع المرأة حق احتبار الرجل ومعرفة حاله عبر الخطوبة، فإنه عاد ومنحها الحق كاملاً في قرار الزواج، فقد يقتنع الأهل بالزوج صهراً مناسباً بالنظر لقدراته المالية والمادية، أو لموقعه الاجتماعي والعشائري والقبلي، ولكن هذه القناعة لا يصح أن تفرض على الفتاة، والأصل في حق المرأة الكامل في الاختيار حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)
والأيم هي من سبق لها الزواج أو الكبيرة والاستئمار هو طلب الأمر منها، فلا يعقد عليها حتى تشاور ويطلب الأمر منها.
ولا بد هنا أن نتحدث بشيء من التفصيل عما اشتهر في الفقه الإسلامي وخاصة عند الشافعية بولاية الإجبار والمقصود حق ولي الأمر على تزويج البنت جبراً خشية فوات الكفؤ من الخاطبين.

يمنح كثير من الفقهاء الأب ثم من يليه من العصبات ولاية الإجبار في تزويج ابنته بمن يرى هو أنه كفء لها، وأنه حينئذ لا يتوقف في قرار تزويجها على إذن الفتاة ولا استئمارها.
قالت الحنفية: ترتيب الأولياء في النكاح هكذا: العصبة بالنسب أو بالسبب كالمعتق فإنه عصبة بالسبب، ثم ذوو الأرحام ثم السلطان ثم القاضي…
وترتيب العصبة هكذا: ابن المرأة إن كان لها ولد ولو من زنا، ثم ابن ابنه وإن سفل، ثم بعد الابن الأب، ثم أب الأب وإن علا، ثم الأخ لأب وأم، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ لأب وأم، ثم ابن الأخ لأب، وهكذا وإن سفلوا، ثم العم لأب وأم، ثم العم لأب، ثم ابن العم لأب وأم، ثم ابن العم لأب وهكذا وإن سفلوا، ثم عم الأب لأب وأم، ثم عم الأب لأب، ثم بنوهما على هذا التريب، ثم من بعد هؤلاء ابن عم بعيد، وهو أبعد العصبات إلى المرأة.
فكل هؤلاء لهم ولاية الإجبار على البنت والذكر في حال الصغر، أما في حال الكبر فليس لهم ولاية إلا على من كان مجنوناً من ذكر أو أنثى.
وعند عدم العصبة يملك تزويج الصغير والصغيرة كل قريب يرث من ذوي الأرحام… وهكذا إلى أن ينتهي إلى ابن العمة وابن الخالة…( )
وقالت الشافعية: وللأب «ولاية الإجبار» وهي تزويج ابنته البكر صغيرة أو كبيرة عاقلة أو مجنونة، إن لم يكن بينها وبينه عداوة ظاهرة، بغير إذنها.( )
وقد اخترت أن أنقل لك هذا النص بطوله لتقف معي على مدى ما تورط فيه بعض الفقهاء من سلب إرادة المرأة سلباً تاماً في أخطر قضية مصيرية تخص حياتها وهي عقد الزواج، حتى تم تفويضه إلى ابن عم الأب لأب وإلى ابن الخالة وابن العمة، لينشىء هؤلاء عقد النكاح جبراً على فتاة صغيرة، بل كبيرة بكر في بعض الأحوال كما عند الشافعية، مع التنويه هنا أن الشافعية لايتوسعون في ولاية الإجبار، إذ تقتصر على الأب والجد والسيد. ثم تلزم هذه الفتاة أن تساق إلى بيت زوجية لا أرب لها فيه، ولا خيار لها معه بحال.
وأود أن أسأل هنا: ما هي الضرورة الملجئة لتفويض أي من هؤلاء الأقارب بإنشاء عقد نكاح على بنت صغيرة؟ وأي مصلحة للصغيرة في إنشاء الزواج أصلاً، (نقصد بالصغيرة دون البلوغ وهو غالباً ما يكون قبل الرابعة عشرة من العمر)؟..
إني أختار أن أترك القارىء الكريم هنا وأمضي مباشرة إلى رواية بعض مواقف النبي الكريم من هذه المسألة:
عن ابن عباس «أن جارية بكراً أتت رسول الله  فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي »( ).
عن عائشة أن فتاة دخلت عليها فقالت: «إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، فقالت اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله  فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها، قالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم أن للنساء من الأمر شيء»( )
وعن أبي سلمة قال: «أنكح رجل من بني عبد المنذر ابنته وهي كارهة فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها»( )
وفي رواية ابن ماجه قالت المرأة: «قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم الآباء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء»( )
وقال الشوكاني صاحب نيل الأوطار تأسيساً على هذا الحديث: ظاهر الحديث أن البكر البالغة إذا زوجت بغير إذنها لم يصح العقد وإليه ذهب الأوزاعي والثوري والعترة والحنفية وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم.
وفي مسند الإمام أحمد قالت المرأة: «قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء»( )
وكذلك الحديث الصريح: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: كيف إذنها قال: أن تسكت))( ).
ولا شك أن هذه المقابلة بين خيار الفقهاء وبين هدي النبي الكريم لا تدع مجالاً للشك أن مبدأ إجبار الصغيرة أو الكبيرة على النكاح مبدأ غير مبرر بالمرة، وهو مصادم قطعاً لهدي النبي الكريم، ولروح الإسلام.
ولا أظن أنني مدعو هنا لتقديم الأدلة من الواقع على فساد منهج الإجبار على النكاح، وهو مذهب لم يعد يحظى بأي تأييد علني، اللهم إلا في الأوساط بالغة الجهل والتخلف.

وهكذا فإن ما اختاره بعض الفقهاء من إجبار الصغيرة على الزواج لا يمكن قبوله أبداً، على الرغم من ترجيح بعض الفقهاء لذلك تأسيساً على ظروف اجتماعية سائدة، وإنما نرفض ذلك بالمطلق لمعارضته الصريحة لهذه النصوص النبوية الواضحة، ولمعارضته الأصل القرآني الواضح: لا إكراه في الدين، فقد نصت الآية الكريمة أن الدين الذي هو رأس مقاصد الإسلام لا يصح فيه الإكراه فكيف يصح الإكراه في شأن الزواج، ولا يصح الالتفات إلى المعاذير التي ساقها من يفتي بحق الأولياء في إجبار الصغيرة على الزواج.

ولعل ما يؤكد ذلك أنه ليس للأب أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها، وأمر زواجها أعظم من مالها، فكيف يجوز أن يتصرف فيه مع كراهتها وعدم موافقتها.

والسؤال هنا: من الذي يملك الحق في مباشرة العقد؟
ددرجت العادة أن يقوم ولي الفتاة أباً أو أخاً أو عماً بإجراء عقد الزوا وتبادل ألفاظ الإيجاب والقبول مع الزوج الخاطب، ولا شك أن هذه العادة الكيبة تعكس احتراماً خاصاً للفتاة، وتمنح اعتباراً معنوياً لها أن ثمة من يحميها ويقوم يشأنها ويرعاها ويتولاها، وهو موقف تعتز به الفتاة، ويزيد في مكانتها وثقتها، ويضيف إلى عقد النكاح بعداً اجتماعياً وأسرياً وعاطفياً بالغ الأهمية.
ولكن ذلك لا يعني أنها سلبت حق مباشرة العقد، بل هو حق مصون ومحفوظ لها وإنما صح العقد بالوكالة عنها بسبب إذنها الصريح، وموافقتها الواضحة، وقد يحصل أن لا تجد الفتاة ثقة في أوليائها لأباب مختلفة فتطلب إجراء العقد بلفظها الصريح، وقد تناول الفقهاء الكرام هذا الواقع انطلاقاً من ولاية المرأة على نفسها، أخذاً بعموم قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.

وبالمقارنة بين خيارات الفقهاء فإنه يمكن القول أن من حق المرأة أن تستقل بمباشرة هذا العقد، فهو كأي عقد آخر يصح لها أن تباشره، على أن الإسلام أباح لولي الأمر أن يعترض على هذا الزواج إذا أساءت البنت التصرف فيه، لغلبة عاطفتها أحياناً على محاكمتها العقلانية في هذه المسألة بأن اختارت لنفسها شخصاً غير لائق على مستوى المروءة والأخلاق، أو الكفاية المادية المؤهلة لعيش مقبول، لأن مثل هذا الزواج يسيء إلى مستقبلها وكرامة أهلها، وقد تكون الدوافع إليه شهوة عابرة أو نزوة طائشة، ولا شك أن اعتراض الولي لا أثر له ما لم يكن مدعماً بالأدلة الواضحة، وليس للقاضي أن يفسخ الزواج إلا إذا قام لديه اليقين أن الفتاة قد غرر بها أو تعرضت لتدليس وظلم ظاهر، أما إذا كان الزوج لا مطعن فيه فليس لأحد حق الاعتراض عليه.
وهذا الخيار الجامع بين مذهب الشافعية والحنفية هو ما أشارت إليه المادة /20/ من قانون الأحوال الشخصية السوري:
(الكبيرة التي أتمت السابعة عشرة إذا أرادت الزواج يطلب القاضي من وليها بيان رأيه خلال مدة يحددها له، فإذا لم يعترضأو كان الاعتراض غير جدير بالاعتبار يأذن القاضي بزواجها بشرط الكفاءة).
لا شك أن مباشرة المرأة عقد زواجها بنفسها، دليل على كرامة المرأة واستقلاليتها الاعتبارية في نظر الشرع.
ومع ذلك زاد الشارع توكيداً على كرامة المرأة ودورها في هذا العقد فمنحها حق الاشتراط في عقد نكاحها شروطاً تنسجم مع وظيفة هذا العقد وواجبات أطرافه نحو بعضهم البعض والتزاماتهم.

الحق الثالث : حقها في الاشتراط في عقد زواجها:
أجاز فريق من الفقهاء مبدأ حرية الاشتراط في الزواج لما ثبت عن النبي أنه قال:
(إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) ولما للزوج من جانب كبير من القدسية والاحترام، إذ تقوم عليه أسرة يجب المحافظة عليها، فتكون رعاية الشروط التي فيها منفعة أوجب وألزم من العقود والأخرى.
وتأسيساً على ذلك أجاز الفقهاءلكلا الزوجين أن يشترط ما شاء من الشروط التي له فيها منفعة مقصودة لا تتعارض مع موضوع الزواج وغرضه وهدفه وكذا مع نصوص الشريعة.
كاشتراط المرأة ألا يسافر بها زوجها، أو ألا ننتقل بها من دارها يسكن معها، أو ألا يتزوج عليها، فإذا لم يوف الزوج بالشرط كان الطرف الآخر المشروط له مخيراً بين الاستمرار وفسخ العقد عن طريق القاضي بسبب عدم الوفاء بالشرط.
إن منح المرأة الحق في أن تضع من الشروط ما يعود عليها بالنفع ولو حسب تقديرها الشخصي ما دام لا يتعارض مع نصوص الشرع يدل على مسؤولية المرأة في بناء الحياة الزوجية، ويشير إلى رتبتها التشريعية، وأنها تستحق المساواة الكاملة في الالتزامات والحقوق والواجبات.
أما حقها أن لا يتزوج عليه فقد تناولناه في المبحث الخاص بتعدد الزوجات، وفيه بيان آراء الفقهاء في هذا اللون من الاشتراط.
وفي الواقع فإن الاشتراط في عقد الزواج مبدأ منصوص عليه كما تقدم في الحديث الصحيح، وهو اليوم ضمانة حقيقية للمرأة في ظروف الحياة المعقدة اليوم من الإقامة والسفر والحل والارتحال والسكن حيث تختلف ظروف الحياة اختلافاً جذرياً لا يشبه في شيء ما كان يجري في الماضي من طبيعة البساطة في الحياة الزوجية والتشابه في ظروف الحياة.
ولا شك أن واقع الفتاة العاطفي خلال فترة الخطوبة وغلبة الحياء عليها يحول دون اشتراط أي شرط، وهذا ما يفرض على المجتمع أن يبادر لحماية حقوقها والاشتراط لها، ومن الممكن هنا أن تتم طباعة عقود زواج واضحة يتم فيها التصريح بالشروط التي هي عادة محل اتفاق لفظي بين الخاطبين، وذلك ضماناً لحق المرأة وللحيلولة دون ضياع هذه الحقوق في غمرة المجاملة والمصانعة والحياء.
الحق الرابع: حقها في المهر
مبدأ المهر أو الصداق ثابت بالكتاب والسنة والإجماع استقر عليه العمل وعرفه الخاص والعام من أبناء المسلمين فأصبح من المعلوم بالدين بالضرورة، وهو اسم للمال الذي يجب للمرأة في عقد الزواج.
كان ولي المرأة في الجاهلية يتصرف في مالها كيف يشاء فرفع الإسلام عنها ذلك الضر وفرض لها المهر وجعله محلاً لتكريمها بأن ردّ إليها حقها في تملك ما هو داخل في ملكها. بل جعله حقاً على الرجل لها وليس لأبيها أو أخيها أن يأخذ منها شيئاً إلا برضاها.
قال الله تعالى: وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} (النساء:4)أي آتوا النساء مهورهن عطاء مفروضاً لا يقابله عوض.
ولا شك أن حكمة عظيمة تكمن وراء تشريع المهر تتمثل في:
1- تكريم المرأة بأنها المطلوبة لا الطالبة، وأن الرجل يسعى إليها ويبذل في سبيل ذلك ما يؤكد قدرها ومقامها.
وهذا الموقف من تكريم المرأة أكدت عليه الشريعة الغراء، في حين لا تزال أمم كثيرة تفرض على المرأة السعي لتحصيل زوج وأحياناً جمع المهر وتوفير السكن، ونجد هذا عند الهنود وغيرهم من بعض شعوب آسيا حتى أن المسلمين في باكستان والهند لا زال عندهم رواسب من ذلك الميراث القديم إلى اليوم، مما يكلف المرأة وأهلها رهقاً حتى أن بعض الأسر تضطر إلى بيع أملاكها لتزوج بناتها، فماذا يفعل أبو البنات الفقير، أو الأرملة ذات البنات؟!
2- الإشعار بجدية هذا العقد ومصداقيته، فالمهر قيد مادي وأدبي فيه احترام لمن يبذل المال لها لأجل أن تستبين صدق طلب الزوج وجديته فيه.
إن بذل المهر من الرجل يمثل الدليل على صدق ارتباطه بالزوجة فإذا كان الناس في معاملاتهم يقيدون بالتزامات مكتوبة موقع عليه موثقة فلا غرو أن تكون حياة الأسرة أحق بذلك وأولى ومن هنا يفرض الإسلام نصف المهر على من تزوج ثم طلق قبل تمام الزواج والدخول تقديراً لهذا الميثاق الغليظ والرباط المقدس، وليقطع هذا التشريع الأخير الطريق على بعض المتقولين من أن المهر هو ثمن للمرأة، مما يدل على أن الاستمتاع ليس هو الأساس، فهنا لم يحدث أي استمتاع ومع ذلك ألزم الشارع المطلق قبل الدخول بنصف المهر، يقول تعالى: وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم…..}(البقرة: من الآية237)
3- إن الإسلام جعل القوامة في الأسرة بيد الرجل، والقوامة رتبة معنوية لا تنقص من حقوق المرأة شيئاً ولا تفرض أي لون من الخضوع أو النقص، ومن العدل أن يغرم الرجل في مقابل هذا الحق الذي أعطي له ويتحمل بقدره مسؤولية الإنفاق حتى لا يتهاون في التقصير بحق هذه الأسرة لأنه الغارم في بنائها، فإذا تهدمت كان المسؤول عن ذلك وتحمل هو تبعات تفريطه.
يقول تعالى: الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم } (النساء: من الآية34)

ومما يؤيد ذلك أن الشرع رغب في الاعتدال في المهر وعدم المغالاة فيه ليخرج عن إطاره المادي ويبقى في إطاره المعنوي المبني على الحب والألفة والتقدير.
والمهر في الأصح رزق عام تذخــــره الفتـــــاة للأيــــــام
من لم يوفق في ادخاره سنـة يعيش كل عمره في المسكنة

إن دعائم الحياة الزوجية هي دعائم معنوية، وأن الاعتبارات المادية المحسوسة تبقى محدودة القيمة وتتلاشى مع الزمن لتبقى المعاني العظيمة التي يمثلها عقد الزواج بين طرفين، تأكيداً لقوله تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّةً ورحمةً إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكّرون} (الروم:21)
وهنا أتساءل: هل لكل أموال العالم أن تشتري لحظة مودة ورحمة وسكينة؟ وهل يستطيع المهر مهما علا رقمه أن يحقق ذلك بين الزوجين دون التعويل على الحب الناشئ والميثاق الرابط بينهما؟
ولكن كل هذه المعاني المثالية لم تكن لتحول دون تحصيل المرأة لضمان مادي لحقها في العيش الكريم ومواجهة أخطار الدهر ومصاعبه من خلال تقدير عقلاني وواقعي للمهر.

الحق الخامس: حقها في النفقة والسكنى
فرضت الشريعة على الرجال مسؤولية الإنفاق تأسيساً على قاعدة عقلية اتفاقية، وهي الغوؤم بالغنم، فمن يغنم انتساب الولد إليه فإنه يغرم تبعاً لذلك مسؤوليته؛ تربية وإنفاقاً وتعليماً وتوجيهاً، وهذا ما دلت عليه الآية الكريمةوعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف} (البقرة: من الآية233)
وتبعاً لذلك فإن الزوج هو من يتحمل النفقة ويتكلف أسباب سكنى الزوجة وأولادها لقوله تعالى في وجوب النفقة: لينفق ذو سعةٍ من سعته} (الطلاق: من الآية7)
ولقوله في وجوب السكنى: أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم} (الطلاق: من الآية6)
أما المقصود بالنفقة هنا فهو توفير ما تحتاج إليه الزوجة من مطعم ومشرب وكسوة ومسكن وخدمة ودواء، وكذلك توفير الحد الضروري من التعليم، فالزوجة لا تلزم ولو كانت ذات مال بالإنفاق على نفسها شيئاً من مالها إلا أن تتطوع وتساهم بوصف من أوصاف التبرع عن طيب نفس، وهذا ما عليه معظم النساء العاملات أو ذوات الأموال من تعاون ومشاركة بينهن وبين أزواجهن في الإنفاق على المنزل والأولاد، وهذا من تمام المودة والرحمة.
أما الأصل الشرعي المقرر بالكتاب والسنة والإجماع الناظم لهذه القضية فهو أن الزوج هو من يلتزم بالنفقة على زوجته وأولاده، ويراعى ههنا في النفقة ما هو معتاد في سائر الالتزامات البيتية التي صارت بالنسبة للزوجة مألوفة بحيث يحصل التضرر بمفارقتها أو التضجر أو التكدر، ويدخل في ذلك خدمة الزوجة التي يكون لأمثالها خادم.
أما بالنسبة لرأي الفقهاء في تقدير النفقة فقالوا هي مقدرة بالشرع ويضبطها العرف الناظم لها بما اتفق عليه العقلاء، ويراعى في هذا العرف –وهو مصدر تبعي من مصادر الشريعة- حال الزوج عسراً أو يسراً. ويدخل في هذا المسكن حيث نص فقهاؤنا على أنه يجب لها مسكن على قدر يساره وإعساره وتوسطه، مع تأثيث المسكن تأثيثاً يتناسب مع حالته.

– حق الزوجة بالمتعة بعد الطلاق:
ولعل قضية النفقة (المتعة) عقب الطلاق إن وقع ترد ههنا بإلحاح لما نعانيه يومياً من إشكالات تتعلق بهذه القضية، حيث يستفحل الخلاف بين الزوجين إبان الطلاق، وتحتقن النفوس، وربما تقوم العداوات فتقع الزوجة والأولاد ضحية تعنت الزوج حيناً، وإعساره حيناً آخر وربما تزويره لتقارير تثبت إعساره وربما لم يكن كذلك انتقاماً من مطلقته، وإذا كنا نتحدث عن عدالة تشريعنا وقوانيننا فالأصل أن لا يجد جنوح الطبع مبرراً لآثامه في هذه المسألة لدقتها وحساسيتها.
لقد اصطلح الفقهاء على هذه النفقة (بمتعة المطلقة) وهي عند البعض المال الواجب على الزوج لزوجته المطلقة زيادة على الصداق مستندين إلى قوله تعالى:ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقّاً على المحسنين} (البقرة: من الآية236)
فالأمر في قوله (ومتعوهن) يفيد الوجوب في كل مطلقة إلا تلك التي طلقت قبل الدخول واستحقت به نصف المهر فهذه لا متعة لها لاكتفائها بما حدد لها المشرع ولعدم ترتب اعتبارات توجب المتعة لعدم تمام الزواج.
ولفظ المعروف في الآية السابقة (متاعاً بالمعروف) لا يعني التفضل والإحسان، بل يعني ما عرف وشاع أمره واتفق عليه أهل الرأي.
ولكن هذا التشريع يصطدم مع الأسف بتعنت بعض الأزواج الذين استحكمت فيهم عصبياتهم وكراهيتهم لتضييع هذه المتعة والنفقة على الزوجة، خاصة إذا كان المهر قد سمي للمرأة منذ القدم وهو لا يشكل في هذا العصر أية قيمة مادية يمكن أن تعتمد عليها المرأة فيما بعد طلاقها نهبة للحاجة والفقر والعوز وما يستتبع ذلك من ويلات على الرغم من التوجيه القرآني عقب آية المتعة للمطلقة يوجه إلى ولا تنسوا الفضل بينكم إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ} (البقرة: من الآية237)
ولا تزال هذه القضية التي نص عليها القرآن الكريم غائبة في التشريعات في البلدان الإسلامية، حيث ينظر إلى المتعة على أنها محض إحسان يقوم به الرجل، في حين انها في الواقع واجب أمرت به الشريعة، وهذا يحتاج إلى جهود تشريعية وحقوقية لإيجاد صيغة تضمن كفاية المرأة ونفقتها بعد الطلاق خاصة في ظل حالات كثيرة من الطلاق التعسفي الذي يجب معه أن يفرض القاضي على الزوج المطلق تعويضاً ينسجم مع درجة التعسف ونسبته.

الحق السادس: حقها في الإنجاب والأمومة والحضانة
أولاً: حقها في الإنجاب والأمومة
المرأة شريكة سواء بسواء مع زوجها في حق الاستيلاد والإنجاب، والمضارة في الآية يعم مفهومها ليشمل كل مضارة تلحق بالمرأة بسبب ما منحته من حق الوالدية، فأن تحرم من الإنجاب فذاك مضارة وضرر لاحق بها، نهى عنه الشارع في قوله تعالى : (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده)
والنهي من الشارع يفيد الترك ولزوم الانتهاء عن الفعل المنهي عنه، فإذا أصر الزوج على هذه المضارة أو حرم الزوجة من أن تصبح أماً ووالدة فإن للزوجة أن ترفع أمرها للقاضي ليطلقها بسبب الضرر اللاحق بها من جراء امتناع زوجها عن منحها هذا الحق الذي منحها إياه الله سبحانه.
وكما ضمن لها الشارع الحكيم الحق في الإنجاب والأمومة والحضانة فقد ضمن لها الحق أيضاً في تنظيم حمولتها، ومع أن نصوص الشريعة لا تنص على عدد محدد من الأولاد تلزم به المرأة بناء على رغبة الرجل، ولكن من المؤكد أن الرجل ليس له أن يرغمها على الحمل بعد إذ شعرت بالكفاية، وذلك استدلالاً بالنصوص العامة في الشريعة التي تنهى عن الإكراه، وتنص على الأهلية المتساوية للرجال والنساء: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ولا شك ان عضل المرأة من الإنجاب ظلم، وامتهان لكرامة المرأة وإنسانيتها، كما أن أجبارها على الإنجاب المتواصل أمر غير مقبول شرعاً، وخلاصة القول أن الإنجاب أمر متروك لإرادة الطرفين وفق ظروف الزوجين البدنية والصحية في المقام الأول، والاجتماعية والمادية في المقام الثاني.

ثانياً: حق الزوجة الأم في حضانة وليدها:
وتعاني المرأة المسلمة اليوم حال الطلاق من استلاب حق الحضانة منها، ودعه للرجل الذي يكون عادة مشغولاً مما يؤدي بالأطفال في أحوال كثيرة أن يعيشوا مع زوجات آبائهم في حين أن الأم الحقيقية محرومة من متابعة شؤونهم وحضانتهم.
والحضانة لغة: حفظ الصغير الذي لا يستقل بأمور نفسه عما يضره بقدر المستطاع والقيام بأعباء تربيته وتنشئته ومصالحه وتدبير شئونه في سن معينة.
والنص القرآني واضح في توكيد حق الأم في الحضانة والرضاعة: [والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين…]
وأخرج أو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينزعه مني، فقال لها:
((أنت أحق به ما لم تنكحي)) .

واختار الفقهاء تقديم الأم في الحضانة على كل أحد،وأنها أحق بحضانة وليدها بعد الفرقة بطلاق أو وفاة بالإجماع لوفور شفقتها، وثد ورد الوعيد من النبي صلى الله عليه وسلم على من ينتهك حق المرأة في ضم أطفالها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((من فرّق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبن أحبته يوم القيامة)).
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طلق زوجته أم عاصم، ثم أتاها وفي حجرها عاصم، فأراد أن يأخذه منها، فتجاذباه بينهما حتى بكى الغلام فانطلق إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال له أبو بكر: مسحها وحجرها وريحها خير له منك، حتى يشبّ الصبي فيختار لنفسه.
ولعلّ من جميل تقدير الشارع لدور الأم أنه لما راعى في ترتيب الأحقية في الحضانة قدّم الإناث على الذكور لما ثبت من إشفاقهن وعطفهن وصبرهن وإذا اجتمع الأقارب الذكور مع الإناث، قدم الإناث وعلى رأس القائمة الأم، فإن لم تكن، تقدّم أم الأم وإن علت بشرط أن تكون وارثة، وأرى في هذا القيد أو الشرط زيادة تحرٍ من الشارع الحكيم باختيار الأكثر حنواً وعطفاً.
وتنص قوانين الأحوال الشخصية في سوريا ومصر والأردن على أولية الأم في الحضانة ثم أمها وإن علت ثم أم الأب وإن علت، فالأخت الشقيقة، فالأخت لأم، فالأخت لأب، فبنت الشقيقة، فبنت الأخت لأم، فبنت الأخت لأب، فللخالات فللعمات .. الخ.
أما ما يتعلق بالنفقة على المحضون، فقد قرر الفقهاء أن للحاضنة أماً أو غيرها قبض نفقة المحضون وكسوته وما يحتاج إليه من أبيه في أوقات منتظمة يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً بحسب اجتهاد الحاكم والقاضي ومراعاة لحال الأب، وليس للأب أن يقول للحاضنة: أرسليه ليأكل عندي ثم يعود بعد ذلك لك، لما في ذلك من احتمال راجح بلحوق ضرر بالطفل على طلبه باستدعاء الطفل ليأكل أو ينام عند أبيه.
ومع ذلك فإن زواج الأم من زوج جديد لا يعني سقوط الحضانة ضرورة، بل يمكن الاجتهاد في تحديد شروط ضامنة لحق الأطفال تستمر فيها حضانة الأم، وقد منح الفقه الإسلامي للقاضي مسؤولية نزع الحضانة إذا قامت لديه الأدلة أن الحاضن كان مفرطاً وعابثاً سواء أكان الحاضن أماً أو أباً.

الحق السابع: حقها في الميراث والتوريث:
حرر الإسلام المرأة من قيود الجاهلية، ورفع عنها الظلم الذي كانت تعانيه وبشكل خاص في مسألة الميراث، فقد كانت المرأة نفسها متاعاً يورث، وكان من يلقي متاعه عليها أولى بها، وقررت الشريعة أن النساء شقائق الرجال، وفرضت لها في الميراث نصيباً عادلاً، وقسمت الميراث بينها وبين الرجل بشكل عادل يتناسب مع واجبات كل منهما في النفقة والتزامات الحياة.

ولا بد من التوقف عند قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، حيث تكون الدلالة الظاهرة للآية الكريمة عدم المساواة بين الذكور والإناث، وهذ هنا أمران يتعين الإشارة إليهما، الأول أن المساوا المطلقة في توزيع الميراث على الرغم من أن النفقة والسكنى منوطة بالرجل دون المرأة هي لون من الإجحاف، بل تتحقق العدالة بتأمين ما يتناسب لكل طرف في النفقة والمواريث.
ومن جانب آخر فإن منح الذكور ضعف الإناث من الميراث ليس على إطلاقه بل في المسألة تفصيل كثير وأختار هنا ما حرره الدكتور محمد عمارة في كتابه هل الإسلام هو الحل، فصل التحرير الإسلامي للمرأة:

ليسصحيحًاأنتوريثالمرأةفيالإسلامقدجانبالإنصافلها،حتىيكونحكمهصالحًاللزمانالماضيدونالزمانالمعاصروالمستقبل.. فالأنثى –فيالإسلام- لاترثنصفالذكردائمًاوأبدًا.. والقرآنلميقليوصيكماللهفيالوارثينللذكرمثلحظالأنثيين.. وإنماجعلذلكفيحالةبعينهاهيحالة “الأولاد”،وليسفيمطلقوكلالوارثين [يوصيكمالله فيأولادكمللذكرمثلحظالأنثيين] –النساء: 11-.. أماعندماكانالتقعيدعامًاللميراثفإنالقرآنقداستخدملفظ “النصيب” لكلمنالذكوروالإناثعلىحدسواء [للرجالنصيبماتركالوالدانوالأقربونوللنساءنصيبمماتركالوالدانوالأقربونمماقلمنهأوكثرنصيبًامفروضًا] –النساء: 7-..

ومعاييرالتفاوتفيأنصبةالميراثلاعلاقةلهابالجنس –ذكورةأوأنوثة- علىالإطلاق –علىغيرمايحسبويظنالكثيرون- إنلميكنالأكثرون.. وإنمامعاييرهذاالتفاوتثلاثة:

1 – درجةالقرابة.. فكلماكانالوارثأقربإلىالمورثزادنصيبهفيالميراث..

2 – وموقعالجيلالوارثفيتسلسلالأجيال –وتلكحكمةإلهيةبالغةفيفلسفةالإسلامللميراث.. فكلماكانالوارثصغيرًا،منجيليستقبلالحياةوأعباءها،وأمامهالمسئولياتالمتنامية،كاننصيبهمنالميراثأكبر.. فابنالمتوفييرثأكثرمنأبالمتوفي –وكلاهماذكر- وبنتالمتوفيترثأكثرمنأمه –وكلتاهماأنثى-.. بلإنبنتالمتوفيترثأكثرمنأبيه..

3 – والعاملالثالثفيتفاوتأنصبةالميراثهوالعبءالماليالذييتحملهويكلفبهالوارثطبقًاللشريعةالإسلامية.. فإذااتفقتوتساوتدرجةالقرابة.. وموقعالجيلالوارث –مثلمركزالأولاد- أولادالمورث- معتفاوتالعبءالماليبينالولدالذكر –المكلفبإعالةزوجةوأسرةوأولاد- وبينالبنت –التيسيعولهاهيوأولادهازوجذكر- هنايكونللذكرمثلحظالأنثيين.. وهوتقسيمليسفيهأيةشبهةلظلمالأنثى.. بلربماكانفيهتمييزوامتيازلها،احتياطًالاستضعافها..
وهذهالحقائقفيالمواريثالإسلامية –التيجهلهاويتجاهلهادعاةتاريخيةآياتالميراث- هيالتيجعلتالمرأة –فيالجداولالإجماليةلحالاتالميراثالإسلامي- ترثمثلالرجل،أوأكثرمنالرجل،أوترثولايرثالرجلفيأكثرمنثلاثينحالةمنحالاتالميراثالإسلامي،بينماهيترثنصفمايرثالذكرفيأربعحالاتفقط!.. ا.ه كلام الدكتور عمارة.

وفي مثال قريب لمعرفة ما منحه الإسلام للمرأة من نصيب نشير إللى هدي النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءته امرأة سعد بن الربيع وكان زوجها قد توفي فأخذ إخوته الذكور ماله وتركوا بناته الإناث، فقالت يا رسول الله… هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما يوم أحد شهيداً وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا بمال. قال: يقضي الله في ذلك. فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك.
وبمقتضى ذلك أخذت البنت الواحدة ضعفي ما أخذ الأعمام الذكور بمجموعهم، وفي ذلك غاية الإنصاف والعدالة.

وتؤسس هذه الأمثلة لحق الأمة في الاجتهاد في تحديد أنصباء المواريث ومقاديرها بما يستجيب للعدالة التي هي مقصد الشرع، ومجاله كثير مما سكت عنه النص.

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً الاجتهاد الفقهي الناضج الذي ذهب إليه الحنفية في توزيع الأراضي الأميرية بالتساوي بين الذكر والأنثى، وهو ما أفردنا له فصلاً خاصاً في باب تجارب الفقهاء في تمكين المرأة.
وإنما الذي روعي في ذلك، من قبل الشارع، وضع الوارث ومدى حاجته، ونوع العلاقة بينه وبين مورثه، ذكراً كان أم أنثى.
فالابن يتعرض حال الكبر والاكتساب لمسؤولية الإنفاق على أبويه، بالإضافة إلى مسؤولية الإنفاق على زوجته، ومسؤولية تقديم المهر إليها. في حين أن أخته لا تتعرض لهذه المسؤولية ولا تتحمل شيئاً منها. فكانت العدالة التي تقتضي التسوية في الميراث بين الأخ وأخته إذا مات أبوهما، أن يعصّب الأخ أخته أولاً، بأن تأخذ معه الباقي بعد حصص أصحاب الفروض، بدلاً من فرضها الأصلي وهو النصف، ثم أن تشاركه في الباقي على أن يكون له ضعف نصيبها.
وعندما يحدث العكس، بأن يكون الولد هو المتوفى والأبوان هما الوراثان، فإن الأبوين يتعرضان بدرجة واحدة لتلقي النفقة من ابنهما عندما كان حياً. وذلك عندما يكون الولد موسراً وتتقاصر حال الأب عن الاكتساب، وهذا هو الغالب؛ ومن ثم فإن العدالة في توزيع ميراث الولد هنا، تقتضي أن يستوي الأب والأم في حقهما من ماله إذا مات.
وكذلك الحال، عندما يترك المتوفى أخاً وأختاً له، من أمه، وليس ثمة من هو أقرب منهما إلى الميت، كالابن والأخ الشقيق. ذلك لأن أياً منهما لا يتعرض لتحمل مسؤولية الإنفاق على أخيهما المتوفى عندما كان حياً. فهما مستويان في علاقتهما به من حيث الغنم والغرم. إذن فقد اقتضت عدالة التوزيع أن يكون نصيباهما متكافئين. سواء كان جمعاً من الذكور والإناث أو كان الأخ واحداً، والأخت واحدة، كما سبق بيانه.
وما نشير إليه هنا هو العدالة الغالبة وإلا فإنه من المؤكد أن أحوالاً كثيرة يستحق فيها من هو أبعد نسباً نصيباً أكبر من الميراث نظراً لبره ووفائه وخدمته، فرب شخص يسافر بنوه في الأرض وينهض بخدمته ابن أخته أو قريبه وهو غير وارث، ولا يمكن هنا تعديل نظام الإرث في كل حالة ولكن الشريعة أعطت الإنسان حق الإيصاء لمن يرى أنه يستحق من غير الوارثين، وكذلك فإن كثيراً من النساء تتولى القيام بأعباء كبيرة من التربية والرعاية قبل الزواج وبعده وقد تكون غير وارثة كالأخت في وجود فرع وارث مثلاً فهنا تتعين المسؤولية على الموصي أن يتولى هؤلاء بالوصية والإحسان.

الحق الثامن: حق المرأة في إنهاء الحياة الزوجية:

الأصل أن من مقاصد الإسلام بناء الأسرة أما هدم الأسرة فلم يكن أبداً من مقاصد هذه الشريعة، ومع ذلك فقد جاءت الشريعة الحكيمة بافتراض السبل الحكيمة لإنهاء الحياة الزوجية عندما يتعذر استمرارها وتتحول إلى علقة شقاء وعذاب.

ومع أن السائد أن الرجل وحده هو من يملك حق إنهاء الحياة الزوجية بسلطة الطلاق فإن الشريعة أقرت حق المرأة أيضاً في إنهاء الحياة الزوجية عندما تشعر بالحيف والظلم.
وأقرت الشريعة حق الزوجة في إنهاء الحياة الزوجيةفي أحوال كثيرة، نعد منها:
• الفراق بالخلع: وهو حق منحته الشريعة للمرأة للخلاص من زواج لا سعادة فيه، وأصل هذا الحق، قول الله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، وكذلك الحديث المشهور ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لجميلة بنت سلول حين جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله الطلاق من زوجها وقالت: يا رسول الله! والله ما أعتب على ثابت بن قيس – زوجها – في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر بعد الإسلام لا أطيقه بغضاً فقال لها: أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد .

• الطلاق بسبب عدم الإنفاق: وحق المرأة مصون هنا، لأن الزوج ملزم بالإنفاق فحيث أخل بواجبه سقط حقه عليه بوجوب الطاعة والعشرة، وتعين حقها في طلب الطلاق، وهذا المعنى مفهوم من عموم الآية: ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا.

• الطلاق بالاشتراط في عقد الزواج، حيث تملك المرأة أن تجعل العصمة بيدها فيكون لها الحق في التطليق متى تقدمت بذلك غلى القاضي الشرعي، كما تملك ان تنص في عقد الزواج على شرط ملزم يستوجب خرقه الطلاق، ففي هذه الحالة لها أن تطلب الظلاق ويستجيب لها القاضي تأسيساً على الحديث الشريف: ((إن أولى الشروط أن يوفى ما استحللتم به الفروج))

• الطلاق للعيب والآفة البدنية: ويتأكد ذلك الحق عندما يتم تزويج الفتاة من رجل دون بيان حالته الصحية أو البدنية الشائنة، فلها عند اكتشاف ذلك طلب الطلاق وعلى القاضي أن يجيبها إليه إذا كان في ذلك العيب رهق لها في بدنها أو صحتها أو نفسيتها.

• الطلاق للغيبة الطويلة: وذلك عندما يغيب الرجل فترة طويلة، على تفصيل بين الفقهاء فيما هو غيبة معلومة أو غير معلومة، كما تناول الفقهاء طول الغيبة وبعدها في تفاصيل كثيرة، ويدخل في حكم الغيبة من حكم عليه بالسجن أكثر من ثلاث سنوات فإنه يجوز للمرأة بعد سنة من سجنه أن تطلب التفريق ويستجاب لها، حتى ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
ولا شك أن الشرع لم يسو بين حق المرأة وحق الرجل في التطليق، وذلك تساوقاً مع طبيعة كل منهما، فمن المؤكد أن المرأة أكثر انفعالاً وعاطفة وهذا مما خصها الله تعالى به لرعاية أولادها وسرعة الاستجابة لغوثهم، ولو منحت المرأة حق الطلاق بدون قيود لهدمت أكثر البيوت بتعجل النساء، على أن الرجال أيضاً تظهر منهم الانفعالات والغضب، ولكن ذلك في النساء أغلب، والله أعلم بما خلق.
ولا يخفي كاتب هذه السطور دعوته لمزيد من الاحتهاد والتجديد في فقه المرأة، والتضييق على حلالات الطلاق الانفعالي، وتقديم ضمانات تشريعية وواقعية قبل إيقاع أي طلاق، وذلك عملاً بهدف الشريعة في بناء البيوت وليس في هدمها، وأبغض الحلا إلى الله الطلاق.

ثانياً: الحقوق العامة التي ضمنتها الشريعة الإسلامية للمرأة:

نتناول في هذا القسم حقوق المرأة في إطارها العام، بعد أن أوجزنا القول في الإطار الخاص المتعلق بحقوقها داخل الأسرة وذلك من خلال التأكيد على دورها كشريكة في بنائها وأساس في قيامها.
ولا شك أن الإسلام أولى عناية فائقة بالمرأة ومنحها حقوقاً راسخة جعل مصدرها إنسانيتها التي امتنّ الله بها عليها وعلى سائر البشر حين كرمهم على وجه متساو بوصفهم أبناء آدم فقال: ولقد كرمنا بني آدم}.
ثم إن القيمة الكبرى لهذا الذي أضفاه الإسلام على المرأة منطلقاً من اعتبار إنسانيتها إنما يتجلى في جملة الحقوق التي منحتها إياها الشرائع السماوية عموماً وشريعة الإسلام خصوصاً حين أكدت على أهليتها المتمثلة بتمتعها بحقوقها المدنية من تملك وتصرف بالممتلكات وإنفاذ للعقود والعلاقات، وعلى مكانتها الاجتماعية، والعلمية والسياسية من حيث مشاركتها في كل تلك المجالات، وسيعرض البحث فيما يلي لهذه الجوانب كافة.

الحق التاسع: حق المرأة في الأهلية:
الأهلية هي الحقوق المدنية من تملك وحق تصرف بالممتلكات من بيع وإيجار وهبة وتبرع، وكذا إنفاذ للعقود ومباشرتها وغير ذلك.

وقد أكد الإسلام حق المرأة في التملك والبيع والشراءوالاتجار، وأنشأ لها ذمة مالية كاملة، ونذكر هنا السيدة الطاهرة خديحة بنت خويلد التي كانت أول قلب اطمأن بالإسلام والتي كانت لها تجارة عظيمة تعدل نصف تجارة قريش، وهي التي خطيت بقلب المصطفى وصارت أول أم للمؤمنين في الإسلام.
وفي تقرير هذه الحقيقة جاء القرآن الكريم موضحاً استقلال الذمة المالية للمرأة:
ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن} (النساء: من الآية32)
وأكدت الآيات أن استقلال الذمة المالية للمرأة موصول لما بعد الموت وينتقل إلى الوارثين وفق ما رسمه الشرع في الأصول العامة للميراث، وليس وفقاً لإرادة الزوج أو الولي:
للرّجال نصيبٌ ممّا ترك الوالدان والأقربون وللنّساء نصيبٌ ممّا ترك الوالدان والأقربون ممّا قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً} (النساء:7)
وتستطيع المرأة جمع المال وفق السبل المشروعة في الإسلام ومنها: تملك المباحات، إجراء العقود المالية، الاستثمار، الميراث، الهبات وما في حكمها من الصدقات، وهي بعض المصادر لمشروعة لتملك للرجل والمرأة دون أي تفريق.

ولا تتوقف الأهلية التي منحها الإسلام للمرأة عند حدود التملك بل تتجاوزه لتشمل كل أشكال الأهلية المعتبرة، ومنها الأهلية الحقوقية والاجتهادية والسياسية، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو أقره ورضيه من عمل الصحابيات الكرام، ةعلى سبيل الاستئناس نورد هنا موقفه من ممارسة المرأة نشاطاً سياسياً مباشراً، ومنح الجوار لبعض لأبرز المعارضين السياسيين، وذلك في القصة المشهورة لأم هانئ فاختة بنت أبي طالب حين أجارت اثنين من المشركين يوم الفتح فهم علي بن أبي طالب بقتلهما فهرعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: يا رسول الله ألم تر ما لقيت من بن أبي… (أي من أخيها علي بن أبي طالب) أجرت حمايين لي من المشركين، فأراد أن يقتلهما فقال ليس له ذلك قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت
وفي نص القرآن الكريم بيان صريح لاستكمال أهلية المرأة واشتراكها مع الرجل في تبادل الولاية، وهو قوله تعالى:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة ويطيعون اللّه ورسوله أولئك سيرحمهم اللّه إنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ} (التوبة:71)
فقد قررت هذه الآية ما يسمى بالولاية المتبادلة بين الرجل والمرأة في سائر شؤون الحياة ولا يتحقق ذلك إلا بتكامل الأهلية في كل منهما.

الحق العاشر
حق المرأة في التعلم والتعليم:
يحض الإسلام على العلم، ويعلي شأن العلماء حيث يقول الله تعالى:
قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أولو الألباب}(الزمر: من الآية9)
كما أنه يسوي بين الرجل والمرأة في حق التعليم، فيوجب على المرأة كما يوجب على المرأة معرفة العقائد والعبادات، ومعرفة الحلال والحرام، ومعرفة العلوم وسائر التصرفات، وقد كان أول من طبق هذا المبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، قال: اجتمعن يوم كذا وكذا، فاجتمعن، فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله ………. الحديث.
وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أفضل النساء علماً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال عروة بن الزبير يصف هذه الشخصية الفذة: ((ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة)).

وقد تكرس مبدأ تعليم المرأة في عهد الخلفاء في العصور الإسلامية جميعها، فكانت السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنها أكثر نساء عصرها علماً وفضلاً، فقد كانت تجالس الأجلة من قريش، ويجتمع إليها الشعراء والأدباء فتسمع كلامهم، فتفاضل بينهم، وتناقشهم وتجيزهم.
لقد دونت كتب التاريخ تراجم كثير من النساء وبيّنت تخصصاتهن المختلفة في جميع العلوم، فهذه الطبيبة زينب من بني أود التي تعلمت في المراكز التي أسسها عباقرة الطب، وهذه المحدثة عائشة بنت إبراهيم بنت صديق زوجة الحافظ المزي التي سمعت من ابن عساكر وغيره.
وذكر الحافظ ابن عساكر أن عدد شيوخه وأساتذته من النساء كن بضعاً وثمانين أستاذة ومحدثة.
وبلغت كثيرات منهن منزلة رفيعة، فكان منهن المدرسات لأمثال الإمام الشافعي والسيوطي وابن قدامة المقدسي وغيرهم.
وهذا دليل واضح على حرص الإسلام على تعليم المرأة ومنحها دورها في البناء العلمي في المجتمعات لتكون معلمة تنهض ببنات جيلها وتمهد للجيل القادم وتسهم مع الرجل في الشراكة الحضارية للأمم.

الحق الحادي عشر
حق المرأة في العمل:

تقتصر النظرة التقليدية عن العمل على انه وسيلة لاكتساب الرزق، ولكن هذه النظرة السطحية لرسالة العمل تختلف احتلافاً شديداً مع الرسالة الشريفة للعمل التي أصبحت اليوم أهم مظاهر المجتمعات المتحضرة، حيث يكون العمل التزاماً أخلاقيا من المرء تجاه محتمعه وأمته، ويتشارك الناس في أداء واجبهم العملي من أجل بناء حياة كريمة مستقرة وسعيدة، ويتعاون الرجال والنساء في بناء أوطانهم وتحقيق الاذدهار والحياة الكريمة.
وهذا التغيير الجوهري في فهم طبيعة العمل يساعدنا على فهم مبررات موقف كثير من الفقهاء من عمل المرأة، حيث كان العمل في المفهوم السائد هو وسيلة لاكتساب الرزق والمرأة في الإسلام لا تكلف بالنفقة وهذه مسؤولية الرجل، ولذلك فإن موقف كصير من الفقهاء في دعوة المرأة للزوك الدار وعدم العمل محمول على هذا، وليس على منع المرأة من حقها في بناء مجتمعها وتوفير عيش متميز لها ولأطفالها.

وقد جاءت النصوص تترى في القرآن الكريم ببيان منزلة العامل من ذكر وأنثى في أي سبيل يعود بالنفع والخير عليه أو على المجتمع: فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى} (آل عمران: من الآية195)
وجاء التأكيد على الدعوة إلى عمل الصالحات وهي دعوة تشمل العمل الدنيوي والأخروي: من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينّه حياةً طيّبةً} (النحل: من الآية97)
وكل نص قرآني أمر بالعمل ودعا إليه فهو منوط بالرجال والنساء على السواء حتى يقوم دليل التخصيص، ومن ذلك قوله تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} [التوبة: 105].
وكذلك امره تعالى بالسعي في الأرض وتسخير منافعها وتذليل مخاطرها وجني الرزق الحلال:هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} (الملك: 15)

ومن الإشارات ذات الدلالة أن حق المرأة في العمل محفوظ ومصان حتى في فترة العدة التي تكابدها المرأة بعد طلاق أو وفاة، وفي مواجهة التقاليد التي كانت تمنع المرأة من العمل والمشاركة في الحياة خلال العدة، روى جابر بن عبد الله قال: طلّقت خالتي، فأرادت أن تجذّ نخلها فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت إن فلاناً (تشير إلى رجل من قرابتها) نهاني أن أخرج إلى عملي خلال العدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بلى فجدّي نخلك فإنك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفاً)) فقد سمح النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة المطلقة أن تخرج من بيتها خلال عدتها للعمل، وأكد بذلك على الرسالة النبيلة للعدة في احترام الزوج الآفل والتفكير ملياً في ببناء الحياة من جديد، وأنها ليست انقطاعا غيبياً غير مفهوم، وأن مشاركتها في العمل في الحياة هي سبيل صحيح لاتخاذ القرار الملائم بالنسبة لمستقبلها وحاضرها.
وهذا ما يلحظ فيما روته عائشة –رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ((قد أذن أن تخرجن في حاجتكن)) حيث يقرر النبي صلى الله عليه وسلم جواز خروج النساء لحوائجهن، ولا شك أن خروج المرأة من البيت لتولي الأعمال الوظيفية والمشاركة في الحياة العامة وتولي الوظائف النافعة يعتبر أمراً مشروعاً ومطلوباً في آن.
والحق أننا نورد ما أوردناه من الأدلة عن عمل المرأة على سبيل الاستئناس مع قناعتنا بأن ظروف المجتمعات الحديثة وما تتطلبه من مشاركة وتعاون في بناء الحياة وتحقيق كفاية الأمة وازدهارها يتطلب اشتراك المرأة والرجل جميعاً في العمل النافع، وذلك ليس لمحض اكتساب الرزق وإنما للإسهام في رفعة الأمة وازدهارها.

الحق الثاني عشر
حق المرأة في الحياة الاجتماعية:
المرأة مكون أساس في المجتمع الإسلامي فهي كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم (النساء شقائق الرجال) وتأسيساً على ذلك فإنه لا يمكن للمجتمع أن يرتقي وينهض بمنأى عن هذا الشطر المهم منه والذي تمثله المرأة ومن هنا منح الشارع حقوقاً اجتماعية للمرأة تؤسس لذلك الفهم وتؤكد عليه، ويقصد ههنا بالحقوق الاجتماعية مشاركة المرأة في الأنشطة والمهن والمهارات التي تعود بالخير على المجتمع سواء في جانبه الديني أو الدنيوي في شراكة حقيقية بين ذكور المجتمع وإناثهم.
ولعل ما سبقت الإشارة إليه من حق المرأة في التعلم والتعليم، وكذا العمل والإنتاج يدخلان في المشاركة الاجتماعية للمرأة، وأحب ههنا أن أشير إلى عدد من الشواهد التاريخية التي تشير إلى مشاركة المرأة في الحياة العامة في زمن النبوة:
من ذلك:
شهود المرأة الصلاة مع الرجال في المساجد:
حيث كانت المرأة صنو الرجل في حضور الجمعة والجماعات، وما يستتبع ذلك من علم ومعرفة وثقافة وأحكام وتفقه.
وصح أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليصلي الصبح فينصرف الناس متلفعات بمروطهن لا يعرفن من الغلس).
بل ربما اصطحبت المرأة صغارها إلى المسجد، لحرصها على شهود الجماعة، فضلاً عن تعويد أبنائها على ارتياد بيوت الله والعبادة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد ذلك لما قال:
(إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز – أختصر – في صلاتي كراهية أن أشق على أمه).
حضور النساء حلقات العلم وحرصهن على التعلم:
جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:
يا رسول الله قد غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك فوعدهم فلقيهن فيه ووعظهن وأمرهن).
ولقد حدثنا التاريخ عن محدثات يروين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إن بعضهن تفرد في رواية أحاديث لم تسند إلى أحد غيرهن كفاطمة بنت قيس التي سألها عامر بن شرحبيل، حدثيني حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسند به إلى أحد غيره أي ليس من راو بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت عنه ذلك الحديث، فقالت لئن شئت لأفعلن، فقال لها أجل حدثيني، فحدثته حديثاًً طويلاً…
ما يدل على حرص نساء سلفنا على تلقي العلوم وحفظها وأدائها على الشكل الذي يظهر تمام ذاكرتهن وعلو كعب حفظهن.
ومن الوقائع المشهورة التي تثبت أن حضور النساء في المسجد لم يكن حضوراً خجولاً لا تؤدي معه المرأة دورها في المشاركة وإبداء الرأي ما كان من رد إحدى المسلمات على عمر في المسجد في قضية تحديد مهور النساء لما رأى مغالاة الناس في المهور، فقامت امرأة جريئة فاضلة غيرة على بنات جنسها وقبل ذلك على دين الله قائلة: ليس لك هذا يا ابن الخطاب، لأن الله قال في كتابه المجيد.
(وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً) (النساء:20) والقنطار كناية عن الكثرة غير المحدودة، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن أقر بخطئه وقال قولته المشهورة: (أصابت امرأة وأخطأ عمر).

اشتراكها في المناسبات والأنشطة الاجتماعية:
لقد كانت المرأة في عصر النبوة تظهر مع الرجال في المناسبات العامة والأنشطة الاجتماعية وتحتل مكانتها اللائقة إلى جانب الرجل لتؤسس هذا البناء الاجتماعي الراسخ المبني على التوادد والمحبة والتعاون.
حيث يروي البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي، قال لما أقام أسيد الساعدي عرسه دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعامه ولا قربته إليهم إلا امرأته أم أسيد، وقد أورد البخاري هذا الحدث تحت باب عنوانه: (قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس).
هذا وقد شاركت المرأة داعية إلى الخير وآمرة بالمعروف وناهية عن المنكر وهذا ما وصفه القرآن حين جاء فيه .
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
وقد عين عمر بن الخطاب في هذا السياق أثناء خلافته امرأة اسمها الشفاء بنت عبد الله العدوية محتسبة على السوق، تأمر وتنهى وتتابع شأن المخالفين وتعاقبهم، وتضبط حركة السوق بيعاً وشراء، وتجارة.
وكانت الصحابية المعروفة أم شريك تفتح بيتها للضيفان فينزل عليها المهاجرون وغيرهم، وكان ذلك شأنها.
ومما يدخل في الحياة الاجتماعية المعبرة عن الآداب الإسلامية: عيادة المريض، وقد اعتبرها النبي الكريم من حقوق المسلم على المسلم، وقد صنف البخاري في صحيحه باباً سماه (عيادة النساء للرجال) قال : وعادت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد من الأنصار.
وروى عن عائشة أنها قالت: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ وقد دخلت أم مبشر بنت البراء الأنصارية على كعب بن مالك الأنصاري لما حضرته الوفاة، وقالت: يا أبا عبد الرحمن ، أقرأ على ابني السلام)
وبالمقابل فإننا سنجد أحاديث ووقائع كثيرة عاد من خلالها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته نساء مريضات كن يتعللن بزيارة الفضلاء والأتقياء.
ومن تمام الحياة الاجتماعية للنساء في الإسلام اشتراكهن في المهن والصناعات حيث لم يكن ذلك منذ فجر الإسلام حكراً على الرجال فقط بل كان للمرأة وتستصلحها، وكثيراً ما كانت تبدع في الصناعات اليدوية.
وقد أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردة قائلة يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي، أكسوكها فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها… الحديث .
ويروي البخاري أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه، فإن لي غلاماً نجاراً، قال إن شئت، فعملت له المنبر.. الحديث.
وروى ابن ماجه وغيره أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود كانت صناع اليدين، فقالت يا رسول الله إني امرأة ذات صنعة أبيع فيها، وليس لي ولا لزوجي ولا لولدي شيء، وسألته عن النفقة عليهم، فقال لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم.وكان عبد الله بن ربيعة – في خلافة ابن الخطاب – يبعث بعطر من اليمن إلى أمه الربيع بنت معوذ، فكانت تبيعه إلى أجل إلى أن تصرف الأعطيات من ولي الأمر إلى المشترين، فتقبض الأثمان منهم وكانت تتخذ من ذلك مهنة لها.
وبعد فهذه لمحات سريعة من حياة نساء السلف الاجتماعية تظهر مدى الشراكة الحقيقية التي كن يقتسمنها مع الرجال في كافة المجالات ذات الطابع الاجتماعي وسيظهر أن هذه المشاركة هي قدر مشترك بين الرجل والمرأة في كل مناحي الحياة العامة.

الحق الثالث عشر
حق المرأة في المشاركة السياسية:
شاركت المرأة المسلمة نمذ فجر الإسلام في الحياة السياسية، وكانت خجيحة رضي الله عنها تشارك رسول الله في كل أمر من أمور حياته، وكانت تشتري العبيد وتحتسبهم عند الله في خدمة الرسالة، ودخلت شعب أبي طالب قراراً حزماً في نصرة الرسالة والرسول.
وبعد حياة النبي صلى الله عليه وسلم شاركت المرأة في الحياة السياسية، واشتهرت السيدة عائشة رضوان الله عليها بالعمل المباشر في الشأن السياسي وكان لها رأي في كل موقف مفصلي في حياة الأمة، وقد بادرت بالعمل المباشر بعد مقتل عثمان بن عفان، قناعة منها بأن السكوت عن القاتلين والخوف منهم يكرس مبدأ القبول بدولة داخل الدولة ولأحل ذلك فقد رأت ضرورة الخروج لقتال هؤلاء الخوارج المتمردين، وقامت بتأسيس جيش انتظم فيه كبار الصحابة من أمثال طلحة والزبير.
ومع أن التوفيق لم يحالفها في جهة خروجها وأوقع بها أعداء الأمة في حرب ظالمة ضد علي رضي الله عنه، ولكن ذلك لا يلغي مشروعية ما نهضت إليه من انتصار للمظلوم، وحشد القدرات السياسية للأمة في سبيل الدفاع عن أمنها والعدالة فيها.
والأصل أن المرأة مشمولة بكل أمر قرآني كريم:يا أيّها الّذين آمنوا} ويا أيّها النّاس} إلا إذا صاحب النداء قرينة حاصرة له في الرجال خصوصاً ضمن دائرة التكاليف والمسئوليات التي يتخصص الرجال دون النساء أو النساء دون الرجال.

ونستعرض فيما يلي الوظائف السياسية التي شغلتها المرأة في ظل الشريعة الإسلامية مؤصلاً لذلك من واقع الأدلة النقلية والعقلية.

البيعة:
فمبايعة الحاكم عمل سياسي يبايع من خلاله أفراد الأمة رئيس الدولة لأداء مهمة سياسية يلزم بها الدين، بدءاً من المبايعة التي تمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ومروراً بمبايعة سائر الخلفاء والحكام من بعده إلى يومنا هذا.
هذه المبايعة التي يأمر بها الدين يستوي في المطالبة والتكليف بها الرجال والنساء معاً، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع النساء بالكلام أي بدون مصافحة.
كما اشتهرت بيعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء خاصة، وتفاصيل هذه البيعة مشهورة في كتب السنن، ومعنى ذلك أن موقف المرأة في الشأن العام كان محل اعتبار في الشرع، وأنها كانت مدعوة لتقول رأيها في الشأن العام.
والأمر ذاته يرد في انتخاب المرأة لمجالس الشورى والشعب والأمة والبرلمان، فالانتخاب هو اختيار الأمة لوكلاء وممثلين ونواب ينوبون عن الأمة في التشريع ومراقبة عمل الحكومة، فعملية الانتخاب عملية توكيل لمن تختارهم الأمة عنهم في المجلس النيابي أو مجلس الشعب يتكلمون باسم الناس ويدافعون عن حقوقهم، والمرأة ليست ممنوعة من أن توكل إنساناً بالدفاع عن حقوقها، والتعبير عن إرادتها كمواطنة في المجتمع كما الرجل تماماً.
وإذا كانت مبادئ الإسلام لا تمنع أن تكون المرأة ناخبة تدلي بصوتها لتختار من ترى فيه المصلحة العليا للعباد والبلاد، فهل تمنع من ترشيح المرأة للمجالس النيابية؟والجواب بالتأكيد أنها تشارك الرجال في ذلك، ومن الأدلة على هذا:
ابتداءً لابد القول أن من قال بغير الإباحة فليأت بدليل المنع، والمنع والتحريم لا يثبت إلا بدليل لا شبهة فيه، والأصل في الأشياء والتصرفات الدنيوية الإباحة إلا ما قام الدليل على حرمته ولا دليل لا شبهة فيه في المقام.
ثم لابد في معرض الاستدلال على إمكان تولي المرأة العمل التشريعي أن يشار إلى أن هذا العمل لا يخلو من أمرين:
1- الاجتهاد في شرح القوانين والأنظمة وتشريعها.
2- مراقبة السلطة التنفيذية وتقييم وتقويم عملها.
أما في التشريع وإعمال العقل بالاجتهاد فليس في الإسلام ما يمنع أن تكون المرأة مجتهدة ومشرعة، لأن الاجتهاد يحتاج قبل كل شيء إلى العلم مع معرفة حاجات المجتمع وضروراته التي لا بد منها.
أما مراقبة السلطة التنفيذية فإنه لا يخلو من أن يكون أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر والرجل والمرأة في ذلك سواء في نظر الإسلام إذ يقول تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (التوبة: من الآية71) .
وبناء عليه .. فليس في نصوص الإسلام ما يسلب المرأة أهليتها للعمل التشريعي البرلماني كتشريع ومراقبة.
وإذا اتفقنا أن من مهام المجالس النيابية المحاسبة والمراقبة فإن هذين المصطلحين يرجعان حسب المفاهيم الشرعية إلى المصطلح الإسلامي [النصيحة في الدين] أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأمر والنهي والنصيحة مطلوبة من الرجال والنساء جميعاً فيما نصت عليه الآية الكريمة والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (التوبة: من الآية71) .
والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
وقد استشار النبي أم سلمة في غزوة الحديبية فأشارت عليه بالرأي السديد وقد بادر إلى تنفيذه. فقد روى البخاري ((أنه صلى الله عليه وسلم دخل يوم الحديبية على أم سلمة يشكوا إليها أنه أمر الصحابة بنحر هديهم وحلق رؤوسهم فلم يفعلوا.. فقالت أم سلمة: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج ولا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعوا حالقك، فيحلقك. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ما أشارت به أم سلمة)) ،
ومع أن موقف أم سلمة يندرج في إطار التشاور العائلي ولكنه كان يعكس بصيرة ووعياً من أم سلمة في الشأن السياسي للأمة، حيث أدركت أم سسلمة أن كثيراً من المواقف السياسية تكون مشحونة بغضب اللحظة، وأن اتخاذ القرار السياسي يتطلب روية وبصيرة وإعذاراً للناس فيما يختارون قبل أن تكتمل الظروف المناسبة.
وروى ابن حجر في الإصابة عن أبي بردة عن أبيه: ما أشكل علينا أمر فسألنا فيه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علماً.
والشورى هي اجتهاد الناس في أمر الدنيا، والقتوى اجتهادهم في أمر الآخرة، ولا خلاف بين الفقهاء أن المرأة لا تصد عن الفتوى إذا كانت عالمة بها وخبيرة، وقد اسشتهر في الفقه الإسلامي فتاوى عائشة وأم سلمة وأم عطية وأسماء وغيرهن من نساء الصحابة الذين كان الناس يرجعون إليهن في العلم، قال سعيد بن المسيب ما أشكل علينا مسألة في العلم فأتينا عائشة إلا وجنا عندها علماً، فإذا جاز احتهادهن في أمر الآخرة فإن احتهادهن في أمر الدنيا جائز من باب أولى، وقد سبق أن قدمنا لاأمثلة الكثيرة على اشتراك المرأة في الفتوى في الدين والرأي في السياسة، وإنما يكون الصواب والرشد في توفيق الراي والهدى فيه فتوى أو شورى، سواء ظهر من رجل أو امرأة.
يقول الماوردي في أدب القاضي: ((إن كل من صح له أن يفتي في الشرع جاز أن يشاوره القاضي في الأحكام… فيجوز أن يشاور المرأة إذ يجوز أن تستفتى وتفتي)).
ويقول الخطيب الشربيني: المراد بالفقهاء – كما قال جميع الأصحاب – الذين يقبل قولهم في الإفتاء، فتدخل المرأة.
ويقول الباجوري في آداب القضاء: ((.. وأن يشاور الفقهاء الأمناء عند اختلاف وجوه النظر، ويدخل في الفقهاء المذكورين، النساء حيث كانوا)).
ومما لا جدال فيه أن ثمة أموراً في التشريع تتعلق بالمرأة نفسها وبالأسرة وعلاقاتها وينبغي أن يؤخذ رأي المرأة فيها، وألا تكون غائبة عنها ولعلها تكون أنفذ بصيرة من الرجال، فالمرأة التي ردت على عمر بن الخطاب في المسجد كان ردها متصلاً بأمر تشريعي متعلق بقيام الأسرة ابتداءً وهو تحديد المهر بحد أقصى، وكانت مناقشة المرأة سبباً في عدول عمر إن إصداره قانون لتحديد الصداق.
وهناك قوانين أو قرارات أصدرها عمر بن الخطاب كان للمرأة يد في إصدارها وتشريعها كقانون عدم غياب الزوج في الجيش عن زوجته أكثر من ستة أشهر، فقد سأل ابنته حفصة:
ما أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: أربعة أشهر أو ست أشهر، فأصدر قراره تبعاً لمشورة ابنته.
وفي هذا التشريع حرص من الشارع على أن تحيا المرأة – ضمن مظلة الزواج – حياتها الغريزية بالشكل الذي لا يحرمها من حقوقها الفطرية وأنه ليس للزوج أن يغيب بلا عذر متفق فيه مع الزوجة. وقد مر أن الغياب بلا عذر يبيح للمرأة طلب الطلاق إمعاناً من الشارع في التعريف بحقوقها التي ضمنها لها الشارع.
وكذلك القانون الذي فرض به العطاء – راتباً وتعويضاً – لكل مولود في الإسلام بعد أن كان لا يفرض إلا لمن فطمته أمه، ما حمل الأمهات بسبب فقر حالهن إلى التعجيل بفطام أطفالهن قبل الأوان، رغبة في العطاء والتعويض، فلما سمع عمر يوماً بكاء طفل بكاءً متواصلاً شديداً، وسأل أمه عن سر هذا البكاء فقالت وهي لا تعرفه: إن أمير المؤمنين لا يفرض العطاء إلى للفطيم، لذا فطمته مبكراً فهو يبكي.
فقال عمر: ويح عمر، كم قتل من أطفال المسلمين. وأعلن بعدها تعميم العطاء لكل مولود.
فيلاحظ من خلال القصص التشريعية الثلاث أنه لولا المرأة واستشارتها لما أمكن الوقوف على حكمة القانون أو القرار لأن النساء أعلم بأحوالهن.
وكذلك فإن الفقهاء اتفقوا على جواز أن تكون المرأة ناظرة للوقف والوصاية على اليتيم والصغار وناقصي الأهلية، والنظارة على الوقف والوصاية من أنواع الولاية، وأغلب الأعمال الوظيفية من هذا القبيل، فيجوز للمرأة أن تتولاها.
إن حضانة النساء التي هي تربية وحفظ من لا يستغني بنفسه عن الآخرين ولا يستقل بأمور نفسه عما يؤذيه لعدم تمييزه كالطفل أو الكبير المجنون مثلاً هي نوع ولاية وسلطنة، بل النساء مقدمون فيها على الرجال.

وإذا كنا نتحدث عن مشاركة المرأة السياسة، فإن هذا بدوره يقودنا إلى الحديث عن مشاركتها العسكرية مشاركتها الرجل في الدفاع عن الوطن.
حيث إن النشاط النسائي – وتأسيساً على ما ورد – يشمل كل مناحي الحياة، وإذا كان البحث توجه إلى ترسيخ مفهوم المشاركة الحقيقية بين الرجل والمرأة في كل مجالات الحياة وأسباب بنائها، فإننا لن نستغرب إذا ما وجدنا المرأة المسلمة وعبر العصور المتتابعة تجد لها موطأ قدم بين المحاربين.
فعن أم عطية قالت: ((غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى)) وروى مسلم عن أنس: ((أن عائشة وأم سليم، كانتا في يوم أحد مشمرتين، تنقلان القرب على متونهما – ظهورهما – ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها)) ووجود عائشة هنا – وهي في العقد الثاني من عمرها – يرد على الذين ادعوا أن الاشتراك في الغزوات والمعارك كان مقصوراً على العجائز والمتقدمات في السن، فهذا غير مسلّم. وماذا تغني العجائز في مثل هذه المواقف التي تتطلب القدرة البدنية والنفسية معاً؟
وروى الإمام أحمد: أن ست نسوة من نساء المؤمنين كن مع الجيش الذي حاصر خيبر: يتناولن السهام، ويسقين السويق، ويداوين الجرحى، ويغزلن الشعر، ويعنّ في سبيل الله، وقد أعطاهن النبي صلى الله عليه وسلم نصيباً من الغنيمة.
بل صح أن نساء بعض الصحابة شاركن في بعض الغزوات والمعارك الإسلامية بحمل السلاح، عندما أتيحت لهن الفرصة، ومعروف ما قامت به أم عمارة نسيبة بنت كعب يوم أحد، حتى قال عنها صلى الله عليه وسلم: ((لمقامها خير من مقام فلان وفلان))، وقال: ما التفت يمنة او يسرة إلا وجدت أم عمارة تذب عني.
وكذلك اتخذت أم سليم خنجرا يوم حنين، تدافع به عن النساء من الصحابة لمواجهة كيد الغادرين من ثقيف وهوازن.
روى مسلم عن أنس ابن أم سليم: أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً، فكان معها، فرآها أبو طلحة – زوجها – فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا الخنجر))؟ قالت: اتخذته، إن دنا مني أحد المشركين بقرت به بطنه! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. قائلاً: ((يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن)) .
وقد عقد البخاري باباً في صحيحه في غزو النساء وقتالهن.
وأما هذه المشاركات الواضحة للمرأة المسلمة في عهد النبوة فإن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المرأة المسلمة صارت تعد العدة لمهام عسكرية وسياسية في الآفاق البعيدة، وهو معنى لم يكن وارداً على الإطلاق قبل نزلة الرسالة الخاتمة، وقد أفضت السيدة أم سليم بن ملحان إلى النبي صلى الله عليه وسلم برغبتها تلك في ركوب البحار والغزو في البلاد البعيدة:
ففي صحيح البخاري ومسلم عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند أم حرام بنت ملحان – خالة أنس – يوماً، ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ((ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكاً على الأسرّة، أو مثل الملوك على الأسرة)) ، قالت: فقلت يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها.. فركبت أم حرام البحر في زمن عثمان، مع زوجها عبادة بن الصامت إلى قبرص، وتعتبر أم سليم بنت ملحان الصحابية الوحيدة التي دفنت في أوروبا وقبرها اليوم معروف في لارنكا بقبرص، يزوره الناس وهو دليل باق على مشاركة المرأة المسلمة في النشاط العام والحياة السياسية والعسكرية.
ومن ذلكما روي عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة.
وما روي عن مهاجر أن أسماء بنت يزيد بن السكن بنت عم معاذ بن جبل رضي الله عنهما قتلت يوم اليرموك تسعة من الروم بعمود فسطاط ظلتها.
وقد بينت هذه الأحاديث وغيرها أنه كان للمرأة دور بارز في المعارك والحروب في العصور الإسلامية الأولى، حيث تولت المرأة العمل في إدارة الخدمات الطبية، فكانت تسعف الجرحى بعصب الجرح ووضع الحصير المحروق عليه، وتشترك في عمليات الإخلاء الصحي، ثم تقوم بتمريض الذين أخلوا إلى الأمكنة المختصة كالمساجد. وشاركت في التموين والتأمين للجيش الإسلامي فكانت تحضر الطعام للمقاتلين، وتسقي العطاش، إذ تنقل القرب على ظهرها لتصل إلى الجندي المقاتل في ساحة المعركة، وتقوم بتوزيع السلام للمجاهدين، وحراسة أمتعتهم وإصلاحها. كما كانت تحرض أفراد القوات المسلحة قبل الدخول إلى القتال وفي أثنائه، وتقدّم المشورة للقائد العام. وكانت تشترك في القتال إذا لزم الأمر وترد الرجال بالقوة إذا حاولوا الفرار وتحملهم على الثبات والنضال حتى النفس الأخير؛
وقد أثنى صلى الله عليه وسلم على مشاركة السيدة أميمة بنت قيس الغفارية في غزوة خيبر، وكان لمشاركتها أثر هام في اندفاع الناس وحماسهم.
وتحدث صلى الله عليه وسلم عن شجاعة أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية التي قاتلت يوم أحد وجرحت اثنتي عشرة جراحة، وداوت جرحاً في عنقها سنة، ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم، وشه لها عمر بن الخطاب بالبسالة والتضحية كما شهد لها رسول الله بذلك كما قدمناه.
كما كان يعطي صلى الله عليه وسلم النساء المشاركات في المعارك الرضخ من الغنائم. فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المرأة والمملوك من الغنائم ما يصيب الجيش.

الحق الخامس عشر
حق المرأة في الشهادة:
لا شك أن المرأة في الإسلام نالت حقها في الجانب الحقوقي في الشهادة والبينات، ولكن ظل التساؤل قائماً حول ما ورد في سورة البقرة من قوله تعالى، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
ولابد بداية من توضيح نقطتين في هذا الصدد.
الأولى: أن الشهادة في الشريعة الإسلامية يعتمد عليها في مجال التحقيق والنظر في النطق بالحكم.
أما في مجال التحقيق، فشهادة المرأة تساوي شهادة الرجل في هذا المجال في سائر القضايا دون تمييز بين الذكر والأنثى، وذلك لأن المحقق إنما يتخذ من الشهادة وغيرها عند التحقيق قرائن تعينه على معرفة الحقيقة وتحديد المطلوب، ولاشك أن الشهادة في هذه المرحلة الممهدة لصدور حكم قضائي يحقق العدالة وللعلم، فإن القوانين الوضعية تعتمد على الشهادات غالباً في مرحلة التحقيق ولا تعتمد عليها وحدها في مرحلة القضاء والحكم، ومن هنا يعلم بأن الشريعة الإسلامية لا تختلف عن القوانين الوضعية السائدة في العالم اليوم في هذه المسألة.
الثانية: جعلت الشريعة الإسلامية الشهادة مستنداً يستقل بالحكم ولكن بقيود وشروط معينة، بمعنى أن الشريعة منحت الشهادة، وما يتمتع به الإقرار والوثائق القطعية الدافعة من قيمة قضائية، وفي هذه الحالة لابد أن تضبط الشهادة بقيود وضوابط احتياطية، وفي هذه الحالة لابد أن تضبط الشهادة بقيود وضوابط احتياطية ترقى إلى مستوى الإقرار والوثائق، وهذه الضوابط والقيود تعود إلى عدة شروط لا دخل للذكورة أو الأنوثة فيهما:
الشرط الأول: عدالة الشاهد وضبطه.
الشرط الثاني: وأن لا تكون بينه وبين المشهود عليه خصومة تبعث على اتهامه فيما يشهد عليه به.
الشرط الثالث: وأن لا تكون بينه وبين المشهود له قرابة تبعث على اتهامه بالتميز إليه.
الشرط الرابع: أن تكون بين الشاهد والواقعة التي يشهد بها صلة قوية تؤهله للدراية بها والشهادة فيها.

أما الشهادة في الرضاع والحضانة والنسب ونحو ذلك، فإن الأولوية الشرعية فيها لشهادة المرأة، إذ أنها أكثر قرباً والتصاقاً بهذه المسائل من الرجل. بل روي عن الشعبي وهو من أجلّ فقهاء السلف أنه قال:
((إن من الشهادات ما لا يجوز فيها إلا شهادة النساء)) وإن إطلاقنا للقول بأن للمرأة الأولوية في شهادتها على ما هي أكثر ارتباطاً وتخصصاً به كما في المثال السابق لا يعني هذا أبداً أننا ننتقص من حق الرجل في أهليته في الشهادة، كذلك أولوية الرجل فيما هو أكثر إطلاعاً عليه لا يعد انتقاصاً لأهلية المرأة، في صورة رائقة للتوازن الفطري الذي اقتضته الإرادة الإلهية.
وهكذا فإنه لا موجب لتصور انحياز الفقه الاسلامي ضد المرأة أو ضد الرجل في الشهادة بل هو تعزيز لواقع الحال فيما يتصل بالواقع والبيان الحقوقي الأكثر ملائمة للرجال والنساء على السواء.
ومن الواضح أن الشريعة ضيقت على شهادة المرأة في قضايا البيوع والشراء والأسواق، وكذلك فيما يتصل بالتحقيق في الجرائم والجنايات، وذلك تأكيداً لمكانة المرأة في رعاية الحب والجمال والسكينة في المحتمع، ورغبة من الشارع الحكيم في دفع المرأة إلى الآفاق الجميلة التي تتناسب مع أنوثتها وتجنيبها مزالق الصخب والعنف.

الحق السادس عشر
حق المرأة في تولي القضاء:
من الوظائف التي يمكن أن تندرج في سلك الوظائف السياسية، القضاء، فهو وإن كان مجاله تنفيذ الأحكام الشرعية بين المتخاصمين إلا أنها من حيث هي جزء من نظام الحكم في الإسلام تعد جزءاً من البنيان السياسي للدولة.
وفي إطار مذاهب الفقهاء في مسألة مشاركة المرأة في القضاء فقد ذهب الفقهاء إلى مذاهب ثلاثة:
• منع المرأة من القضاء. وهو رأي الشافعية والمالكية
• السماح للمرأة بالقضاء فيما سوى الحدود، وهو رأي الحنفية
• السماح للمرأة بالقضاء في كل القضايا، وهو رأي الطبري وبعض الشافعية

وهكذا فقد اختار السادة الحنفية عدم اشتراط الذكورة في وظيفة القضاء في حدود أعمال القضاء المدني نظراً إلى صحة شهادتها في سائر القضايا المدنية، فهي تملك الحق في أن تشهد على ما تشاء، يقول الكاساني صاحب كتاب بدائع الصنائع:
[وأما الذكورة فليست من شروط جواز التقليد – أي تقليد القضاء – في الجملة، لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة، إلا أنها لا تقضي في الحدود والقصاص لأنه لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع الشهادة].
ومع أن هذا القيد كان ضروريا في عهد الإمام أبي حنيفة ولكن عدداً من الفقهاء اندفعوا إلى ما هو اكثر من ذلك في إطار حقوق المرأة وقدراتها العلمية والقضائية، وقد ذهب ابن جرير الطبري إلى جواز إسناد وظيفة القضاء إلى المرأة مطلقاً، مستدلاً بأن القضاء مثل الفتوى، ولما كان إسناد وظيفة الفتوى إلى المرأة جائزاً بالاتفاق اقتضى ذلك أن يكون إسناد القضاء إلى المرأة جائزاً أيضاً أو أن يكون حكمها في شؤون القضاء نافذاً.
وإلى مثل هذا الرأي ذهب عدد من فقهاء الشافعية أيضاً منهم أبو الفرج بن طرار الشافعي كما نقله ابن قدامة في المغني وذكره ابن حزم الظاهري في المحلى.
ومما يستدل به في هذا السياق مؤيداً جواز إسناد وظيفة القضاء للمرأة أنه يجوز للمرأة أن تكون محكماً فيما عدا الحدود والقصاص، فكذلك يجوز أن تكون قاضياً فيما عدا ذلك، لأن القضاء والتحكيم كليهما من أنواع الولاية الملزمة، فقد نص الفقهاء على أنه يجب على المتحاكمين الالتزام بقرار المحكم وتنفيذه.
ولا شك أن ما ذهب إليه ابن جرير الطبري وهو شيخ المفسرين يعتبر بياناً لما تتضمنه الشريعة الغراء من سعة في الاجتهاد في مسألة مشاركة المرأة في العمل القضائي، وهي تدل على أقل تقدير أنه لا يوجد نص محكم يمنع من تولي المرأة هذه المسؤوليات القضائية.
وللقاضي صفات ثلاث: فمن جهة الإثبات هو شاهد، ومن جهة الأمر والنهي هو مفتٍ، ومن جهة الإلزام هو ذو سلطان، وهكذا فإن كلاً من الفقهاء نظر إلى الأمر من زاوية ونشأ هذا الخلاف بينهم.
وهكذا يترجح حسب الأدلة المنقولة والمعقولة، والأقيسة الجلية جواز تولي المرأة للقضاء، وقد أثبتت الوقائع أن المرأة استطاعت أن تملأ هذا الثغر السياسي والديني معاً بجدارة حينما رأيناها قاضية، ومحامياً عاماً، بل نائباً عاماً يصول ويجول في تنفيذ الأحكام وسماع البينات والفصل في الخصومات، ولا شك أن ذلك يتطلب جهوداً مستمرة لتأهيل المرأة ووضع الضوابط الضرورية التي تحمي أنوثتها وتحول دون انخراطها فيا لا يليق بمكانتها وأنوثتها، وهذا كله من مسؤولية العلماء في كل عصر.

الحق السابع عشر
حق المرأة في ممارسة الرياضة:

الرياضة حاجة إنسانية أكيدة، وهي شأن إنساني يعرفه البشر منذ فدر التاريخ، وهي ضرورة جسدية وروحية للإنسان، وهي لون من شكر نعمة الله تعالى على الإنسان، وطاعة لله تعالى في حفظ النعمة وحماية الجسم السليم وهذه كلها مقاصد إسلامية ضرورية.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقائق بقوله: ((علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل))

وفي معرض ثنائه صلى الله عليه وسلم على نساء قريش أشار إلى مهارتهن في ركوب الإبل:
ومن ذلالات الحديث أن الخيرية التي استحقتها نساء قريش تلازمت مع كونهن ركبن الإبل وهو يشير إلى الجسم الصحيح، ثم مع حنوهن على الولد حيث يتلازم الحنان مع تمام الرعاية ولعل من حسن الرعاية تنشئة الولد على الصحة الغذائية والجسمية والتي لا تحققها إلا الرياضة والتمرين على ما جاء في الحديث السابق [علموا أولادكم ..] ثم مع رعايتهن لحال أزواجهن في حال قلة اليد والغنى بتعويض ذلك أنساً وسروراً وحماية داخل البيت واقتصاداً وتدبيراً خارجه.
وفي مواضع كثيرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رياضته المستمرة مع عائشة رضي الله عنها، حيث كان يسابقها وتسابقه، وفي الرواية رصد للواقع الصحي والرياضي لعائشة رضي الله عنها، وتفاوت قدرتها على الجري والسباق بين أول فترة الإسلام وآخره: ((خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا خفيفة اللحم فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقني فسبقته، ثم خرجت معه في سفر آخر، وقد حملت اللحم – أي ثقل وزنها – فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال لي: تعالي أسابقك، فسابقني فسبقني، فضرب بقيده كتفي وقال: هذه بتلك)) .

وكما دعا إلى الرياضات والنشاطات البدنية الصحيحة، فقد مضى الرسول الكريم إلى تشجيع المواهب الرياضية والكفاءات المبدنية، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه و سلم فوضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم.

الحق الثامن عشر
مشاركة المرأة في الفنون:

ترتبط في أذهان المسلمين في العالم كله مشاهد اليوم الأول في الإسلام يوم وصول النبي الكريم إلى المدينة المنورة وتفاصيل الخفل الفني الرائع الذي أطلقته حناجر النساء عبر جواري من بني النجار، وخلده التاريخ بالقصيدة الرائعة:
طلع البدر علينا .. من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا … ما دعا لله داع

ومع أن للمحدثين مقال في تاريخ هذا النشيد، حيث يترجح أن يكون يوم عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك، ولكن ذلك لا يغير شيئاً من حقيقة اهتمامه صلى الله عليه وسلم وتقديره للفن النظيف الذي تسكبه حناجر طاهرة في مناسبة سعيدة وكريمة وهي دخول رسول الله لأرض يثرب التي ستصبح من تلك اللحظة المدينة المنورة إلى آخر الدهر.
وفي البخاري ومسلم اثنتا عشرة رواية جمعها الإمامان الجليلان عن غناء الجواري بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن عائشة أن أبا بكر دخل عليها أيام منى وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بدفين ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى على وجهه الثوب لا يأمرهن ولا ينهاهن فنهرهن أبو بكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن يا أبا بكر فإنها أيام عيد
وفي رواية ((يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)) وروي أيضاً عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ببعض المدينة فإذا هو بجوارٍ يضربن بدفهن ويتغنين ويقلن:
نحن جوار بني النجار يا حبذا محمد من جار

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهن: ((والله يعلم إني لأحبكن)) .

وقد روى ابن عباس قال: أنكحت عائشة قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم…)).
وروى النسائي والحاكم وصححه عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب، وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوارٍ يغنين، فقلت: أي صاحبي رسول الله أهل بدر يفعل هذا عندكم؟ فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب فإن قد رخص لنا اللهو عند العرس.
وهكذا فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أنواعاً من الفن البريء وشجع على تطويره وحمايته من العبث والمجون، حتى يكون وسيلة راقية نطيفة في اكتشاف مكامن الروح والفطرة في الإنسان وتوجيهها إيجابياً لما فيه الخير العام.

الباب الثاني:

نماذج من جهود الفقهاء لتمكين المرأة

تجارب الفقهاء في تمكين المرأة

نستعرض في هذا الفصل مواقف الفقهاء الكرام في مواجهة التقاليد التي كانت تفرض رهقاً على المرأة يسبب لها العناء، وكان كثير من هذه التقاليد يتم تحت ستار الشريعة ويفرض على المرأة تحمله والتزامه على أساس أنه مطلب شرعي، في حين أن أهداف الشريعة تتناقض مع تلك المظالم التي فرض على المرأة أن تحمل أوزارها عصوراً كثيرة.

وتجدر الإشارة أن ما نورده هنا من جهود لفقهاء كرام بذلوها في سبيل تمكين المرأة ورفع الظلم عنها، ليس إلا محض أمثلة، وليس المطلوب حسم الفتوى وفق ما اختاره الفقيه هنا، ولكن المطلوب تقديم أمثلة حقيقية لجهود الفقهاء الكرام في تمكين المرأة، والدعوة للنسج على مناهجهم.
ونحن نعتقد ان نهضة المرأة التي بدأت في بلاد الحرمين الشريفين تتطلب جهوداً تشريعية شجاعة تتناسب مع الطموح الذي تبتغيه المرأة المسلمة، وربما كانت هذه التجارب الفقهية الكبيرة التي رصدنا لها هذا الفصل نموذجاً هادياً للجهد التشريعي المأمول عبر الفقهاء من أهل البصيرة.

حول تعليم النساء

مع أن هذه المسالة لا تبدو اليوم ذات بال في المجتمعات العربية والإسلامية، حيث أصبح تعلم المرأة والرجل محل اتفاق بين كل حركات التنوير العربي والإسلامي، وصار الدفاع عن حق المرأة في المعرفة شعاراً ترفعه حركات النهضة المختلفة في سائر بلاد المسلمين.
ولكن المسلمين فوجئوا قبل سنوات بنظام يرفع شعار الإسلام ويدعو إلى تطبيق حاكمية الله، ولكنه ما إن تسلم السلطة حتى أغلق مدارس النساء كافة، ودعا المرأة إلى لزوم دارها، وترك التعليم والمعرفة، تحت عنوان سد ذرائع الفتن!!

وقد استند هؤلاء إلى عدد من النصوص التي رويت في كتب التفسير والسنن، وهي نصوص ورد معظمها بأسانيد واهية لا يصح اعتمادها في تقرير الحلال والحرام، ومنها حديث رواه الحاكم: لا تنزلوهن الغرف و لا تعلموهن الكتابة (يعنيالنساء) وعلموهن المغزل وسورة النور
ولكن الإمام الذهبي الذي يعتبر ميزان المحدثين قال في التلخيص هو حديث موضوع، أي كذب مفترى على رسول الله.

ولم نكن نظن أن أحداً من المسلمين يمكن أن يتصور نهي المرأة عن العلم والتعلم خاصة وأن السيدة عائشة التي نسب إليها رواية هذا الحديث كانت من أشهر القارئات والحافظات والعالمات والفقيهات في الإسلام فكيف يتصور أن نروي عنها خلاف ما تعمله وتلتزمه؟

وقد رفض الفقهاء الأخذ بهذه الذرائع الموهومة، ونبغت في تاريخ الإسلام عالمات موهوبات، ولا شك أن عموم النص القرآني يدعو المسلم إلى تحصيل العلم والمعرفة بدون أي تفريق بين النساء والرجال، ولعل من الأدلة الواضحة على هذه الحقيقة قوله تعالى:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.
والآية هنا واضحة في أن ولاية المؤمنة على المؤمن كولاية المؤمن على المؤمنة، والولاية هي النصرة والتعاضد، وقد شرحت الولاية هنا بأنها تشتمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا كله يتطلب حتماً جوانب مؤكدة من تحصيل المعرفة، ودراسة فروع المعروف ومزالق المنكر الذي تؤمر المرأة بأن تنهض به في رسالتها في العلم والتعليم.
وذلك كله لا يتأتى إلا بمنح المرأة حقها الكامل في المشاركة في الحياة العامة، وتوفير نصيبها من تحصيل المعارف الضرورية لهذه النشاطات على الأقل، التي صارت اليوم تتطلب حتماً كليات ومدارس ودراسات أكاديمية متخصصة، وهو ما يؤكد أن مسؤولية المرأة في هذه الجوانب ليست مسؤولية تبعية أو اضطرارية بل هي مسؤولية مباشرة مقاصدية.

ولا شك أن هذه النصوص كانت تذكي لدى المرأة المسلمة حب التعلم والرغبة في المعرفة، وقد تحقق لها في أيام المجد الإسلامي نصيب وافر من المشاركة في العلوم المتاحة آنئذ.
ونقدم هنا سجلاً إحصائياً ذا دلالة، فقد قام الحافظ المقدسي
(ت 600هـ) بتصنيف كتابه المسمى «الكمال في أسماء الرجال» خصصه للتعريف بعلماء السلف (القرن الأول والثاني والثالث الهجري) ثم اختصره الحافظ جمال الدين المزي (ت 742هـ) باسم: «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» وحين جاء ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) اختصر التهذيب وسماه «تهذيب التهذيب»، ثم عمد بعدئذ إلى اختصار تهذيبه هذا في كتاب أسماه «تقريب التهذيب» ومع أن الكتاب لا يعرف إلا بعلماء مرحلة زمنية محددة (القرن الأول والثاني والثالث) فقد جاء الكتاب حافلاً بأسماء (824) امرأة شاركن في النشاط العلمي الذي كان متاحاً آنئذ، وهو علم الرواية، وهو علم كان يشتمل آنئذ على معارف التاريخ والحقوق والآداب إلى جانب المعارف الدينية.
وهكذا فإن مشاركةً بهذه الحجم ينقلها لنا إمام محدث موثوق في كتاب إحصائي واحد يعتمد منهجاً اختصارياً من الدرجة الرابعة، لا يمكن توفرها خلال ستة قرون من الانحطاط حتى ولو أجرينا تقاطعات عدة في كتب كثيرة لمن دونوا تاريخ تلك المرحلة من أصحاب الموسوعات الكبرى ومجاميع تراجم الرجال.
وقد اعتمد الحفاظ رواية النساء، ولم ينقل عن أحد من العلماء أنه رد خبراً لكونه خبر امرأة( )، ومن طريف الرواية عن النساء ما أورده الحافظ الذهبي بقوله: لم يؤثر عن امرأة أنها كذبت في حديث،( ) وهو موقف هام في التوثيق إذ يصدر عن الذهبي وهو أكثر رجال النقد الحديثي دقة وصرامة.

ويمكن تلمس نماذج متألقة من نساء السلف الصالح لمعت أسماؤهن كعالمات يلتمس علمهن وهديهن في فروع معرفية كثيرة، وأختار هنا السيدة عائشة التي كانت من أزواج النبي اللواتي يفترض أنهن أحسن الناس حجاباً، وأبعدهن عن المأثم، يقول مسروق: رأيت المشيخة من أصحاب محمد إذا أشكل عليهم الأمر من العلم يسألون عنه عائشة، وكان الأكابر من أصحاب النبي يسألون عائشة في الفرائض.
وكان الأحنف بن قيس يقول: سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والخطباء هلم جرا فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن منه من عائشة.
وقال عطاء: كانت عائشة أعلم الناس وأفقه الناس وأحسن الناس رأياً في العامة.( )
وقد أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء أسماء أكثر من مائة وستين رجلاً تتلمذوا على عائشة( )وأخذوا عنها العلم والرواية منهم ابراهيم التيمي وطاوس والشعبي وسعيد بن المسيب وسعيد بن العاص وسليمان بن يسار وزر بن حبيش وعكرمة مولى ابن عباس وقيس بن أبي حازم وغير هؤلاء كثيرون، وسائر هؤلاء ليسوا قرابة لها ولا ذوي محرم، ولكن تصدرها لتعليمهم كان مسألة ظاهرة مبررة في عصر لم يكن تعقيد العلاقات قد حجب المرأة في مقاصير (الحرملك) التي غيبت المرأة وجهلتها وحالت بينها وبين ظروف التعلم الصحيح.
وقال عروة بن الزبير: لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية نزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب ولا بكذا ولا بكذا، ولا بقضاء، ولا بطب، من عائشة.( )
وكانت عائشة ربما روت القصيدة ستين بيتاً وأكثر،( ) فلم يكن لها فيها عثرة أو عكة. وقد كانت عائشة حرة الرأي، جريئة في الفتيا، ومراراً خالفت رأي صحابة كبار، وصوبت آراءهم وأفكارهم ومروياتهم، حتى أن الإمام السيوطي صنف كتاباً خاصاً أسماه: عين الإصابة في استدراكات عائشة على الصحابة.

وكذلك فقد ألف بدر الدين الزركشي كتاباً آخر أسماه (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) وقال في مقدمته: (هذا كتاب أجمع فيه ما تفردت به عائشة أو خالفت فيه سواها برأي منها، أو كان عندها فيه سنة بينة، أو زيادة علم متقنة، أو أنكرت فيه على علماء زمانها، أو رجع فيه إليها أجلة من أعيان أوانها أو حررته من فتوى، او اجتهدت فيه من رأي رأته أقوى).

وقد بلغ عدد الذين استدركت عليهم عائشة فردت أقوالهم أو فتاويهم أو مروياتهم ثلاثة وعشرين من أعلام الصحابة فيهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وذلك في تسع وخمسين مسألة مختلفة.
ويعكس ذلك قوة شخصية المرأة المسلمة إلى جانب علمها الوفير، كما يعكس هامش حرية الرأي في عصر المجد الإسلامي حيث كان يتاح للفرد أن يرد على رأي الخلفاء والصحابة الكبار دون خشية من ألوان البطش الفكري وأشكاله.

كتب العلامة سعيد الأفغاني في مقدمة تحقيق الإجابة: سلخت في دراسة السيدة عائشة سنين عدداً، كنت فيها أمام معجزة لا يجد القلم إلى وصفها سبيلاً، وأخص ما يبهرك فيها علم زاخر كالبحر بعد غور، وتلاطم أمواج وسعة آفاق، واختلاف ألوان، فما شئت إذ ذاك من تمكن في فقه أو حديث أو تفسير أو علم بشريعة أو آداب أو شعر أو أخبار أو أنساب أو طب أو تاريخ إلا وأنت واجد ما يروعك عند هذه السيدة.

وهنا أورد لك هذا الإحصاء الذي نستخلصه في دراسة سريعة لدور بعض نساء الصحابة في التصدر للتعليم وفق ما نقله عنهن أئمة السنن في الكتب التسعة: (إحصاء بمساعدة برنامج صخر للحديث الشريف).
• عائشة بنت أبي بكر: تلامذتها 299 تلميذاً منهم 67 امرأة و232 رجلاً.
• أم سلمة بنت أبي أمية: تلامذتها 101تلميذاً منهم 23 امرأة و78 رجلاً.
• حفصة بنت عمر: تلامذتها 20 تلميذاً منهم 3 نساء و17 رجلاً.
• أسماء بنت أبي بكر: تلامذتها 21 تلميذاً منهم امرأتان و19رجلاً.
• هجيمة الوصابية: تلامذتها 22 تلميذاً كلهم رجال.
• أسماء بنت عميس: تلامذتها 13 تلميذاً منهم امرأتان و 11 رجلاً.
• رملة بنت أبي سفيان: تلامذتها 21 تلميذاً منهم 3 نساء و18 رجلاً.
• فاطمة بنت قيس: تلامذتها 11 تلميذاً كلهم رجال.

ولا بد من التنويه مرة أخرى أن القول بمنع تعليم المرأة لا يحظى باحترام لدى أي من فقهاء الإسلام المتبوعين، ولولا أننا تابعنا ذلك بأنفسنا لظننا أن هذا من نسج الخيال، وكان من المفترض أن نعرض عن إيراد ذلك كله، ولكنها مناسبة لبيان منزلة العلم في الإسلام للمرأة والرجل على السواء، وهي منزلة شريفة ظل يسعى إليها المؤمنون، والتزمها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء يتضرع به إلى الله: وقل رب زدني علماً.

السفر بدون محرم

لا شك أن القارئ يتابع بعض ما تورده وسائل الإعلام المختلفة في بعض البلاد الإسلامية من فرض قيود قاسية على تحرك المرأة وفرض رقيب من المحارم يلزم المرأة في انتقالها وسفرها، بل إن ذلك مضى إلى حد وجوب اصطحابها من قبل محرم حتى في ذهابها إلى المدرسة أو السوق وهو أمر من الرهق لا يتصور أشد منه، وبالتالي فإنه سيؤدي حتماً إلى تعويق المرأة عن أداء رسالتها في المشاركة الاجتماعية والتنمية، ولعل من أقرب النتائج الحتمية في قانون كهذا أن تمتنع نصف النساء عن التعلم والدراسة وهو أمر خطير سيقود حتماً إلى مزيد من الجهل والأمية والفراغ.

وقد اعتمد المتشددون في فرض هذه القيود على المرأة على ظاهر نص الحديث الكريم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها))( ).

ويقضي الفهم الظاهري لهذا النص منع المرأة من السفر مطلقاً إلا بوجود المحرم، وهو ما لا يتيسر لكل امرأة، ومن غير المعقول أن تعطل طاقة اجتماعية كاملة لمجرد تحقيق رفقة طاقة أخرى، الأمر الذي يستلزم كف المرأة عن الارتحال في طلب العلم، أو الإقامة في نظم السكن الجامعي، أو الخروج إلى الحج والعمرة، أو السفر إلى زوجها في مكان إقامته، وهو ما يجعل سائر الطالبات والموظفات يرتعن في دائرة الحرام والإثم، ويعانين من عقدة الذنب طيلة نشاطهن وهو ما ينعكس عليهن بأسوأ الآثار، وهو ما أدى إلى تعطيل طاقة المجتمع وعاد بأفدح الخسائر على المرأة والرجل جميعاً، وخاصة المرأة في الأرياف التي حرمت العلم والتحصيل والتدريب المهني وهو ما أسهم بمجموعه في إضعاف شخصية المرأة وهوانها.

ومع أن الحديث متجه إلى غاية شريفة ونبيلة وهي حماية المرأة من مزالق الفتن، وإحصانها من أن تكون مطمعاً لأهواء العابثين، ولكن مقارنة المصالح والمفاسد في المسألة يجعلك لا تتردد في مراجعة الأمر والبحث عن سبل أخرى لتحصين للمرأة لا تستلزم هذا الرهق المضني.
لقد كان السفر في عهد النبي ضرباً من المشقة القاسية، وكان سفر المرأة ثلاثة أيام بلا محرم يشبه أن يكون مفسدة مؤكدة، وخطراً حقيقياً على المرأة، ولم تكن قد جدت الحاجة لارتحال المرأة في تحصيل العلم والمعرفة في المدن.
ولكن الفقه الإسلامي بدأ يدرك مع الأيام الحاجة الملحة لانتقال المرأة ويمكن هنا أن نورد طرفاً من خيار الفقهاء في هذا السبيل.
نظر الإمام الشافعي في مسألة حج المرأة إلى غاية هذا القيد وهو تحقق الأمن للمرأة فقال: «لا يتعين هذا ـ أي المحرم ـ بل الواجب هو ما يتحقق به الأمن عليها كأن تحج مع نسوة ثقات».( )
ثم خطا الفقه خطوة أخرى فأجاز حج التطوع وسفر الزيارة والتجارة وغير ذلك من الأسفار غير الواجبة فقيل تخرج مع نسوة ثقات.( )
ومع ذلك فقد ظل فقهاء كثير يقولون بعدم جواز ذلك.
ثم خطا الفقه خطوة أخرى في المرأة الكبيرة غير الشابة فقال الباجي: تسافر كيف شاءت بلا زوج ولا محرم،( ) ونقل هذا الرأي عن القاضي عياض.( )
أما الإمام الأوزاعي فقد ذهب إلى تحرير العلة من هذا المنع بخوف الفتنة، وانفراد المرأة في السفر البعيد مع جماعة من الرجال، فقال: ولا شك أن القوافل العظيمة تقوم مقام المحرم في تحقيق الأمن للمرأة ولو مع فقد المحرم.( )
وبمثله نقل الترمذي عن مالك بن أنس والشافعي: إذا كان الطريق آمناً فإنها تخرج مع الناس في الحج،( ) وهذا القول نفسه نقله النووي في شرح صحيح مسلم عن عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي: لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها.( )
بل إنه مضى إلى أكثر من ذلك فقال: قد يكثر الأمن ولا تحتاج إلى أحد، بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة.( )
وسئل الإمام مالك عن المرأة تريد الحج وليس لها ولي؟ قال: تخرج مع من تثق به من الرجال والنساء.( )
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: استدل بحديث عائشة: «أحسن الجهاد وأجمله الحج» على جواز حج المرأة مع من تثق به ولو لم يكن زوجاً ولا محرماً.. وقد أذن عمر لنساء النبي في الحج من غير محرم ولم ينكر عليه.( )

ولا شك أن الأمن الذي يتوفر اليوم للفتاة الجادة تسافر للدراسة، وتقيم في سكن محتشم مع مجموعة من الطالبات، أو تسافر بالطائرة إلى عمرة أو حج أو اللحاق بزوج أو والدين، في شركات خاصة مأمونة مضمونة، وفق نظم الإياتا الضامنة، لا شك أن ذلك على اختلاف أشكاله أصبح مأموناً غاية الأمن في زماننا، وهو ـ بكل تأكيد ـ أقل مجازفة من ركوب المرأة على ظهور الإبل واجتيازها الصحراء أياماً ثلاثة برفقة محرم قد يكون صبياً مراهقاً أو شيخاً ضريراً طاعناً في السن، لا يملك أن يذب عن نفسه.
وقد أخذت المعاهد الشرعية في بلادنا وفي الأزهر الشريف بهذا اللون من الاجتهاد وفتحت أبوابها لطالبات العلم الشرعي القادمات من أقطار الأرض البعيدة كأندنوسيا والصين وماليزيا والجاليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا، حيث تستقبل هؤلاء الطالبات في معاهد التعليم الشرعي بدون محارمهن، ويقمن في ظروف من الأمن والرعاية تحقق مقاصد التوجيه النبوي وإن تكن لا تتفق مع التأويل الظاهري لنص الحديث.

وقد وردت آثار كثيرة عن النبي تشير إلى أن الأمن سيغلب على الأرض وأن المرأة ستسافر من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير أن يصحبها أحد، من ذلك ما أخبر به النبي عدي بن حاتم بقوله: ((يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها)).( )
ولا شك أن بشارة النبي بهذا، واستبشاره به قرينة قوية أنه لو انتفى الخوف فإن سفر المرأة بدون محرم وارد وممكن، بل هو من أعظم إنجازات الإسلام في الأرض.
وهنا نذكر بالقواعد الأصولية التي أقرها علماء الأمة، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وما ثبت لامر يزول بزواله، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.

وليس مقتضى ذلك إعفاء المرأة من مسؤوليتها، بل إن رعاية هذه الاعتبارات يجعل المرأة مباشرة في موقع المسؤولية، إذ هي المكلفة أصلاً باجتناب مواضع الفتنة، ورب فتن طاغية وفرتها التكنولوجيا الحديثة للرجل والمرأة على السواء وهما في حجرات الدار حيث الأفلام الماجنة والبرامج الخليعة التي تتوفر في الإقامة بدون سفر، وهذا كله يرتب المسؤولية الكاملة على المرأة في حماية العفاف الذي زينها به الله تعالى، ورفض أنماط الفحشاء التي تتسلل إلى حياتنا الحديثة بوسائل شتى.

إن موقف الفقهاء من مسألة السفر بدون محرم موقف يستحق الاحترام، ومع أنه جاء بحسب رأي المتشددين مصادماً لنص الحديث الشريف، ولكن القراءة المقاصدية للحديث الشريف والنظر في أسباب وروده، يجعلنا نوقن بالقاعدة الذهبية التي وضعها الإمام ابن القيم: حيث ما كانت المصلحة فثم شرع الله، وما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ولعلكم تشكرون.

ميراث الأراضي الأميرية
لا خلاف بين الفقهاء في وجوب إعمال النص القرآني: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، ولكن ما يجب قوله هنا هو أن الأمر ليس على إطلاقه فهناك حالات كثيرة في الميراث يتساوى فيها الذكر بالأنثى كما في حال الإخوة لأم فقد قال الله تعالى: فهم شركاء في الثلث، وأجمع المفسرون أن المقصود التسوية بين الإخوة لأم في نصيبهم من الميراث، وكذلك فإن هناك حالات كثيرة تنال فيه المرأة نصيباً مساوياً للرجل فتستوي الأم والأب في الميراث حين يكون للمتوفى فرع وارث فتنال الأم والأب السدس لكل منهما، إلى غير ذلك من أمثلة في الفقه الإسلامي.

وقد لاحظ الفقهاء معاناة المرأة الريفية بوجه خاص حيث تقوم برعاية الأرض وزراعتها وحراثتها في حين أن الرجل يسافر في التجارة والكسب وينصرف إلى الحوانيت والأسواق، أما المرأة فكانت في الواقع تلتصق بالأرض زراعة وفلاحة وحصاداً وإعداداً وكان من المنطقي أن يكون نصيبها من الأرض متناسباً مع عملها فيها، بغض النظر عن الميراث.

ومن هنا فإن الفقهاء اهتدوا إلى نظام فقهي دقيق وحكيم وهو نظام الأرض الأميرية، وهو نظام كانت الدولة فيه تخص بعض القرى الزراعية بمجموعة من الأراضي توزع بالتساوي بين الذكور والإناث من أبناء القرية، وبالتالي فإن السلطان يضع هذه الأرض تحت يد المواطنين ولكنه لايملكهم رقبة الأرض، ويبدو العقد هنا عقد انتفاع وارتفاق، يستمر ما دام المنتفع حياً حتى إذا وافاه الأجل عادت الأرض نظرياً إلى يد السلطان، الذي يقوم بدوره بتوزيعها مرة أخرى في أبناء المتوفي بالتساوي مرة أخرى مع التأكيد في الحالين أن رقبة الملك في هذه الحالة هي للسلطان وليس للمواطن العادي، ولكن منح الأبناء حقوقاً متساوية في الأرض هو أقرب للعدالة والإنصاف.

ويمكن متابعة الأصل الذي اعتمده الفقهاء في قانون الأرض الأميرية من تصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالأرض الأميرية هي التي تعود ملكيتها لبيت مال المسلمين ولمتقسم على الفاتحين المسلمين وبقيت رقبتها ملكا للدولة الإسلامية، وأعطيت منفعتها لمنيقيمون عليها، ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما فتح العراق لم يقسم الأراضي المفتوحة علىالمقاتلين، وإنما أبقى رقبتها ملكا لبيت مال المسلمين، فالذي يملك التصرف فيالأراضي الأميرية هو الحاكم ، وليس له إقطاعها أو تمليكها عند المالكيةوالشافعية والحنابلة وخالفهم الأحناف في ذلك، وإذا صارت مواتا فهي لمن أحياها.
وبناء على هذا.. فإن هذه الأرض في الحالتين لا تورث، وإنما تنتقل منفعتها إلى ورثة الميت حسبما يقرره الحاكم المسلم، وله أنيسوي بين الذكر والأنثى إذا رأى المصلحة في ذلك لأن اجتهاد الحاكم مربوط بمصلحةالرعية. قال الشيخالدردير: والكلام فيها للسلطان أو نائبه،ولا تورث لأنها لا تملك
وهذا عند الجمهور، أما عند الحنفية فإذا ملكت هذهالأرض لمن هي بيده صارت ملكا له ودخلت في الميراث الذي يقسم بعدوفاته.
وقد نصت الموسوعة الفقهية في شأن الأراضي الأميرية على الآتي :
“يجوز للإمام أن يدفع الأرض الأميرية للزراعة، إما بإقامتهم مقام الملاك في الزراعة وإعطاء الخراج، أو إجارتها للزراع بقدر الخراج، وعلى هذا اتفق الأئمة، وأما إقطاعها أو تمليكها: فمنعه المالكية والشافعية والحنابلة، لأنه صار ملكاً عاماً للمسلمين، وأجازه الحنفية اعتماداً على أن للإمام أن يجيز من بيت المال من له غناء في الإسلام، كما أن له أن يعمل ما يراه خيراً للمسلمين وأصلح، والأرض عندهم بمنزلة المال”.
وقد قامت الحكومة العثمانية بسن قانون الانتقال بالأراضي الأميرية منذ عهد السلطان سليمان القانوني وقد جرت عليه تعديلات كثيرة، وأصل أحكام هذا القانون مستندة لأحكام الشريعة الإسلامية ومن التعديلات التي أدخلت على هذا القانون في عهد السلطان عبد المجيد تساوي الذكور والإناث في أحكام قانون انتقال الأراضي، وقضية تساوي الذكر والأنثى في هذا القانون لا تتعارض مع تفاوت نصيب الذكر والأنثى في الميراث الشرعي، وذلك لأن مالك الأراضي الأميرية هو بيت مال المسلمين والذي يحق له التصرف فيها هو الحاكم المسلم، ويجوز للحاكم أن يملك المنفعة في الأراضي الأميرية بالتساوي بين الذكر والأنثى، ولا مانع يمنع من ذلك في الشريعة الإسلامية لأن للإمام ولاية عامة على المسلمين وله أن يتصرف في مصالح الأمة، ولهذه الأسباب فإن الأراضي الأميرية لا يجري فيها الوقف ولا الرهن ولا البيع ولا الهبة ولا الشفعة”
إن محور التصرف في مسألة الأراضي الأميرية هو أن المستفيد من الأرض لا يسمى مالكاً، وهو محض مستفيد بمقدار ما يخدم الأرض ويحسن إليها، ولكن الهدف الواضح من هذا النظام كما قرره فقهاء المالكية هو تمكين المرأة وتقدير جهدها وسعيها وإنصافها في تحصيل عائد يكافئ ما تبذله في الأرض.
وفي سوريا أقر القانون المدني نظام الأرض الأميرية، واعتبر وزارة الزراعة الجهة المالكة للأرض، ونص على إبطال عدد من التصرفات التي تؤدي إلى تغيير صفة الانتفاع ومن ذلك إنشاء الوقف على الأراضي الأميرية فقد اعتبر ذلك كله باطلاً.
كما أن اعتراف القانون بهذا الحق في الأرض مشروط بأن يقوم أصحابها بخدمتها وحراثتها، ونص على أن تخليهم عن خدمة هذه الأرض وحراثتها خمس سنوات يسقط حقهم في التصرف بها.
ولا تزال هذه الماد موجودة في تشريعات الدول العربية التي كانت تحت الحكم العثماني وقد وردت المواد القانونية التالية في القانون المدني السوري:
العقارات الأميرية: هي التي تكون رقبتها للدولة، ويجوز أنيجري عليها حق تصرف

وتأكيداً على طبيعة العلاقة الانتفاعية في العقارات الأميرية نصت المادة 774 من القانون:
1- ليس للمتصرف في عقار أميري أن ينشئعليه وقفا
2- كل وقف ينشا على عقار أميري يعد باطلا
وفي إرادة واضحة لاشتراط خدمة الأرض سبباً لامتلاك حق التصرف نصت المادة 775 :
يسقط حق التصرف في العقاراتالأميرية بعدم حراثة الأرض، أو بعدم استعمالها مدة خمس سنوات
وفي هذه الجزئية فإن الفقهاء استندوا إلى الأصول المقررة في إحياء الموات، ومنها أن ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين أو خمس سنين حق، فمن أهمل الأرض التي ملكها بإحياء الموات، فإنه لا يحق له أن يستمر في تملكها ومن حق ولي الأمر دفعها لمن يحييها من جديد.
إن نظام الأرض الأميرية نظام يتوخى العدالة، ومع أنه لم ينص عليه في صريح القرآن والسنة المطهرة ولكن الفقهاء لم يروا أدنى بأس باستنباط هذه الأحكام على هامش النص القرآني وفي ضيائه، وقد افادوا من الأصول الكلية في الشريعة، ومن ذلك قوله تعالى:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم.
ومن ذلك قوله تعالى:
فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار (سورة آل عمران 195)
وواضح أن الآيات الكريمة تؤكد على عرفان سعي الرجال والنساء عند الناس وعند الله، وأن الله لن يجحد عمل عامل وسيمنحه جزاءه بالعدل والمساواة، وعموم الآية فيه إرشاد للأمة في تشريعاتها أن تتوخى العدالة في تكافؤ الفرص بين الرجال والنساء.
وفي هذا السياق فإن نظام الأراضي الأميرية يستند إلى أصل مشروع وقد تم من خلاله إنصاف المرأة التي تعمل في الحقل والبيدر، وقد اتفق الفقهاء أن ولي الأمر يملك أن يقدر العدل والحكمة في توزيع الأرض على العاملين فيها من نساء أو رجال، وله أن يخص بالمنفعة العاملين بالأرض دون سواهم ذكوراً أو إناثاً بغض النظر عن جنسهم أو دينهم أو أعمارهم.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أننا لا نعتبر هذا النقل في مسألة الأراضي الأميرية بمثابة فتوى شرعية في الأمر، بل هو مجرد تنبيه للدور الريادي الذي قام به الفقهاء لتمكين المرأة، وتبقى الفتوى في هذه المسائل من اختصاص مؤسسة الإفتاء الرسمي.

الوصية الواجبة:

لم تنص الشريعة على شيء فيما يتصل بميراث الحفيد إذا مات جده بعد وفاة أبيه، والقياس في هذه الحال أنه محجوب بأعمامه، ولا يستحق شيئاً من الإرث، وذلك عملاً بعموم النص ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر.

ولكن الفقهاء حين أمعنوا النظر في المسألة ظهر لهم أن العدالة لا تتأتى مع حجب الأحفاد نصيبهم من الجد، ومقتضى ذلك الحجب أن ينال سائر الذرية نصيبهم من ميراث الجد إلا الأيتام، وهو خلاف العدل والمنطق، وعلى الرغم من امتناع عدد من الفقهاء عن الاجتهاد في هذه المسألة واعتبارها مسألة نصية لا يصح الاجتهاد فيها، فقد مضى آخرون إلى اعتبارها اجتهاداً صحيحاً ونصوا على أن المسألة من باب المسكوت عنه، وفق ما أرشد إليه الحديث الشريف إن الله أمر بأشياء فلا تتركوها ونهى عن أشياء فلا تقربوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها.

واستند الحنفية في ذلك إلى موقفهم المشهور في التفريع على حكم الوصية حين قسموا الوصية إلى أربعة أقسام: الوجوب، الندب، الإباحة، الكراهة.
فأما الوصية الواجبة فهي ما يترتب عليها إيصال الحقوق لأربابها كالوصية برد الودائع والديون المجهولة التي لا مستند لها فإنه يفترض عليه أن يوصي بردها إلى أربابها لأنه إن لم يوص بها ومات، تضيع على أربابها فيأثم بذلك.
وأما الوصية المستحبة فهي ما كانت بحقوق الله تعالى كالوصية بالكفارات والزكاة وفدية الصيام والصلاة والوصية بحجة الإسلام وغير ذلك من القرب.
وأما الوصية المكروهة فهي ما كانت لأهل الفسوق والمعاصي كالوصية لإخوان السوء والضلال.
وأما الوصية المباحة فهي ما كانت للأغنياء من أهله وأقاربه أو من غيرهم فليست الوصية للأهل والأقربين مفروضة.
وهكذا فإن الوصية الواجبة عند الحنفية هي ما تعين عليه أن يوصي بها في حياته ولكنه قصر فلزم في التفريط بذلك الإثم، ورأى فقهاء الحنفية أن تشريع القانون لهذه الوصية يرفع عنه الحرج والإثم.
واعتمد الفقهاء في تقرير هذا الحق على فتوى الإمام ابن حزم الأندلسي المتوفى عام 456 هجرية حيث كان أول من أشار إلى هذا الاجتهاد الفقهي باسم الوصية الواجبة ودعا إلى وجوب إعطاء جزء من مال المتوفى للأقربين غير الوارثين على أنه وصية واجبة ما دام لم يوص لهم بشيء.
وقد استند الفقهاء في اجتهادهم هذا للآية الكريمة “كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المحسنين ” فهذه الآية وإن كانت منسوخة ولكنها كما قال سعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل والطبري وابن حزم تنسخ الوصية للوارثين دون سائر القرابة
كما استندوا إلى فتوى الإمام ابن حزم المذكورة، وقد اتفق الفقهاء أن الإمام إذا أمر بشيء من المباح تعين واجباً على الرعية.
وقد أخذت قوانين الأحوال الشخصية في البلدان الإسلامية باجتهاد هؤلاء الأئمة، ونص القانون السوري على الوصية الواجبة في أولاد الابن بينما مضى القانون المصري إلى أبعد من ذلك فنص على الوصية الواجبة في أولاد البنت أيضاً

وقد نصت المادة 257 من قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر عام 1953 على الوصية الواجبة في المواد التالية:
المادة 257-: 1- من توفي وله أولاد ابن وقد مات ذلك الابن قبله أو معهوجب لأحفاده هؤلاء في ثلث تركته وصية بالمقدار والشرائط الآتية:

أ ـ الوصيةالواجبة لهؤلاء الأحفاد تكون بمقدار حصتهم مما يرثه أبوهم عن أصله المتوفى على فرضموت أبيهم أثر وفاة أصله المذكور على أن لا يتجاوز ذلكثلث التركة.
ب ـ لايستحق هؤلاء الأحفاد وصية إن كانوا وارثين لأصل أبيهم جداً كان أو جدة، أو كان قدأوصى لهم أو أعطاهم في حياته بلا عوض مقدار ما يستحقون بهذه الوصية الواجبة،فإن أوصى بأقل من ذلك وجبت تكملته وإن أوصى بأكثر كان الزائد وصية اختيارية، وإنأوصى لبعضهم فقط وجبت الوصية للآخر بقدر نصيبه
ج ـ تكون الوصية لأولاد الابنولأولاد ابن الابن وإن نزل واحداً كانوا أو أكثر للذكر مثل حظ الأنثيين، يحجب فيهاكل أصل فرعه دون فرع غيره ويأخذ كل فرع نصيب أصله فقط
2- هذه الوصيةالواجبة مقدمة على الوصايا الاختيارية في الاستيفاء من ثلث التركة تزاحمالوصايا.
ومع أن المشرع في القانون السوري اجتهد في إنصاف الأحفاد من أولاد الابن لينالوا نصيباً من تركة جدهم الذي توفي بعد موت أبيهم، على الرغم من وجود الأعمام الذين تقتضي القاعدة العامة في العصوبة أن يحجبوا أبناء الأخ، ولكن المشرع ظل قاصراً أمام أبناء البنت حيث لم يشركهم في الوصية الواجبة، وهو ما نعتبره قصوراً نتمنى أن يتداركه القانون في البلاد العربية كما فعل المشرع المصري حيث نص قانون الأحوال الشخصية المصري الصادر عام على إشراك أبناء البنت في هذا الحق وقد نص قانون الوصية المصري رقم 71 لعام 1946 على الآتي:
إذا لم يوص الميت لفرع ولده الذي مات في حياته أو مات معه ولو حكماً بمثل ما كان يستحقه هذا الولد ميراثاً في تركته لو كان حياً عند موته، وجبت للفرع وصية بقدر هذا النصيب في حدود الثلث ………… وتكون هذه الوصية لأهل الطبقة الأولى من أولاد البنات ولأولاد الأبناء من أولاد الظهور وإن نزلوا.

والخلاصة أن نظام الوصية الواجبة هو نتيجة اجتهاد فقهي صحيح صدر من أهله وبشرطه وفي محله، وهو يتضمن إنصافاً حقيقياً للمرأة والرجل على السواء ويشكل تجربة فقهية ناضجة للنسج على منواله فيما يتصل بالحاجات المستجدة للمرأة.

مذاهب الفقهاء في أجرة المرضعة

نص القرآن الكريم على حق المرأة في الإرضاع إلى حولين كاملين: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف .
والإرضاع حق للمرأة وواجب عليها، وهي مأمورة بإرضاع أولادها من حلال وتجنيبهم لقمة الحرام والإثم.
وقد شاءت حكمة الله وحنانه أن يدر ضرع الأم عندما يحتاجه الرضيع، فكان ذلك من أعظم الآيات الإلهية الدالة على عظمته سبحانه، وقسمته لأرزاق العباد.
ولكن الطلاق قد يفرض حالاً من الكيد والكيد المضاد بين الزوجين، وهو أمر يتكرر في كل زمان، ويدفع في النهاية رهقه وعناءه الأولاد الذين لا ذنب لهم بغير حق، وتأسيساً على أن مصلحة الأولاد هي الراجحة في كل حكم شرعي ينشأ بسبب خصام الزوجين فإن الشارع يفرض للمرأة المطلقة أجر المثل على الإرضاع وذلك رعاية لحق الرضيع ، وللحيلولة دون جعل الرضيع ترساً يتترس به المتخاصمان.

ومع أن تعسف بعض الأمهات في الامتناع عن الإرضاع كيداً بالزوج يعتبر نادراً جداً لأنه يتناقض مع مشاعر الأمومة الصادقة، ولكن من شأن الفقه أن يفترض وقوعه ويعالج احتمال ذلك رعاية لحق الطفولة.

ولأجل ذلك فقد صرح الفقهاء بحق المرأة في أجر الرضاع بل نقل شارح الهداية بان المطلقة تستحق أجر الرضاع بعد الحولين بالإجماع.

وقد أوفت الموسوعة الفقهية الكويتية بيان خيارات الفقهاء في حق المرضعة في الأجر:
“حق الأم في الرضاع :
إن رغبت الأم في إرضاع ولدها أجيبت وجوباً، سواء أكانت مطلقةً ، أم في عصمة الأب على قول جمهور الفقهاء ، لقوله تعالى : {لا تضآر والدةٌ بولدها } .
والمنع من إرضاع ولدها مضارة لها ، ولأنها أحنى على الولد وأشفق ، ولبنها أمرأ وأنسب له غالباً .
….
حق الأم في أجرة الرضاع :
للأم طلب أجرة المثل بالإرضاع سواء كانت في عصمة الأب أم خليةً ، لقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة.
وقال الحنفية : إن كانت في عصمة الأب أو في عدته فليس لها طلب الأجرة، لأن الله تعالى أوجب عليها الرضاع ديانةً مقيداً بإيجاب رزقها على الأب بقوله تعالى : {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ………..
وقال المالكية: إن كانت الأم ممن يرضع مثلها وكانت في عصمة الأب فليس لها طلب الأجرة بالإرضاع ، لأن الشرع أوجبه عليها فلا تستحق بواجب أجرةً . أما الشريفة التي لا يرضع مثلها ، والمطلقة من الأب ، فلها طلب الأجرة ، وإن تعينت للرضاع أو وجد الأب من ترضع له مجاناً “

والخلاصة فإن الفقهاء منحوا المرأة حق طلب الأجر على الرضاع بعد الطلاق، احتراماً لها وتقديراً لمشاعرها، وذلك للحيلولة دون استغلال الزوج لها، ولم يمنحوها هذا الحق حال الزواج لأن الزوج ملزم بالإنفاق عليها.
على أن شأن المرأة في الأحوال العادية أن تقبل على إرضاع ولدها حباً وكرامة، والحديث عن أجر للمرضع ليس إلا اجتهاداً فقهياً كريماً لحماية الأولاد أن يتخذوا أداة للكيد وتصفية الخصومات، على الرغم من أنه أمر نادر الحدوث.

حق السكنى:

لا خلاف في حق المرأة في مسكن شرعي، تتوفر فيه الظروف المناسبة لحياة كريمة، ولكن هذا الذي تشتد الحاجة إليه، لا بد أن يكون بحيث تتمكن المرأة من توفير حياة كريمة لها ولأطفالها.
وتشتد معاناة المرأة في السكنى في حالتين اثنتين :
الأولى: السكنى مع الأقارب من الأحماء أو مع الزوجة الثانية وما قد تواجهه المرأة من عناء ومشقة
الثانية: السكنى حال الطلاق
ففي الحالة الأولى فإن الرجل يكتفي بالنصوص التشريعية التي ألزمته بتوفير غرفة ومنافع مستقلة، ولا ينص على وجوب انفصال الزوجة عن الأقارب بوجه واضح الأمر الذي يترتب عليه أن تكون المرأة في هذه الحال مقيمة بين أقارب الزوج وبالتالي فلا يخفى ما تواجهه من عناء، خاصة حين تكون العلاقات الأسرية ليست على ما يرام وتدفع المرأة الثمن الأصعب في مواجهة هذه المعاناة.

وتشتد المعاناة أيضاً عندما يفرض الزوج على امرأته الإقامة مع ضرتها، أو ما يشبه الإقامة مع الضرة، بحيث لا يتم الفصل بين الأسرتين فصلاً تاماً، وما يعنيه ذلك من عناء وعذاب، ولا يبدو أن التشريع قد حسم في هذه المسألة حسماً واضحاً.

أما في الحالة الثانية فإنه يجب النظر في واقع المرأة بعد انتهاء عدتها، حيث أشار القانون إلى حقها في السكنى خلال عدتها، ولكن لم يقدم النص القانوني ما يحقق لها العدالة في السكنى بعد أن تنتهي عدتها، وهكذا فإنها تجد نفسها بعد العدة خارج البيت الزوجي، وبالتالي فإن حضانتها لأطفالها ستكون قاسية ومريرة وفي أحسن الأحوال فإن القاضي يمكن أن يكلف الزوج بتوفير أجرة سكن للأطفال خلال فترة الحضانة وبعد ذلك ستجد المرأة نفسها بدون مأوى.

وعادة ما يلجأ الزوج بعد الطلاق إلى المكارهة حيث يكون البيت المستأجر صغيراً وضيقاً وسيئاً بحيث يسأمه الأطفال ويطلبون بالتالي العودة إلى دار الأب وسيكون ذلك على حساب الأم التي تفقد رويداً رويداً حقها في الحضانة بسبب المصاعب الاقتصادية التي لا تتمكن من توفيرها للأولاد.

وقد اكتفى القانون بمنح المرأة الحاضن أجرة الدار التي تحضن فيها الأطفال، ونفقتهم إلى أن يبلغوا راشدين وتعود إليه حضانة الأولاد.

وقد حررت الموسوعة الفقهية حق السكنى للحاضنة وفق متابعة فقهية ورد فيها:

“اختلف فقهاء الحنفية في وجوب أجر المسكن للحاضنة إذا لم تكن في مسكن الأب ، فقال بعضهم: على الأب سكنى الحاضنة وهو المختار عند نجم الأئمة ، وبمثله قال أبو حفص فقد سئل عمن لها إمساك الولد وليس لها مسكن مع الولد فقال: على الأب سكناهما جميعا ، واستظهر الخير الرملي اللزوم على من تلزمه نفقته .
قال ابن عابدين – بعد نقله لهذه الأقوال -: والحاصل أن الأوجه لزوم أجرة المسكن على من لزمه نفقة المحضون، فإن السكن من النفقة ، لكن هذا إذا لم يكن لها مسكن، أما لو كان لها مسكن يمكنها أن تحضن فيه الولد ويسكن تبعاً لها فلا تجب الأجرة لعدم احتياجه إليه .
قال ابن عابدين: فينبغي أن يكون هذا توفيقا بين القولين ، ولا يخفى أن هذا هو الأرفق للجانبين فليكن عليه العمل .
وعند المالكية: ما يخص المحضون من أجرة المسكن فهو على الأب باتفاق وإنما الخلاف فيما يخص الحاضنة من أجرة المسكن .
ومذهب المدونة الذي عليه الفتوى أن أجرة المسكن على الأب للمحضون والحاضنة معا ……..
وقيل: للحاضنة السكنى بالاجتهاد ، أي على قدر ما يجتهد الحاكم .
وأما الشافعية والحنابلة فقد اعتبروا السكنى من النفقة، فمن تجب عليه نفقة الحاضنة يجب عليه إسكانها”

واضح إذن أن عدداً من فقهاء الحنفية والمالكية يرون وجوب إسكان الحاضنة والمحضون على الزوج المطلق، ووقع اختلافهم فقط فيما إذا كان للحاضنة دار، أما من لم يكن لها دار فإسكانها مع أولادها واجب على الزوج.
وكذلك فإن المالكية أشاروا كما ورد إلى مسؤولية الحاكم في تحديد قيمة سكنى الحاضنة على الزوج المطلق وإلزامه بذلك.
ولا شك أن هذا الإلزام هو الأقرب لروح الشريعة، والمستفاد من عموم قوله تعالى: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف.

وفي هذا المقام فإننا نؤيد الجهود التشريعية المبذولة لتقرير حق الحاضن في السكن الكريم بإلزام الزوج ما يمكن إلزامه، والتزام الدولة بتأمين هذا الحق الشرعي بالوسائل المناسبة.

هل للمطلقة غير الحاضنة حق السكنى؟
وفق قواعد الفقه الإسلامي فإن تغير الظروف والأحوال وموقف الشريعة في توخي العدالة يدعونا إلى مراجعة حقيقية لحقوق المطلقات، وأن لا نقف عند حدود حق الحاضنة، خاصة تلك المطلقة التي تفارق بيتالزوجية بعد عهد طويل من العشرة، وحين تفارق بيت الزوجية لن تجد بيت الأهل الذي تمبيعه واقتسام تركته منذ سنوات طويلة، وهكذا ستصبح المرأة عبئاً على كواهل أقاربهاالذين يرون فيها عبئاً وعناء، وهي تعاني مرارة الهوان تتجرعه ولا تكاد تسيغه، ولا تجد في القانونأكثر من حقها في المهر المؤخر الذي يكون قد فقد غالباً قوته الشرائية، هذا إن قدرتعلى تحصيله!.‏‏
إن الرضا بهذااللون من العناء تكابده المرأة هو إهمال لمقاصد الشريعة الغراء من إنصاف الناس، وتفريط بقوله تعالى : ولا تبخسوا الناس أشياءهم, وقوله: وإذا حكمتم بين الناس أنتحكموا بالعدل، بل إن القرآن الكريم وفي إشارة ذات دلالة قال: لا تخرجوهن من بيوتهنولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.

وتجدر الإشارة هنا أن كثيراً من النساء الآن عاملات ولديهن عوائد مالية، والمرأة عادة لا تبخل ببذل رواتبها ومصاغها وما تجنيه من أجل أطفالها وزوجها في أيام الصفاء، ولم تجر العادة أن نفقات كهذه تكتب فيها الإيصالات أو يستشهد عليها الشهود أو توثق في دوائر الدولة، ولكن الأمر يتغير تماماً عندما تنهار الحياة الزوجية ويتمسك كل فريق بحقوقه، فتكون حقوق الرجل عادة مدونة في صفحة العقار فيما يكون ما أنفقته الزوجة مجرد هبات متوزعة لا يقوم منها شيء.

لا خلاف بالطبع في حق المرأة في استرداد ما قدمته لزوجها إذا كانت قد وثقته بالأصول المدنية، من كتابة وشهود وغيرها من وسائل الاستيثاق، ولكن من المؤكد أن ما تدونه النساء بالوثائق ديناً على أزواجهن لا يعدل عشر ما تبذله النساء راغبات راضيات، وهو بالضبط ما نبحث هنا عن وسيلة لتقويمه وحفظه وحمايته.

إن المطلوب هوإنصاف المرأة في تحصيل حقها حين يتغير لها وجه الزمان، وأن نساعدها في تحصيل ماأنفقته في بناء حياتها الزوجية مما لم يدون لها في سجل أو كتاب، وإذا كان هذا الأمريبدو واضحاً في حالة المرأة العاملة خارج الدار التي أنفقت ما جنته في حياتها فيالدار، ثم كان نصيبها جزاء سنمار، فإن الأمر أيضاً ينبغي لحظه في المرأة العاملةداخل الدار، فهذا أيضاً عمل إنتاجي لا يجوز إنكاره، ولو أن الرجل استأجر لخدمةالدار وتربية الأولاد الحاضنات لأنفق الكثير.

ولا بد من الإشارة هنا أن كثيراً من الرهق الذي تكابده المرأة في التربية ليس من التزامات المرأة بل تؤديه تطوعاً وحباً وكرامة لأولادها، ولو شاءت لطلبت عليه أجراً، فهذه تكاليف لا تفرض على المرأةتلقائياً في الفقه الإسلامي، والمسألة الفقهية مشهورة جداً في حق المرأة أن تأخذالأجر على الإرضاع إن طلبت ذلك!! وكذلك حقها إن طلبت الأجر على خدمة الدار والأولادوهي مهمات تقوم بها المرأة بحماس وفرح مقابل أن تسعد بحياة مستقرة آمنة، ولا شك أنمن أبلغ الظلم أن تقوم بذلك مسرورة مغتبطة، يشكرها الزوج بعظم لسانه وقت العسل، ثمإذا تغيرت الأحوالتواجه بعد ذلك بالإنكار والظلم والجحود.‏‏

إن الفقهالإسلامي يؤسس لقاعدة الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة، وحين تقوم المرأة بالإنفاقفي الدار بمعرفة الزوج ورضاه فهي بمثابة الإجازة اللاحقة التي يجب شرعاً فيهاالتعويض عند الاختلاف.‏‏
إنها هنا مجردأفكار، ولكننا ندفع بها في ضمير المؤسسة التشريعية، لتحقيق العدالة المأمولة شرعاً وقانوناً، ولا أشك أن إنصاف المرأةالمظلومة في تأمين سكن مستقر لها بعد الطلاق سيكون أمراً ترضى له عين الرحمن.‏‏

حول مسائل العدة:

فرضت الشريعة على المرأة أن تعتد لفراق الزوج مدة تقارب ثلاثة أشهر بعد الطلاق، وتبلغ أربعة أشهر وعشرة أيام بعد وفاة الزوج، ونص القرآن الكريم على أن أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن، فتنتهي العدة بوضع الحامل لمولودها، على خلاف بين الفقهاء في انتهاء العدة بوضع الحمل أو بأبعد الأجلين: وضع المولود أو انتهاء عدة الوفاة أو عدة الطلاق المحددة.
ولا شك أن هدف الشريعة من تشريع العدة هو حماية المرأة من الزواج المتسرع بدافع القلق والخوف من المستقبل بعد رحيل الزوج، وحمايتها كذلك من الزواج الكيدي والانتقامي الذي قد تلجأ إليه بعد الطلاق، وكذلك فإن من أهداف العدة التأكد من براءة الرحم وحماية الأنساب من الاختلاط.

ولكن تطبيق العدة تعرض لعدد من الإضافات القاسية التي خرجت بها عن دورها الواقعي في حماية المرأة وحولته بالتالي إلى لون من العسف ضد المرأة، وكان الشائع زمناً طويلاً أن المرأة في العدة مأمورة أن تعكف في دارها وكان أمر خروجها من الدار يعتبر استهتاراً بالشريعة، واشتدت التقاليد في التضييق على المرأة حتى حالت بينها وبين كثير من الواجبات والالتزامات اليومية، ومنعت المرأة من لقاء الناس ومن العمل والالتزام الوظيفي وصار الأمر يتعلق بوجوب التزامها في الدار وعدم خروجها منه، ومضى بعض المتشددين إلى منع المرأة من النظر في المرآة ومنعها من النظر في السماء والرد على الهاتف، وهكذا فقد مضى التشدد إلى حد لا يستقيم مع روح الشريعة التي أمرت بالرحمة والمساواة والعدالة، وأضافت على عناء المطلقة أو الأرملة مزيداً من العناء، وصارت العدة عبئاً جديداً يرهق كاهل المرأة ويزيد عليها من قسوة الأقدار.

ولكن عدداً من الأئمة الفقهاء واجهوا هذا اللون من التشدد، ونادوا بحق المرأة في السكنى بدار الزوجية إن هي رغبت بذلك، وليس للزوج المطلق أن يخرجها من الدار إن رغبت بالإقامة فيه، وليس لورثة المتوفى أن يجبروها على الخروج من دار زوجها إن رغبت بالإقامة فيه سنة كاملة، وتقرر بذلك أن من حق المرأة السكنى عاماً كاملاً بعد وفاة الزوج بغض النظر عن حقها في الميراث، وأكد الفقهاء أن هذا المطلب هو حق للمرأة وليس فرضاً عليها.
وقد اعتمد الفقهاء الكرام في هذا الأمر على النص القرآني الكريم:
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج، فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف والله عليم حكيم

ومقتضى الآية كما قال الإمام مجاهد شيخ المفسرين:
كانت هذه للمعتدة، تعتد عند أهل زوجها، واجبا ذلك عليها، فأنزل الله:”والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليهن فيما فعلن في أنفسهن من معروف. قال: جعل الله لهن تمام السنة، سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية: إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى ذكره:”غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم”،

وعن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية عدتها عند أهله، تعتد حيث شاءت، وهو قول الله:”غير إخراج”. قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، لقول الله تعالى ذكره:”فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن”

ومنح المرأة هذه الحرية في الاختيار هو ما ارتضاه إمام المفسرين الطبري فقال: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره كان جعل لأزواج من مات من الرجال بعد موتهم، سكنى حول في منزله، ونفقتها في مال زوجها الميت إلى انقضاء السنة، ووجب على ورثة الميت أن لا يخرجوهن قبل تمام الحول من المسكن الذي يسكنه، وإن هن تركن حقهن من ذلك وخرجن، لم تكن ورثة الميت من خروجهن في حرج.

وهكذا فإن الفقهاء الكرام أوضحوا أن إقامة المرأة في العدة في بيت الزوجية سواء كان بعد طلاق أو بعد وفاة هو حق للمرأة تملك الاستفادة منه كما تملك التخلي عنه.
وفي صحيح مسلم أن جابر بن عبد الله قال طلقت خالتي فأرادت أن تجذ نخلها: فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فأمرها وقال: بلى جذي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا.

ولكن آراء أئمة المفسرين التي أوردناها عن ابن عباس وعطاء ومجاهد والطبري لم تنل حقها من الاحترام في الواقع الاجتماعي للمرأة وتم إجبارها بقسوة على لزوم البيت الذي مات فيه الزوج، وأضيف على المرأة عناء فوق عناء ووجدت نفسها تواجه مزيداً من العزلة والقسوة بوجوب لزوم دار المتوفى، واعتمد المتشددون في ذلك على ظاهر حديث: امكثي في بيتك الذي جاءك فيه نعي زوجك، ولكن هذا الحديث الذي تم تقييد النص القرآني به وإخراجه عن سياقه ليس حديثاً صحيحاً لا في المتن ولا في السند، قال القشيري في الإلمام:
وأما حديث أبي خالد الأحمر عن سعد: امكثي في بيتك الذي جاء فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، فهو حديث ضعيف انفرد به ابن ماجه

وفي سورة الطلاق أكدت الآية الكريمة هذا الحق للمرأة ومنعت من إخراجهن من بيوتهن:
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة

وفي الآية تنبيه دقيق إلى أن البيت حق للمرأة وقد جاءت إشارة النص واضحة إلى ذلك حيث نسب البيت إليها فقال: بيوتهن.
وحكم الآية واضح أيضاً في حق المطلقة في الإقامة في بيت الزوجية خلال فترة العدة، وأن الزوج لا يحل له إخراجها من الدار إلا في حالة واحدة وهي الفاحشة المبينة، فبدأ بقوله لا تخرجوهن ونفى في ذلك حق الرجل في إخراجها من بيت الزوجية ثم قرر أن لا حق لأحد في إخراجها من بيت الزوجية، واشترط حالة واحدة فقط وهي أن يأتين بالفاحشة المبينة.

ولكن موضوع العدة الرئيس هو منع المرأة من التزوج خلال العدة، وهو أمر ضروري لحماية المرأة من الوقوع في الزواج الكيدي أو الزواج المتسرع المتهور.
كما أن انتظار المرأة فترة العدة، يمنحها فرصة الاختيار بين عدد من الخاطبين، حيث يتاح للخاطبين أن يتقدموا بالتعريض للمرأة الخلية: مطلقة أو أرملة، في حين أنه لا يسمح بالتصريح بالخطوبة، وفق ما أشارت إليه الآية الكريمة:
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم .

فسمح بالتلميح دون التصريح للمرأة الخلية خلال فترة عدتها، ولم يأذن لها بالطبع أن تعطي موافقتها على أي منهم قبل اكتمال العدة، وهكذا فسيكون أمامها خيارات مريحة عند انتهاء عدتها تتخير منها أفضلها وأقربها لواقع الحال.

وهكذا فإن العدة ليست في الواقع إلا الامتناع عن الزواج خلال فترة العدة، ذلك أن المرأة حين تصاب بصدمة وفاة زوجها فإنه يصدمها القلق الشديد على فراقه وتتوقع الأسوأ فيما يأتي من الأيام وهذه المخاوف قد تدفعها إلى الموافقة على أول عرض للزواج وهو ما قد يكون في عكس مصالحها.

وأما لزوم الدار خلال فترة العدة فهو رأي فقهي كريم، يهدف إلى حماية المرأة خلال العدة من تقلبات عاطفية غير محسوبة، كما يهدف إلى حماية الأسرة من القرارات المتسرعة ومنح الفرصة للتروي والتبصر والدراسة في اتخاذ أي قرار مصيري جديد.

والخلاصة فإن العدة هي نظام حكيم أراد به الإسلام حماية الرجلوالمرأة من التهور والتسرع في فترة الأزمة، لتتجاوز هذه المحنة وتستأنف حياتها من جديد.

في المهور

شرع الله تعالى المهر حقاً للزوجة بنص القرآن الكريم، وأمر الرجال بأن يؤتوهن أجورهن فريضة، قال تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً.
والمهر في الحقيقة ليس أجراً للمرأة، وما ورد من النصوص بهذا الشأن فهو محمول على استخدام العرب لكلمة المهر بهذا المعنى، ولكن روح الشريعة تتأبى أن يكون ما تأخذه المرأة عند عقد الزواج مجرد أجر تأخذه لقاء الحياة الفطرية الطبيعية التي أذن بها الله تعالى، وجعلها من سننه الباقية.
وهكذا فإن المهر ليس على الإطلاق تسليعاً للمرأة أو تسعيراً لها، بل هو موقف واقعي يهدف إلى حماية المرأة بالوسائل المادية الممكنة وعدم الاكتفاء بالتعابير العاطفية البراقة التي تفرش المستقبل أمام العروسين بالأزاهير ولكنها تتبدد تماماً وتنقشع عند أول خلاف، لتبقى المرأة حينذاك أسيرة الذكريات الدافئة التي لا تنفعها في شيء عند مواجهة ظروف الحياة القاسية من طلاق أو وفاة.

وقد مضى كثير من الناس في التغالي في المهور مما صار يشكل رهقاً حقيقياً على الشباب الخاطبين، فيما مضى آخرون إلى إسقاط المهور بالكلية والاكتفاء بأمر معنوي كقراءة الفاتحة أو عشر ليرات فضة أو غير ذلك.
والحقيقة أن كلا الفريقين وقع في الإفراط أو التفريط، فقد كان رسول الله صلى الله عليه يطلب المهر المكافئ لمهر المثل من أصهاره، ولم يؤثر عنه أنه زوج بنتاً من بناته بدون مهر، ولم يتزوج كذلك امرأة دون مهر.

أما ما ورد عن تزويجه بعض النساء بمهور قليلة أو معنوية، فهو محمول على حالات خاصة كما في قصة الواهبة نفسها التي زوجها الرسول الكريم رجلاً من الصحابة بما معه من القرآن، ولكنها حكاية حال، فلا تصلح معياراً للحكم على سواها، ومن تأمل في خبر المرأة والرجل رأى أنهما كانا فاقدين لفرصة الزواج، وأنها عانت طويلاً من العنس كما عانى هو من العزوبة الأمر الذي يجعلها بحاجة إلى ظل رجل، يدفع عنها غائلة الوحشة والفقر، ويجعله هو قابلاً بأي فرصة تتاح له على ما هو عليه من الفقر والعوز، ومع ذلك فقد أمره النبي الكريم أن يسعى في تأمين مهر ولكنه عجز عن تأمين شيء حتى لم يجد خاتماً من حديد.

وقد شرح عمر بن الخطاب رضي الله عنه منهج النبوة في مسألة الاعتدال في المهور فقال: « لا تغالوا بصدقة النساء، فلو كان ذلك مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله، ما أصدق أحدا من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية”

والمهر في الحقيقة لون من التشارك بين المرأة والرجل في بيان حياتهما الزوجية، وقدره الفقهاء بمصروف سنة تستحقه المرأة عند الزواج، ويشكل ضمانة معقولة للمرأة في تأسيس ذمة مالية خاصة بها تضمن لها القدرة على مواجهة أخطار الدهر لمدة عام على الأقل.
والمهر في الأصح رزق عام تذخره الفتــــــــــــــاة للأيام
من لم يوفق في ادخاره سنة يعيش كل عمره في المسكنة
وقد اجتهد الفقهاء في تقسيمه إلى معجل ومؤجل، تيسيراً للشباب على الزواج، ومنح مهر المرأة صفة الدين الممتاز، و نص الفقهاء أنه أول ما يسدد من الحقوق المتعلقة بالتركة بعد التجهيز والدفن، وبذلك فإن له أولوية على سائر الديون، وهنا فإن المرأة لا تقاسم الغرماء في ما وجدوه إذا قلت التركة عن سدادهم جميعاً وإنما تنال حقها كاملاً كما نص عليه عقد الزواج.

واليوم تعاني كثير من النساء من انخفاض القيمة الشرائية للعملات السائدة، وكم من امرأة عقدت في الستينات أو السبعينات ووفاء مؤجلها اليوم لا يكفي لوجبة طعام وقد كان آنذاك يفي بنفقة عام.
ومن هنا فإن من الواجب النظر في إعادة تقييم المهور المتأخرة بما يحقق العدالة للفريقين ويرفع عن المرأة الظلم اللاحق بها إزاء تغيير قيم العملات.

وقد سبق إلى الإفتاء بهذا المعنى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409هجرية الموافق 19 شباط 1989 وقد نشرت الفتاوى بعنوان فتاوى اقتصادية ونصها :
يتم تحديد المهر بالذهب والفضة دون الأوراق النقدية حتى يمكن الاحتفاظ بحقوق النساء ولا يقعن عرضة للضرر بحكم الحط الواقع في القوة الشرائية للأوراق النقدية.

وقد اتفق الفقهاء إن إسقاط المهر لا يصح من الولي بمفرده، ويقع باطلاً إذا كانت الفتاة قاصراً، ويحق لها مهر المثل، أما إن كانت الفتاة بالغة راشدة فلا يحل عقدها ولا مهرها إلا بإذنها الصريح، ومكان الولي في التصرف عهنا هو مقام الوكيل الشرعي بالشروط المعتبرة.

ولا شك أن قوانين الأحوال الشخصية مدعوة هنا لإنصاف المرأة في مهرها المؤجل بحيث تكون قيمته عند الاستلام مكافئة لقيمته عند التعاقد، وهو ما يدل له عموم قوله تعالى: وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان.

وبعد..
فهذه قطاف من اجتهادات الفقهاء في إنصاف المرأة، جمعناها على غير مثال، وهي تهدف إلى حقيقة واحدة، تقديم أمثلة لأهل التشريع والفقه عن جرأة فقهائنا الكرام ومبادرتهم لإنصاف المرأة ولو كانت المسألة لم ترد في نصوص الكتاب والسنة.

إن ساحة الاجتهاد مفتوحة، وقضايا المرأة تتطلب في كل يوم جديداً في شؤون المرأة، وتحتاج إلى وعي حقيقي بقضاياها، واقتراح تشريعات تنصفها وتساعد على تمكينها، وفق ثوابت الشريعة، وهو ما يمكن أن نجده لدى البحث في منجم الفقه الإسلامي الغزير.

الباب الثالث:

موقف الشريعة من المطالب الوطنية للمرأة

نتناول في هذا الباب موقف الشريعة من المطالب الوطنية للمرأة، والمقصود بذلك تحقيق التكامل بين سعي المنظمات الأهلية والمجتمعية العاملة في حقل تمكين المرأة وبين موقف الفقه الإسلامي.

وليس الغرض من ذلك بالطبع صناعة وفاق غير موجود أو تكلف التطابق بين المنهجين، بل المطلوب التأكيد على المشترك بين هذه الجهود، وسيرى القارئ الكريم حجم التوافق بين الفقه وبين جهود تمكين المرأة كما سيرى في الوقت نفسه عدداً من المسائل لا بد من التحفظ فيها فقهياً على عدد من مطالب بعض الهيئات العاملة في حقل تمكين المرأة.

وبحسب هذه الدراسة أن تشير إلى المشترك الكبير بين الفقه الإسلامي ومطالب تمكين المرأة وأن تؤكد بالتالي على خصوصية المرأة في الفقه الإسلامي، وما نستطيع تأكيده بثقة هو أن الفقه الإسلامي سيؤيد بكل ثقة كل جهد يهدف إلى تمكين المرأة، وسيعزز دور المرأة أماً وأختاً وزوجة وعاملة ومكافحة، ولن يتحفظ إلا على مسائل قليلة لصالح المرأة نفسها، ولصالح استقرار المجتمع واستقرار الأسرة.

حقوق المطلقة

تطالب المرأة اليوم بإعادة النظر في حقوق المطلقات، ومنح المرأة المطلقة تعويضاً يكافئ ما قدمته خلال حياتها الطويلة مع زوجها في بناء البيت وبناء الأسرة، وإيجاد صيغة من التكامل بين مطالب المرأة بين ما قررته الشريعة من حقوق للمطلقات.
ولا بد من القول أولاً إن الإسلام لا ينظر إلى المطلقة بشكل سلبي، وأن الطلاق على مرارته وقسوته قد تفرضه ظروف اجتماعية لا يد للمرأة فيها، وقد يكون الطلاق تضحية تقدمها المرأة لحماية الأسرة، وبحسبنا أن نشير أن النبي الكريم ضم إليه أكثر من امرأة مطلقة ومنحن شرف تسمية أم المؤمنين، ولم يقبل أبداً النظرة الجاهلية السلبية للمرأة المطلقة.
إن الشريعة تبغض الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله، ولكن ذلك لا ينبغي أن يتحول إلى وزر على النساء يلاحقهن فيما يواجهنه في الدنيا من عناء ورهق، ويجب منح المرأة المطلقة أولاً الحقوق الشرعية التي أمر بها الله من المهر والمتعة والحضانة والسكنى، ويجب الانتباه إلى ضرورة التعويض على النساء فيما قد يكن أنفقنه في الحياة الزوجية مما لم يوثق في حساب أو كتاب، وليس هذا الأمر اجتهاداً جديداً في شأن النساء بل هو إعمال طبيعي للقواعد العامة في الشريعة في الوفاء بالعقود، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل.

الأسرة أساس المجتمع، منها تتكون الأمة، وعليها تقيم عمادها، وتوطد أركانها، وبصلاح الأسرة تصلحالأمة وترقى إلى المجد، وفي فسادها فساد المجتمع.
وقوام الأسرة رجل وامرأة، وقد جعل الإسلام العلاقة الزوجية أكرم العلاقات الإنسانية وأسماها، وكان التوجيه الإسلامي للزوج أكثر من التوجيه على الزوجة لتستقيم علاقة المودة والمحبة فيما بين الزوجين على أسس شرعية ترضي الله تبارك وتعالى، والزوج مأمور بأن يكون كريم العشرة مع زوجته ويجتنب إهانتها وإيذاءها، إذا بدا منها بعض هفواتها، يقول رسول الله : “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلًقاً، وخياركم خيارهم لنسائهم”( )، وإن آخر ما وصى به رسول الله ، الوصية بالنساء، قال : “استوصوا بالنساء خيراً” ( ).
ولكن، قد تعرض للزّوجين أمورٌ تجعل العلاقة الزّوجية أشبه بجحيمٍ يعيش فيه الزّوجان، وتصبح الزّوجية مصدراً للشقاء والخصام، بدلاً من أن تكون سبباً للائتلاف والوئام وتبادل المودّة والرحمة، وتصبح نقمةً بعد أن كانت نعمةً وسعادة، وتتعثّر مساعي الإصلاح بين الزّوجين، ويصبح الاستمرار بها ضرباً من المستحيلات، فيكون اللجوء حينئذٍ لآخر الدواء وهو الطّلاق، ومن هذه الأمور:
1. وجود عيوب جسمية ظاهرة بأحد الزَّوجين تُنفِّر الآخر منه.
2. الهجر المستمر والإيلاء فوق أربعة أشهر.
3. تضرُّر الزَّوجة من بُعدِ زوجها عنها لغيابه أو حبسه.
4. تضرُّر الزَّوجة من فقر زوجها وعدم استطاعته الإنفاق عليها.
5. تأذي أحد الطرفين من سوء أخلاق الطرف الآخر وفحشه.
فإذا وقعت هذه الأمور أو أحدها كان ذلك مبرّراً لإيقاع الطّلاق.

والأصل أن للزوج حق الطلاق، وللزوجة حق الخلع، وهكذا فمن حق كل طرف أن يشرع في إنهاء العلاقة الزوجية إذا كان يرى أن استدامتها أمر متعذر.

والخلع في الأصل كما دلت له نصوص السنة الشريفة شروع في التطليق من قبل المرأة لأسباب وجيهة، ولا يتوقف على رضا الرجل وموافقته بل يكون بحط المهر عنه، وعند ذلك يتم الانفصال بدون حاجة لموافقة الرجل.

وتجدر الإشارة هنا إلى بعض قوانين الأحوال الشخصية العربية وعبى سبيل المثال فإن القانون السوري لعام 1953 جاء غامضاً لجهة حق المرأة في إيقاع الخلع بدون رضا الزوج، مما فتح الباب للاجتهاد القضائي، تأسيساً على المادتين 95 و96 وهي كالتالي:

المادة 95 – 1- يشترط لصحة المخالعة أنيكون الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق والمرآة محلاً له
2- المرآة التي لم تبلغ سنالرشد إذا خولعت لا تلتزم ببدل الخلع إلا بموافقة ولي المال

المادة 96 – لكل منالطرفين العدول عن إيجابه في المخالعة قبل قبول الآخر

والحسم في هذه المسألة ضروري، درءاً لتشابك الحقوق، والذي نراه أن الخلع حق للمرأة، ولا يتوقف على موافقة الرجل، وهو ما ندركه من نصوص السنة المشرفة التي منحت المرأة هذا الحق، وهو ما يمكن فهمه من خبر جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول كما أورده الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم. وأخرجه ابن ماجة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولاخلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. فيقال: إنها كانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام.

ومن خلال متابعة الرواية فإن الأرجح أن النبي أمر بإجراء المخالعة بناء على رغبة الزوجة، بعد تقديم مبررات مقنعة، ولم ينتظر موافقة الزوج، ومن الواضح أن الأسباب التي دعت إلى هذه المخالعة كما تفيد الأحاديث أسباب تتعلق برغبة المرأة حصراً، وهي أشياء خلْقية وعيوب شكلية ولكنها كانت كافية لإيقاع الخلع.

وهنا يكون الفارق بين الطلاق والخلع أن الطلاق يستوجب أداء كافة الحقوق للمرأة بينما الخلع يستوجب إعادة المهر للرجل، وهكذا فإن واقعتي الطلاق والخلع تأتيان تأسيساً على قاعدة الغرم بالغنم، فمن أردا أن ينهي الحياة الزوجية فعليه تحمل تبعات ذلك.

وهكذا فإن الطلاق والخلع طريقتان لإنهاء الحياة الزوجية لا يصح أن يلجأ إليهما إلا عندما يتعذّر الوفاق بين الزّوجين، وقد كرهت الشريعة الطلاق فلا ينبغي اللجوء إليه إلا عندما يتعذر الوفاق تعذراً شديداً وتصبح العلاقة الزوجية رهقاً وعذاباً.

ومن الأدلة على ذلك:
1. ما يروى من وصف الرسول الكريم للطلاق بأنه بغيض في قوله: “أبغض الحلال إلى الله الطلاق”( ).
2. النّهي عن اللجوء للطلاق عند نشوء الخلاف، والبحث عن صفات أخرى للزوجة تزيل ما سبق من كراهية، عن أبي هريرة  أنّ رسول الله قال: “لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر”( ).
3. سيرة الرسول الكريم في هذا الأمر في نفسه وفي أصحابه، حيث لم يبادر إلى طلاق زوجاته بمجرّد حصول الخلاف والشقاق، وإنما حاول القضاء على أسباب هذا الخلاف، ثمّ عرض عليهن الطلاق بتخييرهن بين الطلاق والبقاء معه في شظف العيشلترغيبهنّ في الرجوع عمّا كنّ عليه، قال تعالى: يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدّنيا وزينتها فتعالين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحًا جميلا * وإن كنتنّ تردن اللّه ورسوله والدّار الآخرة فإنّ اللّه أعدّ للمحسنات منكنّ أجرًا عظيمًا[الأحزاب: 28 ـ 29].
4. طلبه من زيد بن حارثة التريث في طلاق امرأته والرجوع إليها، ويقول له: أمسك عليك زوجك واتّق اللّه[الأحزاب: 37]( ).
5. ما يترتب على الطلاق من آثارٍ نفسية واجتماعية واقتصادية.

وبهذا يتبيّن أنّ حكم الطلاق بالأصل المنع، ولا يباح إلا لحاجة، ولا شك أن هذه النصوص تؤسس لرفض التعسف في إيقاع الطلاق، ووجوب اعتبار الطلاق مسؤولية والتزاماً وليس هوى وانتقاماً.

وقد جاءت الشريعة عوناً للمرأة المطلقة وقررت سلسلة من الأحكام الشرعية لحمايتها بعد الطلاق، ومن هذه الحقوق متعة الطلاق.
والمتعة هي: ما يجب على الزوج دفعه لامرأته المفارقة بطلاق وما في معناه بشروط( )، وبتعريف آخر، هي: ما يعطيه الزوج لمن طلقها زيادة على الصداق ( ).
والمتعة للمطلقة مشروعة في الكتاب والسسنة وفعل الصحابة الكرام والسلف الصالح.، ومن نصوص القرآن الكريم في المتعة:
1_ قوله تعالى: {لاّ جناح عليكم إن طلّقتم النّساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضةً ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًّا على المحسنين} [البقرة: ٢٣٦].
2_ قوله تعالى: {وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف حقًّا على المتّقين} [البقرة: ٢٤١].
3_ قوله تعالى: {يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدّنيا وزينتها فتعالين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحًا جميلًا} [الأحزاب: ٢٨].
4_ قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّةٍ تعتدّونها فمتّعوهنّ وسرّحوهنّ سراحًا جميلًا} [الأحزاب: ٤٩ ] .

وللفقهاء آراء ثلاثة في حكم المتعة.
القول الأول: المتعة للمطلقة مستحبة وليست واجبة وبه قال الإمام مالك والليث وابن أبي ليلى وفقهاء المدينة السبعة.
القول الثاني: إن متعة المطلقة فرض على المتقين والمحسنين دون غيرهم ونسبه ابن حزم إلى شريح وسعيد بن جبير وعكرمة.
ودليلهم ظاهر القرآن، وعن محمد بن سيرين قال: شهدت شريحاً وأتوه في متاع (أي تحاكموا إليه في أمر رجل يأبى أن يعطي المتعة لمطلقته) فقال: لا تأب أن تكون من المتقين قال: إني محتاج، قال لا تأب أن تكون من المحسنين، قال أيوب: قلت لسعيد بن جبير: لكل مطلقة متاع قال: نعم إن كان من المتقين كان من المحسنين. قال أيوب: وسأل عكرمة رجل فقال: إني طلقت امرأتي فهل عليّ متعة قال: إن كنت من المتقين( ).
القول الثالث: إن المتعة واجبة وبه قال فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة( ) سواء أكان قبل الدخول أو بعد الدخول، وذلك لقوله تعالى: ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.
وهذا القول هو الأرجح دليلاً.
وقد نص قانون الأحوال الشخصية في سوريا في المواد 61 و 62 على أحكام المتعة:

المادة 61-
1- يجب مهر المثل فيالعقد الصحيح عند عدم تسمية مهر أو فساد التسمية
2- إذا وقع الطلاق قبل الدخولوالخلوة الصحيحة فعندئذ تجب المتعة

المادة 62-: المتعة هي كسوة مثل المرآة عندالخروج من بيتها ويعتبر فيها حال الزوج على أن لا تزيد عن نصف مهر المثل

وعلى هذا تجب المتعة قانوناً للمطلقة قبل الدخول إذا لم يكن هناك تسمية للمهر أو كانت تسمية المهر فاسدة.

ويرد في تأويل هذه الآية سؤال مشروع: من هو المعتبر حاله في تقدير المتعة من الزوجين:
يراعى في تقدير المتعة حال الزوج في يساره وإعساره، وحال المرأة في يسارها وإعسارها ومكانتها في المجتمع.

وقد نصت المادة 71 من قانون الأحوال الشخصية في القانون المذكور على أن النفقة الزوجية تشمل الطعام والسكنى والتطبيب بالقدر المعروف وخدمة الزوجة التي يكون لأمثالها خادم, ويلزم الزوج بدفع النفقة إلى زوجته إذا امتنع عن الإنفاق عليها أو ثنت تقصيره.
وفي المادة 76 تقدر النفقة للزوجة على زوجها بحسب حال الزوج عسراً ويسراً مهما كانت حالة الزوجة على أن لا تقل عن حد الكفاية للمرأة.‏

وإذا تقرر ذلك فإن من الواجب أن نشير هنا إلى أمر لم يشر إليه الفقهاء من قبل ولكنه يستقيم تماماً مع مقاصد الشريعة في العدل والإحسان، وذلك حين تطلق المرأة بعد عشرين عاماً من الزواج وتجد نفسها لا تملك إلا المهر المنصوص عليه، فهنا لا بد من اعتماد طريقة لاحتساب ما أنفقته المرأة العاملة في الحياة الزوجية، مع التنويه هنا بأن قيام المرأة بواجباتها الزوجية من تربية الأطفال وحضانتهم وخدمة المنزل هو نفسه لون من العمل الذي يجب تقويمه مادياً مع التأكيد بأن قيمته المعنوية أكبر من أن يتم تقويمها بثمن.‏

فالمرأة المطلقة بعد عشرين عاماً تستحق تعويضاً أكبر من المرأة التي طلقت بعد سنتين على سبيل المثال.
ودليل هذا عموم قول الله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]، وفي الحديث عن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحقّ الشّروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج”( )، وفي الحديث: “المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالا”( ).
وقد تأكدت الحاجة لإنصاف المرأة من هذا الوجه وذلك طبقاً للظروف الاجتماعية التي أفرزتها المدنية الحديثة حيث كان دار الأسرة موجوداً تعود إليه المرأة المطلقة ولو بعد عشرين عاماً ولكن الظروف اليوم تغيرت ولن تجد المرأة بعد عشرين عاماً من يؤويها بعد أن تكون الدار قد بيعت والتركة قد قسمت ولم يعد لها إلى دار أهلها من سبيل كما هو حال معظم النساء اليوم.

ويشبه تقرير هذا الحق ما مضى إليه القانون المدني من وجوب التعويض على العامل عند تسريحه بما يتناسب مع عمله فينال من خدم عشرين سنة أكثر مما ينال من خدم سنة واحدة، وهو محل اتفاق بين الشرع والقانون.
فإذا كان ذلك ثابتاً في حق العامل لمجرد عمله فلم لا يثبت للمرأة مثل هذا الحق، خاصة المرأة العاملة التي قد تكون أنفقت مادياً نفقات كثيرة خلال تلك الفترة لا تلزمها شرعاً وقد أقرها الزوج لاحقاً، بل ربما طلبها منها سابقاً وفي الحالين فيفترض أن يحفظ لها الشرع حقها إن بالوكالة السابقة أو بالإجازة اللاحقة.

صندوق النفقة

تعاني المرأة المطلقة من سلسلة طويلة من المتاعب، وهي نتيجة لازمة لهذا القدر الذي كتب على المرأة أو تواجهه بعد محنة الطلاق، وقد يكون من أشد هذه التكاليف رهقاً على المرأة موضوع تحصيل نفقتها التي تكون عادة لدى الزوج ويتطلب تحصيلها منه قدراً غير قليل من العناء، وإذا أضفنا إلى ذلك طبيعة العلاقة الكيدية بين المتفارقين وما ينشأ عنها أدركنا كم تواجه المرأة من مصاعب وحرج في تحصيل حقها، إضافة إلى أن الإنفاق على المطلقة وأولادها مقترن بيسر الزوج وإعساره وقد ثبت بالتطبيق العملي صعوبة الحسم القضائي في مسألة يسار الزوج، وسيدفع الكيد كثيراً من الأزواج الأغنياء للاحتيال على القانون وكتمان ثرواتهم كيداً بامرأته المطلقة، الأمر الذي يؤدي عادة إلى رهق جديد يتحمله الأطفال الصغار الذين لا ذنب لهم.
ومن هنا تشتد الحاجة لصندوق اجتماعي تشرف عليه الدولة، تحصل فيه الحقوق من الأزواج، وتدعمه بموارد جديدة، وتوفره لحاجات الأسرة بغية مساعدة المرأة المطلقة على تأمين كفاية مرضية لأبنائها، وتأمين عيش كريم لها.

إن رعاية شؤون المطلقة هو مسؤولية جماعية على الأمة، والمجتمع الذي ينظر إلى المطلقة على أنها امرأة فاشلة لم تنجح في المحافظة على بيتها وأسرتها هو مجتمع ظالم، ومن غير المعقول أن تضيق نظرة المجتمع بالمطلقة إلى هذا الحد فتجعلها مسؤولة وحدها عن جميع ما تكابده الأسرة، وحين تطلق المرأة فإن عليها أن تبدأ مشواراً قاسياً في رحلة الحياة تكون المطالب المادية أسهل المطالب بالمقارنة مع المطلب العاطفي والاجتماعي الذي يطارد المرأة إلى النهاية.
من المؤكد أن كثيراً من النساء تسببن في انهيار حياتهن الزوجية، ولكن من المؤكد أيضاً أن كثيراً من الرجال فعلوا الشيء نفسه، ولكن المجتمع ظل يعامل المرأة وحدها بهذه النظرة السلبية فيما تم تجاوز ذلك بحق الرجل الذي ينظر إلى زواجه السابق على أنه خبرة اكتسبها وتابع مشوار الحياة.

متى سنكف عن النظرة السلبية إلى المرأة المطلقة، ونحترم إنسانيتها ومشاعرها وحقوقها، ونبحث عما أودعه الله فيها من مواهب قد تكون طمستها ظروف الحياة القاسية، ونساعدها بالتالي في رفع العناء الذي تكبدته في محنة الطلاق القاسية؟

في الإسلام لم يجد رسول الله حرجاً من الزواج من المطلقة فقد تزوج زينب بنت جحش وهي مطلقة زيد بن حارثة، كما تزوج عدداً من النساء الأرامل اللاتي شهدت حياتهن ظروفاً قاسية وصادمة.

أسماء بنت عميس تزوجت من جعفر بن أبي طالب فلما مات تزوجها أبو بكر فلما مات تزوجها علي بن أبي طالب فلما مات تقدم لخطوبتها الزبير ومعاوية ولكنها اختارت بعد ذلك التفرغ لشأنها وتربية أبنائها.

من المسؤول عن النظرة الاجتماعية القاسية التي تجبر المطلقة على الدخول قسراً إلى قاعة انتظار الموت الكئيبة، والمجللة بالحزن، دون أن تكون لديها الفرصة لاستئناف حياتها وآمالها من جديد.

يحاول قانون صندوق النفقة أن يقف إلى جوار المرأة في محنتها القاسية، يجتهد أن يقول لها: خفق قلبك المعذب له في تشريعاتنا صدى، وله في موازنة الأمة نصيب، من أجل أن تبقى البسمة على شقتيك وتستأنفي كفاحك في هذه الحياة الطويلة.
وصندوق النفقة حلم قديم للمرأة لتجد من يقف إلى جانبها عند معاناتها حين يكتب القدر بقلمه الأسود مصيرها القاتم كمطلقة وتشعر بنفسها على أعتاب معاناة حقيقية لا يفهمها إلا من يكابدها ويعانيها.
تبدأ المرأة مشوارها للبحث عن العيش الكريم، وليس لها سبيل لتحصيله إلا عن طريق مطاردة الزوج الذي فشل في تأمين استمرار الحياة الزوجية وانصرف ليتابع مشوار حياته على طريقته، وحين يتمرد الزوج عن أداء واجبه الشرعي فليس أمامها إلا القضاء وبعد عناء لا يعلمه إلا الله يفصل القضاء ويفرض لها الفتات المقدور بعد أن يثبت الزوج إعساره وهو أمر لا يعسر تأمينه على أي زوج بالوسائل القانونية، وهنا تبدأ المرأة مشواراً آخر للحصول على ما فرضه لها القضاء لتكتشف في النهاية أنه لا يعادل ما أنفقته على الدعوى والتقاضي في رحلة المرارة والأسى لتأمين لقمة الحلال لما تحتضنه من أطفال حكم عليهم الدهر بعناء طلاق الآباء.
فهل من المعقول أن تعجز الدولة عن تأمين فرصة أكرم للمطلقة التي فرض عليها القدر هذه المرارة؟
تقوم فكرة صندوق النفقة على أساس تدخل الدولة في تأمين حقوق المطلقات وبالتالي دعم هذا الصندوق بموارد مناسبة لتأمين عيش كريم للمرأة فيما تكابده من عناء.
يتأسس هذا الصندوق في عهدة الدولة وتقوم الدولة بدعمه من موازنة خاصة، وبالتالي يتم رفده بكثير من التبرعات والهبات والأوقاف المخصصة لهذا الشأن كما يتم فرض بعض الرسوم لدى الزواج في سبيل توفير قدر مناسب من الموارد التي يمكن أن تؤمن العيش الكريم للمرأة التي تعاني من تبعات الطلاق.

والحديث عن صندوق النفقة اجتهاد جديد في الفقه الإسلامي، ولكنه يستند إلى الأصول الشرعية العامة في واجب الراعي تجاه الرعية، وفيما قررته الشريعة من وجوب تفريج الهم عن ذوي الهم ورفع الكرب عن المكروبين ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب الآخرة، وكذلك فإن مستند مشروعية هذا السعي فيما رواه البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم . فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه
وقد التزم الخلفاء مسؤولية تفقد الرعية على أساس أنها مسؤولية الحكم الأولى، ووردت في ذلك أخبار كثيرة منها أن عمر بن الخطاب كان في إحدى جولاته الليلية في المدينة المنورة حين سمع بكاء صبي، فأقبل إلى حجرة صغيرة فيها امرأة تضرب صبياً لها، وحين بداها بالسؤال لم تضربين الصبي قالت المرأة إنه يرفض الفطام وأنا أعلله حتى ينام ولكنه أرهقني بكاء، حزن عمر بن الخطاب وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، و لكن أين نفقته في بيت المال قالت المرأة إن عمر – لا جزاه الله خيراً- لا يفرض العطاء للغلام إلا إذا بلغ الفطام وأنا أجد في فطامه حتى ينال العطاء، قال عمر: يا أختاه!! وما أدرى أمير المؤمنين بحالك؟ قالت: ولماذا يتولى أمر المسلمين إذا كان لا يعلم أحوال الرعية؟

ولا شك أن الشريعة تنظر بإيجابية وتقدير لجهود تمكين المرأة المتمثلة في تأسيس صندوق النفقة، ولا شك أن دعم هذا الصندوق بموارد إضافية من الدولة إضافة إلى ما تجبيه من التزامات الأزواج يشكل التزاماً بالمسؤولية الجماعية للأمة تجاه الأفراد، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

حقوق الحضانة
تطالب المرأة بإدخال إصلاحات حقيقية على قانون الحضانة بعد أن أثبتت التجربة وجود ثغرات في قانون الأحوال الشخصية بشأن نظام الحضانة، منها عدم قدرة القضاء على فرض تأمين السكن المناسب على الرجل المطلق إذا أثبت إعساره، وفي كثير من الأحيان يعجز القضاء عن إلزام الموسر بتأمين سكن الحاضنة أيضاً.
ومن هذه الثغرات ضرورة تعديل سن الحضانة الذي ظل إلى عهد قريب يلتزم خيار السادة الشافعية حيث كانت الحضانة للفتى إلى تسع سنوات وللفتاة إلى أحد عشر عاماً، وقد تم تعديل هذه المادة في مجلس الشعب 2003 عبر رفع سن الحضانة إلى ثلاثة عشر عاماً للذكور وخمسة عشر عاماً للإناث.

وفد اقتبس هذا الاختيار في رفع سن الحضانة من مذهب السادة المالكية الذين نصوا على أن حضانة الفتى إلى الخامسة عشرة وحضانة الفتاة حتى تتزوج.
ومع أن القانون المذكور يشكل خطوة ضرورية لإصلاح قانون الحضانة ولكنه ظل دون طموح المرأة التي تأمل أن يترافق هذا التعديل بتعديلات أخرى تعالج مسالة السكن، وكذلك حق المحضون بعد أن يبلغ راشداً في اختيار من يشاء الحضانة عنده من والديه بعيداً عن أي تأثير، كما أن مسألة إسقاط الحضانة عن الأم إذا تزوجت بحاجة إلى مراجعة وفق قواعد الفقه الإسلامي ومقتضى الحال، وهو ما نقدمه في هذه الدراسة..

وإلى جانب هذه الحقائق فإنه لا يوجد ما يمنع شرعاً من الاجتهاد في تقرير ولاية المحضون خلال حضانته، ومنح المرأة هنا حق هذه الولاية تأسيساً على عموم النص القرآني: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، فقد منحت هذه الآية حق الولاية للرجال والنساء على قدم المساواة، ولا شك ان بقاء الولاية بيد الرجل خلال فترة الحضانة قد يؤدي إلى رهق كثير على الأولاد الذين يحتاجون إلى حضوره في كل امر يتصل بضرورة وجود الولي على القاصر، وهي قضايا كثيرة وغالباً ما يتعذر تحقيق ذلك بسبب سفره أو سكناه في مكان بعيد أو بسبب الخصامات المستمرة التي هي شأن معظم حالات الطلاق.

تحظى الحضانة في الإسلام بأهمية خاصة وقد جاءت نصوص القرآن والسنة لتبين كثيراً من أحكامها، حماية للأسرة عموماً وللطفولة بشكل خاص.
وتزداد أهمية الحضانة ويعظم قدرها عندما يفترق الزوجان، وتنشأ بينهما نزاعات وخصومات تعرّض الطفل لمخاطر كبيرة، ولانحرافات مثيرة، إذا لم يلتزم الطرفان المتنازعان بالأحكام الشرعية والآداب المرعية، ويقدما مصلحة الأولاد على حظوظ النفس والأهواء.

تعريف الحضانة وحكمها
الحضانة لغة من الحضن، وهو الجنب، لأن الحاضن يضم الطفل المحضون إلى جنبه، واصطلاحاً هي: حفظ الصغير عما يضره، وتربيته ورعاية مصالحه، إلى أن يكبر، أو يصح.
أو هي: التزام بتربية الطفل والقيام بحفظه وإصلاح شأنه في المدة التي لا يستغني فيها عن النساء.
وعرّفها النووي بأنها: القيام بحفظ من لا يميز، ولا يستقل بأمره، وتربيته بما يصلحه، ووقايته عما يؤذيه( ).
وبهذا تدخل ضمن ولاية التربية والحفظ والرعاية، والحضانة والكفالة سواء.
والحضانة من فروض الكفاية، فيحرم ترك الطفل دون كفالة ولا تربية، حتى يهلك ويضيع، كما يحرم إهماله، حتى يلحق به ضرر أو يعتريه نقص أو ضعف.
الوجوب الشرعي، فكفالة الطفل وحضانته واجبة؛ لأنه يهلك بتركه، فيجب حفظه من الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه، وإنجاؤه من المهالك، ويتعلق بها حق القرابة.
ودليل وجوب الحضانة للصغير قول الله تعالى عن مريم عليها السلام: {فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسنٍ وأنبتها نباتًا حسنًا وكفّلها زكريّا} [آل عمران: 37].
وقال صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت”( ).

أقوال العلماء في حق الأم في الحضانة إذا تزوجت
وجمهور الفقهاء أن الأم أولى من الأب في حضانة ولدها ما لم تتزوج، فإذا تزوجت فللعلماء أقوال:
1. منهم من أثبت لها الحضانة حتى بعد الزواج، إذا قبل زوجها بذلك.
2. ومنهم من لم يثبت لها الحضانة لعدم تفرغها لولدها.
ووجه ذلك ما روي أن علياً وجعفراً وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة، فقال علي: ابنة عمي، وأنا أخذتها. وقال زيد: بنت أخي. وقال جعفر: بنت عمي، وعندي خالتها، فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: “الخالة أمٌّ”، وسلمها لجعفـر( ).
وعن عبد اللّه بن عمرٍو أنّ امرأةً، قالت: يا رسول اللّه، إنّ ابني هذا كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحجري له حواءً، وإنّ أباه طلّقني، وأراد أن ينتزعه منّي، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “أنت أحقّ به ما لم تنكحي”( )،

الأولى بحضانة الطفل
وقد أقر الفقهاء قاعدتين اثنتين في أمر الحضانة:
1. الأم مقدمة على الأب.
2. جنس النساء مقدم في الحضانة على جنس الرجال.
والذي يحكم على كل ذلك المصلحة الفضلى للطفل المحضون.
ويضبط هذا مراعاة مصلحة الطفل، بحيث يقدم الأدنى على الأعلى إذا ترجحت مصلحة الطفل عنده.

وقد استدل الفقهاء على تقديم الأم في الحضانة بما يلي:
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأم: “أنت أحقّ به ما لم تنكحي”( ).
2. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه بعد أن حكم بعاصم لأمه أم عاصم: “ريحها، وشمها، ولطفها، خير له منك”( )، وفي رواية: “من الشهد عندك”.
3. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “ريح الأم، وفراشها، وحجرها، خير له من الأب حتى يشب ويختار لنفسه”.
والأم أصلح من الأب، لأنها أرفق بالصغير، وأعرف بتربيته، وحمله، وتنويمه، وأصبر عليه، وأرحم فهي أقدر وأصبر في هذا الموضوع، فتعينت في حق الطفل تميز المخير في الشرع.
ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس للشريعة نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقاً، بل يقدّم الأصلح والعادل مطلقاً، ولا يقدم المعتدي، وأما مع وجود فساد من أحدهما فالآخر أولى بالحضانة بلا ريب.

وقد اختلف الفقهاء في تحديد سن الحضانة اختلافاً شديداً تراوح بين القول بحق الحضانة للأم مطلقاً وفي كل حال، وبين القول بأن الحضانة للأب في كل حال، ولا شك أن هذا الاختلاف ناشئ بسبب عدم وجود نص تشريعي حاسم في هذه المسألة وهكذا فإن المسألة تدور على اختيار المؤسسة التشريعية في الأمة في كل عصر، والذي نختاره هنا ما ذهب إليه السادة المالكية وهي أن حضانة الفتى حتى البلوغ، وحضانة الفتاة حتى الزواج.

ولم تشر معظم قوانين الأحوال الشخصية العربية إلى حق الفتى في اختيار الحضانة بعد البلوغ، وهذا الرأي نميل إليه استدلالاً بما رواه أبو داود والنسائي عن أبى هريرة قال: سمعت امرأةً جاءت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده، فقالت: يا رسول اللّه، إنّ زوجى يريد أن يذهب بابنى، وقد سقانى من بئر أبى عنبة وقد نفعنى، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “استهما عليه”، فقال زوجها: من يحاقّنى فى ولدى، فقال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: “هذا أبوك وهذه أمّك؛ فخذ بيد أيّهما شئت”، فأخذ بيد أمّه فانطلقت به( ).

والتخيير في هذه السن لا يثبت إلا إذا استوى الأبوان في الصلاح والاستقامة والمحافظة على مصلحة الولد، وليس التخيير قاعدة مطلقة، إنما المطلق هو مصلحة الطفل وهي مدار الحكم الشرعي، فلا بد هنا من تدخل المشرع في تحديد شروط خاصة لثبوت الحضانة وكذلك لا بد من تحديد شروط رفعها، وفي جميع الأحوال تكون مصلحة الأطفال هي الراجحة.

الإنفاق على المحضون والحاضن:
اتفق الفقهاء على أن الأم إذا فارقت الأب وحضنت ولدها فلها النفقة على الأب؛ لأن ذلك من أسباب الكفاية، وهو مشمول بقوله صلى الله عليه وسلم خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف.
ومن النفقة الواجبة اليوم إضافة إلى الطعام واللباس حق الأطفال في التعليم والطبابة والاتصال والانتقال.
ولا شك أن أهم ما يحتاجه المحضون هو السكن الكريم، وهذه مسؤولية الرجل باتفاق، لقوله تعالى: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ولا يصح هنا ترك أمر السكن لمزاج الرجل وتقديراته، وغالباً ما يعمد الأزواج إلى التنصل من هذا الواجب بحجة وجود دار لأهل الزوجة، فيقيم الأولاد وأمهم في دار العائلة، وقد لا يكون مناسباً ولا تتوفر فيه شروط العيش الكريم، ولا بد من تدخل المشرع لحماية هذا الحق للأطفال بحيث لا تذهب به الأهواء المتنازعة لطرفي الخصام، وقد قدمنا أن هذا من أولى مبررات إنشاء صندوق النفقة الذي يتولى أمر رعاية الحاضن والمحضون.

منح المرأة جنسيتها لأولادها

تطالب المرأة بحقها في منح جنسيتها لأطفالها، وذلك بعد عناء كبير واجهته الأمهات اللاتي تزوجن من غير جنسيتهن، ولا شك أن المصاعب التي تعاني منها المرأة في مواجهة هذا اللون من الرهق مستمرة حتى تحصل المرأة على هذا الحق الطبيعي في منح جنسيتها لأولادها، حيث يعاني الأبناء من مصاعب في الدراسة والعمل والإقامة، ويعيشون حياتهم غرباء في أوطانهم، وهي مصاعب تزداد تعقيداً كل يوم.

وتشتد المعاناة حين يكون الزوج مفارقاً للأم أو مجهول الإقامة وأحياناً معروف الإقامة ولكنه يقيم في بلد آخر، وتتحمل المرأة المسؤولية الكاملة تجاه أبنائها تربية وإعداداً، ولكنها بقيت مع أولادها في أرضهم الأم بنصف حقوق، ولا سبيل للأولاد للالتحاق بآبائهم في بلدانهم، لأن الأم الحاضنة والراعية والمربية لم تغادر أصلاً وطنها الأم.

ولا شك أن موضوع الجنسية مرتبط بشكل رئيس بالقضايا السيادية للدولة وظرف الواقع السياسي والقدرة على استيعاب الحالات التي تعاني من فقدان الجنسية.
ولكننا معنيون هنا بالجانب الفقهي من المسألة ومناقشة أولئك الذين يربطون بين منع المرأة من حقها في تجنيس أبنائها وبين موقف الشريعة الإسلامية في منع الانتساب لغير الآباء، وهو قوله تعالى: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم.

يلزم القول هنا أن مسائل الجنسية كلها ليست من مسائل النص، أي لم يرد في الكتاب ولا في السنة شيء حول هذه المسألة، فمسائل الجنسية كلها من المحدثات التي لم تكن في عصر النص، الأمر الذي يفتح باب الاجتهاد وفق العدالة، ولا شك أن العدالة تقتضي منح المرأة حق إعطاء جنسيتها لأطفالها.
ولعل التحفظ هنا بسبب موقف الفقه الإسلامي المتشدد من مسألة التبني، فالفقه يتحدث عن وجوب الانتساب إلى الأب كما في الآية الكريمة: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم. ووفق دلالة الآية فإنه يجب أن ينتسب الأبناء إلى آبائهم إذا كانوا معروفين، وفي الحديث الشريف من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام.
ولا شك أن موقف الإسلام من التبني له ما يبرره، فنظام الأسرة نظام مقدس في الإسلام، وعلى الرغم من أشكال الأخوة التي يمكن أن تنشأ في المجتمع بما فيها الأخوة في الدين فإن أخوة النسب ظلت دون سواها المعيار الذي يتناصف فيه الناس وتقام المعايير الحقوقية على أساسه، ومع أن النبي الكريم أقر زمناً الأخوة في الدين بديلاً عن أخوة النسب، وفق دلالة الآية الكريمة: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ، حيث كان الأخ في الدين يرث من أخيه دون إخوته في النسب، ولكن ذلك لم يكن إلا مرحلة عابرة في تاريخ النبوة سرعان ما جاء الناسخ لها في قول الله تعالى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .

وهكذا فإنه لا سبيل شرعاً لإلحاق المولود بغير أبيه نسباً في الولادة الشرعية، وبذلك يتم الحفاظ على روائز الأسرة أن تمتد إليها يد العبث أو الفوضى، ويمكن حينئذ حفظ الأنساب التي هي مدخل لصلة الأرحام وفق تعبير النبي الكريم: اعرفوا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم.

ولكن إثبات النسب شيء ومنح الجنسية شيء آخر، ولا مبرر للتحفظ على حق المرأة في تجنيس أولادها وفق أدلة الشرع، فالجنسية حق يتم اكتسابه بمعزل عن النسب كما في حالات الزواج، حيث تمنح المرأة جنسية زوجها، ولا تنسب إليه، وقد يمنح الأب جنسية ابنه والأم جنسية ابنها، وفي بعض الأنظمة يمنح الأخ جنسية أخيه ولا يترتب على ذلك شيء من النسب، والأمر نفسه في حالات العمل والإقامة الطويلة وهذه ليس لها علاقة بالنسب.
وقد بدأت الدول العربية تباعاً بمنح هذا الحق للمرأة بشروط مختلفة، وقد سبقت إلى ذلك قوانين الأسرة في المغرب والجزائر وتونس، ومصر ولبنان والبحرين بشروط مختلفة، وبتأثيرات مختلفة، ولكننا نعتقد أن منح هذا الحق للمرأة موقف يجب أن تسبق إليه الأنظمة التي تلتزم بالسشريعة قبل سواها، وذلك تأكيداً لمكانة المرأة في الإسلام ومنزلتها في الشريعة.
وإن المرء ليصاب بالحيرة إذ كيف يجعل القرآن للمرأة ولاية تامة على الرجال والنساء، ثم نتردد في منح المرأة هذا الحق لابنها الشرعي فلذة كبدها، الذي كان صدرها له وعاء وثديها له سقاء وصدرها له وقاء، وله نثرت بطنها، ومن أجله وهى عظمها، وربطت وجودها بوجوده ومصيرها بمصيره.
إنني آمل أن يتم تحقيق هذا الإصلاح التشريعي الضروري، وفاء مع الأم الصابرة، التي تستحق ما تستحقه النساء في هذا العالم، وهي أولى الناس بقول الأول: قرأت الحب في أربعين وجهاً فما رأيت أصدق من وجه أمي.

تعدد الزوجات

تطالب المرأة بموقف فقهي لضبط تعدد الزوجات، بحيث يوضع في السياق الشرعي الذي يرضاه الله تعالى عند ضرورات وظروف خاصة، والحيلولة دون جعل هذا الباب دريئة للنزوات التي يتورط بها الرجل وتنتهي بفرض واقع جديد على أسرته وأولاده، قد لا يكون في حسبانه ولا في مصلحته ولا في مصلحة أي من أسرتيه.
وتعاني المرأة من التهاون الذي وقع فيه القانون في شأن التحقق من الحاجة للتعدد حيث يشترط القدرة على الإنفاق، وهو أمر ينتهي عند حدود صك تعهد بالإنفاق يكتبه الزوج، وتصريح بحاجته للزواج، في أداء روتيني، لا تنتج عنه أي ضمانة حقيقية لأي من الزوجتين.
وكذلك فإن القانون لم يلتفت لأي من المبررات الحقيقية للزواج، واعتبر إرادة الزوج وحدها سبباً كافياً للشروع في التعدد دون أن يكون لهذا التعدد أي مبرر صحي أو إنساني.
ويجري عادة التنويه بأن التعدد سنة من سنن الرسول الكريم، ويذهب بعض الواعظين للقول بأن الأصل التعدد وأن الزوجة الواحدة دليل تهاون في تطبيق السنن، وهو ما عاد بأفدح الأضرار على الأسرة ومهد لحالات كثيرة من التعدد لا مبرر لها، ما إن يقع الزوج فيها حتى يبدأ السعي للخلاص منها.

ويتخذ الحديث عن تعدد الزوجات منحى خاصاً حيث ينظر إليه من قبل كثيرين على أنه مسلّمة عقائدية لا يجوز المساس بها، كما لو كان نظام التعدد إنجازاً إسلامياً خالصاً، أو صيغة تمييزية صارمة بين الإسلام والعقائد الأخرى، إلى درجة كثر فيها المصرحون بأن التعدد هو الأصل وأن الزوجة الواحدة استثناء يخص غير القادرين على التعدد.
والواقع الذي يعرفه كل قارىء للتاريخ أن الإسلام ليس مسؤولاً عن التعدد، بل ربما كان مسؤولاً عن التقييد، فقد عرف العرب تعدد الزوجات إلى حدود بعيدة، بل جاءت التوراة قبل ذلك تصرح بأن داود تزوج مائة امرأة، وأن سليمان ابنه تزوج ألف امرأة سبعمائة من الحرائر وثلاثمائة من الجواري!..
ولست أود هنا أن أطيل القول في ظروف التعدد وشروطه مما يجده القارىء الكريم مفصلاً في كتب كثيرة أكثر مساساً بالموضوع إياه، ولكني أود هنا أن أركز على نقطة واحدة في هذا الجانب وهي ما يورده كثير من الباحثين في الفقه الإسلامي على أنه إنجاز تشريعي، وهو تفويض الرجل بالتعدد بناء على حاجته الجنسية التي تحتاج بشكل فطري لأكثر من امرأة.
وفي الواقع فإن تعليل التعدد بالقدرة الجنسية أمر غير مفهوم، وينطوي على مجازفات لا تتفق ومقاصد الإسلام في تحقيق العدالة فالسؤال اللازم هنا: إذا كان الإسلام قد منح الرجل حق التعدد لإرواء نزواته فماذا عن نزوة المرأة التي قد لا تجد كفايتها الجنسية عند رجل واحد؟ وهو الذي ربما كان غير قادر أصلاً على منحها شيئاً من رغائبها الجنسية.

إن الجواب الذي لا ينازع فيه أحد هنا هو أنه ليس للمرأة أي فرصة للتعدد، وتنحصر فرصتها في الصبر أو المطالبة بالطلاق عبر إجراءات معقدة تكون المرأة دائماً هي الطرف الخاسر فيها، وهذا بالتأكيد يقف بنا مباشرة أمام أزمة العدالة في التشريع وهي من وجهة نظري أولى بالرعاية من نظام التعدد برمته.
والحديث عن العدالة في هذا المقام وسواه ليس محض معالجة نظرية مؤسسة على رؤى الفقهاء، بل هي أيضاً مسألة نصية يحرم تجاوزها وفق الآية الكريمة: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وكذلك قوله وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل وكذلك قوله: والله لا يحب الظالمين وقوله:اعدلوا هو أقرب للتقوى.
وكذلك فإن هذا التعدد المقيد بأربع لا يكفي في كثير من الأحيان لسد الرغائب الجنسية للمعددين، ولا يمكن أن نتصور أن بإمكان الشريعة تقديم شيء آخر لهذا الهائج غير إلزامه بالعفاف ولو بقوة القانون.

إن أكثر تطبيقات التعدد تتم اليوم ـ وللأسف ـ تحت هذا العنوان، حيث يكافح شريكا الحياة لبناء حال كريمة مستقرة، حتى إذا توفر لهما قسط من الراحة وانصرفت الزوجة إلى رعاية أولادها، انصرف الزوج إلى تحصيل ملذات أهوائية تبدأ سراً ثم تنتهي إلى العلانية تحت عنوان: الخوف من الحرام، والحاجة الجنسية المشروعة.

ولا شك أن هذا الشكل من التعدد أبعد ما يكون عن روح الشريعة السمحاء التي أذنت بالتعدد في ظروف مخصوصة وبشروط دقيقة ولم تشأ أبداً أن يكون التعدد سبيلاً لتخريب الحياة الزوجية أو الاستهتار بها.

وكانت الصورة المألوفة للتعدد أن المرأة كانت تقول لزوجها: يا ابا فلان.. تأيمت فلانة، وإن لها لشرفاً ونبلاً فضمها إلينا، وهكذا فقد كان أمراً طبيعياً أن يزاحم الخطاب بباب المعتدة لدى انقضاء عدتها فتتخير منهم تخيراً.

وحين مضى النبي الكريم إلى التعدد كان قد جاوز الثانية والخمسين من العمر بعد موت خديجة ـ التي لم يتزوج عليها أبداً ـ وقد تزوج بعدئذ بكراً هي عائشة، ثم كان سائر نسائه بعدها مطلقات أو أرامل.
ومن الضروري أن نؤكد هنا أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يعدد أبداً على زوجته وأم أولاده خديجة بنت خويلد، على الرغم من تقدمها في السن، وحاجته الفطرية للنساء وهو في نضجه ورجولته، وهي في مرضها ووهنها، وفي ذلك أبلغ دروس الوفاء للرجل والمرأة على السواء.
وأزيد على ذلك بأن الرسول الكريم ظل وفياً لزوجته الغالية خديجة على الرغم من كل المبررات التي يتذرع بها اليوم أنصار التعدد، فقد كانت خديجة أكبر من الرسول الكريم بخمسة عشر عاماً وقد عاشت عدة سنوات مريضة واهنة، كما أنها كانت تضم ثلاث ربائب فقد تأيمت أولاً من زوجها هند بن النباش الذي خلف لها هنداً وهالة ثم تزوجت بعده بعتيق بن عائذ وخلفت منه هالة وهكذا فقد كانت خديجة تكبره بخمسة عشر عاماً وترملت مرتين وهي مريضة ولها ثلاث رائب، وزيادة على ذلك فلم تتمكن من إنجاب غلام ذكر له على الرغم مما يعنيه ذلك بالنسبة للعرب آنذاك وما يعنيه بشكل خاص لمواجهة تحدي المشركين الذين كانوا يقولون إن محمداً رجل أبتر وليس له عقب من الرجال يكمل رسالته من بعده!!
وعلى الرغم من ذلك كله فلم نعلم أن رسول الله جرح مشاعرها يوماً بميله إلى امرأة أخرى أو رغبته في الزواج على أم أولاده، بل إنه لما ماتت خديجة ظل وفياً لذكراها على الرغم من حاجته الشديدة لامرأة تضم بناته وربائبه اليتامى، وقد حزن عليها أشد الحزن وسمى العام كله عام الحزن وفاء لها، وكان بعد ذلك يحفظ عهدها ويحسن إلى صديقاتها ويذكرها بأعظم الإحسان، وحين كتب له الله تعالى فتح مكة المكرمة وهو أعظم أيام انتصاراته وفتحت له يومذاك قصور مكة ونواديها لم يشأ أن ينزل عند أحد من سراة قريش، وإنما اختار أن يمضي بناقته إلى مقبرة الحجون وهناك عند حجارة سود أمر أن تنصب خيمة نصره في موقف أخلاقي رفيع أراد أن يقول به للعالم: إن هذه الزوجة الصابرة خديجة كانت شريكة كفاحي ومن حقها اليوم أن تكون شريكة نجاحي ، لقد كانت شريكة صبري ومن حقها اليوم أن تكون شركية نصري، وهو موقف في الوفاء يكشف لك عن مبلغ الوفاء العظيم الذي كرسه الإسلام للزوجة الأولى ومكانها في قلب الرجل المؤمن.

ومع ذلك فليس الهدف من ذلك تحريم تعدد الزوجات أو تجريمه، بل إن الإقرار بالواقع يجعلنا ندرك أن ثمة حالات مرضية محددة قد يكون التعدد أرحم بالمرأة من طلاقها، وأرحم بالطرفين والذرية، وتجد المرأة في استمرار حياتها مع وجود زوجة أخرى أفضل من انفصالها الذي قد يكون منذراً بأسوأ العواقب، خاصة وأن المطلقة في مجتمعاتنا اليوم لا تحظى بالحقوق العادلة التي قؤؤتها الشريعة للمطلقات.

ولضبط التعدد فإن من الحكمة أن نشير هنا إلى حق أكيد من حقوق المرأة سبقت الشريعة إلى تقريره ولكن التقاليد حالت دون إدراك الناس لهذا الحق بل وجعلت منه في تصور كثير من الناس عملاً مستهجناً، وهو حق المرأة في اشتراط عدم التعدد في عقد زواجها.
وقد قضى بهذا الحق عدد من الفقهاء على رأسهم عمر بن الخطاب بأن للمرأة أن تشترط ما تشاء في عقد زواجها، كأن تشترط أن لا يتزوج عليها أو لا ينقلها من بلدها ولا يتسرى، وهو مختار قول الأوزاعي والزهري،( )ومستندهم في ذلك حديث عقبة بن عامر أن النبي  قال: «إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج».( )
ومثل ذلك ما لو اشترط عليها أن يأتيها في كل أسبوع أو شهر مرة فرضيت، أو أن تحط عنه النفقة بأن تنفق هي، وهذه الشروط تجعل عقد الزواج أوضح رضائية، وأكثر تلبية للحاجات الاجتماعية.

ومن المؤكد أن النبي الكريم كان يشترط مثل هذه الشروط على أصهاره فقد زوج بناته الأربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، ولم يحصل أن واحداً من أصهاره تزوج على إحداهن، وقد اشتهرت رواية الترمذي وفيها أن علي بن أبي طالب فكر بذلك يوماً حين عرضت عليه بنت عمرو ابن هشام بن المغيرة( ) مما أغضب النبي غضباً شديداً وصعد المنبر وقال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم» ثم ذكره صهره أبا العاص بن الربيع من بني عبد شمس وقال: «إنه وعدني فوفى» ومع أن شارح سنن أبي داود وهو محمد شمس الحق العظيم صرح بأن الوعد الذي وعد به ذلك الصهر هو إرسال زينب من مكة، ولكن سياق الحديث ظاهر في أن الوعد يتصل بعهده عدم التزوج على زينب، وهو ما التزمه أبو العاص حتى مرض زينب ووفاتها سنة 8 هجرية.

كما أن ورود الإذن بالتعدد في مطلع سورة النساء جاء مقيداً بصرامة بالعدل بين الزوجات، وتأمر الآية بشكل جازم بالاكتفاء بواحدة إذا لم يكن العدل ممكناً، كما توضحه الآية الكريمة:
وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن تعولوا
ولكن سورة النساء أيضاً نصت أيضاً بوضوح لا لبس فيه:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة
وبذلك فإن الإذن الوارد في مطلع السورة بالتعدد مقيد بشرط في غاية العسر، وتجزم الآيات بأنه غير ممكن، وقد تأول العلماء هذا القيد بأنه ميل القلب، ويستشهدون لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم حين كان يقسم بين نسائه بالسوية: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ، ويشير بذلك إلى حبه لعائشة أكثر من نسائه الأخريات، وأن الله لا يؤاخذ على ميل القلب ولكن يؤاخذ على فوات العدل في الإنفاق والعطية والقسمة كل ليلة..
وترسم هذه الأخبار ملامح هادية للمشترعين لوضع الشروط الضامنة على الراغبين بالتعدد، بل إني أدعو إلى جعل هذا الشرط (أن لا يتزوج عليها) علنياً واضحاً، حيث هو بالتأكيد اليوم ضمني في أي عقد زواج، ولكن إعلانه وتثبيته في العقد يجعل تقدير الحاجة إلى التعدد بيد المرأة المتضرر الأول من ذلك، حيث تقدر هي حينئذ مصلحتها بين الطلاق أو التعدد، وبذلك لن يبقى التعدد أسير نزوات الرجال الذين لا تدفعهم إليه في كثير من الأحيان إلا نزوات وورطات ما إن يقعوا فيها حتى يبدؤوا بالتفكير في الخلاص منها.

فالتعدد دواء، وليس غذاءً، دواء لحالات مرضية محددة وليس غذاء يومياً يطيب للمرء كلما شاء له الهوى.

وحماية لحق المرأة فقد نص الفقهاء على حق المرأة أن تشترط على الزوج في عقد الزواج ألا يتزوج عليها، فالإسلام كما قيد التعدد بالقدرة على العدل، وقصره على أربع، فقد جعل من حق المرأة أو وليها أن يشترط ألا يتزوج عليها الرجل، ويصح الشرطويلزم، وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد وابن القيم وابن تيمية، واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم، قال صلى الله عليه وسلم: “إن أحق الشروط أن تستوفوا ما استحللتم به الفروج”.

وهكذا فإن مطالبة المرأة بأن يكون التعدد في أضيق نطاق، وأن تفرض الشروط الصارمة على من يفكر بالتعدد، وأن تحترم إرادتها ورأيها في رفض قيام زوجها بالتمزق في أسرتين، كل ذلك له شواهده من السنة النبوية والتاريخ الإسلامي، وسوابقه من اختيارات الفقهاء الكرام.

وقد نص قانون الأحوال الشخصية السوري على ذلك في المادة 17 من القانون الصادر 1953 ونصها:
للقاضي أن لايأذن للمتزوج بأن يتزوج على امرأته إلا إذا كان لديه مسوغ شرعي وكان الزوج قادراعلى نفقتهما
ولكن هذه المادة يكتنفها الغموض وقد تم تأويلها لمصلحة الرجل، واعتبر المسوغ الشرعي أي هوى يهواه الرجل وهذا من وجهة نظري مخالف للقانون، وكان ينبغي أن تحترم هذه المادة، بحيث تحدد في التعليمات التنفيذية ما هي المسوغات الشرعية المقصودة، والتي ينبغي أن تنصرف إلى سبب جوهري كعقم المرأة مثلاً أو عجزها الجسدي، أو موافقتها الخطية على قيام الزوج بنكث ما التزمه في العقد من الوفاء لها دون سواها صراحة أو ضمناً، إذ هذا الشرط محل اعتبار لدى كل امرأة تقدم على الزواج سواء صرحت به أو لم تصرح.
ونحن ندعو إلى جعل هذا الشرط مكتوباً في عقد الزواج إن شاءت المرأة شطبته بموافقتها وإرادتها على أن لا يجوز لها شطبه إلا بعد مضي فترة معقولة على إتمام إجراءات الزواج.

وقد سبق المشرع الأردني إلى اشتراط موافقة صريحة من الزوجة الأولى على وقوع التعدد، وهو مطلب أخلاقي تماماً، وينسجم مع الوفاء بالعقود الذي أمرت به الشريعة، وخاصة في عقود الزواج، حيث اشترطت الزوجة صراحة أو ضمناً بأن لا يعدد عليها الزوج، وهذا حق لها لا يجوز تجاوزه إلا بموافقتها وإرادتها.

وينص القانون الأردني على توافر الشروط الآتية قبل التعدد:
ـ أن تكون هناك مصلحة مشروعة من التعدد
ـ أن يقدم الزوج كفالة مالية لضمان قدرته على استمرار الإنفاق والعدالة في إعالة الزوجتين
ـ إشعار المرأة بوجود امرأة سابقة لها مرتبطة بعقد قائم.
ـ إشعار من الأولى بوجود إذن صادر عنها إلى زوجها بالموافقة على زواجه الثاني
ـ التحقق من المبررات التي يتذرع بها الزوج والتشديد في ذلك.
أما القانون المصري فقد اقتصر على اشتراط توفر العدل بين الزوجات، وهو مطلب قاصر عن الآمال، ولا يلبي في الواقع حاجة الأسرة في الاستقرار، ووقف النزوات العابثة التي تنتهي عادة بتمزق الأسرة وضياع حقوق الزوجة الأولى

وقد ذهب المشرع المغربي في مدونة الأحوال الشخصية الصادرة 2003 ميلادية إلى التشدد في إتاحة التعدد، وفرض سلسلة شروط من شأنه أن ترفع عن التعدد المعنى الجنسي والغريزي وتربطه بالأحوال الضرورية والاستثنائية، وقد ورد في ديباجة المدونة:
“فيما يخص التعدد ، فقد راعينا في شأنه الالتزام بمقاصد الإسلام السمحة في الحرص على العدل ، الذي جعل الحق سبحانه يقيد إمكان التعدد بتوفيره ، في قوله تعالى “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة” ، وحيث إنه تعالى نفى هذا العدل بقوله : “ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم” ، فقد جعله شبه ممتنع شرعا.
كما تشبعنا بحكمة الإسلام المتميزة، بالترخيص بزواج الرجل بامرأة ثانية، بصفة شرعية لضرورات قاهرة وضوابط صارمة، وبإذن من القاضي، بدل اللجوء للتعدد الفعلي غير الشرعي، في حالة منع التعدد بصفة قطعية.
ومن هذا المنطلق فإن التعدد لا يجوز إلا وفق الحالات والشروط الشرعية التالية:
لا يأذن القاضي بالتعدد إلا إذا تأكد من إمكانية الزوج في توفير العدل على قدم المساواة مع الزوجة الأولى وأبنائها في جميع جوانب الحياة ، وإذا ثبت لديه المبرر الموضوعي الاستثنائي للتعدد فإن للمرأة أن تشترط في العقد على زوجها عدم التزوج عليها باعتبار ذلك حقا لها ، عملا بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : “مقاطع الحقوق عند الشروط”. وإذا لم يكن هنالك شرط، وجب استدعاء المرأة الأولى لأخذ موافقتها، وإخبار ورضى الزوجة الثانية بأن الزوج متزوج بغيرها. وهذا مع إعطاء الحق للمرأة المتزوج عليها، في طلب التطليق للضرر.
ثم فصلت المدونة أحكام التعدد في المواد من 41-47 واستوفت كافة الشروط الضامنة لتحقيق هدف التعدد عند الضرورة الملجئة، وبأضيق قدر من الاستثناءات.

أما المشرع التونسي فقد ذهب بعيداً في منع التعدد، وقرر الحبس عاماً والغرامة على من يثبت أنه جمع زوجتين.
وفي الحقيقة فإن المنع من التعدد في القانون التونسي قديم، وأول من نادى به الفاطميون الذين حكموا تونس أيام الدولة المهدية، ويعتبر التعدد عادة أمراً مستهجناً في تونس بشكل عام، الأمر الذي سهل على المشرع التونسي منع التعدد البتة.

ومن المؤكد أننا لا نستطيع أن نغلق باب التعدد البتة، وقد يعود بضرر بالغ على الأسر التي تفترض ظروفها هذا الواقع، ولكن وضع شروط ضامنة من قبل المشرعين مطلب اجتماعي وديني مؤكد بحيث لا يكون التعدد أهوائياً، مفرغاً من الحكمة التي قصدتها الشريعة.

ومن الأهمية بمكان أن نذكر هنا بأن التعدد في أحسن الأحوال لا يتعدى دائرة المباح، وقد اتفق الفقهاء أن ولي الأمر يملك الحق شرعاً في فرض بعض المباح إذا رأى فيه مصلحة مؤكدة للأمة، كما له الحق نفسه في منع هذا المباح إذا رأى فيه ضرراً مؤكداً على الأمة، وتحت هذه القاعدة في السياسة الشرعية يمكن للأمة عبر أدواتها التشريعية المعتبرة أن تصدر الحكم المناسب في مسألة تعد الزوجات وفق مصالح الأمة العليا، وتأسيساً على المسؤولية الشرعية الزمنية لمن يلي أمر المسلمين.

تنظيم النسل

تطالب المرأة بحماية حقها وحق زوجها في الإشراف التام على عملية الإنجاب بحيث تتحكم فيها وفق الظروف الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي تتوفر للمرأة والرجل.
وتنسجم هذه المطالبات تماماً مع الرغبة بتوفير حياة أكرم وأهنأ للجيل الجديد، وبالتالي توفير حياة أكثر كرامة وأكثر أمناً واستقراراً للأسرة القادمة.
وبالتالي فإن الحديث عن تنظيم النسل مطلب اجتماعي لتنظيم الحياة في المجتمعات، والتشارك العادل بين أبناء الأمة في خيرات الأرض.

يقصدبتنظيم الأسرة: العمل على تهيئة الظروف السويّة لأسرة ناجحة، وليس المراد: إيقاف النسل.
وهكذا فإن تنظيم الأسرة يقتضي اعتماد طرق ووسائل للمباعدة بين الأحمال، حفاظاً على صحة الأم وسلامة الطفل، وإتاحة فرصة كافية لتربية الرضيع، على قواعد الإيمان، وليكون الأبناء هم الزينة وقرّة العين على أكمل وجه.
وهكذا فإن تنظيم الأسرة يعني: قيام الزوجين بتخطيط توقيت إنجاب الأطفال وعددهم، ومعرفة المدة الزمنية اللازمة بين إنجاب كل طفل وآخر، وذلك بغرض تقليل احتمال تعرّض الأمهات والأولاد لمخاطر الحمل والولادة، وسوء التغذية، وضعف التربية.

ومما لا شك فيه: أن المشكلة السكانية بأبعادها الثلاثة: (الزيادة السكانية، والتوزيع السكاني، والخصائص السكانية) تعد من أخطر المشاكل التي تواجه المجتمعات على مر العصور والأزمان.
وضبط المشكلة السكانية مسؤولية جماعية؛ تحتاج إلى تضافر جهود جميع القطاعات وكافة الهيئات والمؤسسات العاملة في مجال السكان، أو التي لها علاقة بالسكان، فتنظيم الأسرة مسؤولية إنسانية من أجل وجود نوعي متميز، قادر على التحقق بالغاية الأسمى، والوصول إلى الهدف الأرقى دنيا وأخرى
فالتنظيم يعني جعل الأمر منظماً، يخضع لقواعد وضوابط وأسس علمية سليمة.

وقف النسل:
ينقسم قطع النسل إلى قسمين:
القسم الأول: أن يقطع النسل لفترة مؤقتة، بحيث إن المرأة لا تحمل في سنة أو سنتين ونحو ذلك فهذا جائز، وهو ما يسمى بتنظيم النسل.
والقسم الثاني: أن يقطع النسل بالكلية، بحيث إن المرأة تتناول دواء يمنع النسل بالكلية، أو تستأصل الرحم ونحو ذلك فهذا محرم ولا يجوز؛ لأنه استئصال لمنفعة اؤتمن عليها الإنسان، ولأنها جزم في مقادير لا يعرف العبد ما كتب الله فيها، فرب امرأة استأصلت رحماً لأنها اكتفت بالذرية ولكن القدر المر كان بانتظارها فمات ولدها وبقيت عاقراً وفي هذا ضرر محقق وحتم، وتنص الشريعة الغراء أنه لا ضرر ولا ضرار.

وهكذا فإنه من الضروري عقلاً وشرعاً قيام الزوجين بتخطيط توقيت إنجاب الأطفال وعددهم، والفترة الزمنية التي تمر بين إنجاب كل طفل وآخر؛ وذلك بغرض تقليل احتمال تعرض الأمهات والأطفال لمخاطر الحمل والولادة في المراحل الخطرة من العمر أو تجنب الحمل غير المرغوب.
ويمكن تعريف التنظيم المشروع للنسل بقولنا: هو قيام الزوجين بالتراضي وبدون إكراه باستخدام وسيلة مشروعة ومأمونة لتأجيل الحمل أو تعجليه بما يناسب ظروفهما الصحية والاقتصادية وذلك في نطاق المسؤولية نحو أولادهما وأنفسهما.
أو هو: إيجاد فترات متباعدة بين مرات الحمل، بطريقة مشروعة غير ضارة ، لداع يدعو إلى ذلك.
وقد درج الفقهاء على تفصيل مسئل تنظيم النسل في موارد متعددة، إذ لا يوجد نص شرعي بخصوصه لفظاً، وتعتمد في ذلك القواعد الشرعية الشهيرة، في جلب المصلحة ودرء المفسدة، دون الخروج على أصول الشريعة، ومن تلك القواعد: (الضّرر يزال) ( )، و(لا ضرر ولا ضرار) ( )، و(المشقة تجلب التيسير) ( )، قال تعالى: ما يريد اللّه ليجعل عليكم مّن حرجٍ[سورة المائدة: 6].
والملاحظ في الشريعة الغراء أن الأمر الذي يتغير بتغير الظروف والأحوال، لا تنص فيه على وضع موحد ونص قاطع، بل تكله إلى اجتهاد أهل العلم، في ضوء قول الله تعالى: ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم[سورة النساء: 83].

ويمكن استخدام وسائل مشروعة لتطبيق هذا التنظيم، منها:
1. العزل، وهو تجنّب إلقاء النطف في الرحم، وهو جائز شرعاً، وقد ثبت عن جابرٍ قال: كنّا نعزل والقرآن ينزل( )، ولو كان العزل حراماً لنزلت في القرآن آية تحرّمه، فلما لم يحدث فقد دلّ على جوازه.
2. استخدام وسائل طبية، وهو جائز شرعاً ما لم يلحق ضرر بالمرأة، ذكر ابن عابدين: [أنه يجوز للمرأة سد فم رحمها.. قياساً على العزل] ( )، ويقول البجيرمي: [وأما ما يبطئ الحبل مدة، ولا يقطعه من أصله؛ فلا يحرم، كما هو ظاهر، بل إن كان لعذر كتربية ولد لم يكره أيضاً] ( ).
3. عدم (أو تخفيف) المعاشرة بين الزوجين باتفاق بينهما وهذا أيضاً جائز شرعاً ولم يأت ما يثبت تحريمه.

موقف الإسلام من وسائل منع الحمل:
أولاً: النصوص الشرعية:
وردت أحاديث وأخبار صريحة بأن العزل كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه جائز، منها ما يلي:
1- في الحديث عن جابرٍ قال: كنّا نعزل والقرآن ينزل ( )، أي : ولو كان هذا حراماً لنزلت في القرآن آية تحرمه، فلما لم يحدث دل على جوازه.
2- وجاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يعزل عن الحرّة إلا بإذنها”( )، وهذا معناه أن العزل عن الزوجة الحرة جائز إذا وافقت عليه.

والأدلة على ذلك كثيرة ومنها ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “جهد البلاء: كثرة العيال مع قلة الشيء”( )، أي: إن الابتلاء يشتد ويصعب حين تكثر الذرية والأولاد لدى إنسان، ولا يتيسر له ما تحتاج إليه حياتهم وكثرة مطالبهم وتعدد حاجياتهم.
وكذلك ورد عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: “[قلة العيال أحد اليسارين]، ويفسرها ابن أبي الحديد في شرح كتاب نهج البلاغة: إن قلة العيال مع الفقر كاليسار الحقيقي مع كثرتهم.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (إن كثرة العيال أحد الفقرين، وقلة العيال أحد اليسارين) ( )، والفقران هنا: قلة المال وكثرة العيال، واليساران هما: كثرة المال وقلة عدد الأولاد.
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه فاتح مصر لأهلها: يا معشر الناس؛ إياكم وخلالاً أربع فإنها تدعو إلى النّصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، والى المذلة بعد العزة؛ إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل بعد القال من غير إدراك ولا نوال( ).
ويفسر الإمام الشافعي قوله تعالى: إن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألاّ تعولوا [سورة النساء: 3]، فيقول: ذلك أقرب ألا تكثر عيالكم، مما يدل على أن قلة العيال أولى.

ومع تطور الحياة فقد عرف الناس طرقاً أخرىغير العزل ، وما دام الهدف من وراء هذه الطرق واحداً؛ فلا مانع إطلاقاً من قياس هذه الطرق على طريقة العزل التي كانت معروفة عند القدماء.
فإذا وجد الضرر حرم المنع لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”( ).
وإذا لم يوجد الضرر المظنون فلا بأس باستخدام وسائل منع الحمل بشرطين اثنين:
ا-موافقة الزوجين عن رضا واحتيار لأن الولد حق لهما.
2- عند تأكد وجود ضرر لهما [الضرر المادى والخلقي].

فالمقصود الأساسي من هذا العزل هو البعد عن التلقيح، وقد قرر الفقهاء بأن إفساد المادة التناسلية قبل التلقيح لا يكون اعتداء على جنين بحال من الأحوال.

وإذا كانت مدة الرضاع الكامل سنتين بدليل قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة [سورة البقرة: 233]، ثم تأتي مدة الحمل تسعة أشهر فمعنى هذا أنه سيكون بين الولد السابق والولد التالي ثلاثة أعوام تقريباً، وهي مدة تستريح فيها الأم، وتعاون على تنظيم الأسرة بطريق غير مباشر، وهو ما يسمى: (التباعد بين الحمول).

وقد أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر عام 1953 فتوى جاء فيها: [استعمال دواء لمنع الحمل مؤقتاً لا يحرم على رأي الشافعية، وبه تفتي اللجنة، ولا سيما إذا خيف من كثرة الحمل، أو ضعف المرأة من الحمل المتتابع بدون أن يكون بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها المرأة وتسترد صحتها، والله تعالى يقول: يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [البقرة 185]، وقال: وما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ [الحج 78]،وأما استعمال الدواء لمنع الحمل أبداً (أي الإعقام) فهو محرم].

ومن المفاهيم الخاطئة المبادرة إلى تكثير النسل بدافع الاستجابة لظاهر الحديث الشريف تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة.
والحقيقة أن الذين يباهي بكم رسول الله لا بد أن يكونوا من الصالحين الذين نالوا حظاً جيداً من التربية والتعليم وغدوا صالحين في مجتمعاتهم يعودون على الناس بالخير، وهذا يتطلب ممن يبادر إلى الانجاب أن يكون مسؤولاً عن ذلك قادراً على إنجاز هذا الهدف النبيل بشكل تام بحيث لا يكون الهدف هو الكم وإنما الكيف.

وليس هناك دليل عقلي أو نقلي على أن القصد هو الاستكثار العددي، لأن الكثرة العددية تقع للصالحين والطالحين، وللمؤمنين والكافرين، بل إن المؤمنين قلة بالنسبة إلى الكافرين.
ولو تتبعنا مادة ” الكثرة ” ومادة ” القلة ” في القرآن الكريم لوجدناه لا يمدح الكثرة لمجرد أنها كثرة، ولا يذم القلة لمجرد أنها قلة، بل على العكس يندد بالكثرة الطالحة وينوّه بالقلة الصالحة، فيقول تعالى: كم مّن فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن اللّه [سورة البقرة 249]، ويقول عزّ وجلّ: قل لاّ يستوي الخبيث والطّيّب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتّقوا اللّه يا أولي الألباب لعلّكم تفلحون [سورة المائدة 100]، وقال تعالى: وما أموالكم ولا أولادكم بالّتي تقرّبكم عندنا زلفى إلّا من آمن وعمل صالحًا فأولئك لهم جزاء الضّعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون [سورة سبأ: 37].
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثرة العددية في معرض الذم، فعن ثوبان قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، فقال قائلٌ: ومن قلّةٍ نحن يومئذٍ؟، قال: “بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنّكم غثاءٌ كغثاء السّيل، ولينزعنّ اللّه من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ اللّه فى قلوبكم الوهن”، فقال قائلٌ: يا رسول اللّه وما الوهن؟، قال: “حبّ الدّنيا وكراهية الموت”( ).
ولا بد من التأكيد أن تنظيم الأسرة عمل وقائي يسبق الحمل، ولا يقضي على الحمل بعد وجوده، وخاصة بعد نفخ الروح فيه، وبذلك فإن الإجهاض عمل لا أخلاقي يتنافى مع كرامة الإنسان ومقاصد الأديان، ولا يصح أبداً اعتباره وسيلة لتقليل السكان وتنظيم الأسرة.
وتهدف برامج تنظيم الأسرة أيضاً إلى الإسهام في معالجة المصابين بالعقم، ومساعدتهم على الإنجاب، ولا شك ان هذا المعنى هو المقصود بقول الله تعالى : ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.

ولا شك أن برامج تنظيم الأسرة محكومة بنتائجها، وأن الحكم عليها أثر من نتائجها المأمولة على الأرض لصالح الأسرة المسلمة، وبرامج التنمية والبناء الاجتماعي التي يشترك فيها الأفراد والمنظمات والدولة.

وبعد:
فليس تنظيم الأسرة محاربة للزواج، ولا محاربة للذرية، ولا معارضة للأقدار؛ بل هو إعمال للحكمة والمعرفة، والتزام بالمسؤولية التي أوجبها الله على الآباء وعلى المجتمع لجهة إعداد جيل صالح، تتكافؤ فرصه في نيل التربية والتعليم والرزق الحلال، ولا يجوز بحال إلقاء الذرية في مسارب الحياة والتخلي عن المسؤولية تجاههم والتعلل بالأقدار، وقد قال الله تعالى: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين.
وليس من الواقعي أبداً أن تستمر التيارات الإسلامية في مواجهة مع الأسرة الدولية وجهود اليونيسيف وغيرها من المؤسسات الدولية الرامية إلى بناء أسرة صحية ومستقرة وسليمة، فالناس يتعاونون في الخير والمعروف، والمسلمون جزء من الأسرة الدولية، ولو نظرنا إلى الجهود الإنسانية بعين إيجابية لوجدنا كثيراً من المشترك في الهدف والوسيلة، والمؤمن إيجابي بطبعه يلتمس الخير في عباده، ويتعاون مع خلقه لما فيه خير الأمة وسعادتها.
ولا يعني هذا بالطبع الموافقة على كل ما تقترحه هذه الهيئات الدولية، بل إن بعض ما تقوم به يستوجب الإنكار وبعضه يستوجب الحوار وبعضه ينطبق تماماً مع مقاصد الشريعة الغراء.

تجريم الاعتداء على الحياة الأسرية

تطالب المرأة بموقف رادع من الأشكال المختلفة للعدوان على الحياة الأسرية وبشكل خاص جرائم الخيانة الزوجية والاغتصاب والعلاقات المثلية، وهي جرائم حرمتها الشريعة بأشد النصوص وفرضت العقوبات الصارمة والشديدة على كل من تسول له نفسه هذا اللون من الخطايا، واعتبرت ذلك كله عدواناً على الحياة الأسرية المستقرة، ولم تقبل أبداً أن تبرر تلك الجرائم تحت ستار الحريات والمسؤولية الفردية والحياة الشخصية.
قال تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً.

وقد أشار القرآن مراراً إلى جرائم قوم لوط الذين كانوا يمارسون الشذوذ الجنسي بأنها من أشد الكبائر التي تستوجب سخط الله وعقابه.

ورسالة الشرائع الإلهية إحياء إنسانية الإنسان، وبعث النوازع الأخلاقية القيميةفي وجوده، وحمايتها من طغيان الدوافع الشهوانية المادية.

ولا شك أن موقف الشريعة الصارم من الخيانة الزوجية وسائر أشكال العلاقات المحرمة يهدف أولاً إلى حفظ النسب من الاختلاط، فمعرفة الأنساب في الإسلام ضرورية لمعرفة الأقارب وصلة الأرحام، وكذلك حماية الإنسان من العار الذي يلحق به بجهل نسبه.
ويهدف ثانياً إلى حماية المجتمع من الأمراض الاجتماعية والانحلال، وما يتبعه من العزوف عن الزواج والاكتفاء بالوصول إلى اللذة بدون مسؤوليات، وهذا ما يعني انهيار نظام الأسرة برمته.
وكذلك فقد هدفت الشريعة إلى حماية المجتمع من الأمراض الجنسية، التي صار واضحاً أنها تزداد كل يوم، وأن العلاقات المحرمة من أهم أسباب انتشارها.

وقد أدى اعتبار العلاقات الجنسية مسألة حريات شخصية إلى انحلال خطير في المجتمعات التي تأذن بذلك في الغرب، وتقوم منظمات الأسرة اليوم بجهود كبيرة لوقف هذا الانهيار ورفض اعتباره في دائرة الحريات الشخصية نظراً لما له من الأثر الخطير على انهيار الأسرة وتفكك المجتمع.
وعلى الرغم من دثار الحرية التي تستخدمها شبكات متخصصة بالإباحية في الغرب فإن هيئات الأسرة وحمايتها أفلحت في وقف بعض هذا التدهور، وذلك عن طريق احترام القيم الدينية الداعية إلى العفاف وإلى الأسرة المستقرة ورباط الزوجية المقدس، وعدم الاعتراف بأشكال العلاقات المحرمة لتأسيس أسرة على غير الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
ويجب القول إن أمم الأرض على اختلاف مرجعياتها تقدس العلاقة الأسرية، وترفض العلاقات العابثة التي تستهدف الشهوة واللذة على حساب الاستقرار الاجتماعي.
ولا صحة للقول الشائع بأن العفاف شأن شرقي وأن العالم لا يقيم شأناً للعفاف، بل إن العفاف قيمة إنسانية اتفاقية، تحترمها الأسر النبيلة في العالم كله، والزنا رذيلة في كل مكان في الأرض تستهجنها الأسر العريقة والنبيلة، وربما ينجرف المجتمع في أهوائه وخطاياه ولكنه يعترض غاية الاعتراض على سلوك قادته إذا كانوا عابثين، ويعتبر استقرار الأسرة شرطاً أساسياً في كل رجل يتصدى لقيادة المجتمع، وفي السنوات الأخيرة شاهد العالم عدداً من رؤساء الدول في العالم يحاكمون ويدانون على خلفية فضائح أخلاقية وجنسية رفضتها شعوبهم، وذلك تأكيداً للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومهما تشوهت هذه الفطرة فلا بد أن يكون منها بقية تجعل الإنسان يستحسن الخير ويستقبح الشر.
ولا يزال العقلاء في كل العالم يناضلون ضد انتهاك العفاف، ويعملون على بناء بيوت مستقرة تحترم فيها الحياة الأسرية وتقلل من الاندفاع الشهواني الذي يؤدي إلى الدمار الأسري.
ولا تزال القوانين السائدة في البلدان الإسلامية على اختلاف مرجعياتها تجرم الفحشاء، وتعتبره أمراً هداماً للأسرة والمجتمع، وتدعو إلى التزام الناس بالأسرة ومنع السبل التي تؤدي إلى انهيارها وضياعها.
وتريد المرأة المسلمة أن تتعزز هذه القوانين الصارمة، حماية لها ولأطفالها من العبث والمجون الذي قد ينصرف إليه أزواج وزوجات لا خلاق لهم فيمضون في شهواتهم يهدمون أسرهم ومستقبل أطفالهم.
ويجب القول إن هذه المطالب تحظى باحترام العقلاء من الناس سواء كانوا يسعون إلى حاكمية الشريعة أو كانوا يفصلون بين الدين والسياسة، والمطلوب هو تعزيز هذه الاتجاهات والتعاون مع النوايا الطيبة مهما كانت دوافع أصحابها للحفاظ على العفاف والأسرة.

وفي سوريا على سبيل المثال وهي بلد عربي لا تصدر قوانينه عن دار الإفتاء أو الفتوى، بل عبر مجلس نواب فيهم المسلم وغير المسلم، ومع ذلك فقد مضى القانون السوري إلى تجريم الخيانة الزوجية وتجريم السفاح واتخاذ الخليلات والمساكنة خارج مؤسسة الأسرة، وفي قانون العقوبات السوري وردت المواد القانونية التالية:
المادة 473 :
1 – تعاقب المرأة الزانية بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين.
2 – ويقضي بالعقوبة نفسها على شريك الزانية إذا كان متزوجاً، وإلا فالحبس من شهر إلى سنة..

المادة 474:
1 – يعاقب الزوج بالحبس من شهر إلى سنة إذا ارتكب الزنا في البيت الزوجي أو اتخذ له خليلة جهاراً في أي مكان كان.
2 – تنزل العقوبة نفسها بالمرأة.

المادة 476 :
1 – السفاح بين الأصول والفروع شرعيين كانوا أو غير شرعيين أو بين الأشقاء والشقيقات والأخوة والأخوات لأب أو لأم من هم بمنزلة هؤلاء جميعاً من الأصهرة يعاقب عليه بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات.
2 – إذا كان لأحد المجرمين على الآخر سلطة قانونية أو فعلية فلا تنقص العقوبة عن سنتين.

ومع أن المواد المذكورة صارمة وواضحة في تجريم الزنا والسفاح والمساكنة واعتبارها عدواناً على الأسرة، فإن المطلوب أن تتساوى النساء والرجال في العقوبة، تحقيقاً للعدالة، وهو ما تهدي إليه الشريعة، وكذلك تشديد العقوبة على المتزوجين حماية للأسرة وعقاباً على التفريط بقدسيتها.
وفي قوانين البلاد العربية والإسلامية مواد مشابهة تجرم الفحشاء وتكرس ضمانات حقيقية لاستقرار الأسرة، ولكن يجب القول إن كثيراً من هذه المواد لا تطبق كما أرادها المشرع، ويتم الاحتيال عليها والتواطؤ فيها، وهذا جزء من ظواهر الفساد التي تنتشر في البلاد المتخلفة.

جرائم الشرف

وتريد المرأة المسلمة حماية نفسها وأسرتها من انفعال الرجل وتوتره وغضبه إذا أخذته رياح الطنون، وتسلل الشك إلى عقله وسارع بإلقاء التهم الهدامة للأسرة.
وفي هذا السياق تبرز ظاهرة جرائم الشرف واحدة من المآسي التي عانت منها المرأة المسلمة خلال التاريخ ولا زالت تعاني إلى اليوم.
وقد جاءت الشريعة بحد القذف في حق كل عابث بالأسرة هاتك لحرمة العفائف المحصنات، والواقع أن التفسير الأخلاقي لحد القذف هو حماية المرأة المسلمة من عبث العابثين واستهتار المستهترين، وحمايتها بالتالي من تطور هذا العبث إلى غضب وجنون وانتقام وربما قتل يقوم به الزوج، تحت عنوان الشرف.
وقد عرفت البلاد الإسلامية ظاهرة جرائم الشرف حيث يقوم الزوج أو الأخ أو الابن أحياناً بارتكاب جريمة القتل بعد سبق اصرار وترصد بدعوى غسل العار والثأر للشرف، بخلاف كل أحكام الشريعة وقواعدها من الاحتياط في الدماء وحرمة دم الإنسان وشروط الحدود ووجوب الترافع فيها إلى ولي الأمر وتحريم الافتئات على الأمة، وغير ذلك من القواعد الشرعية.
وقد وجدت هذه الجرائم من يبررها، ويستدل لها بنصوص من الشريعة دون اعتبار لأسباب ورود هذه النصوص وموقف أهل العلم فيها، ودون تحقيق مناطها وتخريجه على وفق مذاهب أهل العلم.
وقد طرحت قضايا جرائم الشرف في معظم مجالس الأمة في البلاد الإسلامية وكانت مثار جدل كبير، وتناقضت المواقف بين تبرير هذه الجرائم وبين إدانتها ووجوب معاقبة فاعليها.
ويجب القول بداية أن الإسلام جاء حرباً على الزنا والفحشاء، وهذا الموقف تؤكده كل ديانات السماء، كما يؤيده الشرفاء في كل مكان في هذا العالم حماية للأسرة ورعاية للفضيلة.
ولكن إثبات هذه الجرائم لا يجوز أن يتم بالظن والتوهم، بل لا بد فيه من اليقين،
وهناك أحاديث عديدة أن الرسول اشترط الإقرار أربع مرات، قبل توقيع العقوبة، كما يمكن للجاني النكول عن إقراره فلا يؤخذ به.
ويمكن أن يتم هذا قبل صدور الحكم، وقبـل التنفيذ الفعلي، أو حتى خلاله.
وفي الحديث أن النبي الكريم قال لأصحابه عندما نقلوا إليه فرار (ماعز بن مالك) عندما استحدّ به الرجم ففرّ فلاحقوه “ألا تركتموه، فلعلّه يتوب، فيتوب اللّه عليه”( ).
فحديث قصة ما عز حين شهد على نفسه بالزنا، وفيها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، ورده مراراً، وقال له: “ويحك ارجع، فاستغفر اللّه، وتب إليه”( ).
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “ويحك لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت”( ).
ومحاولة رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه إثناء (ماعز) و(الغامدية) عن الإقرار ونكوله عن الاعتراف يثير قضية فى منتهى الأهمية، وهي أن من الممكن تلافي الحكم وإقامة الحد، وأن الأمر ليس كما يحاول البعض إظهاره أنه “حق الله” الذي لا يملك القاضي التصرف فيه.

والشائع أن جريمة (الشرف)هي الجريمة التي تتم منأحد أقرباء المرأة، سواء كان أخاً أو أباً أو زوجاً، إذا شك في سلوكها أو سمع أقوالاًتسيء لها وتتهمها بارتكاب الفاحشة، أو إذا ظهر عليها أعراض مثل الحمل، أو غيابالبكارة.
فجريمة قتل (الشرف) تتم بناءً علىشك أحد ذوي القربى في إحدى قريباته، والثابت من القرآن ومن صحيح السنة أن جريمةالزنا لا تثبت إلا في حالتين اثنتين:
أولاهما: أن يعترف الزاني أو الزانية بالفعل، وأنيراجعه الحاكم أربع مرات ليتأكد من وقوع الجريمة كاملة، وليتأكد من أنه يدرك حرمةهذا الفعل.
والثانية: أن يشهد أربعة شهود عدول رجال في موقف واحدعلى أنهم رأوا فعل الزنا كاملاً، كالمرود في المكحلة.
فإذا شهد ثلاثة وامتنع الرابع أقيم عليهم حدالقذف.
وإذا شهد أربعة ثم تراجع أحدهم عن شهادته؛ أقيم أيضاً على الثلاثة حد القذف، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبدًا وأولئك هم الفاسقون} [سورة النور: 4].
وجمهور العلماء على أن الحمل لا يعتبر بينة علىالزنا؛ لأن الحمل يمكن أن يحدث نتيجة الإكراه، أو في حالة تخدير المرأة، وبذلك لايطبق الحد على المرأة الحامل بغير زواج إذا لم تعترف.
والثابت عن رسول الله صلى اللهعليه وسلم أنه قال: “ادرؤوا الحدود ما استطعتم، فإن وجدتم مخرجًا، فخلّوا سبيله، فإنّ الإمام أن يخطئ في العفو خيرٌ له من أن يخطئ في العقوبة”( ).
وفي خبر ماعز بن مالك الغامدي أنه حين جاء إلى النبي الكريم يقر بما اقترفه من غفاحشة الزنا أعرض عنه النبي الكريم عدة مرات ثم سأل: “أبك جنون”؟ قال: لا( )، وسأل عنه: “أبه جنون؟”، “أشرب خمراً؟”( ).

والتأكيد على وجوب توفر أربعة شهود يشهدون على الفاحشة بوصف صريح يهدف إلى التقليل من ظواهر الوشاية فيمنا يتعلق بجرائم الزنا، خاصة حين نتذكر أن عقوبة الشاك أو المتردد هي حد القذف الذي هو نتيجة اتهام لامرأة أو رجل بدون بينة.
والأمر يختلف بالنسبة للزوج؛ فالزوج إذا رأى من امرأته ما يريبه، فبينهما حد الملاعنة، وحد الملاعنة أن يشهدالزوج أربع شهادات بالله أنه من الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان منالكاذبين.
ويدرأ الحد عن المرأة أن تشهد أربع شهادات بالله أنه من الكاذبين،والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.

إن إلحاح رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه في محاولة درء توقيع العقوبة المقدّرة يوضّح تماماً أن من سلطة القاضي أن يدرأ الحدّ بما يمكن أن يثار من شبهات، أو ما يلقيه في روع المتهم من الإنكار، أو حتى تلقينه الإنكار صراحة.

ويلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه لم يسأل فى حالات الزنا التي عرضت عليه عن الشريك الآخر فى العملية الذي يفترض أنه يستحقّ العقوبة نفسها، مما يؤكد ما ذهبنا إليه من الزهد فى توقيع العقوبة.

وفي هذا السياق يقول النبي الكريم: “تعافوا الحدود”.
وهذا التوجيه يفتح باباً واسعاً للتصرّف فى موضوعات الحدود ما بين الأطراف المشتركة دون الالتجاء إلى المحاكم.

وهكذا فإن المقصود بالعقوبة هم أولئك المجاهرون الذين يباهون بما يصنعونه من فحشاء وهؤلاء بكل تأكيد يسيئون إساءة بالغة إلى استقرار المجتمع والعفاف والفضيلة فيه.
وقد رغب الإسلام في ستر المسلم نفسه وستر غيره من المسلمين، فعن أبى هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “من ستر مسلمًا ستره اللّه فى الدّنيا والآخرة”( ).
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “يا هزّال لو كنت سترته عليه بثوبك لكان خيرًا لك ممّا صنعت”( ).
‏وقال صلى الله عليه وسلم: ” كلّ أمّتي معافًى إلّا المجاهرين وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملًا ثمّ يصبح وقد ستره اللّه عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربّه ويصبح يكشف ستر اللّه عنه”( ).

وقال تعالى: {إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدّنيا والآخرة واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون} [سورة النور: 19].

ولا شك أن هذه الأدلة واضحة في وجوب درء الحدود قدر المستطاع، عصمة لدم الإنسان وإفساحاً لباب التوبة والاستغفار.

وقد جاءت الشرائع جميعاً شديدة وصارمة في مسألة قتل الإنسان، حتى أنها أوجبت الخلود في النار لقاتل النفس الإنسانية، كما تدل على قوله سبحانه وتعالى: {ومن يقتل مؤمنًا مّتعمّدًا فجزآؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا} [النساء: 93].
واعتبر الإسلام أن قتل نفس واحدة مساوٍ في الإثم قتل جميع الناس.
وقد دل على ذلك قوله تعالى: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا، ولقد جاء تهم رسلنا بالبيّنات، ثمّ إنّ كثيرًا مّنهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} [المائدة: 32].

قال الله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم ألاّ تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا ولا تقتلوا أولادكم مّن إملاقٍ نّحن نرزقكم وإيّاهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون} [الأنعام: 151].
وقال تعالى: {ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليّه سلطانًا فلا يسرف فّي القتل إنّه كان منصورًا} [الإسراء: 33].
وقال تعالى في وصف عباد الرحمن: {والّذين لا يدعون مع اللّه إلهًا آخر ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا} [الفرقان: 68].

وقد فرض الشرع عقوبة على من يتهم شخصاً بالزنا دون بينة، ولكن العقوبة الأشد هي في حق من يقتل نفساً بغير حق، بناء على أوهام أو ظنون، ومن هذا الباب القتل بذريعة هتك العرض فهو جريمة، لأن القتل اعتداء على حرمات الله.
وفي حال ثبوت العلاقة الجنسية غير المشروعة فإنه لا يحق شرعاً للأب ولا للأخ ولا للزوج تطبيق الحكم ؛ فإنزال العقوبة بالخاطئ الآثم هو من اختصاص القضاء، وقيام الأفراد بتطبيق الأحكام والعقوبات هو افتئات على الحاكم ومعصية لله تعالى.

ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الفقهاء ألحق القتل بدافع الشرف بباب درء الصائل، واعتبر القتل في هذه الحالةكالقتل في حالة رد الصائل الذي يقتحم الدار ليسرق أو يقتل، وفيه ورد الحديث الشريف من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون نفسه فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن هذا المنطلق تم وصف هذا اللون من القتل على أنه قتل مباح، ويستدلون على ذلك بحديث مابور الخصي.
وخلاصة خبر مابور الخصي ما حكاه ابن إسحق في السيرة أن المقوقس ملك مصر أهدى للنبي الكريم جارية وغلاماً وقد تزوج النبي الكريم الجارية وهي مارية القبطية وقبل الغلام وهو مابور، وكان مابور يخدم النبي الكريم في بعض العوالي حيث أسكن مارية القبطية، وخلال ذلك جاء من يشي بهما للنبي الكريم ويتهم مابور بالفاحشة مع مارية، ونقل ابن إسحق أن النبي الكريم قال لعلي بن أبي طالب اذهب يا علي فاقتل مابور ، وتوجه علي من فوره إلى البستان حيث يقيم مابور وهو مشرع السيف وحين رآه مابور عرف مراده فهرب فتبعه علي فصعد شجرة فتسلق وراءه علي شاهراً سيفه، فسقط مابور من السجرة فانكشفت عورته فإذا هو مجبوب!! فعاد علي إلى النبي الكريم فقال يا رسول الله أحدنا ترسله في أمر أفيكون كالسكة المحماة ينفذ ما أمرته أن أن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب؟ فقال له النبي الكريم بل إن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب فأخبره علي بما رأى فقال له النبي الكريم: أحسنت فكف عنه حينذاك.
وحديث مابور الخصي حكاية مضحكة، فهي في عرف المحدثين نصوص ضعيفة واهية غير مقبولة سنداً ولا متناً، نقلها الأصفهاني في الحلية والمجلسي في بحار الأنوار، وعلى الرغم من وهاء سندها واضطراب متنها فإنها تجد من يرويها عادة على أساس أنها سنة نبوية!!.
ومن المخجل أن نتورط برواية نصوص كهذه على أنها من السنة، ونبرر بها جرائم القتل، فالحكاية هذه تتهم النبي الكريم بأنه قمع قول يصدر أحكامه الشرعية بناء على الوشايات والإشاعات، وأنه أمر بإقامة الحد بغير بينة ولا شهود، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يأمر بذلك، وأنه لم يمنح الخاطئ أي فرصة للدفاع عن نفسه أو إثبات براءته، وأنه أمر بقتل العبد في جريمة الزنا وقد أجمعت الأمة على أن ليس على العبد رجم في الزنا وأن عقوبته نصف عقوبة الحر، وأن النبي أمر بمعاقبة أحد طرفي الزنا وترك الآخر، وهو موقف يتنافى مع العدالة ومع المنطق، إضافة إلى تفاصيل الحكاية الكاريكاتورية في تسلق الجدران والتعربش على الشجر وانكشاف الثياب وهي حكاية لا تستقيم في شيء سنداً ولا متناً، ولا تمت للعقل ولا للمنطق بأي سبب ولا نسب.
إن الصحيح من سيرة النبي الكريم أنه جاءه هلال بن أمية ثائراً هائجاً وقد قذف امرأته بشريك بن سحماء!! وذكرذلك للنبي الكريم أمام جمع من الصحابة، وكان الموقف يستدعي أن يرسل النبي علياً بسيفه ذي الفقار ليضرب به دفاعاً عن العفاف الاجتماعي، ولكن موقف النبي الكريم كان في غاية الحكمة والبصيرة والاتزان وقال لهلال: أمعك بينة؟؟ ويشتد هنا انفعال الرجل ويقول: يا رسول الله أحدنا يجد مع امرأته رجلاً يذهب فيلتمس البينة!!؟ والبينة هنا أربعة شهود عدول يشهدون أنهم رأوا الفاحشة، ولكن النبي الكريم يكرر وهو على رأس المؤسسة القضائية: يا هلال.. البينة أو حد في ظهرك!! والحد هنا ثمانون جلدة بجريمة القذف بدون بينة! لقد كان أمراً محيراً ومفاجئاً لهلال بن أمية الذي وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه، فعلى الرغم من ظهور صدقه في دعواه ولكن النبي الكريم يطالبه بالبينة ويهدده بالعقاب!
لقد كان عرف الناس في الجاهلية أن القاتل هنا في هذه الحال يستفيد من العذر المحل ويبارك عمله الذي أقدم عليه على أنه غسل للعار ودفاع عن الشرف، ولكن من الواضح أن الشريعة أبطلت ذلك وأقامت نظام العدل والدولة المدنية المتحضرة مكان التقاضي بشرع الغاب، وبادر عدد من الصحابة بالدفاع عن هلال وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله أحدنا يجد مع امرأته رجلاً يذهب يلتمس البينة فلا يأتي بها حتى يكون الفاجر قد قضى نهمته!! ثم قال بغيظ: أحدنا يجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه، والله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا!! قال رسول الله: انظروا إلى صاحبكم إنه لغيور وأنا أغير منه وإن الله أغير منا!! ثم التفت إلى هلال وقال مرة أخرى: البينة أو حد في ظهرك!!
ويصر هلال على دعواه، وفي موقف متين في الدفاع عن رأيه يقول هلال: يا رسول الله! والله إني لصادق ولينـزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد!! في جرأة تعكس مدى ما منحه الإسلام للأفراد من جرأة في مناقشة الشريعة والدفاع عن الرأي.
وبالفعل فقد نزل القرآن في براءة ظهره من الحد بجريمة القذف وجاءت تفاصيل اللعان وفيها المنع من محاكمة الزوج بتهمة القذف إذا رمى زوجته، وهكذا فقد جاءت الآيات ببراءة الزوج القاذف ولكنها لم تتعرض أبداً لبراءة الزوج القاتل، وظل القتل بدافع الشرف مشمولاً بعموم تحريم القتل في الشريعة، ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً.

والخلاصة إن ما يجب التأكيد عليه هو أن جريمة القتل بدافع الشرف تخالف الشريعة في ثلاثة أمور كلها من الكبائر:
فهي أولاً إثبات للحد بغير بينة وهذا حرام وفيه عقوبة القذف على فاعله ومرتكبه إلا إن كان زوجاً أو زوجة ففيه اللعان، ويحرم بعد اللعان اتهامها بشيء، ولا شك أن أي اتهام بغير بينة هو في الواقع قذف بالباطل وهو من الكبائر.
والبينة كما هو معروف أربعة رجال عدول يشهدون برؤية الفاحشة بشكل ينقطع فيه أي التباس، وفي حال تردد أي من الشهود فالجلد ثمانين جلدة حكم كل من يشهد صادقاً أو كاذباً، وحين اعترض صحابي كريم على هذا الأمر وقال: يا رسول الله أحدنا يرى مع امرأته رجلاً، فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه، يذهب فيلتمس البينة فلا يعود حتى يكون الباغي قد قضى نهمته!! فقال النبي الكريم: انظروا إلى صاحبكم.. إنه لغيور وإن الله لأغير منه.
وهي ثانياً حكم بالقتل بغير حق، حتى مع افتراض الفاحشة فالعقوبة المقررة في الشرع هي الجلد، وهي خاضعة من وجهة نظرنا للتغيير بحسب واقع الأمة والبحث عما يردع الزناة ويكفهم عن غيهم وفجورهم.
وهي ثالثاً افتئات على ولي الأمر وهو حرام، إذ المكلف شرعاً بإقامة الحدود إنما هو الدولة بمؤسساتها القضائية والتنفيذية وليس ذلك أبداً من شأن الأفراد أياً كانت غيرتهم واهتماماتهم.
كما أن المواد التي نصت على إسقاط عقوبة القاتل بدافع الشرف في قوانين البلاد العربية تشتمل أيضاً على تمييز بين الرجل والمرأة في الحكم الشرعي وهو مرفوض شرعاً، ولم يرد في أي من الجرائم تمييز بين المرأة والرجل في العقوبة، بل يتساوى الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والمسؤوليات وفق ظاهر قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.

الباب الرابع

نســــــــــــــاء رائـــدات

نستعرض في هذا الباب أهم النساء في عصر النبوة، وهن النساء اللاتي حققن موقعاً رائداً في الحياة الاجتماعية وأسهمن بقوة في بناء مجتمع إسلامي متين.
لقد سلطنا الضوء في حياة هؤلاء النساء على الدور الإيجابي والبناء الذي قامت به النساء الرائدات في حقل تمكين المرأة بوجه خاص، وهدم حواجز الجاهلية التي كانت ترسم للمرأة مكاناً تبعياً ضعيفاً، وتحول دون مشاركة حقيقية وفاعلة في البناء الاجتماعي.
ولا بد أن نشير أننا استخدمنا المصطلحات الحديثة في بيان كفاح هؤلاء النساء، لتتم المقاربة على وجه واضح بين دورهن التنويري ورسالة المرأة في الواقع المعاصر.
وقد تم اختيار النساء جميعاً من عصر النبوة بهدف التأكيد على الآفاق التي منحها الإسلام للمرأة في عصره الذهبي.
لا نهدف بالطبع إلى سرد الحكايا والبكاء على الأطلال، بقدر ما نهدف إلى تقديم نموذج حضاري للمرأة المعاصرة، التي تريد المشاركة في الحياة العامة ولا تريد التخلي عن قيمها وثقافتها.

آسيا بنت مزاحم
الشموخ في مواجهة الفرعون

ورد ذكر هذه المرأة العظيمة في القرآن الكريم عدة مرات، وشرح لنا القرآن الكريم صمودها أمام فرعون، وكفاحها في مواجهة طغيانه وظلمه
“وضرب الله مثلاً للذن آمنوا امرأة فرعون إذا قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين”
تذكر الروايات الواردة عن أهل الكتاب أن اسم هذه المرأة العظيمة هو آسيا بنت مزاحم، وأنها كانت زوجة الفرعون رمسيس الثاني وهو فرعون موسى الذي يفترض أنه حكم مصر حوالي عام 1250 قبل الميلاد.

وطبقاً للمشهور من الروايات فإن عائلة يعقوب كانوا قد هاجروا إلى مصر في القرن السادس عشر قبل الميلاد بعد تولي يوسف الصديق لخزائن مصر كما شرح القرآن الكريم، ومن المعلوم أنهم أقاموا عدة قرون في مصر مع حكم الهكسوس الرعاة الذين حكموا مصر بين عامي 1648 وحتى عام 1570 قبل الميلاد، واعتبر المصريون حكم الرعاة الهكسوس حكماً أجنبياً غير وطني، وقاوموه، فلما عاد الحكم الفرعوني إلى مصر بطش بأعوان الهكسوس ومؤيديهم وكان منهم بالطبع بنو إسرائيل الذين نظر إليهم على أنهم بقايا العصر الاستعماري البائد وقد وجدوا أنفسهم منكشفين بلا غوث، وعوملوا كعبيد أرقاء، ثم أعلن فرعون مشروعاً دامياً للخلاص منهم وإنهاء وجودهم في مصر، وأمر بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم وفي ذلك بلاء عظيم.

كانت آسيا بنت مزاحم زوجة للفرعون واسمه الوليد بن مصعب وقيل بل الوليد بن الريان كما في المصادر العربية، أما الدراسات الغربية التي اعتمدت الرقم المصرية وحجر رشيد فهي تجزم أن موسى أدرك اثنين من الفراعنة وهما رمسيس الثاني حكم مصر لمدة 66 سنة من1279 ق.م.حتى1212 ق.م. وهو الذي ربى موسى، وهو زوج آسيا بنت مزاحم، أما الثاني فهو فرعون الخروج منبتاح بن رمسيس الثاني.

عاشت آسيا بنت مزاحم في قصر الفرعون بين زخرفه وبهرجه وملكه، ولا يوجد في تاريخ الملوك ملك أعظم غروراً وبطشاً من فرعون وحسبك منه أنه قال أنا ربكم الأعلى، ولو لم يكن من بغيه إلا ما نراه من هذه الأهرام العظيمة التي نقلت أحجارها من أسوان إلى الجيزة يعتلها فلاحون مصريون طيبون دفعوا حياتهم ثمن أوهامه وكبريائه، وكانوا يموتون في نقل هذه الأحجار العظيمة فلا يجدون من يدفنهم، وتذكر الأساطير أن عدد من قام ببناء هرم خوفو وحده أكثر من مائة ألف من فلاحي مصر، هلك آلاف منهم وهم لا يدرون أي فائدة سيجنونها إذا ما تم بناء قبر الفرعون، وهذا كله في بناء قبره ولا ندري كم أنفق في بناء قصره!!
وحسبك من البغي الذي بلغه الفرعون أنه أعلن إعلاناً واضحاً أنه ماض لذبح ذكور بني إسرائيل وترك نسائهم، ولم يكن لهذا السلوك الوحشي من تبرير إلا منام مزعج رآه الفرعون!!
كانت آسيا بنت مزاحم تعيش في قصر الفرعون وكانت ترف الملوك الذي يملأ عليها حياتها كافياً أن ينسيها هموم الناس وعناءهم، ولكنها لم تشأ أن تغرق في أوهام الترف الكاذب ولم تشأ أن تبتسم في الوجوه الكالحة، أو ترقص على جماجم المقهورين، لقد أدركت أنها تعيش في مستنقع الظلم والقهر، وأن عليها أن تفعل شيئاً لرفع الظلم والعناء عن الناس.
ويشير القرآن الكريم إلى أن آسيا بنت مزاحم عرفت الله حق المعرفة وعرفت زيف الباطل الذي يدعو إليه فرعون، وأدركت أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وقد تمكنت من إنقاذ حياة موسى بن عمران بعد أن جاء رجال الفرعون لذبحه وألقته أمه في صندوق من خشب لتلقطه مباشرة زوجة الفرعون، وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له، وحين جيء بموسى في التابوت إلى فرعون وهم بقتله صرخت آسيا بنت مزاحم وقالت قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً.
ومن المؤكد أن آسيا بنت مزاحم قامت بهذا اللون من الإحسان مع أطفال كثير من بني إسرائيل، ولكن القرآن لم يذكر لنا أكثر من عطفها على موسى بن عمران، ولكن دعاءها الذي نقله لنا القرآن الكريم : قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين، يوحي لنا بأن آسيا كانت تقود برنامجاً فدائياً لإنقاذ بني إسرائيل من هذه المحرقة المهلكة، وقد روى ابن كثير في تفسير القرآن العظيم أن فرعون هم بقتلها حين انكشف دورها في محاربة بغيه وألوهيته، فقد كانت آسيا تراقب موظفي القصر وتتخيرهم من أهل الإيمان الذين لا يقبلون بغي فرعون وبطشه، ومنهم ماشطة آل فرعون التي كانت تمشط أبناء فرعون فسقط منها المشط فقال سبحان الله!! فقالت البنت: أبي؟؟ قالت: لا، بل هو الله! ربي وربك ورب أبيك!! فلما علم فرعون بقولها أحرقها في زيت مغلي وقتل معها أولادها وهدم دارها وبدء بمراقبة زوجته آسيا التي كانت تصدع بالإيمان، ولا تخشى في الله لومة لائم.
وقد أورد ابن كثير أن فرعون اطلع على ما تقوم به زوجته آسيا بنت مزاحم وحين سألها اعتقادها صدعت في وجهه بالحق وقالت إنني مؤمنة بالله تعالى وإنك عبد لله، ولا يحق لك ظلم الناس والبطش بهم، وسرعان ما اشتعل الغضب في رأس الفرعون واستشار بطانة السوء من حوله وأشاروا عليه بقتلها، ولم يتردد فرعون في قتلها بوحشية سادية وقدمت آسيا روحها فداء لمبادئ الحق والخير التي آمنت بها ودافعت عنها.
إن إيراد اسم المجاهدة العظيمة آسيا بنت مزاحم بين هذه القائمة التي ندرسها لنساء رائدات إنما جاء في سياق النساء اللاتي حققن رسالتهن في الحياة شرفاء أحراراً وقضوا في سبيل رسالتهم أو أوشكوا، وقد كانت آسيا بنت مزاحم واحدة من هؤلاء النساء الرائدات في تاريخ العالم، واللاتي عملن في أقسى الظروف وأخطرها من أحل الحرية والعدالة والإيمان.

وفي الحديث عن ابن عمر قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت خديجة فقال: إن الله يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب، بعيد من اللهب، لا نصب فيه ولا صخب، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون”.
وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد.

خديجة بنت خويلد
شريكة الكفاح النبوي، وراعية حقوق الإنسان

تعتبر خديجة بنت خويلد واحدة من أهم النساء في تاريخ الإسلام وهي أول قلب اطمأن بالإيمان، وكانت إلى جوار الرسول الكريم في كفاحه وعطائه، وقد وضعت إمكاناتها وطاقاتها في خدمة الإسلام الذي رأت فيه خلاصاً للمرأة من مظالم الجاهلية، وتمكيناً لها في المشاركة في بناء المجتمع.

هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى قصي بن كلاب القرشية الأسدية، ولدت سنة 68 قبل الهجرة (556 م). تربت وترعرعت في بيت مجد ورياسة، نشأت على الصفات والأخلاق الحميدة، عرفت بالعفة والعقل والحزم حتى دعاها قومها في الجاهلية بالطاهرة، وكانت السيدة خديجة تاجرة، ذات مال، تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربة، وقد بلغها عن رسول الله أنه صادق أمين، كريم الأخلاق، فبعثت إليه وطلبت منه أن يخرج في تجارة لها إلى الشام مع غلام لها يقال له ميسرة. وقبل رسول الله ، وربحت تجارتها ضعف ما كانت تربح.
اهتمت خديجة بنت خويلد بشأن محمد ورأت فيه شاباً واعداً، وكانت ترى فيه مشروعاً كبيراً للخلاص الاحتماعي، ولما تبينت سائر أخلاقه وصفاته من خلال غلامها ميسرة الذي صاحبه في السفر، لم تتردد خديجة أن تعرض الزواج على محمد عبر صديقة لها يقال لها نفيسة، ، فقبل الرسول عرض الزواج منها، حيث تم عقد الزواج في لقاء أسري حميم حضره من طرف خديجة عمها عمرو بن أسد بن عبد العزى، وحضر أبو طالب بن عبد المطلب عم الرسول الكريم، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان لها من العمر أربعين سنة ولرسول الله خمس وعشرون سنة.

أنجبت له ولدين وأربع بنات وهم: القاسم (وكان يكنى به)، وعبد الله، ويسمى بالطيب أو الطاهر، ورقية وزينب وأم كلثوم وفاطمة.
عندما بدأ نزول الوحي وأتاه جبريل في غار حراء وقال له ( اقرأ بسم ربك الذي خلق رجع مسرعاً إلى السيدة خديجة وقد كان ترجف بوادره، فقال : “زملوني” ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال : “مالي يا خديجة؟” وأخبرها الخبر وقال: “قد خشيت على نفسي” ، فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق.
ويسجل لخديجة رضي الله عنها دور كبير في الأيام الأولى للرسالة مما يعكس بوضوح تمكين المرأة في عهد النبوة، فقد كانت جزءاً رئيساً من القرار في بيت النبوة، ومع ظهور أول إرهاصات الوحي كان دورها كبيراً في تثبيت قلب النبي الكريم، وحين صارحها بما يرى من إشارات النبوة مضت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي كان آنذاك أحد أبرز رجال العلم بالكتب الأولى في مكة المكرمة، وهذا يعكس وعياً فريداً لدى السيدة خديجة في إدراك مقاصد الأديان والرسالة المشتركة التي بشر بها الأنبياء. وحين استمع إليه قال له بوضوح: إنه والله للناموس الذي أنزل على عيسى ابن مريم وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
واختارت خديجة موقفها بجرأة وبسالة وقرت أن تخوض المواجهة حتى النهاية مع الجاهلية.
تمكنت خديجة من جمع ثروة كبيرة قبل الإسلام، عن طريق التجارة بين مكة والشام، وعلى الفور فقد وضعت كل إمكاناتها في خدمة الرسالة وراحت تعتق العبيد الذين تعرضوا للاضطهاد من قبل كفار قريش، ويقال بأن خديجة أنفقت جل ثروتها في شراء العبيد وإعتاقهم.
وحين اشتد الاضطهاد على النبي الكريم وقفت خديجة إلى جواره، وحين قررت قريش أن تقاطع المسلمين في شعب أبي طالب كان لدى خديجة فرصة للخروج من هذا الشعب والانتقال إلى منازل آل أسد كما فعل كثير من النساء حين الحصار، ولكنها اختارت أن تبقى إلى جوار زوجها إلى النهاية، وقد أثر الحصار بها تأثيراً بالغاً حتى هزل جسمها وشحب وجهها، ولم تعش بعد فك الحصار أكثر من خمسة وثلاثين يوماً ثم مضت إلى لقاء الله.
توفيت السيدة خديجة ساعد رسول الله الأيمن في بث دعوة الإسلام في السنة العاشرة للبعثة أي قبل هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بثلاث سنوات، ولها من العمر خمس وستون سنة، وأنزلها رسول الله بنفسه في حفرتها وأدخلها القبر بيده، وكانت وفاتها مصيبة كبيرة بالنسبة للرسول تحملها بصبر وجأش راضياً بحكم الله.
وبعد وفاتها أعرض النبي الكريم عن النساء والفرح وسمى العام كله عام الحزن، وقال عبيد بن عمير: حزن رسول الله على خديجة حزناً شديداً حتى خشي عليه.
وعلى الرغم من رحيلها فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينس لها الود والوفاء، وكان يفضلها على سائر زوجاته، وكان يكثر من ذكرها بحيث أن عائشة كانت تقول : ما غرت على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان النبي يكثر من ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صديقات خديجة فربما قلت له كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة، فيقول إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد.
وكان يحسن إلى صديقاتها ويكرمهن وفاء لذكراها، ويقول إنها كانت من صويحبات خديجة أو إنها كانت تأتينا أيام خديجة.
وقد أظهر النبي الكريم وفاء فريدا للسيدة خديجة عندما تحقق له الانتصار الكبير يوم فتح مكة، حيث كان يوم الفتح يوماً مشهوداً عظيماً، ودخل رسول الله مكة ظافراً منتصراً، وبادر زعماء مكة في دعوته إلى دورهم وقصورهم ومنازلهم، وفرشوا له البسط الحمراء والموائد والأرائك ولكنها اجتاز تلك البيوت طلها ومشى على ناقته حتى وصل إلى مقبرة الحجون شمال المدينة وهناك عند حجارة سود أمر النبي الكريم أن تضرب خيمته، إنها المرأة التي كانت شريكة الكفاح والجراح ومن حقها اليوم أن تكون شريكة النصر والنجاح، وهناك عند قبرها راح النبي الكريم يستقبل الناس، وجاءه الخاطئون الذين حاربوه عشر سنوات فكان يعفو عنهم ويستغفر لخديجة، ويذكر أيامها الكريمة، إنها قصة وفاء وحب طاهرة أراد النبي الكريم أن يعلم من خلالها الناس أن المرأة شريك كامل في بناء الحياة وفي الإصلاح الاجتماعي.
وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكر خديجة يوما من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت هل كانت إلا عجوزاً فأبدلك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبدا.
ويمكن الإشارة إلى دور خديجة في تمكين المرأة من الجوانب الآتية:
• خديجة كانت صاحبة ثروة وتجارة، وقد كانت مثالاً واضحاً لتمكين المرأة وحقها في إدارة ثروتها والاتجار بها، والسفر والانتقال إلى حيث تحتاج قوافلها واستئجار من تراه مناسباً لإدارة عملها التجاري.
• خديجة بادرت بنفسها إلى اختيار زوجها وهدمت بذلك تقليداً كان مستقراً في العرف الجاهلي، وذلك حين قررت بنفسها أن تختار زوجها وأن تخطبه لنفسها، وذلك توجيهاً للنساء وإرشاداً لهن، ودعوة لرفض الدور السلبي العاجز الذي ألزمت به المرأة في أمر الزواج حيث يقتصر دورها على الموافقة أو الرفض، وهي الموافقة التي تكون عادة تحت سلطان الحياء والإكراه ورغبة المجتمع.
• خديجة كانت صاحبة مبادرات وكان لها دور كبير في ثبات النبي الكريم أول أيام الرسالة وقد أدركت بوعي ظاهر تكامل رسالات السماء، وحققت فرصة هامة لأول إخاء ديني بين الإسلام والمسيحية عبر ورقة بن نوفل الذي كان عالماً مسيحياً آنذاك وشارك في تقديم الرسالة الإسلامية للناس.
• خديجة أطلقت أول مشروع عربي لتحرير العبيد والثورة على العبودية، حيث رصدت جزءاً كبيراً من ثروتها لمحاربة الرق، وتحرير الرقاب، وقد أعتقت عشرات العبيد والإماء، ولم تشأ أن تستخدمهم بعد إعتاقهم، بل كانت تتمثل بقول الله تعالى: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً.
• خديجة أنجزت نموذجاً رائعاً للزوجة الحكيمة التي ملأت بيت زوجها بالمحبة، وقدمت أروع الأدلة على منزلة المرأة في الإسلام ودورها كحبيبة وزوجة كريمة، وصارت حياتها الطاهرة رمزاً ملهماً للحب الحلال، وعمران البيوت بالدفء والحب والحنان، وكان النبي الكريم يلخص ذلك بقوله: إن الله رزقني حبها.

عائشة بنت أبي بكر
أم الفقهاء، ومدرسة الحب الطاهر

هي عائشة بنت أبي بكر الصديق، وهي أم المؤمنين، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهر نسائه، وأمها أم رومان ابنة عامر الكنانية،
كنيتها أم عبد الله، ولقّبت بالصّدّيقة، وعرفت بأم المؤمنين، وبالحميراء لغلبة البياض على لونها.

ولدت عائشة في مكة المكرمة في بيت أبي بكر وسرعان ما ظهر نبوغها وتميزها، وسرعة بديهتها وقوة حافظتها، وفي بيت النبوة تمكنت السيدة عائشة من جمع طائفة كبيرة من الشعر العربي وأخبار الرجال، وصار النبي الكريم إذا قام بزيارة أبي بكر يستنشدها الشعر وهي طفلة ، ويستمع إلى روايتها لآداب العرب وحكمهم مما حفظته بنبوغ ظاهر.
ولعل زيارة النبي الكريم لها وهي طفلة واستماعه لها واهتمامه بها هو الذي دفع بعض المؤرخين إلى افتراض أنه تزوجها طفلة صغيرة، والحق أنه ما تزوجها إلا بعد مرور نحو عام من الهجرة إلى المدينة ونرجح من الأقوال أنها كانت آنذاك في الثالثة عشرة من عمرها وما روي عن زواجها أصغر من ذلك فهو محمول على ما كان قد ظهر من اهتمامه بها وهي طفلة.
إضافة إلى ذلك فإن السيدة عائشة كانت قبل ذلك مخطوبة لجبير بن مطعم في مكة مما يدل أن سنها كان مناسباً للزواج قبل الهجرة فكيف بعد الهجرة بسنتين؟
ومن المنطقي أن جبير بن مطعم قد خطب عائشة قبل اشتداد العداوة بين المسلمين والمشركين والأرجح أنه خطبها قبل النبوة وهذا كله يرجح أن تكون سن عائشة أكبر مما أورده المفسرون وكتاب السير.
كما أن كتاب السير أشاروا إلى أن خولة بنت حكيم ذكرت للنبي أمر الزواج بعد خديجة وقالت له إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً وذكرت له سودة بنت زمعة وعائشة بنت أبي بكر مما يدل أنهما كانت في وضع مناسب للزواج.
وحين ذكرت خولة بنت حكيم لأبي بكر أن رسول الله يذكر عائشة قالت أم رومان لزوجها أبي بكر: “هذه ابنتك عاثشة قد أذهب الله من طريقها جبيرا وأهل جبير، فادفعها إلى رسول الله، تلق الخير والبركة

تزوجها رسول الله في المدينة المنورة، ودخلت بيت النبوة لتزداد معرفة وعلماً ونبوغاً، حتى صارت مقصد الناس في معرفة دقائق الوحي والتنزيل، ولم تتردد عائشة في الفتيا ونشر المعرفة، وروى لها الأئمة عشرات المرويات وسجل لها كثير من الاجتهادات الجريئة التي تدل على قوة علمها وتمكنها في المساهمة في الحركة العلمية.
ولن نطيل القول في تفاصيل حياتها، فقد كان لعائشة رضي الله عنها تجربة حياة طويلة، و وفي قراءة موجزة فمن المعلوم أن السيدة عائشة رضي الله عنها عاشت إلى جوار النبي الكريم وأنه كان يأتمنها على سره.

وفي خلال تسع سنوات عاشتها مع الرسول الكريم ارتبط باسمها أحداث كبيرة عدة، منها المشاركة في الغزوات والمعارك وإصلاحها أمر الأفراح والأعراس، وقيامها بترتيب البيت النبوي، ورواية العلم عن رسول الله.
كما ارتبط اسمها بحادثة الإفك المريرة التي عانت منها طويلاً وأوشكت أن تقسم مجتمع المدينة، ولكن الله برأها بآيات بينات في سورة النور.
وتعتبر عائشة أوثق الشهود على الأيام الأخيرة من حياة رسول الله حيث كان يطبب عندها، واستأذن نساءه أن يمرض عندها حتى مات في بيتها.
وقد جمعت عائشة بين العلم والنسب والموهبة وأخذت علماً كثيراً من رسول الله ومن أبيها أبي بكر الصديق.

وبعد رحيل النبي الكريم واصلت عائشة دورها القيادي في تمكين المرأة وشاركت بفاعلية كبيرة في الحياة العامة، وهي الوحيدة من بين نساء النبي الكريم التي لا تعرف زوجاً غيره فقد كن جميعاً أرامل أو مطلقات إلا عائشة رضي الله عنها.
وانخرطت في النشاط السياسي ولكنها لأسباب معقدة وغير متوقعة وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع جيش علي، لم تكن تريدها، الأمر الذي أدى إلى وقوع فتنة عظيمة ودفعت السيدة عائشة ثمناً غالياً، ولكن علياً رضي الله عنها أكرمها وأرسل معها وفداً كبيراً من النساء حتى أوصلنها إلى المدينة المنورة حيث أمضت بقية أيامها إلى أن لقيت وجه الله عام57 هجرية.

وفي الواقع فإن تفصيل حياة السيدة الكبيرة عائشة يتطلب مجلدات كبيرة لا يتسع لها المقام، ولكننا هنا معنيون بالإشارة إلى أهم المبادرات التي قامت بها السيدة عائشة رضي الله عنها لتمكين المرأة في المجتمع، ومساعدة النساء على المشاركة الفاعلة في بناء الحياة، وفيما يلي أهم مبادراتها الكريمة:

• الريادة العلمية فقد تبوأت عائشة منزلة فريدة بين نظائرها من النساء وأصبحت بحق واحدة من أكبر الفقهاء في عصر الراشدين، واشتهر مذهبها في كثير من المسائل، وقد صنف عدد من العلماء كتباً خاصة عن علم عائشة وفقهها واجتهادها ومكانها بين العلماء، وعرفت السيدة عائشة بضبطها وحفظها وكان الصحابة يأخذون عنها ويروون ما تقدمه من معارف وعلم، واشتهرت بأنها كانت تعلم الرجال والنساء، وقد عد الحافظ المزي من تلامذتها مائتين وسبعة وأربعين عالماً، وبلغ عددهم في الكتب الستة 299 عالماً منهم 232 من الرجال وقد ترجم لهم فرداً فرداً. كما بلغ مجموع مروياتها في كتب السنة النبوية 2110 أحاديث، وقد اتفق البخاري ومسلم على رواية 147 حديث لها، فهي بذلك أحد الخمسة الكبار الذين هم أكثر من روى عن رسول الله السنن.

• المشاركة العلمية بين الرجال والنساء، وإتاحة الفرصة للتبادل العلمي والثقافي، وكسر حواجز المجتمع المغلق ، ذكورياً أو أنثوياً، وبناء تشارك حقيقي في العلم والمعرفة بين الرجال والنساء، وفي ترجمة عائشة اليوم 202 تلميذاً من رجال الصحابة والتابعين أخذوا عنها علمها وفقهها، وكذلك أخذت هي بدورها عن عدد من علماء الصحابة، وهو شاهد كبير على دور المرأة في الحياة العلمية.

• المشاركة السياسية ،فقد أكدت عائشة حضورها في سائر الأحداث السياسية سواء في حياة رسول الله أو بعده، وقد انخرطت مباشرة في الحياة العامة وهو دليل واضح على مشاركة المرأة ودورها القيادي بغض النظر عن صواب خيارها السياسي أو خطئه. كما شاركت عائشة في عدد من الغزوات والمعارك مع الرسول الكريم، حيث كانت تسقي الجرحى وتداوي المرضى، كما كانت تشارك في الرأي والمشورة.

• الجرأة العلمية في الاجتهاد والرأي، وقد اشتهرت عائشة بذلك وكانت لا تتردد في إظهار موقفها الفكري والعلمي، ولو خالف رأي الجمهور، وقد أنكرت على أبي هريرة وأبي الدرداء كثيرا من مروياتها، كما ردت على عدد من الصحابة وأفتت بخلاف ما كانوا يفتون به، وقد جمع الإمام الزركشي مواقف السيدة عائشة الجريئة في الفتيا والرد على علماء الصحابة في كتاب خاص أسماه: الإجابة في استدراكات عائشة على الصحابة، كما لخصه السيوطي في جزء سماه عين الإصابة في استدراكات عائشة على الصحابة. وتحدث الناس بعلمها وموهبتها ونبوغها، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما. وقال التابعي الجليل أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: “ما رأيت أحدا أعلم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أفقه في رأي إن احتيج إليه، ولا أعلم بآية فيما نزلت ولا فريضة من عائشة”. وقال عروة بن الزبير “ما رأيت أحدا أعلم بالحلال والحرام والعلم والشعر والطب من عائشة أم المؤمنين.

• فقه الحب: تصدرت عائشة رواية فقه الحب، وكانت تروي دقائق العلاقة بينها وبين رسول الله في إرادة واضحة لبناء ثقافة البيوت الدافئة، وذلك في سعي رشيد لإدخال الحب والفرح إلى حياة الناس في إطار الحياة الزوجية وبالتالي لمقاومة الانحراف الأخلاقي الذي يكرس الحب خارج مؤسسة الزواج وخارج إطار الأسرة والعائلة.
ويمكن التماس عشرات الأحاديث التي روتها عائشة في الكتب الستة وغيرها وهي تتحدث عن مواقف النبي الكريم في بناء ثقافة الحب الزوجي، وتروي دقائق الأحكام الشرعية فيما يكون في الأفراح والأعراس من السرور والفرح والجزل، وهي مواقف كانت تتعرض لنقد من بعض الصحابة ولكن عائشة كانت تدافع عن رأيها دوماً في هذه المرويات إصراراً منها على وجوب تجميل الحياة الزوجية، وتأكيداً على أنه ما إن تنطفئ شموع الحب الحلال حتى توقد شموع الخطيئة.
لم تكن عائشة ترى تعبير العشرة بالمعروف كافيا لرسم علاقة الزوجين بل كانت تصر على استعمال لفظة الحب، فالعشرة بالمعروف هي الجانب القانوني في العلاقة بين الزوجين، ولكن الحياة الزوجية لا تقوم على مقاطع الحقوق فحسب، بل هناك أفق أكبر لرباط القلب بالقلب والروح بالروح، ولذلك كانت تسأله كل يوم: كيف أصبح حبك لي يا رسول الله؟؟

وقد اختصها النبي الكريم دون سائر النساء بعناية خاصة في أيامه الأخيرة، واستأذن نساءه أن يمرض عندها، فكان عندها في أيامه الأخيرة وكان حريصاً أن يعمر حياتها بالحب والدفء والحنان، وحين كان ماضياً لرحيله الأخير اختار أن يرحل على صدرها الكريم حتى قالت عائشة: مات رسول الله بين سحري ونحري، وهي إرادة نبوية حكيمة أن يتحدث الناس عبر الأجيال عن قصة حب خالدة زرعت في الأرض وأينعت في السماء

ومن فتاوى السيدة عائشة الجريئة في تمكين المرأة:
• ردها على التابعي مسروق بن الأجدع في رواية حديث: تقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، فغضبت عائشة غضباً شديداً وقالت: شبهتمونا بالكلاب والحمير؟؟ لقد كان رسول الله يصلي إلى السرير وأنا عليه مضطجعة وكان السرير بينه وبين القبلة.
• ردها على حديث: الشؤم في ثلاث المرأة والدابة والدار، وقالت عائشة مستنكرة: لم يحفظ أبو هريرة وفي رواية نسي أبو هريرة إنما كمان رسول الله يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: الشؤم في ثلاث وقد أبطل الإسلام ذلك كله!!
وفي رواية: لم يحفظ أبو هريرة، إنما قال رسول الله: قاتل الله اليهود، كانوا يقولون: الشؤم في ثلاث: المرأة والدابة والدار
وهكذا فقد صححت عائشة فهماً خطيراً أوشك أن يعود بثقافة الجاهلية عبر كتب السنن، ولكنها استطاعت رد ذلك وأظهرت الحقيقة الواضحة في تمكين المرأة ورفض تهميشها ورفض التشاؤم بها.
• كما ردت عائشة على ابن عمر وهو فقيه جليل وصحابي كبير روايته لحديث إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، وقالت: والله ما قال رسول الله هذا، وقرأت: ولا تزر وازرة وزر أخرى، وبذلك أكدت السيدة عائشة على مسؤولية الإنسان عن فعله، ورفضت أن يحاسب الإنسان على جناية غيره.
• وفي دفاعها عن كرامة الإنسان ومنزلته فإنها ردت على أبي هريرة روايته لحديث: من غسل ميتا اغتسل ومن حمله توضأ، فبلغ ذلك عائشة فقالت: أو ينجس موتى المسلمين؟ وما على رجل لو حمل عودا ؟؟!.

ولا شك أن استدراكات عائشة وردودها تعكس لك القوة الفقهية التي أوتيتها، والمنزلة التي بلغتها المرأة الفقيهة في الإسلام حتى تتولى بنفسها الفتيا وترد على مشاهير العلماء والفقهاء بالحجة والبرهان.

بقي أن نقول إن عائشة تعرضت لنقد شديد بسبب موقفها السياسي في معركة الجمل، وتواترت الروايات أنها هي ندمت بعد ذلك، ولكن ندمها كان بسبب خطأ اختيارها السياسي، وليس بسبب المشاركة السياسية من جهة المبدأ.

وتبقى عائشة رضي الله عنها رائدة النساء في تمكين المرأة، وفي المشاركة الفاعلة في العلم والعمل، وفي الجرأة في الحق، ولا شك أن هذه المزايا هي التي جعلتها أحظى النساء في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الخنساء
أم الشهداء والشعراء
تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية

ملأ اسم الخنساء صحائف الأدب العربي، في الجاهلية والإسلام، فقد كانت الخنساء شاعرة مجيدة، وقد طارت أشعارها في الآفاق، وحين دخلت في الإسلام كانت شهرتها قد سبقتها وروى شعرها الناس، ولكن الإسلام منحها بعد ذلك مزيداً من الشهرة والمجد ونالت شرف أم الشهداء، وقدمت للتاريخ أعظم أمثولة للمرأة المجاهدة الباسلة.
وقد وصلت على المدينة المنورة مع قومها من بني سليم
وأشهر ما روي من شعرها في الجاهلية بكاؤها على أخويها معاوية وصخر، حيث قتلا في الغزو ولكن صخراً كان أحبهما إليها وكان حليماً جواداً محبوباً في العشيرة، وكان غزا بني أسد فطعنه أبو ثور الأسدي فمرض منها قريباً من حول ثم مات فلما قتل أخواها أكثرت من الشعر وأجادت.
فمن قولها في صخر أخيها:
أعيني جودا ولا تجمـــــدا ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل العماد عظيم الرمــا ……… د ساد عشيرتــه أمردا
ومن قولها أيضاً في صخر أخيها:
وإن صخراً لوالينا وسيدنا وإن صخراً إذا نشتو لنحار
جواب قاصيةٍ، جزاز ناصيةٍ، عقاد ألويةٍ،للخيل جرار
أشم أبلج يأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
وقالت:
يذكرني طلوع الشمس صخراً وأبكيه لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكيــــــن حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وأجمع أهل العلم بالشعر أنه لم يكن امرأة قط قبلها ولا بعدها أشعر منها

قدمت على رسول الله من نجد مع قومها من بني سليم فأسلمت معهم، وسرعان ما تسامع الناس بموهبتها وشعرها، ووجدت الخنساء فرصتها في الإبداع في صحبة الرسول الكريم، وقد جرى شعرها على كل لسان، وأجمع أهل العلم بالشعر أنه لم تأت امرأة في مثل موهبتها وكفاءتها في الشعر والأدب، ووفرت لها الدولة الإسلامية منابر الإبداع، وصقلت موهبتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستنشدها شعرها، ويدعوها لإلقائه ويقول: هيه يا خناس…. أسمعينا!!
ويمكن القول إن الخنساء أسهمت بشكل واضح في تمكين المرأة حين اقتحمت فناً يكاد يكون آنذاك فناً خاصاً بالرجال، وقدمت إبداعها أمام مجامع الرجال وكسرت تقاليد موهومة كانت تحوبل بين المرأة وبين المشاركة الفاعلة في الحياة العامة.

أما أعظم مواقف بسالتها فهو موقفها يوم القادسية، فقد كان أبناؤها الأربعة في جيش سعد بن أبي وقاص الذي خاض القادسية، وبخلاف ما نعرفه من وهن الأمهات وخوفهن عندما يساق أبناؤهن إلى القتال فقد أظهرت الخنساء صلابة عجيبة حفظها لها التاريخ:
عن أبي وجزة عن أبيه قال: حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فقالت لهم من أول الليل: يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو!! إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غبرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ” فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها وجللت ناراً على أوراقها، فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.

لقد حفظ الرواة كلمات الخنساء وصارت كلماتها أشهر أدب البطولة والفداء، وقدمت للتاريخ نموذج المرأة المؤمنة، البصيرة بأن النصر لا يكون بدون تضحيات وأن الفوز لا يكون بدون صبر وفداء.
وتقدم أبناؤها الأربعة في ساعة واحدة من المعركة يقتحمون الموت ويشتاقون إلى نعيم الجنة، وعلى تخوم العراق في أرض القادسية قضى الفتيان الأربعة شهداء في سبيل الله.

وحفظ التاريخ للخنساء كلمتها العظيمة حين جاءها نعي الأربعة في ساعة واحدة فاستجمعت نفسها صبراً وقالت:
الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته!!

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة لكل واحد مائتي درهم حتى قبض رضي الله عنه.
واشتهر من أبنائها ابنتها عمرة بنت مرداس التي كانت شاعرة كأمها، وكذلك ابنها العباس بن مرداس الذي كان صحابياً وشاعراً، وقد روى له أبو داود وابن ماجه.

أسماء بنت يزيد بن السكن

يرد اسم هذه المرأة الأنصارية دائماً كلما ذكرت المرأة الجريئة والواثقة، وحياتها كانت تأكيداً لهذه الحقيقة، فقد سميت خطيبة النساء، وسميت خطيبة الأنصار.
هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأشهلية الأنصارية، وتكنى أم عامر، وقد بايعت رسول الله على الإسلام وشاركت في السلم والحرب واشتهرت ببسالتها في المعارك حتى روي أنها قتلت بنفسها يوم اليرموك تسعة من الروم بعمود خبائها.

وقد اشتهرت بمواقفها الجريئة في الحوار العام أمام الرسول والصحابة الكرام، وكانت تعقد مجالس النساء وتحصل منهن على تفويض للكلام باسمهن والمطالبة بحقوقهن، وبعد عدة جلسات مشاورة مع النساء طلبت منهن تفويضاً بالمرافعة أمام النبي الكريم، ثم مضت حاملة رسالتها إلى المسجد النبوي واجتازت بين الرجال حاملة هموم النساء إلى رسول الله، وفي وسط المسجد النبوي قامت خطيبة واثقة فقالت:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله!! أنا وافدة النساء إليك، وأعلم نفسي لك الفداء أنه ما من امرأة كانت في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأيي، إن الله بعثك إلى الرجال والنساء كافة فامنا بك وبإلهك وإنا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم ومفضى شهواتكم وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم وربينا لكم أولادكم أفما نشارككم في هذا الخير يا رسول الله؟؟

كانت أسماء بنت يزيد واضحة في مطلبها فهي تريد مشاركة تامة للنساء في ميادين الحياة، وتريد اعترافاً بدور المرأة كعامل حقيقي في بناء الأمة سواء كانت في غبار المعارك أو تراب الحقول أو كانت في رسالة التربية في الدار، وهي ظروف تختلف باختلاف النساء.

فالتفت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها عن أمر دينها من هذه ؟؟
قالوا يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا!!
وعلى الرغم من فرحه صلى الله عليه وسلم بجرأة المرأة وشجاعتها في الدفاع عن حقها، ولكنه أراد أن تعلم النساء أن رسالتهن في بناء البيوت السعيدة وإدخال الفرح والبهجة فيها، ومتابعة رسالة التربية والبناء هو من أشرف الأعمال وأبرها.
ليس المطلوب أن يتحول المجتمع كله إلى محاربين وجنود أو بنائين وحراثين، إن رسالة المرأة في صناعة الجمال والفن الشريف هي أيضاً رسالة شريفة وطيبة وبريئة.
وروى الأئمة شواهد كثيرة من جرأة أسماء بنت يزيد بن السكن ودفاعها عن قضايا النساء
عن أسماء بنت يزيد قالت: مر بى رسول الله وأنا في جوار أتراب ونحن عصبة من النساء ، فلوى بيده بالتسليم، فقال إياكم وكفر المنعمين! وكنت أجرأهن على مسألته، فقلت: يا رسول الله وما كفر المنعمين؟ قال لعل إحداكن أن يطول أيمتها عند أبويها ثم يرزقها الله زوجاً ثم يرزقها الله ولداً ثم تغضب الغضبة فتكفرها فتقول ما رأيت منك خيراً قط.
واشتهرت أسماء بجرأتها في الكلام في المجالس العامة وفي الحديث عن أسماء بنت يزيد قالت: كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم الرجال والنساء فقال : عسى رجل يحدث بما يكون بينه وبين أهله أو عسى امرأة تحدث بما يكون بينها وبين زوجها فأرم القوم (أي فتردد القوم أن يتحدثوا بذلك) فقلت : أي والله يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن!!
قال: فلا تفعلوا فإن مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة في ظهر الطريق فغشيتها والناس ينظرون

وعرفت أسماء بقوة الشخصية والحزم في الأمر، ولما طلقت من زوجها أبو سعيد الأنصاري بادرت بعد أيام قليلة للزواج من غيره نكاية به وإظهاراً لحق المرأة في اختيار شريكها واستئناف حياتها، وتذمماً من هيمنة الرجال على النساء، ولما همت بذلك أنزل الله آيات العدة فكانت أول من اعتدت من النساء.
عن عمرو بن مهاجر عن أبيه عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية أنها طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله عز وجل حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق فكانت أول من أنزلت فيها العدة للمطلقات.

وعرفت أسماء بأنها من النساء الفوارس، وشاركت بنفسها في عدد من الغزوات ولم تكن تكتفي بسقاية الجرحى وتمريض المصابين بل كانت تحمل السيف بنفسها وتصول على ظهور الخيل، واشتهرت أسماء بفقه الخيل، فكانت تصف عن خبرة وبصيرة كيف ينبغي أن يستخدم سلاح الخيل في الدفاع عن الحق ونصرة الأمة، ومتى يكون الخيل عاراً وشناراً وكبراً ومخيلة لا يرضاه الله، وفي ذلك روت عن رسول الله قوله:
الخيل في نواصيها الخير معقود أبدًا إلى يوم القيامة فمن ربطها عدةً في سبيل الله وأنفق عليها احتسابًا في سبيل الله فإن شبعها وجوعها وريها وظمأها وأرواثها وأبوالها فلاح في موازينه يوم القيامة ومن ربطها رياءً وسمعةً وفرحًا ومرحًا فإن شبعها وجوعها وريها وظمأها وأرواثها وأبوالها خسران في موازينه يوم القيامة.

وقد كانت تبادر إلى مواقف الهيجاء غير هيابة، ومن المدهش أن هذه المرأة انفردت من بين الرجال بأنها كانت تأخذ بخطام ناقة النبي الكريم، تقود زمامها بين الناس، وهو منصب يعادل في عرفنا إدارة المراسم الملكية أو الجمهورية، وقد نالت هذا المنصب على الرغم من توافر الصحابة الكرام من الرجال، ورغبتهم الشديدة في منصب كهذا،
وقالت ذات يوم: إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنزلت عليه المائدة كلها فكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة.

واشتهرت أسماء بالعلم والرواية، وقد روى لها أئمة السنن الأربعة النسائي والترمذي وأبو داود وابن ماجه كما روى لها البخاري في التاريخ الكبير، ومن أشهر تلامذتها من الرجال شهر بن حوشب ومهاجر بن أبي مسلم ومجاهد بن جبر.

أسماء بنت عميس
مهاجرة الهجرتين ومصلية القبلتين

أسماء بنت عميس الخثعمية، وهي أخت ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمها هند بنت عوف الجرشية الحميرية،

بدأت أسماء مشوارها كامرأة متميزة في مكة المكرمة، وكانت فائقة الجمال وقد تقدم إليها أشراف العرب يلتمسون ودها وخطوبتها، فكانت من نصيب جعفر بن أبي طالب، حيث كان أبو طالب زعيم مكة وشيخها، وكان جعفر معقد الآمال الكبار لبني عبد مناف، ونثرت للعروسين الكبيرين آمال كبار، وشاء الله أن يبادر العروسان للدخول في الإسلام، وبدأ العروسان بتحمل قدر الرسالة التي نذرا أنفسهما لأجلها، ولم يمض وقت طويل حتى ركب جعفر البحر مع زوجته على رأس ثمانين رجلاً من المهاجرين الفارين من اضطهاد قريش وظلمها.

ومن العجيب أن جعفر لم يكن من الذين خرجوا فراراً من المشركين فقد كان في عز ومنعة في قريش، فأبوه أبو طالب الذي كان يحمي النبي الكريم وهو على حماية ابنه جعفر أقدر، وأغلب الظن أنه راح إلى الحبشة بمهمة رسالية لقيادة المهاجرين، والتفاوض مع ملك الحبشة والبحث عن مهاجر ومنطلق للرسالة الجديدة، ومما يدل على ذلك أن النبي الكريم نفسه هاجر إلى المدينة وأقام فيها دولة الإسلام ولكن جعفر لم يعد من الحبشة واستمرت إقامته فيها بعد ذلك سبعة أعوام أخرى.
في الحبشة كانت أسماء بنت عميس عوناً لزوجها جعفر، وكانت تتولى أمر المهاجرات من الصحابيات اللاتي وجدن أنفسهن في غربة عن الأهل والبلد واللغة والعشيرة.

بعد أربعة عشر عاماً من الكفاح في الحبشة عاد الزوجان الكريمان إلى المدينة المنورة في يوم سعيد وهو اليوم الذي عاد فيه النبي الكريم ظافراً من المواجهة مع يهود خيبر، وحين رآهما اعتنق جعفر وقال فرحاً جذلان والله ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بعودة جعفر!!

وكانت لأسماء شخصية قيادية جريئة ولم تكن لتنام على ضيم، أخرج النسائي عن أبي موسى الأشعري قال جاءت أسماء بنت عميس إلى النبي صلى الله عليه وسلم زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها فقال عمر حين رأى أسماء من هذه قالت أسماء بنت عميس قال عمر الحبشية هذه؟ البحرية؟ كأنه يعرض بها، وأنها لم تشهد مع رسول الله المشاهد العظيمة في بدر وأحد والخندق، فقالت أسماء نعم.
فقال عمر سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم!! فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض الجفاة العداة في الحبشة، وذلك في كتاب الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله، ونحن كنا نؤذى ونخاف فسأذكر ذلك لرسول الله، والله لا أكذب ولا أزيد على ذلك فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله!! إن عمر قال كذا وكذا!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أهل السفينة هجرتان، قالت فلقد رأيت أبا موسى رضي الله تعالى عنه وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً يسألون عن هذا الحديث، ما من الدنيا شئ أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولكن فرحة أسماء بنت عميس بالعودة إلى الوطن وصحبة رسول الله لم تدم طويلاً فقد أرسل النبي الكريم جعفر بن أبي طالب أميراً ثانياً في غزوة مؤتة وسرعان ما جاء نبأ استشهاده حين حمل الراية بعد زيد بن حارثة، وقضى على مدخل أرش الشام شهيداً طاهراً يرسم مستقبل بلاد السام في الحرية والإيمان.

أمضت أسماء أيام حزنها لفراق جعفر وهي تحتسبه عند الله تعالى، ولم يكن أهل المدينة يجهلون مواهب أسماء ومنزلتها وعقلها، ولم تنته عدتها حتى كان الخاطبون من أشراف قريش يزاحمون ببابها، ورضيت منهم أبا بكر الصديق زوجاً كريماً تذكرها خصاله الحميدة بخصال جعفر عليه رضوان الله.
وفي حجة الوداع خرجت أسماء وهي حامل على وشك الوضع وبالفعل وضعت مولودها محمد بن أبي بكر في ذي الحليفة في طريق الحج، ولا شك أن ذلك يعكس إرادتها وحزمها في الأمور، فلم يثنها حملها ووضعها عن المشاركة في مهرجان حجة الوداع مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

وأمضت أيامها إلى جانب أبي بكر الصديق ناصحة مخلصة واعية كريمة، وقامت بدور كبير في المدينة في العلم والتعليم ونشر الوعي والتنوير، وأدخلت إصلاحات متعددة في حياة النساء مما تعلمته في الحبشة، وهي أول من ابتكر التابوت لتحمل به الجنائز تكريماً للموتى.

وكانت أسماء بنت عميس لا ترى بأساً بدخول الرجال على النساء وكان أبو بكر ربما جاء فرأى الرجال في بيته فكره ذلك وشكا أمره للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله إن الله برأها من كل سوء، ثم نادى في الناس ألا لا يدخلن رجل على مغيبة إلا أن يكون معه رجل او رجلان.
والتزمت أسماء بنت عميس وصية رسول الله فكانت لا تأذن لأحد بدخول دارها ما لم يأذن أبو بكر.
وبعد رحيل أبي بكر تقدم لخطوبتها علي بن أبي طالب وتم ذلك الزواج الكريم وكأنما كتب على أسماء أن تكون دائماً قفي قلب الأحداث الجسام، وبالفعل فقد صحيبت علياً في أيام الشدة والبأس وكانت له ناصحة شفيقة رفيقة، وكانت تشارك في الأحداث الهامة من دون أن تفرط بواجبها تجاه أبنائها من أزواجها الثلاثة، فقد كان أبناؤها أبناء زعماء كبار: جعفر الذي كان أول سفير في الإسلام، وأبي بكر وعلي اللذين كانا خليفتين كريمين، وذات يوم تفاخر ابناها محمد بن أبي بكر وعبد الله بن جعفر فقال كل واحد منهما أنا خير منك وأبي خير من أبيك، فقال علي لأسماء اقض بينهما فقالت لابن جعفر أما أنت يا بني فما رأيت شابا من العرب كان خيرا من أبيك وأما أنت يا بني فما رأيت كهلا من العرب خير من أبيك فقال لها علي ما تركت لنا شيئا، ولو قلت غير هذا لمقتك، فقالت والله إن ثلاثة أنت آخرهم لأخيار.

وعاشت أسماء بنت عميس في قلب الأحداث، فقد كانت قريبة من سائر الرجال الكبار الذين صنعوا تاريخ الإسلام، ولا شك أن جانباً كبيراً من الفضل يرجع إلى الأم الحكيمة التي قامت بتربيتها وهي هند بنت عوف الحميرية ، وقالت العرب لم يكن في العرب امرأة أحسن تربية ولا أكرم أصهاراً من هند بنت عوف فصهرها الأول رسول الله وهو زوج ابنتها ميمونة بنت الحارث، وصهرها الثاني العباس بن عبد المطلب زوج لبابة الكبرى وأصهارها الثالث والرابع والخامس جعفر ووصهارها الثالث والرابع والخامسووولاولووجعفر بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب أزواج أسماء بنت عميس، وصهرها السادس حمزة بن عبد المطلب زوج سلمى بنت عميس . وصهرها السابع الوليد بن المغيرة زوج لبابة الصغرى وهي أم خالد بن الوليد، وكان المغيرة من سادات قريش . فأولاد العباس وأولاد جعفر و أبي بكر وعلي وحمزة والوليد بن المغيرة أولاد خالة وجميعهم أحفاد هند بنت عوف أم أسماء.
ولدت لجعفر عبد الله بن جعفر، وعون بن جعفر، ومحمد بن جعفر، وولدت لأبى بكر محمد بن أبى بكر فى حجة الوداع، وولدت لعلى يحيى بن على فهم إخوة لأم.
وقد قامت أسماء بدور هام في إطفاء الفتن التي كان أعداء الإسلام يكيدون بها بين علي وأبي بكر، فمن المعلوم أن علياً تأخرت بيعته أول الأمر لأبي بكر، وكان في المسلمين من يدعوه لنبذ لبيعة، وكان من الممكن أن يتكرر ذلك بعد موت أبي بكر ولكن أسماء بنت عميس وقد حلت في دار علي بعد موت أبي بكر أسهمت في إطفاء هذه الفتن، وعرف الناس أن أبا بكر وعلياً أخوان في الله، وأن أبناءهما إخوة، وبالفعل فقد كان محمد بن أبي بكر ربيب علي بعد موت أبيه، وقد رعاه علي أحسن رعاية ثم عهد إليه بولاية مصر بعد أن ولي الخلافة، ونحن نعتقد أن هذا واحد من اظهر الأدلة على الأخوة التي كانت بين أبي بكر وعلي ولو كره ذلك بعض أهل التعصب والجمود.
ونالت أسماء بنت عميس منزلة عالية في الفضل والعلم ولا شك أنها أفادت من حياتها العامرة بين كبار الرجال، وروى لها الأئمة الستة البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه،
وقد عد الحافظ المزي في تلامذتها ستة عشر إماماً من أئمة الصحابة والتابعين فيهم عبد الله بن عباس وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو يزيد المديني وأبو موسى الأشعري وابنه أو بردة.
عاشت أسماء بعد علي زمناً ثم توفاها الله تعالى أيام معاوية.

أسماء بنت أبي بكر
الثورة في وجه الطغيان

أسماء بنت أبي بكر الصديق القرشية التيمية، زوج الزبير بن العوام وهي أم عبد الله بن الزبير، وهي ذات النطاقين وأمها قيلة وقيل قتيلة بنت عبد العزى، وكانت أسن من عائشة وهي أختها لأبيها، وكان عبد الله بن أبي بكر أخا أسماء شقيقها.

قال أبو نعيم : ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة وكان عمر أبيها لما ولدت نيفا وعشرين سنة وأسلمت بعد سبعة عشر إنسانا وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله ابن الزبير فوضعته بقباء.
وإنما قيل لها ذات النطاقين لأنها صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها سفرة لما هاجرا فلم تجد ما تشدها به فشقت نطاقها وشدت السفرة به فسماها رسول الله ذات النطاقين .

لم تكن أسماء بنت أبي بكر يوماً بعيدة من بيت النبوة والحكمة والعلم، فقهي بنت أبي بكر وهي زوجة الزبير بن العوام السابق إلى الإسلام والذي منحه الرسول الكريم لقب: حواري رسول الله، فقال إن لكل نبي حوارياً وحواريي الزبير بن العوام.

ظهرت شخصية أسماء بنت أبي بكر متفردة بين النساء، وكانت تتابع تطورات الدعوة عن طريق أبيها أبي بكر وعن طريق زوجها الزبير، وفي هجرة النبي الكريم كان لها دور بارز في تأمين الزاد والراحلة للمهاجر الكريم وصاحبه أبي بكر، ومع أن أمر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ظل سراً لا يعلمه أحد، حيث لم يصرح به رسول الله لأحد، ولكن أسماء كانت المرأة الوحيدة التي تم إطلاعها على تفاصيل رحلة الهجرة حين جاء النبي الكريم إلى دار أبي بكر في ساعة الظهيرة كما تقول أسماء، وهناك قامت أسماء بإعداد الزاد والراحلة للمهاجر الكريم، ولم تجد أسماء ما تشد به صرة الزاد الذي أعدته للمهاجرين الكريمين، وخشيت أن تطلب الماعون من الجيران فتفشي أمر الهجرة فعمدت إلى نطاقها فنزعته وشدته على صرة الزاد ومن ثم سميت ذات النطاقين.
وحين تحرك المهاجران قامت أسماء بإخفاء كل أثر يمكن أن يؤدي إلى افتضاح أمرهما،
قالت أسماء: ولم يمض وقت طويل حتى جاء رجال من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر قالت قلت لا أدري والله أين أبي قالت فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي.
لقد نالت نصيبها من فجور أبي جهل ولكنها كانت تعلم أنها تؤدي رسالة شريفة في حماية الرسول الكريم ومشروعه الحضاري في تحرير أرض العرب من الجهل والخرافة.

وواجهت أسماء عناء كبيراً في تبرير أمر خروج أبيها من مكة، وواجهت مشقة الحياة في ظرف سياسي وأمني دقيق، إذ كانت هدفا لبطش القرشيين ولكنها توكلت على الله واحتسبت عناءها في سبيل الله وكانت تتابع مسيرة المهاجرين الكريمين عبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر الذي كان يأتيهما في الفجر كل يوم يطلعهما على أخبار ما تبيته قريش.

ومن جانب آخر فقد واجهت أسماء قلق العائلة من رحيل أبي بكر ، خاصة أنه أخذ معه ماله كله لينفقه في الإسلام وفي حاجة رسول الله، ولما طار الخبر في قريش حضر إليها جدها أبو قحافة والد أبي بكر وهي حزين كرب، وهنا تحدث أسماء عن ذلك فتقول: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف فانطلق بها معه قالت فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه قالت قلت كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً قالت فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم لا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك.

وقد تمكنت أسماء من تدبير أمور الدار في غياب أبيها وزوجها وهي حامل، ثم أرسل النبي الكريم مولاه أبا رافع إلى مكة ليحملها مع عيال النبي الكريم إلى المدينة، وفي المدينة المنورة واجهت ظروفاً قاسية ، فقد كانت أتمت حملها تسعة أشهر ولكن اليهود كانوا قد أرجفوا في المدينة أن محمداً وأصحابه قد سحرتهم يهود فلن يولد لهم ولد بعد ذلك، وأمضت أسماء أياماً قاسية وهي تستمع إلى وشايا النساء، ولكنها ظلت موقنة برسالتها في رفض السحر والشعبذة والأوهام حتى وضعت مولودها عبد الله بن الزبير الذي كان أول مولود في الإسلام في المدينة المنورة.

وكانت تشارك زوجها الزبير في كثير من قضايا الدعوة والرسالة، وفي معركة الخندق اشتهرت أسماء بموقفها البطولي في حماية المدينة بالليل بسيفها وعزيمتها.

وفي العلم تفوقت أسماء على النساء والرجال، واشتهرت برواية المعرفة من بيت النبوة ، وكان الناس يقصدونها في دقيق المسائل، ومن أشهر تلامذتها من الرجال: عبد الله بن عباس وابنها عروة وعباد بن عبد الله بن الزبير وأبو بكر وعامر ابنا عبد الله بن الزبير والمطلب بن حنطب ومحمد بن المنكدر وفاطمة بنت المنذر وغيرهم

وكانت أسماء حازمة صارمة في علاقتها بالرسالة وتحملها للمسؤوليات الجسام التي كانت تقوم بها، وعرفت بحصافة رأيها، وعميق حكمتها، وسجل لها في كل حدث كبير موقف سياسي حكيم كانت تصدر عنه الرجال، ووقفت في شجاعة فريدة في وجه قتلة عثمان، وحثت زوجها على المطالبة بدم عثمان، وقد نجحت في إجبار القوات الغازية على الانسحاب والخروج من المدينة.

ولكن أسماء ظلت تتخير مواقفها في السياسة وفق مصالح الأمة، وبعد مأساة كربلاء وواقعة الحرة دفعت أسماء ابنها عبد الله بن الزبير لمواجهة الانحراف الذي ظهر في مؤسسة الخلافة، بعد اعتداء العسكر على المدينة وعلى أهل بيت النبي الكريم، وبالفعل فقد أعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة في الحجاز وجزء من العراق، واستمر عدة سنوات يحكم معظم أنحاء البلدان الإسلامية، حتى واجهه بنو أمية بجيش الحجاج الذي قاد جيشاً فاتكاً إلى مكة المكرمة ووجد عبد الله بن الزبير نفسه محاصراً بمكر الحجاج وبطشه، بعد أن نجح الحجاج في قطع سبل الإمداد عن عبد الله بن الزبير، وبدا واضحاً أن عبد الله بن الزبير يواجه كارثة خطيرة توجب عليه الاستسلام أو القتال حتى الموت.

وهناك سجل التاريخ موقفاً فريداً لأسماء بنت أبي بكر وكانت آنذاك قد أسنت وكبرت، حيث دخل عليها عبد الله بن الزبير ووضع أمامها صورة دقيقة لموقفه، وللمصير الذي بدأ واضحا أنه ينتظره..وراح يستشيرها فيما يفعل، وهل يستسلم للحجاج دون قيد أو شرط ليسلم بروحه أم يقاوم؟
قالت له أسماء:
” يا بنيّ: أنت أعلم بنفسك، ان كنت تعلم أنك على حق، وتدعو الى حق، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، ولا تمكّن من رقبتك غلمان بني أميّة..
وان كنت تعلم أنك أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك.
قال عبد الله:
” والله يا أمّاه ما أردت الدنيا، ولا ركنت اليها، وما جرت في حكم الله أبدا، ولا ظلمت ولا غدرت”..
وقال لها عبد الله بن الزبير: والله يا أماه لا أخشى الموت فأنا أعلم أنه قدر حتم، لا يؤخؤه شيء ولا يعجله شيء، ولكنني أخشى الحجاج أن يمثل بي بعد الموت!
قالت له أسماء ببصيرة ويقين: يا بني إن الشاة إذا ذبحت لا يضرها السلخ!!

قال فلما كان في اليوم الذي قتل فيه، دخل عليها في المسجد فأخبرها بأمر ما بيتوه من كيد وبطش، وذكر لها أنهم عرضوا عليه سبلاً للنجاة من الهلكة وتسليم كل شيء للحجاج، ولكن أسماء وقفت صامدة صابرة وقالت: يا بني لا تقبل منهم خطة تخاف منها على نفسك الذل مخافة لقتل؛ فوالله لضربة سيف في عز خير من ضربة سوط في مذلة،
ثم قالت:
” اني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسنا ان سبقتني إلى الله أو سبقتك.
اللهم ارحم طول قيامه في الليل، وظمأه في الهواجر، وبرّه بأبيه وبي..
اللهم اني اسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبدالله بن الزبير ثواب الصابرين الشاكرين.!”
وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته.
وبعد ساعة من الزمان انقضت في قتال مرير غير متكافئ، تلقى عبد الله بن الزبير ضربة الموت في الحرم الشريف، وفاضت روحه، ولكن الحجاج أبى إلا أن يصلب جسده الكريم على خشبة الصلب إمعاناً في البغي والعدوان والتشفي..!!
وقامت أمه، وعمره يومئذ سبع وتسعون سنة، قامت لترى ولدها المصلوب.
وكالطود الشامخ وقفت تجاهه لا تريم.. واقترب الحجاج منها في هوان وذلة قائلا لها:
يا أماه، ان أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا، فهل لك من حاجة..؟
فصاحت به قائلة:
” لست لك بأم.. انما أنا أم هذا المصلوب على الثنيّة.. وما بي إليكم حاجة..

وعاد الحجاج يخاطبها في شماتة: كيف وجدتيني صنعت بهذا العاصي؟
قالت أسماء في ثقة ويقين:
وجدتك وقد أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك،
وبشجاعة فريدة وقفت أمام الحجاج الطاغية وقالت له بيقين وثبات:
إني أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” يخرج من ثقيف كذاب ومبير”..
فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير، فلا أراه الا أنت”!!
وتقدم منها عبد الله بن عمر رضي الله عنه معزيا، وداعيا اياها الى الصبر، قأجابته قائلة:
” وماذا يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا الى بغيّ من بغايا بني اسرائيل”..!!

وكانت تقف عند خشبة صلبه صابرة راسخة لا يهزها شيء، وقالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجل.
فلما أنزل عن خشبة الصلب جعلت أسماء تحنطه بيديها وتكفنه، وقد كف بصرها وعميت وتقول أشهد بالله لقد كنت صواماً قواماً، ولكنه أجلك الذي كتبه الله، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.

ومن الممكن أن نرصد هنا أهم مواقف السيدة أسماء في تمكين المرأة:
• مشاركتها في الأحداث السياسية وإظهارها صموداً وثباتاً لافتاً، وخروجها في مواجهة التيار المتمرد من قتلة عثمان
• تصدرها للعلم والتعليم وإقبال الرجال والنساء على التعلم منها وتحصيل معارفها، وقد عرف من أهم تلامذتها عبد الله بن عباس وابنها عروة وعباد بن عبد الله بن الزبير وأبو بكر وعامر ابنا عبد الله بن الزبير والمطلب بن حنطب ومحمد بن المنكدر
• شجاعتها الفريدة في مواجهة الطغيان ومقاومة الظلم، وثباتها على الحق الذي ناضلت من أجله على الرغم من التحديات القاسية التي واجهتها.

أم هانئ بنت أبي طالب
الشريفة الحرة… امرأة تجير على الأمة

أم هانئ بنت أبي طالب، نوع نادر من النساء، فقد اجتمع لها من الحسن والعقل والنسب ما تتمناه كل امرأة، وكتب لها في التاريخ مكان فريد في تمكين المرأة وتحرير حقوقها.
واسمها فاختة بنت أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمية القرشية، المشهورة بأم هانئ.

اختلف المؤرخون في اسمها: فاختة، أو عاتكة، أو فاطمة، أو هند، والأشهر الأول.
أسلمت عام الفتح بمكة، وهرب زوجها إلى نجران، ففرق الإسلام بينهما، فعاشت أيماً، وماتت بعد أخيها علي.
روت عن النبي صلى الله عليه وسلم 46 حديثا

هي بنت عم الرسول الكريم، فأبوها أبو طالب، وهي أخت علي كرم الله وجهه، وقد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في دار عمه أبي طالب وكانت أم هانئ بالنسبة له كالأخت القريبة، وكان يأنس بالحديث إليها ويكشف لها عن دخائل نفسه، وقد خطبها الرسول الكريم من أبيها أبي طالب وخطبها هبيرة بن أبي وهب، ولكن أبا طالب لم يشأ أن تزاحم ابنته خديجة بنت خويلد، فزوجها أبو طالب لهبيرة، وقد عاتب النبي الكريم عمه أبا طالب على ذلك فقال: يا بن أخي، إنا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم.

فكانت أم هانئ مع هبيرة إلى عام الفتح، ولم يدخل هبيرة في الإسلام، ثم فر عام الفتح إلى نجران وفرق بينهما الإسلام، وتوفي هبيرة بنجران مشركاً

وكثيراً ما كان رسول الله يزورها ويبيت عندها، وقد ذهب أكثر المؤرخين أنه كان يبيت عندها حين أكرمه الله برحلة المعراج في السنة العاشرة للبعثة.

واشتهرت السيدة أم هانئ بقوة شخصيتها ورجاحة عقلها وحين أخبرها النبي الكريم بخبر المعراج توسلت إليه أن لا يذكر ذلك للناس لئلا يفتنوا ولكن النبي الكريم خرج يروي ذلك للناس، ثم جاء الوحي مخبراً بما توقعته أم هانئ وفيه قول الله تعالى: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس.

وعلى الرغم من ان زوجها هبيرة بن أبي وهب لم يدخل في الإسلام، ولكن أم هانئ حافظت على قدر كبير من الاتزان والوسطية، واجتهدت أن تكف زوجها عن طيش أهل الجاهلية في محاربة الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها ذلك ويثني عليها، وتأخر إسلام أم هانئ إلى يوم الفتح حيث فر زوجها إلى نجران واختارت حينذاك الدخول في الإسلام.
وفي يوم الفتح لجأ إليها اثنان من كفار قريش من آل زوجها من بني مخزوم، فأجارتهما، وخف علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يذكر له جرائم الرجلين وإثمهما ووجوب قتلهما، وعلمت أم هانئ فجاءت على أثره وقالت يا رسول الله! زعم ابن أبي أنه قاتل من أجرت؟؟؟ أفكذلك؟
قال صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ!

وذكر الصالحي الشامي في سبل الهدى والرشاد أن أم هانئ أجارت أيضاً عقيل بن أبي طالب على الرغم من أن عقيلاً كان قد تولى بيع متاع النبي الكريم عند الهجرة ، وكان يغري المشركين بالاستيلاء على ما تركه المهاجرون من أموال في مكة، ولا شك أن نجاحها في إجارة عقيل دليل على المنزلة التي تبوأتها السيدة أم هانئ والدور الذي حظيت به المرأة في الإسلام في المشاركة السياسية وقيادة المبادرات الاجتماعية.

ولم يمر موقف أم هانئ في إعلان الجوار السياسي دون اعتراض، فقد كان موقفاً جريئاً في تمكين المرأة يكسر التقاليد التي تجعل هذه المبادرات حكراً على الرجال، وتعرضت أم هانئ لاعتراض شديد من عدد من الرجال، ولكنها تمسكت بموقفها وقد روى الرواة خبر هذا الجوار الفريد، وما أثاره من جدل في المدينة، وننقل هنا الرواية بطولها كما ذكرها الواقدي، وفيها تظهر شخصية المرأة وتمكنها ومكانتها في عصر النبوة:
كانت أم هانئ بنت أبي طالب تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي ، فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها – عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ، والحارث بن هشام (وهو ممن قاتل رسول الله يوم بدر مع المشركين ) فاستجارا بها وقالا : نحن في جوارك فقالت نعم أنتما في جواري . قالت أم هانئ فهما عندي إذ دخل علي فارسًا ، مدججًا في الحديد ولا أعرفه، فقلت له أنا بنت عم رسول الله، قالت فكف عني، وأسفر عن وجهه فإذا علي عليه السلام فقلت : أخي فاعتنقته وسلمت عليه ونظر إليهما فشهر السيف عليهما . قلت : أخي من بين الناس يصنع بي هذا قالت وألقيت عليهما ثوبًا ، وقال تجيرين المشركين ؟ وحلت دونهما فقلت : والله لتبدأن بي قبلهما قالت فخرج ولم يكد فأغلقت عليهما بيتًا ، وقلت : لا تخافا قال فحدثني ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي مرة مولى عقيل عن أم هانئ قالت فذهبت إلى خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فلم أجده ووجدت فيه فاطمة فقلت : ماذا لقيت من ابن أمي علي ؟ أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما قالت فكانت أشد علي من زوجها وقالت تجيرين المشركين ؟ قالت إلى أن طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رهجة الغبار، فقال مرحبًا بفاختة أم هانئ وعليه ثوب واحد فقلت : ماذا لقيت من ابن أمي علي ؟ ما كدت أنفلت منه أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان ذاك قد أمنا من أمنت ، وأجرنا من أجرت ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلًا فاغتسل ثم صلى ثمان ركعات في ثوب واحد ملتحفًا به وذلك ضحًى في فتح مكة .
قالوا : قالت فرجعت إليهما فأخبرتهما وقلت لهما : إن شئتما فأقيما وإن شئتما فارجعا إلى منازلكما . قالت فأقاما عندي يومين في منزلي ، ثم انصرفا إلى منازلهما .
وقد استدل الفقهاء بقصة أم هانئ على جواز أن تمنح المرأة الجوار للمطلوبين للعدالة، ونص معظم الفقهاء أن هذا الجوار يقع موقوفاً على إذن الإمام.

وبذلك رسخت أم هانئ دور المرأة في المشاركة في العمل العام وامتلاك المبادرة السياسية، وبناء تحالفات وعلاقات لا تضر بأمن الأمة.
وقد عرف النبي مكانة أم هانئ ومنزلتها واختار دارها منزلاً له يوم الفتح وعندها صلى الركعات الثماني صلاة الفتح، وهذا يعكس منزلة المرأة ومكانتها عند رسول الله فقد كان أشراف مكة يرجون أن ينزل الرسول في قصورهم ودورهم يوم الفتح، ولكنه اختار أن ينصب خيمته عند قبر خديجة بنت خويلد زوجته الراحلة وشريكة كفاحه، كما اختار أن يغتسل ويصلي صلاة الفتح عند أم هانئ المرأة الهاشمية المتميزة.

وسجل لأم هانئ موقف آخر جليل في تمكين المرأة فقد بلغت أم هانئ منزلة كبيرة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعلم احترامها وتقديرها له، ويعرف رجاحة عقلها وحسن جمالها، وحين فر زوجها هبيرة أرسل رسول الله يخطبها لنفسه، وكانت فرصة عظيمة لامرأة مطلقة أن تقترن برسول الله فتكون أماً للمؤمنين وتدخل التاريخ من أوسع أبوابه، ولكن أم هانئ أظهرت موقفاً فريداً يكشف عن عقل راجح، وراحت تقارن بين مسؤولياتها كأيم مسؤولة عن أطفال صغار وبين مسؤولياتها كزوجة للنبي الكريم وما يعنيه ذلك من مسؤولية وقيود، وبعد تأمل ونظر قالت أم هانئ بلسان الواثق العارف البصير:

والله إن كنت لأحبه في الجاهلية فكيف في الإسلام؟ ولكني امرأة ذات أيتام، وإن حقه علي عظيم فأخاف إن قمت بحقه ضيعت أيتامي وإن قمت بحق أيتامي ضيعت حقه!
فذهب إليها رسول الله فخطبها إلى نفسها، فقالت: يا رسول الله لأنت أحب إلي من سمعي وبصري، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلت على زوجي أن أضيع بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حقك.
ثم التفتت أم هانئ إلى ولدين صغيرين في حجرها من زوجها هبيرة فقالت: كفى بهذا ضجيعا وهذا رضيعا !!
ثم جاءت بلبن فشرب منه رسول الله، ثم ناولها فشربت سؤره فقالت: لقد شربت وأنا صائمة! قال فما حملك على ذلك قالت من أجل سؤرك لم أكن لأدعه لشيء لم أكن أقدر عليه فلما قدرت عليه شربته.
وحين بدا أن أم هانئ حازمة في اختيارها وأنها آثرت مسؤوليتها في تربية الأولاد وقيادة الأسرة على أي شيء آخر، قال رسول الله مفاخراً بها ومثنياً عليها:
خير نساء ركبن الإبل نساء قريش! أحناهن على ولد في صغره وأرعاهن على زوج في ذات يده!!
ولو علمت أن مريم بنت عمران ركبت الإبل ما فضلت عليها أحداً

ولا شك أن موقف أم هانئ في إدراك مسؤولية بناء الأسرة والتفرغ لها، واعتذارها من الزواج برسول الله وهو آنذاك قائد الدولة الظافر المنتصر، ورسول الله إلى العالمين، يعكس مدى الجرأة التي نالتها المرأة المسلمة في نيل حقوقها، والحرية التي تمتلكها في قرارها وخيارها.
وبالفعل فقد تفرغت أم هانئ بتربية أولادها، جعدة وهانئ ويوسف، وازداد رسول الله إعجاباً بها واحتراماً لها، ونبغت بعد ذلك في العلم والرواية وأخذ عنها الأصحاب الكتب الستة، البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وبلغ مسندها ستة وأربعون حديثاً، وذكر لها الحافظ المزي خمسة عشر تلميذاً من علماء الصحابة والتابعين منهم عبد الله بن عباس وعطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير ومجاهد بن جبر وغيرهم.
كما أن ابنها جعدة ابن هبيرة نبغ في السياسة والقضاء واستعمله علي بن أبي طالب والياً له على خراسان.
عاشت أم هانئ بعد رسول الله نحو أربعين عاماً، وماتت في خلافة معاوية.

خولة بنت ثعلبة
المجادلة التي جادلت رسول الله لإنصاف النساء

تذكر خولة بنت ثعلبة كلما ذكرت سورة المجادلة وهي صحابية جليلة عرفت بجرأتها وشجاعتها في الدفاع عن حقها وحوارها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصارت رمزاً للجرأة الأدبية والوعي والبصيرة التي احترمها الإسلام وقدرها قدرها.
وتمام الخبر كما يرويه الإمام الطبري وغيره من المفسرين أن خولة بنت ثعلبة الأنصارية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها أوس بن الصامت وكان أوس قد أسن وساءت خلقه فدعاها فأبطأت عليه فغضب فظاهر منها، والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وكان العرف عند أهل الجاهلية أن من قال هذا لامرأته فقد حرم عليها لأبد أبد، ولا يحل لها أ ن يقربها بشيء أبداً ويتعين عليه فراقها وطلاقها، وسرعان ما ندم الرجل ولكن المخرج من ذلك كان عسيراً ، وحار الرجل والمرأة في طريقة الخلاص، وذهبت خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه حالها.
وحين أخبر الرسول الكريم بخبرها قال لها ما استقر عليه العرف آنذاك: ما أراك إلا حرمت عليه!
وهنا فقد كان من الطبيعي أن تعود خولة إلى دارها بدون نتيجة، ولكنها اختارت أن تمضي في حوارها الجريء إلى النهاية، ووقفت أمام النبي صلى الله عليه وسلم تشرح لها جوانب المسألة الاجتماعية والإنسانية وأنه لا بد في هذه المسألة من اجتهاد جديد، وقالت: أشكو إلى الله فاقتي، يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي، وانقطع ولدي، ظاهر منّي!!
فجعل رسول الله يقول لها: ما أراك إلا حرمت عليه!!
ولكن خولة لم تيأس من بيان حجتها والدفاع عن موقفها أمام رسول الله ، وجعلت تقول:
أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، ولم يزد النبي الكريم أن قال: (حرمت عليه)
فما زالت تراجعه ويراجعها، وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله ! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أوحى إلي في هذا شئ.
فقالت خولة في جرأة فريدة تستعجل نزول الوحي لإنصاف النساء: يا رسول الله، أوحي إليك في كل شئ وطوي عنك هذا؟!
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: هو ما قلت لك!
وجعلت عائشة رضي الله عنها تجذب ثوب خولة بعد أن أفتاها رسول الله وهي تراجعه وتجادله، ولكن خولة أظهرت ثباتاً فريداً في بيان حجتها ورأيها وموقفها، ولكن رسول الله كرر عليها قوله هو ما قلت لك، فجعلت تقول ضارعة:
فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله!! وارتفع صوتها وهي تقول: يا رسول الله إن لي صبية إن رددتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا، وراحت تفصل القول تشير إلى رحمة الله تعالى وعدالة الإسلام، والحاجة الملجئة لنزول تشريع جديد ينصف النساء ويحمي الأسرة.

وتحدث السيدة عائشة رضي الله عنها أن خولة ما زالت في حوارها ومراجعتها حتى بكيت وبكى من كان في البيت رحمة لها ورقة عليها، ولما طال جدالها أخذت النبي صلى الله عليه وسلم برحاء الوحي وأنزل الله تعالى عليه ما يؤيد رأي خولة:
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير.

وبشرها النبي صلى الله عليه وسلم برحمة الله وغفرانه وعرفت المرأة بالمجادلة وسميت السورة كلها سورة المجادلة تعزيزاً لموقف هذه المرأة الجريئة في الدفاع عن حقوق النساء والانتصار للعدالة والمنطق.
ومضت خولة في حوارها مع النبي صلى الله عليه وسلم حول الكفارة، فسري عنه وهو يتبسم فقال يا خولة قد أنزل الله فيك وفيه: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ثم قال مريه أن يعتق رقبة قالت لا يجد، قال فمريه أن يصوم شهرين متتابعين، قالت لا يطيق ذلك قال فمريه فليطعم ستين مسكينا!

ولم تتردد خولة في الجدل وقالت مستغربة شاكية: وأنى له؟؟ تشير إلى فاقته وفقره.
قال: فمريه فليأت أم المنذر بنت قيس فليأخذ منها شطر وسق تمر فليتصدق به على ستين مسكينا
فرجعت إلى أوس فقال ما وراءك قالت خير وأنت ذميم، ثم أخبرته فأتى أم المنذر فأخذ ذلك منها فجعل يطعم مدين من تمر كل مسكين.

وهكذا فقد مضت جريئة حرة تجادله أولاً في عدالة حكم الظهار ثم جادلته في أمر الكفارة ومصدرها لرجل عجوز تائه ولم تكف عن جدالها حتى أوفت حاجتها وحاجة زوجها، وقدمت للنساء صورة واضحة حول حق المرأة في الدفاع عن حقها والتزام واجباتها.

إنها امرأة أخرى بكل تأكيد لا تشبه في شيء تلك المرأة المائتة المسحوقة التي قدمها الانحطاط صورة للمرأة الخانعة الذليلة، التي لا حول لها ولا قوة، يلفها الجهل من كل وجه وتمنع من نور العلم والمعرفة.
وحين نزلت الآية الكريمة جاءت واضحة قاطعة في تصويب جرأة خولة واجتهادها على الرغم من أن عائشة نفسها رأت فيه جدالاً غير مقبول لرسول الله.
واشتهر أمر خولة بعد ذلك فكان الناس يذكرون موقفها الجريء وانتصار السماء لها، وصارت تعرف بالمرأة التي كلمها الله من فوق سبع سموات.

وروى ابن أبي حاتم والدارمي أن عمر بن الخطاب خرج يوماً من مجلس حكمه ووراءه الناس، فاستوقفته امرأة عجوز فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست رجالات قريش على هذه العجوز؟! قال: ويحك! وتدري من هذه؟ قال: لا. قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها إلى أن تحضر صلاة فأصليها، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها
وفي رواية أن عمر بن الخطاب مر بها في جمع من الناس كانوا معه وهي تركب على حمار، فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميراً، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف ؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر ؟

عاشت خولة زمناً من خلافة عمر ولم تعرف لها أحبار بعد ذلك، ولكنها ظلت في ضمير التاريخ الإسلامي واحدة من أشهر النساء جرأة وكفاحاً لإنصاف المرأة ورد المظالم عنها، وذد سميت السورة في القرآن الكريم باسم المجادلة تذكيراً بموقفها الذي استحق ثناء الله.

الشفاء بنت عبد الله
أول قائد شرطة في الإسلام
حوالي 40 قبل الهجرة – 20 هجرية
هي الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس القرشية العدوية، وتلتقي نسباً مع الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب في جدها العاشر عدي بن كعب، ومن هنا فقد اشتهرت بالعدوية نسبة إلى عدي بن كعب
وكما كان أبوها عدوياً معروفاً في العرب فقد كانت أمها أيضاً مخزومية وهي فاطمة بنت وهب المخزومية من الأسرة التي نشأ فيها خالد بن الوليد وأبوه الوليد بن المغيرة الذي نزل ذكره في القرآن الكريم: وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، وقد استحق هذه المكانة الكبيرة في أذهان العرب لما كان عليه من شجاعة وفروسية وحكمة ونبالة.
نشأت الشفاء إذن في بيت مجد من بيوت العرب، وسرعان ما أخذت نصيبها من المعرفة والحكمة، وأصبحت محل احترام الناس وتقديرهم، وأصبحت مرجعاً للنساء في الحكمة والتوجيه والإرشاد، وكانت تستخدم آنذاك وسائل قومها من العلاج النفسي بالرقى والتمائم، حتى صارت مقصداً للرجال والنساء على السواء، وعرفت في مكة بوعيها وحكمتها وعرفانها، ويشير عدد من المؤرخين إلى أن الشفاء لقب عرفت به وأن اسمها ليلى بنت عبد الله ولكن نجاحها في الطب الشعبي السائد آنذاك وتوفيقها في شفاء كثير من الناس هو الذي منحها لقب الشفاء الذي عرفت به فيما بعد.
وحين بعث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بادرت إلى الإيمان به وكانت من السابقات على الرغم من أن بني مخزوم تأخر إسلامهم، وهذا يعكس قوة شخصيتها وقدرتها على الاختيار والتمييز، وتزوجت أبا حثمة بن حذيفة بن غانم العدوي القرشي، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وقد شهد معه أحداً وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
ولم تتأخر الشفاء بعد إسلامها عن ممارسة الطب الشعبي وطورت معارفها في ذلك ونقل لنا المؤرخون عدداً من المواقف التي كانت تعرض فيها خبرتها ومعارفها على الرسول الكريم، فكان يستحسن ما تصنعه من الطب ويشير عليها بأنواع أخرى من العلاج، وأرشدها إلى المعالجة النفسية باستخدام النص القرآني الذي تطمئن به القلوب وتركن به النفس.
وشعر النبي الكريم بالمواهب التي تمتلكها الشفاء، فكان يدنيها من عياله وكانت تعلم زوجاته الكرام كثيراً من المعارف الطبية، وأورد ابن حجر العسقلاني في الإصابة عن الشفاء قالت:
دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا قاعدة عند حفصة فقال ما عليك أن تعلمي هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة!
وفي الحديث إشارة إلى أن الشفاء كانت تعلم أمهات المؤمنين الكتابة والقراءة، أما رقية النملة فهي نوع من الطب القديم كانت تمارسه العرب للشفاء من داء النملة، وهو دهن كان يصنع من عود الكركم ثم يمزج بخل ويطلى به مكان النملة (التنميل) من بدن المريض.
وكانت الشفاء تعرض أساليب عملها في الطب على النبي صلى الله عليه وسلم، قالت يا رسول الله إني كنت أرقي برقى الجاهلية وقد أردت أن أعرضها عليك قال: اعرضيها علي، فعرضتها عليه، وبعد أن استمع النبي الكريم إلى معارفها في الطب وتجاربها في الشفاء أقرها على عملها الطبي وعهد إليها أن تعلم نساء الصحابة هذه المعارف، وقال: ارقي بها وعلميها حفصة.
وهكذا فإن الشفاء برعت في الكتابة وفي الطب، وقد وفر لها النبي الكريم فرصة نشر هذا اللون من المعرفة، وأقطعها داراً بالمدينة، وساعدها في بناء ما يمكن تسميته أول منتجع تعليمي وصحي في الإسلام، حيث كان المرضى يأتون إليها وكانت توفر لهم ظروف الاستطباب المناسب، كما كانت تقوم بدورها في تعليم القراءة والكتابة لنساء المدينة ورجالها، بل إن النبي الكريم نفسه كان يحب أن يأوي بين الحين والآخر إلى منشأة الشفاء، يزورها ويقيل عندها، وقد اتخذت له فراشاً وإزاراً خاصاً ليقيل به حين يكون عندها، وما زال عندها حتى أخذه منها مروان بن الحكم حين ولي المدينة.
واشتهر أمر الشفاء وعرف الناس نجاحها، وأصبحت الدار التي استلمتها من الدولة مؤسسة تعليمية وصحية متميزة، وقد رزقت الشفاء بغلام موهوب من زوجها أبي حثمة، أسمته سليمان، وسرعان ما شب الفتى وكان عوناً لأمه على مسؤولياتها في التعليم والصحة،
وبعد رحيل النبي الكريم ازداد نشاط الشفاء واشتهرت دارها التي كان الرسول قد أقطعها إياها بالحكاكين في المدينة المنورة، وفقصدها الناس أيام أبي بكر وعمر للتعلم والعلاج، واستعانت الشفاء بعدد من النساء المدربات حتى اشتهر أمرها، وفي أيام عمر بن الخطاب كانت شهرة الشفاء قد انتشرت في جزيرة العرب، فتوجه عمر للاستفادة من خبرة الشفاء وقوة شخصيتها وخبرتها، ورأى أنها جديرة بتولي الحسبة في السوق، وهو منصب يوازي في زماننا قائد الشرطة العامة، المكلف بتطبيق الأمن والشهر على حماية الناس ومراقبة أقواتهم وأرزاقهم في السوق ومعاقبة المستغلين والمقامرين والمحتالين.
وفي موقف ذي دلالة يرويه محمد بن سلام قال : أرسل عمر بن الخطاب إلى الشفاء بنت عبد الله العدوية . أن أغدي علي . قالت : فغدوت عليه فوجدت عاتكة بنت أسيد ببابه فدخلنا فتحدثنا ساعة فدعا بنمط (هدية من قماش) فأعطالها إياه، ودعا بنمط دونه فأعطانيه!!
لم تتردد الشفاء في الاعتراض على موقف عمر فقالت:
تربت يداك يا عمر ! أنا قبلها إسلاماً، وأنا ابنة عمك، وأرسلت إلي وجاءتك من قبل نفسها !!
وقع كلام الشفاء في نفس عمر موقعاً حسناً وأعجبته الجرأة والحجة التي تتحلى بهما الشفاء، وأجابها فقال: ما كنت رفعت ذلك إلا لك، فلما اجتمعتما ذكرت أنها أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك!
ومع أن عاتكة ظفرت بالنمط الأغلى من الثياب، ولكن الشفاء حظيت بالوظيفة الأعلى في الدولة، وتأكد عند عمر ما تملكه الشفاء من شخصية وحجة وبرهان، يجعلها أهلاً للوزارة فعهد إليها بالحسبة العامة في السوق، وهي تعادل في زماننا وزارة الداخلية أو قيداة الشرطة العامة، وفوضها بالصلاحيات الإدارية التي تحتاجها لتطبيق ذلك.
وهنا يتردد المؤرخون بين القول إنها كانت حسبة عامة على السوق أو أنها كانت حسبة على النساء خاصة، ولكن حتى لو كانت مختصة بالنساء فإن ذلك يشير بوضوح إلى المشاركة الواسعة للمرأة في الحياة العامة في المدينة في عصر النبوة والخلفاء الراشدين.
والحقيقة أن الروايات الكثيرة التي أشارت إلى أخبار الشفاء تؤكد أنها منحت الولاية العامة في السوق على الرجال والنساء جميعاً، ولم تكن توفر نصحاً للخاطئين وزجراً للمستكبرين، حتى وثق بها الناس وخشيها المفسدون والخاطئون، وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق أن الشفاء رأت فتياناً يقصدون في المشي، ويتكلمون رويداً، ويبدو على وجوههم الضعف والسكينة والوهن، فقالت: ما هؤلاء؟ قالوا: نساك!!
لقد كانوا جماعة من الشباب الذين انقطعوا للعبادة وتركوا الدنيا بما فيها من متاع الغرور، ولزموا المساجد في الذكر والطاعة والعبادة، وعزفوا عن الحياة بما فيها!!
ولكن الشفاء رفضت سلوكاً كهذا وقالت:
فقالت: كان والله عمر بن الخطاب إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو والله الناسك حقاً.
وبعد رحيل الشفاء قام بمؤسستها من بعدها ابنها سليمان بن حثمة، واستمرت دارها ملجأ صحياً للمرضى من أبناء المجتمع الإسلامي، ويمكن القول إن الشفاء أسست بجدارة أول بيمارستان حقيقي في الإسلام وفي جزيرة العرب.
وعهدت الشفاء لابنها سليمان أن يؤم النساء ويرعاهن، فكان يقوم بشأن النساء في المدينة، وهذا يعكس أيضاً روح التكامل بين المرأة والرجل التي كانت تسود في المجتمع الإسلامي الأول آنذاك.
وأقر الخليفة عمر سهيل بن حثمة في إمامة النساء وعرف بإتقانه القرآن الكريم، وتحول مع الفتوح الإسلامية إلى أذرح قرب عمان وأقام فيها واشتهرت إذرح بأنها أرض الصلح ففيها جرى التحكيم بين أبي موسى الأشعري وبين عمرو بن العاص وفيها صالح معاوية الإمام الحسن، وكانت عند سليمان في أذرح بردة النبي صلى الله عليه وسلم التي أعدتها له الشفاء حتى أخذها مروان بن الحكم.
توفيت الشفاء بنت عبد الله عام 20 للهجرة في خلافة عثمان بن عفان.

امرأة مجهولة
المرأة التي كافحت لتمكين النساء في شؤون الاختيار في الزواج

من المؤسف أن هذه المرأة الرائدة وردت في كتب السنن النبوية ولكن لم يذكر الرواة اسمها، وقد ورد خبرها في أكثر من خمس عشرة رواية ولم نستطع أن نعرف من الرواة عنها أكثر من أنها امرأة من بني عبد المنذر.
ولكن موقفها الجريء يستحق أن نضعه بين يدي القراء الكرام للتأمل في روحها المتوثبة التي حظيت باحترام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، والتي كانت مناسبة لتمين المرأة وتقرير حقها في الاختيار، ومنع إجبارها على زوج لا تريده.

وتمام الخبر كما رواه أحمد وابن ماجة والنسائي واللفظ للنسائي: عن عائشة – رضي الله عنها – : « أن فتاة دخلت عليها. فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ، ليرفع بي خسيسته ، وأنا كارهة. قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه. فجعل الأمر إليها. فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي ، ولكن أردت أن أعلم النساء : أن ليس للآباء من الأمر شيء.
وعن ابن عباس أن جارية بكر أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أبي زوجني وهي كارهة فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها.
لم تبين كتب السنة الكريمة اسم هذه الفتاة من بني عبد المنذر ولكننا نعتبرها في النساء الرائدات اللاتي عرفن منزلة المرأة في الإسلام وأدركن حقوقها وواجباتها، ولم تجد حرجاً من الوقوف أمام النبي الكريم وإعلان حقها في اختيار شريك حياتها، كما أن الفتاة أظهرت توفيقاً فريداً حين اختارت أن توافق على ما اختاره أبوها ولكن بعد أن حررت المسألة من دائرة الجبر إلى دائرة الحرية والاختيار.
وفي السنن النبوية روايات متشابهة عن خنساء بنت خذام ، بنت أبي لبابة بن عبد المنذر، غير أنها تشير إلى أنها كانت ثيباً، ومن الممكن أن تكون خنساء هي المقصودة والله أعلم.

زينب الكبرى بنت علي بن أبي طالب
مجد أهل البيت.. وصوت الحق الثائر
(…- 62 ه =…- 682 م)

زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب: شقيقة الحسن والحسين، وأمها فاطمة بنت رسول الله
أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وولدت في حياته ولم تلد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته شيئا، وكانت زينب امرأة عاقلة لبيبة جزلة
زوجها أبوها علي رضي الله عنهما من ابن عمها عبد الله بن جعفر فولدت له عليا وعونا الأكبر وعباسا ومحمدا وأم كلثوم

تبوأت زينب الكبرى منزلة فريدة في التاريخ، وقد نالت شهرتها ومنزلتها بصمودها وثباتها على الحق، ومواجهتها للاستكبار بموقف بطولي فريد.
فقد كانت زينب أخت الحسين الكبرى، وحين علمت بنيته في مواجهة يزيد بن معاوية الذي كان أول حكم عضوض في الإسلام، سارعت لتكون إلى جانبه في موقفه الرافض للحكم العضوض، خاصة بعد ظهور مخالفات شديدة وقع بها يزيد بن معاوية تجعله غير جدير بالخلافة الراشدة.
وتحرك الحسين صوب العراق، وفي كربلاء وقعت المأساة الفظيعة في يوم عاشوراء 10 محرم سنة 61 للهجرة، حيث أحاط جيش عبيد الله بن زياد وعدده خمسة آلاف مقاتل بكتيبة الحسين التي لم يكن فيها إلا نحو سبعين من أهل بيته قتلوا عن آخرهم، وعلى رأسهم الحسين بن علي في فاجعة كان لها أبلغ الأثر في تاريخ الإسلام.

وبعد انجلاء المعركة حملت السبايا في موكب باك إلى دمشق حيث كان يزيد ينتظر نتائج المعركة، ومن التذكرة الحمدونية ننقل نص موقفها الجريء أمام يزيد بن معاوية:
لما قتل الحسين بن علي عليهما السلام وجه ابن زياد رأسه والنسوة إلى يزيد فأمر أن يحضر رأس الحسين في طست، وجعل ينكت ثناياه بقضيب وينشد:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا … جزع الخزرجٍ من وقعٍ الأسل
قالت زينب بنت علي: صدق الله ورسوله يا يزيد: ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوءى إن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون!!
أظننت يا يزيد حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة؟؟ وأن هذا لعظم خطرك؟؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان فرحاً حين رأيت الدنيا مستوسقةً لك، والأمور متسقة عليك، وقد مهلت ونفست وهو قول الله تبارك وتعالى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين.
أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك نساءك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله قد هتكت ستورهن، وهن مكتئبات، تخدي بهن الأباعر، وتحدو بهن الأعادي من بلد إلى بلد، لا يراقبن ولا يؤوين، يتشوقهن القريب والبعيد، ليس معهن ولي من رجالهن؟

ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت: اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم لنا ممن ظلمنا.
ثم نظرت في تحد صارم نحو يزيد وقالت:
والله ما فريت إلا في جلدك، ولا حززت إلا في لحمك، وسترد على رسول الله برغمك، وعترته ولحمته في حظيرة القدس يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث، وهو قول الله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين. وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المؤمنين إذا كان الحاكم الله تعالى والخصم محمد صلى الله عليه وسلم، وجوارحك شاهدةٌ عليك، فبئس لظالمين بدلاً، وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً،

ثم قالت له في ثبات ويقين:
فلئن اتخذتنا مغنماً لنتخذنك مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة ويستصرخ بك، ونتقاضى عند الميزان، وقد وجدت أفضل زاد زودك معاوية قتلك ذرية محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوالله ما اقتقيت غير الله، ولا شكواي إلا إلى الله، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا يرحض عنك عار ما أتيت إلينا أبداً.

وقد وردت كلمات زينب في روايات كثيرة متشابهة، وكلها تدل على شكيمة هذه السيدة الكبيرة من أهل بيت النبوة، وهي تعزز مكانة المرأة المسلمة في قول كلمة الحق والاعتزاز بالله سبحانه دون سواه.

ومع أن يزيد بن معاوية جهز السبايا وأرسلهن إلى المدينة في حراسة ورعاية، ولكن زينب بنت علي اختارت أن تعود للشام من جديد على الرغم من أنها تحت حكم البيت الأموي الذي بطش بعلي والحسين، وعادت زينب بالفعل إلى دمشق واتخذت داراً لها عند قرية يقال لها راوية جنوبي دمشق، وهي التي تعرف اليوم بالسيدة زينب، وهناك كانت زينب تلقى النساء والرجال فتنشر علمها ومعرفتها، ويأخذ عنها الناس علم بيت النبوة، ولا زالت كذلك حتى لقيت وجه الله تعالى.
إن دور زينب الكبرى في تمكين المرأة واضح وجلي، وقد قدمت للنساء نموذجاً صلباً في مقاومة الاستبداد، وطلت كلماتها ترن في مسمع التاريخ يرويها جيل عن جيل، وليس في تاريخ النساء امرأة كانت أكثر جرأة وقوة من زينب الكبرى بنت علي.
وبعد رحيل زينب اتخذ الناس قبرها مزاراً، وكان ذلك رسالة واضحة للبيت الأموي أن هذه السيدة سكنت في قلوب الناس وأن صوتها في مقارعة الظلم لا زال صارخاً هادراً، واليوم بعد مرور ثلاثة عشر قرناً على رحيلها فإنه يمكن القول إن ضريحها في دمشق قد يكون أكثر ضريح امرأة يزوره الناس في الأرض، وعلى حواشيه ومن أحله قامت مدينة كبيرة جنوب دمشق يتجاوز سكانها وضيوفها المليون، لا قصد لهم إلا جوارها والتماس نورها والاهتداء بدورها الريادي في مقاومة الظلم والقهر.
وبدون أي مبالغة فإن من حقنا أن نقول إن المرأة في ظلال الإسلام نالت أعلى مدارج الاحترام ودخلت ضمير الأحرار، وشاركت بقوة في صناعة الحياة.

سكينة بنت الحسين

أول صالون أدبي في الإسلام

هي سكينة بنت الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب، أمها الرباب بنت امرئ القيس الكلبية، روت السنن عن أبيها وعن عدد من الصحابة والتابعين، وكانت بارعة الذكاء والجمال واشتهرت أخبارها وأيامها وأقوالها.
نشأت سكينة بنت الحسين في بيت أبيها الحسين بن علي، حيث كانت داره تغلي بالأحداث الجسام، وكان الحسين قد اختار موقفه في الثورة ضد حكم يزيد بن معاوية، وكان على السيدة سكينة أن تواجه أقداراً قاسية مريرة، خطبها ابن عمها عبد الله بن الحسن الأكبر، واشتهر أمر هذه الخطوبة وبدا للناس أنه زواج العصر بين العريس الحسني والعروس الحسينية، وفي غمرة أيام خطوبتها وفرحها، وجدت نفسها في الطريق إلى كربلاء، مع أبيها الحسين وخطيبها عبد الله بن الحسن، وفي يوم الطف الدامي تقدم خطيبها عبد الله بن الحسن يقاتل مع أبيها في كربلاء ، وفي ساعة واحدة فارقت أباها وزوجها وسبعين من أهل بيته في مأساة دامية قاسية، ومباشرة وجدت نفسها في الأغلال يقودها قوم قساة جلف إلى دمشق في موكب ظالم فيه رأس الحسين سيد الشهداء، ولتجد نفسها تحمل مع السبايا من كربلاء إلى دمشق مروراً بحلب وحماة ووقفت أمام يزيد وهي ترى ما يصنع بأبيها وزوجها، وشهدت مواقف عمتها زينب في مواجهة يزيد، وتعلمت منها الشجاعة واليقين، وبعد أن أتم يزيد نكايته بأهل البيت جهز السبايا وردهن إلى المدينة المنورة، ومضت سكينة في درب الآلام إلى المدينة المنورة وهي تستعد لمشوار طويل من العمل والعطاء.

كان لديها ألف مناسبة للبكاء، وكان بالإمكان أن تحشد حياتها بالمراثي والآلام ولكنها اختارت أن تنهض من جراحها وآلامها، وقررت أن تحارب الظلم بالفرح والقهر بالعطاء وآبت إلى المدينة المنورة وهناك بدأ مشوارها في خدمة الثقافة والأدب والفن كأنها أرادت أن تقول للعالم إن ركام المظالم لا يمكنه أن يمنع إرادة الحياة.

في المدينة المنورة قامت سكينة بنت الحسين بتأسيس ما يمكن تسميته أول صالون أدبي في الإسلام ، وأفادت سكينة من أجواء الاستقرار في المدينة التي كانت نسبياً نائية عن الأحداث الدامية في العراق والشام، حيث ازدهر فيها الفن والغناء، واشتهر فقهاء المدينة بالفتيا بجواز الغناء، وفي دار سكينة كان يحتشد الشعراء والأدباء والفقهاء أيضاً، فالمرأة من سيدات بينت النبوة ، وعندها علم العترة الطاهرة، وروت التفسير والسنن عن أعلام الصحابة والتابعين، ولكنها اختصت برعاية الفن البريء الأصيل، وتمكنت من جمع الشعراء والأدباء على بابها.

وقال الذهبي: ربما اجتمع ببابها جرير والفرزدق وجميل وهم عيون شعراء العصر الأموي، فأمرت لكل واحد منهم بألف درهم.

واشتهر أمر سكينة بنت الحسين وروت لها كتب الأدب عشرات المواقف الفريدة والطريفة، وخطبها بعد ذلك الملوك، وروت كتب الأدب أخبار خطوبته لها وأورد صاحب تاريخ دمشق أن مصعب بن الزبير وكان مصعب أبرز رجال السياسة والحكم في العصر الأموي قبل أن ينفرد بحكم الحجاز ضد بني أمية، قام حتى أخذ بالركن اليماني فقال اللهم إنك رب كل شئ وإليك يصير كل شئ أسألك بقدرتك على كل شئ أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق وتزوجني سكينة بنت الحسين ، وقد حضر ذلك الخليفة عبد الملك بن مروان، ولا شك أن هذا الموقف يعكس لك النفوذ الكبير الذي بلغته سكينة بنت الحسين حتى صارت منتهى آمال الملوك، يخطبون ودها علانية في ظلال البيت الحرام.
وبالفعل تزوجها مصعب بن عمير وخاضت معه حياة سياسية صاخبة حافلة بالأحداث، وقد انتهى أمر مصعب بن الزبير بحرب طاحنة ضد عبد الملك بن مروان قتل فيها مصعب قبل أن يستتب الأمر لعبد الملك بن مروان، وعلى الرغم من هذه النهاية الدامية ولكن الخليفة عبد الملك أرسل لرسوله إلى سكينة يخطبها إليه ولكن سكينة أظهرت تمنعاً فريداً في مواجهة عبد الملك ورفضت أن يتزوجها على الرغم من أنه غدا الحاكم المطلق آنذاك للأمة الإسلامية.

ولم يكن رفضها لعبد الملك بن مروان إلا تأكيداً على حرية الاختيار التي بلغتها المرأة آنذاك فلم يكن للملوك سلطان على قرارها وإرادتها، ومع ذلك فقد ظلت كبيرة ومؤثرة عند الملوك وحين آل أمر الخلافة إلى ابنه هشام بن عبد الملك حاول أن يسترضيها وكان لا يرد لها طلباً، وقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أنها دخلت على هشام بن عبد الملك فسلبته عمامته ومطرقته ومنطقه فأعطاها ذلك كله.

وإذا أردنا أن نعرف دور سكينة بنت الحسين ومنزلتها فإن علينا أن نتذكر شريكة كفاحها في مشروعها التنويري وهي السيدة الفاضلة عائشة بنت طلحة بن عبيد الله عقيلة قريش التي كانت هي الأخرى بارعة الذكاء والجمال وقامت بدور مباشر في تنوير المرأة حيث عقدت هي الأخرى في دارها صالوناً أدبياً فريداً يغشاه عيون الناس ووجوه القوم وتلقي فيه رؤيتها في تنوير المرأة المسلمة وحقوقها وواجباتها.

لقد أدركت سكينة بنت الحسين أن النشاط السياسي محجوب عن أهل البيت في تلك المرحلة الدقيقة فاختارت أن تنصرف للعلم والفن والثقافة، واستطاعت أن تمنح المرأة قدماً راسخة في التوجيه والتنوير، وعززت دور المرأة حاضنة للثقافة والفنون، تملك عن بصيرة وإرادة مكانها في الاختيار والتدبير.

لما قتل مصعب خرجت سكينة بنت الحسين تريد المدينة، فأطاف بها أهل العراق، وقالوا: أحسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله. فقالت: لا جزاكم الله عني خيراً، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد، قتلتم أبي وجدي وعمّي وزوجي، أيتمتموني صغيرةً وأرملتموني كبيرة

أما ابن خلكان فقد ترجم لها في وفيات الأعيان:
هي السيدة سكينة ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم؛ كانت سيدة نساء عصرها، ومن أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقاً، وتزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها، ثم تزوجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم ابن حزام فولدت له قريناً، ثم تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان وفارقها قبل الدخول، ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان ، وقيل في ترتيب أزواجها غير هذا، والطرة السكينية منسوبة إليها.
واشتهر عن سكينة القول بأن المرأة تلي أمر زواجها، وهو الرأي الذي كان يرفضه الجمهور آنذاك، وقبله فيما بعد فقهاء الحنفية بشروط، وقد مضت سكينة في تزويج نفسها بنفسها لابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وقد أثار هذا الرأي الجريء حفيظة المتشددين فكتبوا بذلك إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، وكان عبد الملك قد حارب زوجها مصعباً فأمر واليه هشام ابن اسماعيل بالتفريق بينهما بالقوة، وتمسكت سكينة برأيها، وأثار ذلك نزاعاً شديداً بين بني هاشم وبني زهرة، وانتهى الأمر بالتفريق بين الزوجين، وفي رواية أن الزواج لم يتم أصلاً وأن سكينة رفضته.

وقد أورد الأصفهاني في الأغاني عشرات المرويات عن سكينة بنت الحسين ومواقفها مع الشعراء والأدباء ومجالسها وحواراتها معهم، وهذه الروايات تعزز حقيقة واحدة وهي أن سكينة كانت بالغة التأثير في مجتمع المدينة، وكانت كلمتها مسموعة عند العامة والخاصة، وربما غيرت اسم الشاعر أو العالم فيشتهر بما سمته به سكينة ، فقد عرف مثلا ابن الماجشون مفتي المدينة باسمه هذا بعد أن أطلقت عليه سكينة هذا اللقب، وحتى نسي الناس اسمه الأول.
ولكن لا بد من التحفظ على بعض ما روي في كتب الأدب في شأن سكينة وخاصة في كتابي الأغاني والمطربات المرقصات ومصارع العشاق، فمن المؤكد أن شهرة سكينة وتأثيرها وشخصيتها دفعت كثيراً من الرواة إلى رواية الحكايا على عواهنها عن سكينة دون تمحيص، لكن ما لا شك فيه أن سكينة كانت قوية التأثير وقد تركت بصمتها الواضحة على الحياة الثقافية والفنية والعلمية في المدينة المنورة.

وكان وفاة سكينة بالمدينة يوم الخميس لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة 117 هجرية، وقيل اسمها آمنة، وقيل أمينة، وقيل أميمة، وسكينة لقب لقبتها به أمها الرباب ابنة امرئ القيس بن عدي.

عائشة بنت طلحة
الفقيهة الشاعرة، رائدة التنوير والتجديد، جليسة الملوك

عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم
توفيت سنة 101 هجرية
أديبة، عالمة بأخبار العرب، فصيحة.
أمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وخالتها عائشة أم المؤمنين، وكانت أشبه الناس بها، أما أبوها فهو صحابي كبير هو طلحة بن عبيد الله التيمي، وهو من السابقين الأولين في الإسلام ، وقد ارتفع شأنه في الإسلام ورشحه عمر للخلافة بعد موته ولكنه آثر عثمان بن عفان، فلما قتل عثمان بن عفان شكل طلحة حلفاً ثلاثياً مع عائشة بنت أبي بكر والزبير بن العوام للثأر من قتلة عثمان، وقد كتب الله أياماً سوداء مؤلمة حين اختلطت الأمور ووجد الثلاثة أنفسهم في مواجهة مباشرة مع علي بن أبي طالب ووقعت معركة الجمل المؤلمة التي تركت آثاراً بالغة السوء في تاريخ الأمة.

في هذه الأجواء الملتهبة ولدت عائشة بنت طلحة، وتعرفت على المسؤوليات الجسام، وظهر نبوغها مبكراً واشتهرت بقوة الحافظة وقوة الفصاحة والبلاغة، وبدأت مشوارها في الرواية والتعليم حتى صارت مقصد الناس.

حددت عائشة بنت طلحة رسالتها في الحياة وهي تمكين المرأة في حقوقها وواجباتها، وبإمكاننا أن نرى هذه الحقيقة من خلال تتبع أخبارها الكثيرة التي نقرؤها عنها في كتب الرواية والأدب والتاريخ.

ونالت عائشة بنت طلحة قدم السبق في الرواية عن النبي الكريم حتى روى لها الأئمة الستة البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه، وقد وثقها الإمام ابن حجر في تقريب التهذيب، وقال العجلي هي تابعية ثقة، أما أبو زرعة الدمشقي فقد حدث عنها فقال: امرأة جليلة حدث الناس عنها لفضلها وأدبها، وأكثر روايتها عن عائشة رضي الله عنها، أما تلامذتها فهم كثير وقد عد منهم الحافظ الذهبي أحد عشر عالماً من أشهر علماء التابعين منهم عطاء بن أبي رباح والمنهال بن عمرو وعمرو بن سويد وعبد الله بن يسار والفضيل بن عمرو وطلحة بن يحيى وحبيب بن أبي عمرة.
ولا شك أن رواية هؤلاء الأعلام عنها وروايتهم لعلمها دليل على المنزلة الرفيعة التي بلغتها عائشة بنت طلحة في العلم.

واشتهرت عائشة بالاجتهاد في الفقه الإسلامي، والنظرة المقاصدية فيه، وبعد وفاة أبيها طلحة ودفنه بالكوفة، قامت عائشة مع جماعة من النساء بنقل الجثة إلى البصرة واستخرجت جسد أبيها فلفته في الملاحف واشترت له عرصة بالبصرة فدفنته فيها، وبنت حوله مسجدا. وربما كانت عائشة بنت طلحة أول من سن العطور في القبور، وأمرت النساء أن يجبلن تراب القبر بماء المسك، فلقد رأيت المرأة من أهل البصرة تقبل بالقارورة من البان فتصبّها على قبره حتى تفرغها، فلم يزلن يفعلن ذلك حتى صار تراب قبره مسكا أذفر.

وعملت عائشة بنت طلحة على تمكين المرأة في حقها في الزواج والطلاق وإذا كانت سكينة بنت الحسين قد وليت أمر زواجها بنفسها فإن عائشة بنت طلحة وليت أمر طلاقها بنفسها، وعلى الرغم من أن زوجها مصعب كان أمير الحجاز والعراق ولكنها لم تخضع له خضوع ذلة قط، وأغضبها يوماً فظاهرت منه قائلة أنت علي كظهر أمي، وكانت ترى حق المرأة إذا ظلمها الزوج في مفارقتة ولو بدون إذنه، ولم تعد عن إيلائها وظهارها إلا بعد تدخل لجنة من الفقهاء فيهم قاضي العراق الشعبي والفقيه ابن قيس الرقيات، وعدلت عن رايها .

ويسجل لعائشة بنت طلحة جرأتها في فهم نصوص القرآن الكريم، وقد اختارت موقفاً فقهياً جريئاً في تفسير آيات اللباس في القرآن ولم تقبل تفسير فقهاء عصرها بأن المقصود هو ستر وجه المرأة وكانت لا تستر وجهها، فعاتبها زوجها (مصعب بن الزبير) في ذلك، فقالت: إن الله قد وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلي عليهم فما كنت لأستره، ووالله ما فيّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد.

ولم تكن عائشة ترى تحريم تعطر المرأة وتزينها، وكانت تستغرب الروايات التي تمنع المرأة من الطيب والزينة، وكانت تروي عن خالتها عائشة بنت أبي بكر: كنّا إذا سافرنا مع رسول اللّه إلى مكّة نضمّخ جباهنا بالمسك ، فكنّا إذا عرقنا سال على وجوهنا ، ورسول اللّه ينظر إلينا ونحن محرماتٌ ، فلا ينهانا.

واشتهر علمها وفقهها بين العرب حتى صارت حديث الملوك، وحين وفدت على الشام لزيارة الخليفة هشام بن عبد الملك وهو يومئذ خليفة بني أمية، بعث إلى مشايخ بني أمية أن يسمروا عنده، فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجم ولا غار إلا سمته.
ويعكس هذا الموقف منزلة عائشة بنت طلحة في العلم، ودورها السياسي البارز في الأحداث، فعلى الرغم من أن هشاماً هو ابن عبد الملك بن مروان الذي حارب زوجها مصعب ولكن عائشة وجدت السبيل لبناء جسور من الثقة مع الخليفة الأموي بعد رحيل عبد الملك، وأعادت العلاقات بين البيت التيمي والبيت الأموي، وقابلت الملوك بكفاءة واقتدار ، وشاركتهم مجالسهم بجرأة ومسؤولية، ونالت احترام الجميع.
وأفادت عائشة بنت طلحة من مكانتها كسيدة أولى حيث كانت زوجة مصعب بن الزبير حاكم العراق والحجاز وأسست نواديها الأدبية والعلمية في المدينة والطائف وصارت دارها ملتقى العلماء والفقهاء والأدباء، وبذلك سنت للنساء سنة المشاركة الحقيقية في الحياة العلمية والثقافية من موقع ريادي وقيادي.
وبعد مقتل مصعب بن عمير تزوجها عمر بن عبيد الله التيمي، ومات عنها (سنة 82 ه) فتأيمت بعده، وخطبها جماعة فردتهم.
وكانت تقيم بمكة سنة، وبالمدينة سنة، وكانت تدير أموالها بكفاءة واقتدار وانتشر عمالها بين مكة والمدينة والطائف حيث اتخذت قصراً في الطائف وكانت تعقد فيه مجالس الأدب والشعر والرواية والحكمة، وتقدم صورة واضحة لتمكين المرأة ومشاركتها في الحياة العامة.
واشتهرت عائشة بنت طلحة مع السيدة سكينة بنت الحسين برعاية الأدب والفن والغناء في المدينة ، وقد اشتهر ت المدينة بالغناء أيام التابعين حتى صارت ملجأ للأشواق والأذواق، ومن الأعلام الذين عرفوا بزيارتها في مجالسها بمكة والمدنية والرياض جرير والأخطل وعمر بن أبي ربيعة .
وأخبارها مع الشعراء والمنشدين كثيرة، ومن الجدير ذكره أنها خاضت هذا اللون من رعاية الفن والآداب وظلت محل احترام الرواة والمحدثين والفقهاء ، وقد قدمنا طرفاً من أقوالهم في علمها وفضلها ومنزلتها، وتتلمذ عليها عدد من أئمة التابعين.

وقد علا كعبها في العلم وأخذ عنها علماء عصرها، بل إن عدداً من العلماء من ذريتها انتسبوا إليها ومنهم عبيد الله بن محمد العيشي البصري الأخباري المتوفى 228 وقيل له بن عائشة والعائشي والعيشي نسبة إلى عائشة بنت طلحة لأنه من ذريتها وكان ثقة جواداً ثقة جواد روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي، ولا شك أن انتسابه إلى عائشة بعد أكثر من قرن على وفاتها دليل على حضورها العلمي والثقافي ومنزلتها في الفقه والمعرفة.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض كتب الأدب وخاصة الأغاني والوافي بالوفيات أوردت أخباراً لا تليق عن عائشة بنت طلحة، لا بد من التحفظ عليها وذلك لأن عائشة ظلت محل احترام الفقهاء والعلماء والرواة، ولو قد صح شيء من ذلك لأنكره علماء الجرح والتعديل الذين أجمعوا على وثاقتها وعلمها وفقهها.
توفيت عائشة بنت طلحة عام 101 هجرية .

رابعة العدوية
فيلسوفة الإشراق والأشواق
100 – 180 هجرية

رابعة بنت اسماعيل العدوية، ام الخير، بنت إسماعيل البصرية، مولاة آل عتيك، من أعيان عصرها، فضلها مشهور.

وأشهر من كتب سيرتها ابن الجوزي في جزء له والذهبي في أعلام النبلاء.
اسمها رابعة) وعرفت بكنيتها (أم الخـير)، وهي بنت إسماعيل العدوي، ولدت في مدينة البصرة، وكانت لأب عابد فقير. ومات الأب و(رابعة) لم تزل طفلة دون العاشرة. ولم تلبث الأم أن لحقت به. فذاقت (رابعة) مرارة اليتم الكامل، دون أن يترك والداها من أسباب العيش لها سوى قارب ينقل الناس بدراهم معدودة (معيبر) في أحد أنهار البصرة. خرجت لتعمل مكان أبيها ثم تعود بعد عناء تهون عن نفسها بالغناء. وبذلك أطلق الشقاء عليها وحرمت من الحنان والعطف الأبوي.
وبعد وفاة والديها غادرت رابعة مع أخواتها البيت بعد أن دب البصرة جفاف وقحط أو وباء وصل إلى حد المجاعة، ثم فرق الزمن بينها وبين أخواتها، وبذلك أصبحت رابعة وحيدة مشردة.. وأدت المجاعة إلى انتشار اللصوص وقطاع الطرق.. وقد خطف رابعة أحد اللصوص وباعها بستة دراهم لأحد التجار القساة من آل عتيك .. وكانت رابعة جميلة المظهر رائعة الصوت وكانت تعزف على الناي، فاستغل سيدها موهبتها في جني المال وجمع الناس دون التفات لمشاعرها الرقيقة وروحانيتها الصافية التي كانت تتأبى أن تكون تلك المواهب العظيمة سبباً لجمع الثروة، وتناقلت الأخبار فظائع من قسوته على رابعة، وربما كان ذلك ما أطلق في نفسها مشاعر الوجد بالله والحنين إلى العالم الأسمى الذي ينتصف فيه المظلوم من الظالم.
وكانت روحها تواقة إلى الحرية، ولذلك عظمت معاناتها في أسر الرق، وروى فريد الدين العطار أنها لما طال عناؤها كانت تدعو الله في جوف الليل فتقول: اللهم أن قلبي يتمنى طاعتك، ونور عيني في خدمتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن مناجاتك، ولكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبادك
وأن مولاها أطلقها لما سمعها تدعو بذلك، فرحلت إلى الصحراء زمناً ثم آبت إلى البصرة واجتمع عليها المريدون والطلبة والفقهاء.

تعتبر السيدة رابعة العدوية واحدة من أشهر النساء في تاريخ الإسلام وقد تمكنت من تأسيس مدرسة فريدة في العلم والإشراق وتتلمذ عليها كثير من فقهاء العراق وصارت مرجعاً لثقافة الإشراق الروحي والمعرفة الربانية.
وقد شهدت رابعة العدوية أيام بني أمية وأول أيام بني العباس، وكانت البصرة آنذاك تغلي بالأحداث الجسام ولكن رابعة العدوية استطاعت أن تؤسس روضة روحية سامية لا يكدرها الهول السياسي الذي كان طاحناً في تلك الأيام، واستطاعت أن تجلب إلى دارتها الروحية عجائب الحكمة وظلال الأذواق والأشواق، فيفيء إليها الراغبون بالسلوك إلى الله والمشتاقون إلى عالم من الحكمة لا يكدره صخب السياسة والعسكر.

روى الهجوري في كشف المحجوب قال: “جاء أمير البصرة إلى (رابعة) يعودها وقد حمل إليها أموالاً كثيرة وسألها أن تستعين بها على حياتها، فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء وقالت: هو يعلم أني استحي منه أن أسأله الدنيا وهو يملكها فكيف آخذها ممن لم يملكها. وحذرت أمير البصرة أن يعود إلى مثلها”.

وكانت رابعة العدوية جريئة في طرح أفكارها، ولم تكن تبالي أن تواجه غضب كثير من الناقدين إذا كانت ترى أن ما تقوله حق، ولم يكف خصومها عن الخوض فيها، ولم تكن تختار رأياً أو اجتهاداً ليس علبه الناس إلا ويثور أهل التعصب والتزمت ، ومن ذلك أنها لما قالت:
إني جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
قال أبو سعيد بن الاعرابي: فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه.
ومن أشهر من أنكرها وحكم بضلالها الإمام أبو داود السجستاني، وقد اعتذر له ابن خلكان بقوله ولعله قد بلغه عنها شيء من كلام حاسديها.
ومن أشهر من دافع عنها وشرح مقاصد أقوالها الإمام شهاب الدين السهروردي في كتابه عوارف المعارف والإمام ابن الجوزي في كتابه صفة الصفوة وكتابه شذور العقود، والذهبي في سير أعلام النبلاء.

ورابعة امرأة فريدة في تاريخ الإسلام ، لقد استطاعت أن تؤسس لمدرسة فلسفية عرفانية فريدة، خالفت فيها المألوف، وخرجت عن آراء الرجال، ودعت إلى عبادة الله وحده بعيداً عن رغائب الجنة والنار، وقالت: إن قوماً عبدوك رجاء جنتك فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوك خوفاً من نارك فتلك عبادة العبيد، ولم يعرف حبك إلا من عبدك لأنت أنت الله ، المستحق للعبادة والحمد، وهو ما عبرت عنه بقولها:
عرفت الهوى مذ عرفت هواك وأغلقت قلبي عمن سواك
وكنت أناجيك يا من ترى خفايا القلوب ولسنا نراك
احبك حبين حب الهوى وحباً لأنــــــــك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك

وقد أخذ عن رابعة وروى عنها عدد من أبرز علماء العصر العباسي الأول ومنهم ابراهيم بن أدهم و رياح بن عمر القيسي، وسفيان الثوري، وعبد الواحد بن زيد ومالك بن دينار ورباح القيسي وشفيق البلخي

إن ما يعنينا في هذه الدراسة هو التأكيد على الدور الريادي الذي حققته السيدة رابعة العدوية لتمكين المرأة، ويمكن رصد ذلك من خلال النفاط الآتية:
أطلقت رابعة مدرستها العرفانية على غير مثال، ولم تكن بحاجة إلى رجل يرعى مدرستها أو يؤصل لفكرها وفلسفتها، بل إن كثيراً من العلماء والفقهاء والنساك كانوا يأتون إلى دوحة رابعة تلامذة نجباء، يأخذون عنها الحكمة ويروونها في الناس، وبذلك أكدت أهلية المرأة في قيادة الفكر وتأسيس الحكمة، وأن قلوب النساء يمكن أن تكون مستودعاً لدقائق الحكمة ومشارق النور.

إن العناء الذي كابدته رابعة في حياتها القاسية يقدم مثلاً أعلى لكفاح النساء، ولم تنتظر رابعة أن يكون في فمها ملعقة ذهب حتى تأخذ دورها في بناء الحياة، لقد تمكنت من الإسهام الإيجابي في بناء الحياة على الرغم من ظروفها القاسية المريرة التي كابدتها.
تميزت رابعة بالجرأة في طرح أفكارها، وبذلك كانت تتحدى كثيراً من الثقافة السائدة، ومن أفكارها الجريئة موقفها الجديد في مسألة الجنة والنار، وإصرارها على إمكان رؤية الله تعالى للمؤمنين الراغبين، واستعمال كلمة العشق الإلهي، ورفضها لثقافة الكراهية ضد أي أحد من الخلق، وقالت إن حب الله ملأ علي قلبي ولم يترك مكاناً لبغض شيء!!

ولم يمر هذا التحدي بدون صخب فقد تتالت الفتاوى في تكفير رابعة والإشارة إلى زندقتها وضلالها، ولم ذلك كله لم يثنها عن مشروعها التنويري الذي كانت توقن به وتكافح من أجله.
ترتكز فلسفة رابعة في الإسلام على تمجيد الحرية، فقد رفضت أن تكون العبادة محض خضوع وخنوع، وأسست لعبادة سامية في أجواء الحرية، وفق منطق القرآن الكريم، يحبهم ويحبونه، واعتبرت العبادة علاقة متبادلة بين العبد وبين الرب، لا يساق إليها العبد بالعصا، ولا يسعى إليها رجاء الحور والقصور، بل صارت العبادة عند رابعة كفاحاً شريفاً للوصول إلى الملأ الأعلى عن جدارة ومسؤولية ويقين.
إن فلسفة رابعة في العشق الإلهي كانت مصدراً ثراً لتطور الفن البريء الطاهر في الغناء والشعر والجمال، وعلى الرغم من الظروف العاصفة التي شهدتها حياة رابعة ولكنها تمكنت بكفاءة واقتدار من تأسيس روضة روحية غامرة تعمر بالفن البريء، وتنشر ثقافة الحب والسلام.

ولا بد من القول أن الدراما العربية أعادت سيرة رابعة العدوية بأنماط متعددة ربما خرجت عن سياق رسالة رابعة في العشق الإلهي، وقدمتها الدراما العربية للجمهور على شكل غانية لعوب، انطفأ شبابها فاختارت حياة العزلة والتنسك،
ومن أشهر الأعمال الفنية التي قامت على حياة رابعة الفيلم الذي كتبه الشاعر المصري طاهر أبو فاشا “شهيدة العشق الإلهي” والتي ملأها بشعر على لسان رابعة غنته أم كلثوم، وكذلك الفيلم السينمائي المصري الذي قامت ببطولته “نبيلة عبيد” و”فريد شوقي”
كما كتب المفكر المصري عبد الرحمن بدوي كتاباً بعنوان رابعة شهيدة العشق الإلهي.

قال ابن خلكان وابن الجوزي: توفيت رابعة سنة 180 أو 185 ودفنت ببيت المقدس، وقبرها معروف شرق القدس ، يزار ، وهو على جبل هناك يقال له الطور.
والأرجح أن رابعة ولدت وعاشت وتوفيت في البصرة، وأن المزار المشهور ببيت المقدس مشهد زارته وأقامت فيه زمناً قبل أن تعود إلى البصرة، أو أنه لرابعة أخرى ولعلها رابعة الشامية.
وقد كرمت الدولة السيدة رابعة العدوية بإطلاق اسمها على شارع ومدرسة اعترافاً بدورها في تمكين المرأة والسمو بها.

السيدة نفيسة
أستاذة العلماء والفقهاء، وأم المصريين

هي السيدة نفيسة بنت أبي محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب،
ولدت بمكة، ونشأت في المدينة، وتزوجت إسحاق المؤتمن ابن جعفر الصادق.
وانتقلت إلى القاهرة فتوفيت فيها.
حجت ثلاثين حجة. وكانت تقية صالحة، عالمة بالتفسير والحديث، وكانت تحفظ القرآن.

كان أبوها أبو محمد الحسن بن زيد والياً على المدينة لأبي جعفر المنصور في أواسط القرن الثاني الهجري، ومع أنه طالبي هاشمي ولكن العباسيين أظهروا له احتراماً فريداً، ومع ذلك فإنه لمك يسلم من حسد وبغي فعزله أبو جعفر المنصور عن حكم المدينة ثم أمر به إلى بغداد فحبسه فيها، وبقي إلى خلافة المهدي حيث أطلقه واستبقاه إلى جانبه.

وسمع عليها الإمام الشافعي، ولما مات أدخلت جنازته إلى دارها وصلت عليه.
وكان العلماء يزورونها ويأخذون عنها، وهي أمية، ولكنها سمعت كثيرا من الحديث.
وتوفيت في رمضان سنة 208 هجرية
ظهر نبوغ السيدة نفيسة مبكراً واشتهر بين الناس وأفادت من مكان أبيها كأمير على الحجاز في نشر معارفها العلمية بين الناس، وسرعان ما صارت مقصداً للراغبين في العلم والمعرفة، يأتون إليها ممن كل فج عميق.
وبعد نكبة أبيها وسجنه تحولت السيدة نفيسة مع زوجها إسحق بن جعفر الصادق إلى مصر وسرعان ما عرف الناس منزلتها وعلمها فوفدوا عليها يطلبون دقائق المسائل من العلم، فكانت تتصدر للفتيا في مصر ويقصدها الناس في تحصيل دقائق المعارف.

واشتهرت السيدة نفيسة بتلميذها الكبير الإمام الشافعي الذي كان يشير دوماً إلى فضلها عليه ، وما تلقاه عنها من دقيق المسائل، وقد عرفت السيدة نفيسة مكانة الإمام الشافعي وأوصت الناس باتباع علمه وفقهه، وقد بلغ من تعلقه بها أنه أوصى أن تصلي عليه وبالفعل فحين مات الشافعي حمل نعشه إلى بيت السيدة نفيسة فكانت أول من صلى عليه.

ولا شك أن السيدة نفيسة كان لها أبلغ الأثر في تكوين ثقافة الإمام الشافعي الذي أعلن حبه وولاءه لأهل بيت النبوة في قصائده المشهورة:
يا أهل بيت رسول الله حبكم فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم من لم يصل عليكم لا صلاة له.

وسجل للسيدة نفيسة موقف جريء في إصلاح حاكم مصر ابن طولون، فقد ولي ابن طولون مصر على غلبة وقهر وبطش بالناس فتوجه الناس إلى السيدة نفيسة، فشكوه إليها، فقالت لهم: متى يركب؟ فقالوا: في غد فكتبت رقعة ووقفت في طريقه، وقالت: يا أحمد بن طولون، فلما رآها عرفها وترجل عن فرسه، فأخذت في نصحه وزجره، وأمرته بتقوى الله في الرعية ونصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، ثم دفعت غليه رقعة كتبتها بخطها، فأخذ الرقعة منها وقرءها، فإذا فيها مكتوب:
ملكتم فأسرتم، وقدرتم وقهرتم، وخولتم فعسفتم، ودرت عليكم الأرزاق فقطعتم، هذا، وقد عملتم أن سهام الأسحار نافذة لاسيما من قلوب أوجعتموها، وأجساد أعريتموها، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون واظلموا فإنا متظلمون ” وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون “
ويجزم أهل مصر أن موقفها هذا كان سبباً مباشراً لاستقامة حال ابن طولون وعدله بين الرعية.

وقد دخلت السيدة نفيسة قلوب المصريين، ونالت مكانة فريدة من الاحترام، وصار من وصية الحكام والسلاطين والعلماء أن يدفنوا إلى جوار السيدة نفيسة في القاهرة، ويمكنك أن ترصد أكثر من ألف من أعلام التاريخ الذين أوصوا أن يدفنوا عند السيدة نفيسة، واشتهر أمرها حتى صار مقصداً لازماً لكل من يزور مصر من الأعيان، وحتى صار من دعاء المصريين ولا زال: اللهم حجة وتقديسة وزيارة للسيدة نفيسة، والتقديسة أي زيارة القدس، وذكر الصفدي في الوافي بالوفيات أن ابن تيمية ظل مسموع الكلمة في مصر إلى أن أنكر على السيدة نفيسة فتركه المصريون، ولا شك أن ذلك يكشف لك عن المنزلة العالية التي بلغتها هذه المرأة الكبيرة في قلوب الرجال والنساء من علماء وأشراف وفقهاء.

ويمكن رصد دور السيدة نفيسة في تمكين النساء من زاويا ثلاث:
• دورها في العلم والرواية حتى صارت مقصداً للراغبين
• دويها في توحيد كلمة الأمة فهي من مدرسة أهل البيت، وزوجها ابن جعفر الصادق، ولكن تتلمذ عليها أئمة الإسلام من كل المذاهب.
• دورها في مواجهة الظالمين والأخذ على أيديهم وإصلاح أحوالهم
• دورها في تمكين المرأة ومشاركتها في بناء الحياة ورفض التقوقع في الدار

وبعد… فهذه أخبار نساء رائدات ملأن سماء المعرفة والحكمة في عصر الرسالة وفي العصور القريبة منها، وقد تخيرناهن تخيراً، ولو كان لنا أن نحصي كل ما روي عن نساء السلف من علم وحكمة لكنا نحتاج إلى مجلدات كبيرة، ولكن ما لا يدرك كله ولا يترك جله، فقد أورد الإمام ابن الأثير في أسد الغابة أخبار أكثر من 1125 امرأة من نساء السلف شاركن في الحياة العامة وعرفت أسماؤهن وأعمالهن، كما ترجم ابن حجر العسقلاني لعدد أكثر من هذا، وهذا يعكس مدى مشاركة النساء في الحياة العامة ومدى تمكن المرأة من حقوقها في ظلال الإسلام.

وأورد هنا استئناساً هذه القائمة لنساء شهيرات عشن في عصر النبوة واشتهرن بألقاب خاصة تعكس اهتماماتهن ومشاركاتهن في بناء المجتمع، وإن إيرادنا لأسماء هؤلاء النساء الرائدات هو دعوة لأبنائنا من الطلبة للبحث في كتب التاريخ عن مساهمات هؤلاء النسوة ودورهن في خدمة المجتمع في عصر الرسول الكريم، ومن هؤلاء:

الزهراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم
السفيرة ظمياء بنت أشرسالتميمية
صاحبة الرطب (تاجرة التمور) أم سليط بنت عبيد
الممرضة الأولى رفيدة بنت كعبالأسلمية،
الحسناء زينب بنت حنظلة الطائية،
صاحبة البئر آمنة بنت الأرقم المخزومية،
صاحبة الجمل أم زيد بنت حرامالأنصارية ،
العطارة (تاحرة العطور) أسماء بنت مخربة التميمية
مسلمة الطائف رقيقة الثقفية
ذات الخمار هنيدة بنت صعصعة بن ناجية التميمية
أيم العرب أم سلمة هند بنت أبي أمية
الخاطبة نفيسة بنت أمية التميمية
البرصاءأمامة بنت الحارث بن عوف
صاحبةبيت الأذان النوار بنت مالك الأنصارية
أولالمهاجرات ليلى بنت أبي حثمة العدوية
صاحبةالإزار فاطمة بنت الوليد بن المغيرة
صاحبةبيت الشورى فاطمة بنت قيس بن خالد الفهرية
ذاتالقميص النبوي فاطمة بنت أسد بن هشام بن عبد مناف
الغميصاء أم سليم بنت ملحان الأنصارية
أم الشهداء عفراء بنت عبيد الأنصارية
صاحبة الرؤيا عاتكة بنت عبدالمطلب
المختلعة جميلة بنت أبي الأنصارية
المشترطة ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب
الشيماءحذافة بنت حارث السعدية
أمالمساكين زينب بنت خزيمة الهلالية
العقبيّة أم منيع بنت عمرو بن عديالأنصارية
العتقاء الشفاء بنت عوفالزهرية
صاحبة الخميصة أم خالد بنت خالد بنسعيد
الشهيدة الأولى سمية بنت خباط
حرة الحرائر سعاد بنت سلمة بن زهير الأنصارية
الحوراء العيناء أم رومان الكنانية
المجيرة على المسلمين زينب بنت رسول الله صلى الله عليهوسلم
المرأة القرآنية زينب بنت جحشالأسدية
شهيدة البحر أم حرام بنت ملحانالأنصارية
الشهيدة أم ورقة بنت عبدالله بنالحارث الأنصارية
مرضعة الرسول حليمة بنتأبي ذؤيب السعدية
الصوامة القوامة حفصة بنت عمر بنالخطاب
صاحبة العكة أم مالك الأنصارية
صاحبة القلادة أمية بنت قيسالغفارية
مضيفة الرسول أم معبد عاتكة بنتخالد الخزاعية
حاضنة الرسول أم أيمن بركة بنتثعلبة
الممتحنة أم كلثوم بنت عقبة بن أبيمعيط
الواهبة أم شريك غزية بنت جابرالعامرية
ظئر إبراهيم أم بردة خولة بنتالمنذر الأنصارية

إنها ألقاب نساء كبار شاركن بقوة في الحياة في عصر النبوة وتركن بصمات طيبة من مواقع مختلفة كن يخدمن فيها المجتمع، وهي دعوة لقراءة عصر النبوة بكل ما فيه من إشراق ونجاح، والنسج على منوال تلك التجربة الرائدة في حياتنا المعاصرة.
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.

الخاتمة والتوصيات

الخلاصة:
لقد اجتهدنا أن نقدم في هذه الدراسة رؤية مقاربة بين ما دعت إليه الشريعة وبين المطالب الوطنية التي تسعى إليها المرأة، وظهر لنا من خلال البحث النتائج الآتية:

• إن حقوق المرأة محل احترام وتقدير كل من الشريعة والقانون، وإن تمكين المرأة هدف تسعى إليه الشريعة في إطار ما ينسجم مع مقاصد الإسلام.
• تحمي الشريعة الإسلامية حق المرأة في التملك وإنشاء ذمة مالية مستقلة، وتأسيس تجارة وصناعة تديرها بنفسها، وتمنع الاعتداء على حقوقها في التملك وحيازة المال وقبول الهبات وتملك الميراث والمهر وغير ذلك مما منحتها الشريعة إياه من حقوق.
• تدعو الشريعة الإسلامية المرأة إلى تحصيل العلم والمعرفة بالوسائل المتاحة في كل زمان ومكان، وتحمي حقها في تحصيل المعرفة، وتدين الشريعة أي تسلط من المجتمع أو من الدولة أو من الزوج لمنع المرأة من تحصيل حقها في العلم والمعرفة، بما في ذلك حقها في السفر لتحصيل العلم العالي والدخول في الجامعات والمعاهد المتخصصة.
• تحمي الشريعة حق المرأة في السكنى في بيت كريم خلال الحياة الزوجية يتوفر فيه حقها في الاستقرار والاستقلالية عن مشاركة الغير، كما تحمي حقها في سكن كريم خلال فترة حضانتها لأطفالها، ويكون من مسؤولية الزوج تأمين سكن كريم للحاضنة والمحضون جميعاً، وتدعو إلى توفير سكن للحاضنة بعد الطلاق رعاية لحق الأطفال، وإقراراً بحقها في الحضانة في ظروف مستقرة وهادئة.
• إن إقرار حقوق إضافية للمطلقة زيادة على المهر والميراث ومتعة الطلاق وارد ضمن منطق الحقوق المتقابلة، ولا مانع في الفقه الإسلامي من اعتماد صيغة لإنصاف المرأة التي ساهمت في بناء أسرتها أماً وزوجة، ولا خلاف في وجوب تعويضها ما أنفقته إن كان مدوناً وفق أحكام سداد الدين، وفي قواعد الشريعة ما يخول الأمة عبر ولي الأمر تقدير تعويض المرأة عن النفقات التي أنفقتها مما لا تشهد له وثائق أو بينات.
• تحمي الشريعة حق المرأة في الانتقال والسفر لحاجاتها المختلفة، ويشمل حقها في السفر للتعلم والحج والعمرة والاستجمام والتجارة والسياحة.
• الزواج حق فطري للمرأة وتوفر الشريعة سائر الشروط التي تجعل الزواج متاحاً للمرأة، وتحمي حقها في اختيار الزوج ورفضه، وحقها في ممارسة الحياة العاطفية على فراش الحلال، وتشرع عدداً من المؤيدات الجزائية ضد الزوج الذي يمنعها هذه الحقوق أو أي فرد في المجتمع يقوم بإرغامها على ما لا تريد في شأن حياتها الأسرية.
• تقرر الشريعة المهور وتدعو إلى الاعتدال فيها والتوسط بين الإفراط والتفريط، وتدعو إلى نبذ التغالي في المهور كما تدعو إلى نبذ التفريط فيها، وتدعو إلى اعتبار المهر ضمانة حقيقية تأمن فيه المرأة من صوارف الدهر، وتدعو إلى اعتبار المؤخر منه ديناً ممتازاً واجب السداد حالاً.
• تحمي الشريعة حق المرأة في الحياة الغريزة والعاطفية، وتوفر ذلك لها ضمن مؤسسة الأسرة بالضوابط الشرعية المعتبرة، التي تهدف إلى توفير الحاجة الفطرية، والحيلولة دون استغلال هذه المشاعر في سبيل يؤدي إلى تفكك الأسرة وانهدامها.
• يشتمل الفقه الإسلامي على خيارات واسعة بشأن تطوير عقد الزواج، والاشتراط للطرفين ما يعتقدان أنه ضمانة لهما، وفق قاعدة الحديث الشريف إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج، وهو الباب المناسب لحماية المرأة من كثير من الظروف التي تفرض عليها ضد مصلحتها.
• قررت الشريعة عدداً من الأساليب والسبل لمساعدة المرأة على الخلاص من زواج ظالم تورطت فيه، وذلك عن طريق المخالعة أو الطلاق بأمر القاضي، واشتراط العصمة لها في عقد الزواج، وغير ذلك، بهدف تأمين استقرار نفسي للمرأة التي تعاني الظلم وتبحث عن خلاص منه.
• تحمي الشريعة حق المرأة في الإنجاب، وتحمي حقها في استعمال الوسائل الطبية والعلاجية العلمية للوصل إلى حمل صحيح، واحترم إرادتها في الإنجاب، وتمنع الاعتداء على هذا الحق سواء من قبل الدولة أو من قبل الزوج طالما لم تكن هناك موانع طبية أو صحية.
• تحمي الشريعة حق المرأة في حضانة أطفالها إلى سن البلوغ، وتفرض على المجتمع تأمين سكن مناسب للحاضنة وللمحضونين، وتلزم الزوج بتأمين نفقة ذلك، وتسعى الشريعة إلى توفير جو هادئ وآمن للأطفال في حال حصل الفراق بين الزوجين.
• تحمي الشريعة حق المرأة في تحصيل نفقة كافية وافية من الزوج، تأسيساً على مكانه في القوامة ومسؤولياتها فيها، ولا ينقص هذا الالتزام المفروض على الزوج من حقها في العمل والكسب وتشكيل ذمة مالية مستقلة.
• تقرر الشريعة متعة خاصة للمرأة المطلقة على المقتر قدره وعلى الموسع قدره، متاعاً بالمعروف حقاً على المتقين، وللفقه الإسلامي عدة أساليب لاحتساب هذه المتعة ويمكن الاختيار منها بما يضمن لها العيش الكريم يعد الطلاق.
• تضمن الشريعة للمرأة حقها في العمل والمشاركة في البناء والتنمية، وتجتهد الشريعة في رفع المعوقات التي تحول دون عمل المرأة ومشاركتها في الحياة، وتفرض الشريعة عدداً من الضوابط على عمل المرأة بهدف حمايتها من الابتزاز والاستغلال وتجنيبها أنواعاً من الأعمال التي لا تتناسب مع أنوثتها ورقتها، وتعمل على إبقاء خصائص المرأة والحفاظ عليها في محيط عفيف وآمن.
• تحمي الشريعة حق المرأة في المشاركة السياسية، على قدم المساواة مع الرجال في ذلك، وتؤكد على حقها في قيادة العمل السياسي وخوض الانتخابات والترشح والتصويت والوصول إلى المناصب التي تتناسب مع كفاءتها وقدراتها.
• تحمي الشريعة حق المرأة في المشاركة في الحياة الاجتماعية وتأسيس الجمعيات الخيرية والإنسانية والاجتماعية، ومزاولة النشاطات الاجتماعية ذات النفع العام أو الخاص، وتفرض الشريعة عدداً من القيود في الاختلاط والخلوة الشرعية حماية للمرأة وتأكيداً على حقها في المشاركة في بناء الحياة بوجه سليم.
• تؤكد الشريعة على حق المرأة في الميراث، وتحذر أشد التحذير من حرمان النساء من المواريث، وتدين الممارسات الجاهلية في إبعاد المرأة عن حقها في الميراث تحت أي ذريعة، وتؤكد على حق المرأة في الإيصاء وتلقي الوصايا بالصورة الشرعية على قدم المساواة مع الرجال.
• تأذن الشريعة للمرأة بمزاولة عدد من الرياضات التي تتم في ظروف تراعي أنوثتها وعفافها، ولا تسيء إلى أنوثتها ورقتها، وتفرض عدداً من القيود لحماية المرأة، والحيلولة دون اتخاذ جسدها مطية لعبث ذوي الأهواء المنحرفة.
• تؤكد الشريعة على حق المرأة في المشاركة في الفنون النافعة، من مواهب آتاها الله للنساء، وتفرض عدداً من القيود على فنون بعينها تقوم بابتزاز المرأة أو تؤدي إلى تهتكها وهتك ستر الحياء عنها، وذلك ضمن ضوابط شرعية محددة توفر للمرأة فرصة الإبداع الفني وتحول دون استغلالها وظلمها.

وفي حقل تجارب الفقهاء فقد أنجز الفقهاء خلال جهودهم الفقهية كثيراً من المبادرات الحقيقية لإنصاف النساء، ومارسوا الاجتهاد الملتزم بضوابط الشريعة خارج النص لحماية المرأة والإنسان إليها وقد تجلى ذلك في عدد من الجهود الفقهية الأصيلة، ومنها:

• قدم الفقهاء الكرام اجتهادات مضيئة في تمكين المرأة من التعلم والتعليم، وواجهوا بجرأة بعض الفتاوى المتعصبة التي كانت تمنع النساء من التعلم وتستند إلى بعض النصوص المكذوبة، والتي رفعها واضعوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
• قدم الفقهاء الكرام عدداً من الاجتهادات الحكيمة الهادفة إلى تمكين المرأة من السفر والانتقال، وعالجوا إشكال سفر المرأة بدون محرم وفق قواعد أصول الفقه وثوابت الشريعة، ويسروا السبيل للمرأة لممارسة حقها في السفر والانتقال وتحصيل المعارف والعلوم.
• نظام الأراضي الأميرية التي توصل فيها الفقهاء إلى صيغة تنصف المرأة المزارعة في الحقل والبيدر، وتمنحها حقاً موازياً للرجل في الانتفاع بالأرض واستثمارها وتنميتها.
• نظام الوصية الواجبة حيث قام الفقهاء بإنصاف أبناء البنت التي توفيت في حياة أبيها، وفرضوا الوصية الواجبة على الجد لإنصاف الذرية من الحجب الذي تفرضه قواعد الإرث.
• اشتمل الفقه الإسلامي على فتاوى حكيمة لإنصاف المرأة الحاضنة والمرضعة ومنحها الحق في تحصيل نفقة الحضانة بعد انفكاك الحياة الزوجية رعاية لحقها وحماية لمصالح الأطفال.
• قدم الفقهاء اجتهادات حكيمة في شأن حق المرأة في السكنى بعد انفكاك الحياة الزوجية، وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تأمين السكنى خلال فترة الحضانة، كما قدمت الدراسة نماذج من آراء الفقهاء لتوفير السكنى للمطلقة بعد إكمال حضانتها على أساس احتساب الحقوق المتقابلة، ودعم الدولة.
• قررت الشريعة منع المرأة من الزواج خلال فترة العدة حماية لها من الزواج الكيدي أو المتسرع، ولكن تطبيقات العامة لأحكام العدة جعلتها رهقاً وعناء جديداً تكابده المرأة، وقد قام الفقهاء الكرام بتصحيح هذه المفاهيم، وأكدوا على الدور الإيجابي للعدة وأزاحوا كثيراً من التقاليد التي لا أصل لها.
• قدم الفقه الإسلامي اجتهادات حكيمة في إنصاف المرأة وإصلاح نظام المهور، بحيث يكون المهر ضمانة معقولة للمرأة تواجه به تصاريف القدر، كما قدم الفقه الإسلامي عدداً من الفتاوى لإعادة تقويم المهور باحتساب التطور الاقتصادي وتبدل قيم العملات، وفي ذلك إنصاف للمرأة ومساعدة على تمكينها.

كما تقرر الشريعة موقفاً إيجابياً من المطالب الوطنية للمرأة، وتدعو إلى تعزيز هذه المطالب وتنويرها بمعارف الشريعة، وفتح منجم الفقه الإسلامي الكريم لتنوير هذه التجارب وإغنائها، وذلك عبر النقاط الآتية:

• تأكيد حق المطلقة في الحصول على عيش كريم بعد انتهاء الحياة الزوجية وذلك عن طريق تأمين حقوقها الشرعية التي فرضها الإسلام من المهر والنفقة والمتعة، وكذلك طرح عدد من السبل لاحتساب ما أنفقته المرأة في الحياة الزوجية والعمل على تعويضها بما يكافئ حقها وإنفاقها وبذلها.
• تقف الشريعة موقفاً إيجابياً من اقتراح تأسيس صندوق حكومي للنفقة بهدف دعم حاجات النساء المطلقات عن كريق تحصيل حقوقهن، من الأزواج وعن طريق دعم الصندوق أيضاً من موارد الحكومة بما يحقق الكفاية للنساء والأطفال ويحول دون وقوع المطلقة وأبنائها عرضة للابتزاز والسلوك الكيدي الذي يدفع فيه الأبناء في النهاية الثمن الأغلى.
• يفرض الفقه الإسلامي على الرجال تأمين سكن مناسب للحاضنة والمحضون، وتؤيد الشريعة تطوير هذا المطلب عن طريق الدعم الحكومي لتأمين حياة كريمة للأطفال الذين وجدوا أنفسهم في عائلة متفككة.
• يفرض الفقه الإسلامي عدداً من الالتزامات على الزوج حال الطلاق ومن أهمها حق المرأة في المتعة التي تهدف إلى منح المرأة قدراً من الطمأنينة والأمن النفسي خلال محنة الطلاق وما بعدها.
• تحمي الشريعة حق المرأة في منح جنسيتها لأطفالها أسوة بالرجال، وتفرق الشريعة بين الاستلحاق المحرم شرعاً وبين منح الجنسية، حيث يكون الاستلحاق أو الانتساب لغير الأب حراماً في الشريعة لحماية الأنساب من الاختلاط، ولكن الجنسية ليست أكثر من إجراء إداري يحق للمرأة كما الرجل ممارسته ومنحه لأولاده وفق القوانين النافذة.
• تعدد الزوجات : يقدم الفقه الإسلامي عدداً من الضوابط العقلية والاجتماعية والدينية في تعدد الزوجات للحيلولة دون جعل التعدد مجرد إرواء للسعار الجنسي الذي يجده بعض الرجال، ويقدم الفقه الإسلامي عدداً من الشروط التي ينبغي أن يتأكد منها القضاء، قبل أن يأذن بتعدد الزوجات.
• يقدم الفقه الإسلامي عدداً من المؤيدات الشريعة للجهود التي تبذلها الدولة لتنظيم النسل والحد من الإنجاب في الأوساط الفقيرة والذوي المساكن الضيقة، وتتبنى الشريعة موقفاً إيجابياً من الدراسات السكانية والتوصيات التي تطرحها الجهات الوصائية المختصة بشان التكامل بين المطلب الوطني والمطلب الديني في بناء مجتمع سبليم معافى، وتدعو الشريعة للاستجابة للمطالب الوطنية بشأن تنظيم النسل شرط أن لا يكون ذلك على سبيل الإرغام على الزوجين أو عن طريق استئصال الأجهزة الولادية من الزوجين أو أحدهما، وتشجيع سبل دعم تنظيم النسل بالوعي والتنوير.
• تتبنى الشريعة موقفاً صارماً من كل أشكال الاعتداء على الحياة الأسرية، وتحارب بشدة أولئك الدين يروجون للفحشاء والخطيئة تحت ستار الحريات، وتدعو إلى الحسم والصرامة في محاربة جرائم الزنا والاغتصاب والدعارة وغيرها من جرائم الاعتداء على الحياة الأسرية، وتفرض من أجل ذلك عدداً من الحدود القاسية، وهي حدود لها شروطها وظروفها ومؤيداتها كما بينتها كتب الفقه الإسلامي.
• ترفض الشريعة تبرير جرائم القتل تحت ستار الشرف، وترى في ذلك مخالفة شرعية واضحة لروح الشريعة الغراء، حيث يتم إثبات جريمة الزنا بدون بينة ويتم قتل المشتبه به مع أن عقوبته قد لا تكون القتل ويتم الافتئات على ولي الأمر في إقامة الأحكام من قبل الأفراد وليس من قبل الدولة فهذه ثلاثة كلها من الكبائر تتم تحت عنوان القتل بدافع الشرف وهو ما يخالف الشريعة يقينا، وتؤيد الشريعة تشديد العقوبة على كل قاتل ، ومحاكمة كل من يقتل محاكمة عادلة، ولا يبطل ذلك حق القاضي في تخفيف الحكم إذا رأى ما يستوجب ذلك من فقدان الجاني لأهلية الأداء حال ارتكاب الجرم بعنصر المفاجأة على أن لا تقل العقوبة عن زمن رادع ، عملا بقاعدة ادرؤوا الحدود بالشبهات.

كما قدمت الدراسة عدداً من التجارب الرائدة التي قدمتها نساء رائدات في عصر السلف الصالح وشكلن فيها قدوة صالحة في تمكين النساء وتأمين حقوقهن وإرشادهن، ضمن ثوابت الشريعة الغراء، وقد قدمت الدراسة النماذج التالية من نساء السلف:

آسيا بنت مزاحم المرأة التي تحدت الاستبداد وواجهت الفرعون، وقامت بدور كبير في حماية المظلومين والدفاع عنهم أمام الفرعون، وبيان ما لقيته في سبيل ذلك داخل قصر الفرعون، وبيان عظيم إكرام الله لها في القرآن الكريم.

خديجة بنت خويلد المرأة التي شاركت في بناء الرسالة وهي أول قلب اطمأن بالإسلام، وكانت قدوة في عملها التجاري والاجتماعي والإغاثي، وعملها في حقل حقوق الإنسان وخاصة في حقل إعتاق العبيد والإماء

عائشة بنت أبي بكر المرأة التي حفظت معارف النبوة ونقلتها للناس، وخاضت غمار الحياة العامة وتفوقت تفوقاً عظيماً في العلم ، وتركت خلفها أكثر من ثلاثمائة تلميذ من فقهاء الحجاز والعراق، وأبدت جرأة فريدة في الاجتهاد والتنوير والتجديد، وشاركت بشكل مباشر في الحياة السياسية والعسكرية، وأسهمت في تمكين المرأة من حقوقها الاجتماعية السياسية والتعليمية.
الخنساء بنت عمرو المرأة الشاعرة الموهوبة التي اقتحمت التنافس الثقافي في حقل الشعر والأدب وتفوقت على الرجال، ثم خاضت الحياة السياسية وقدمت أربعة من أبنائها شهداء كبار يوم القادسية وأبدت صلابة فريدة في مواجهة قسوة الأقدار، وقدمت القدوة الحسنة لأم الشهيد.
أسماء بنت يزيد الصحابية الموهوبة، خطيبة النساء والمدافعة الباسلة عن حقوقهن، والمرأة التي قدمت قدوة حسنة للنساء في ميدان المطالبة بحقوقهن الاجتماعية والاقتصادية والدينية
أسماء بنت عميس الصحابية الكريمة، والمرأة الموهوبة التي كانت تصنع الأحداث الكبار، وهي المرأة التي أظهرت صلابة وكفاءة فريدة في المشاركة في القرارات الخطيرة التي كانت تتعلق بمستقبل الرسالة، وهي المرأة التي تمكنت من التأثير البالغ في الحياة الاجتماعية على الرغم من ظروفها العائلية القلقة والمتبدلة.
أسماء بنت أبي بكر
الصحابية الجليلة التي سجلت مشاركة واضحة في النشاط السياسي، والتي كانت ترشد قادة الثورة وترسم خطاهم، وهي المرأة التي سجل لها التاريخ موقفها الصارم أمام الاستبداد، وثباتها الفريد في مواجهة أقدار الدهر المريرة
أم هانئ بنت أبي طالب الصحابية الشريفة، والسيدة الموهوبة الفاضلة، قدمت قدوة حسنة للنساء القياديات، وشاركت في الحياة السياسية بكفاءة واقتدار وأكدت حق المرأة في منح الجوار السياسي وعقد التحالفات، ثم أسهمت في تمكين المرأة بمنحها حقها في اختيار الزوج وحقها في رفضه مهما كانت المغريات، وأكدت بشكل صارم على قدسية الأمومة، وجور المرأة في صناعة الأجيال
خولة بنت ثعلبة الصحابية الجليلة التي وقفت تدافع ببسالة عن حقوق النساء، وناضلت طويلاً حتى استطاعت الحصول على تعديل تشريعي بنص وحي السماء ينصف النساء ويرفع عنهن الضيم والأذى، وهي المرأة التي كانت تعظ الملوك بجرأة واقتدار وكان يصغي لها الملوك وعرفت في التاريخ بأنها المرأة التي استمع الله إليها من فوق سبع سموات
الشفاء بنت عبد الله الصحابية الجليلة التي كانت محل ثقة الخلفاء، والتي شاركت بقوة في الحياة السياسية والاجتماعية وتبوأت لأول مرة منصب قائد الشرطة في دولة الخلافة الإسلامية،

امرأة مجهولة
صحابية لم يذكر اسمها، إنها امرأة سجل لنا التاريخ موقفها الشجاع أمام رسول الله في دفاعها عن النساء ورفضها لمبدأ الإكراه على الزواج الذي كان سائداً، وقد تمكنت هذه المرأة الباسلة من تأصيل حق المرأة في اختيار حياتها وأن ليس للآباء من الأمر شيء.
زينب بنت علي المرأة التي خاضت كفاحاً مريراً في سبيل الحرية ونشر قيم العدالة، ووقفت أمام الجبارين لا تأخذها في الله لومة لائم، وقد أكرمها التاريخ فكانت خلال القرون صاحبة أكبر ضريح مقدس يزوره الناس في الأرض
سكينة بنت الحسين التابعية الجليلة راعية الفنون والأدب، والمرأة التي تمكنت من تأسيس أول صالون أدبي في الإسلام، وجعلت دارها مقصداً للعلماء والفقهاء والأدباء والشعراء، وتركت بصمتها واضحة في تاريخ الثقافة والمعرفة والفن، وقررت حق المرأة في تولي أمرها كله، وعقدت زواجها بنفسها، وعرفت بأنها كانت تهابها الملوك
عائشة بنت طلحة الفقيهة الجريئة والراوية الموثوقة، والتي سجلت أكثر فتاوى النساء جرأة واندفاعاً، وأسست لمدرسة تعليمية فريدة نبغ فيها الأدباء والشعراء والرواة والمحدثون، وعرفتها قصور الملوك ناصحة ومرشدة ومتمردة لا تلين لها قناة.
رابعة العدوية فيلسوفة الإشراق والحياة الروحية في الإسلام، والرائدة في حقل التوجيه التربوي والعلمي، ومؤسسة مدرسة الإشراق الروحي في الإسلام، والمرأة التي تركت آلاف التلامذة وراءها من فقهاء وعلماء ومرشدين
السيدة نفيسة بنت الحسن المرأة التي تبوأت مكاناً فريداً في العلم والمعرفة، وتتلمذ عليها مئات الفقهاء والعلماء في مصر، أبرزهم الإمام الشافعي، وهي المرأة التي أسهمت في تمكين النساء في حقل الإبداع العلمي وسجلت تفوق النساء في العملية التربوية والتعليمية.

التوصيات

في ضوء النتائج التي قادنا إليها البحث فإننا نتقدم بالتوصيات التالية رجاء أن تسهم في تمكين المرأة في ضياء الفقه الإسلامي:

• تعزيز ثقافة التكامل بين المطلب الديني والمطلب الوطني في بناء شخصية المرأة وتمكينها من حقوقها، عن طريق نشر هذه الدراسات والأعمال العلمية، وتقديم برامج إعلامية وثقافية ودرامية لتعزيز دور المرأة في ظلال ثوابت الشريعة.
• توصي الدراسة بأن تعتمد الاختيارات الفقهية من مذاهب الفقهاء كافة، لتوسيع قاعدة الاختيار وتوفير الحلول المتعددة لقضايا المرأة.
• العمل على إنجاز التشريعات التي تعزز من تمكين المرأة وتوفر لها حقوقها المادية والمعنوية، وحمايتها وحماية أطفالها
• توصي الدراسة بالعمل على إنجاز صندوق التكافل والنفقة لما يعنيه هذا الصندوق من إنصاف حقيقي للمرأة تؤيده الشريعة الغراء لرفع العناء عنها وتمكينها من حقوقها.
• توصي الدراسة بتطوير قوانين الأحوال الشخصية ، بما يتوافق مع روح الشريعة، ويحقق طموحات المرأة في التمكين والمساواة.
• توصي الدراسة بتأييد جهود منح المرأة الحق بإعطاء جنسيتها لأطفالها، وترى أنه من غير الوارد ربط مسألة الجنسية باستلحاق الأنساب المحرم شرعاً، وتؤكد أن الجنسية حق اجتماعي مكتسب للمرأة والرجل على السواء ولا وجه للتفريق بينهما في هذا الحق.
• توصي الدراسة بتأييد الجهود الهادفة إلى تنظيم النسل، ووفق حاجة الأمة في توفير عيش كريم للناس، ووفق القواعد التي أرشد إليها الفقهاء المسلمون.
• توصي الدراسة بالعمل على ترشيد تعدد الزوجات بحيث يؤدي نظام التعدد غايته في معالجة ظروف محدودة ومخصوصة، ومنع تحوله إلى سبيل للنهم الجنسي وإشباع الملذات على حساب استقرار الأسرة.
• توصي الدراسة بالتشدد في معاقبة جرائم الزنا والاغتصاب والدعارة واتخاذ الخليلات، والزواج المثلي بخلاف الطبيعة، وغيرها من الأنماط الفوضوية التي تسيء إلى نظام الأسرة وتشكل انتهاكاً لمنزلة المرأة كرافع حقيقي في البناء والتنمية.
• توصي الدراسة بالنظر بإيجابية إلى الاتفاقيات الدولية التي تعرض على البلاد الإسلامية في شأن تمكين المرأة، وتدعو إلى المصادقة على المواد التي لا تتعارض تعارضاً حاداً مع الشريعة، وتجدد الدعوة للبحث عن المشترك بين مقاصد الاتفاقات الدولية وبين روح الفقه المقاصدي في الإسلام، كما تطالب برفض المواد التي تعارض الشريعة بدون تردد-إن وجدت-.
• توصي الدراسة بالاهتمام بالنساء الرائدات في التاريخ الإسلامي، وتوفير مكانهن في القدوة الصالحة للجيل، وتثني على قيام البلديات في البلاد العربية والإسلامية بإطلاق أسمائهن على الشوارع والمدارس والمراكز الاجتماعية، وترى في هذا اللون من الاحترام مساعدة لجهود تمكين المرأة وفق المثل الوطنية الأصيلة.

وإذ أضع القلم فإنني على ثقة بأن أبرز دعوة لنهضة المرأة المسلمة هي تلك التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز والتي توجت بتسمية ثلث أعضاء مجلس الشورى الوطني من النساء، وهو عدد ليس له نظير في أي بلد عربي أو إسلامي، وهي ليست شأناً سعودياً خالصاً بل هي شأن إسلامي ستكون له آثاره البلاغة على نهضة المرأة المسلمة وتمكينها في العالم الإسلامي.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين

Related posts

د.محمد حبش- ابتكر معروفاً 5/7/2007

drmohammad

د.محمد حبش- موقف الشريعة من جرائم الشرف 11/12/2010

drmohammad

د.محمد حبش- الزواج المدني… سراب الحلول المستوردة 28/11/2008

drmohammad

Leave a Comment