في عام 2006 تلقيت دعوة من الاتحاد الاوروبي للقيام بجولة بصفة زائر دولي الى مؤسسات البرلمان الاوروبي في بروكسل وستراسبورغ.
كان سفير الاتحاد الاوربي في سوريا آنذاك قد رتب البرنامج بطريقة مدهشة وذلك بعد عدة زيارات قام بها إلى مركز الدراسات الإسلامية الذي كنت أديره في دمشق، وصارحني بانه راغب ان يتعرف الاوربيون على نموذج الاسلام السوري تحديدا، هكذا سماه السفير المخضرم وقال ما أقصده هو الاسلام الذي لا يحتمل اي انحراف الى العنف، الاسلام الذي يتشكل من روح الاشراق النقي في الشام التي تقدم نموذجا مختلفا للفهم الاسلامي الحضاري.
في رحلتي التي استمرت اربعة عشر يوما بين مقري البرلمان الاوروبي في ستراسبورغ وبروكسل تحدثت في تسعة وثلاثين لقاء متتالياً عن الاسلام في وجهه الحضاري وكانت كل أمثلتي التي أسوقها لمحاوري من النواب الأوربيين تتمحور حول التجربة السورية الفريدة في حقل الإخاء الديني.
كانت الأسماء التي أستعملها من الماضي هم عمر بن عبد العزيز ويوحنا الدمشقي وصلاح الدين وكاتبه النصراني والماوردي والخليفة العزيز وجلال الدين الرومي وغيرهم من أنبياء المحبة والإخاء ورسل السلام في الأرض.
أما من الحاضر فكانت أمثلتي تشير إلى الشيخ كفتارو وجودت سعيد والبطرك عيواظ وحكيم وهزيم والمطران يوحنا ابراهيم ومحسن الأمين العاملي مفتي الشيعة، وسلطان الأطرش، وفارس الخوري والشيخ عبد الرحمن الخير مفتي المذهب العلوي، وهذه السلسلة المتقابلة من رجال الدين الاسلامي والمسيحي، وهي السداة التي ننسج منها أغنى لوحات سوريا الجميلة.
سوريا ابن عربي وابن الفارض وجلال الدين الرومي، التي آمنت بإخاء الأديان وكرامة الإنسان، ورفضت خطاب الالغاء والإقصاء، ودعت إلى دين الحب الذي يجمع الأديان والطوائف تماماً كما أعلنه ابن عربي في قصيدته الشهيرة التي اختتمها بقوله:
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
سوريا التي لم تتقبل تاريخياً خطاب الكراهية والتشدد، واحتضنت ابن عربي فكرا وروحاً ومنحته جبين شامها في قاسيون، وتخيرت قبره مزاراً ومناراً، وسعدت بأءمة الصوفية الراتعين في مدرسة الحب والذوق، وحين قام ابن تيمية بحملاته الاستئصالية في جبل كسروان وأصدر فتاويه الرهيبة ضد الطوائف، هذه الفتاوى لم يتقبلها السوريون، واعتبروا الرجل مارقا عن اجماع الامة، وقام وجهاء الشام وفقهاؤها بمنع نشر هذه الفتاوى وطلبوا الحجر على الرجل، ومع أنه أظهر بسالة فريدة في الدفاع عن موقفه، ودخل السجن مراراً، ووافاه الأجل في سجنه، ولكن إخلاصه في الدفاع عن فكرته لا يعني بالضرورة أنه كان يمارس نضالاً صائباً، وليس بالضرورة أن نعتبر شيئاً مَّا حقاً بدليل أن جان دارك أحرقت نفسها من أجله!
لم تكن فتاوى ابن تيمية في الواقع الا اثرا من آثار التوحش الذي فرضه الغزو المغولي في المنطقة، وربما كانت فتاوى الغزالي المماثلة أيضاً في هذا السياق فقد كتب الأول في غمار الحرب المغولية وكتب الثاني في غمار الحرب الصليبية، وقد صدرت هذه الفتاوى في ظروف انفعالية هائجة، بدت فيها الأقليات هدفاً رخواً للغزاة والمقاومين على السواء، وعانت فيه الطوائف ما عانت، وعقب أفول هذه الحروب عادت الطوائف الى حياتها الطبيعية ولم تجد هذه الفتاوى من يصغي اليها، وانحسر فقه ابن تيمية وفتاويه إلى الصحراء، وانقلب الغزالي على فقهه وكتب كتابه الجريء المنقذ من الضلال وهو أهم كتب النقد الذاتيوتواصى فقهاء الشام ومشايخها بنبذ هذا اللون من الافتاء الطائفي،ومارس الناس حياة جميلة في السهل والجبل، والساحل والداخل، وحلق الإلهيون العلويون في سماء العرفان، وصاروا فقهاً عصياً على التصنيف، ولكنهم ظلوا جزءاً عزيزاً من نسيج الأمة، ونسي الناس فتاوى الغزالي وابن تيمية، ولولا الحركة الوهابية لم يسمع الناس بابن تيمية الا في سياق ما يروى عن فتاوى الشذوذ والانحراف والتغفل.
خلال أربعين لقاء نظمت لي مع نواب اوروبيين او مدراء محددين في البرلمان الاوروبي كانت فرصة نادرة بالنسبة لي للحديث عن رؤية تجديدية واضحة التمايز للفقه الإسلامي السائد في التصوف السوري المتصالح مع الحياة والآخر، والمستمر في مبادئه وأصوله.
كان ذلك قبل أن تبدأ الطائفية المجنونة لعبة الموت التي مارستها على أتم وجه الفصائل المتحاربة بين النظام الأمني المتهالك المعتصم بالغوث الطائفي، وبين داعش وأخواتها التي جاءت جواباً طبيعياً لسلوك القهر والقمع.
بدأ الجنون عندما أعلن النظام أننا لن نسمح للمصلين في المساجد أن يخوضوا نشاطاً سياسياَ، وأن أي مصل يخرج في التظاهر هو هدف مشروع لأشد ادوات القمع والقهر والغيلة، وفتحت السجون أبوابها للمتظاهرين وقيل لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، وأعلن لافروف ببجاحة غير دبلوماسية أننا لن نسمح للسنة أن يحكموا في سوريا!! وبالتالي بدأت هتافات في الشارع السني تهتف ضد النظام الطائفي، وقام النظام بتعذيب الناس حتى الموت، وتسريت مئات الأشرطة للتعذيب حتى الموت وما اشتعل في غماره من رهاب التحقير الطائفي وإهانة المقدس الديني بلغة استفزاز لا تحتمل أي تأويل، وعلى الرغم من توحشها وساديتها فإن النظام لم يفعل شيئاً لوقف هذا التوحش، وبدلاً من ذلك فقد منح الأوسمة للأشرار الساديين الذين مارسوا هذا الجنون،وفي رد فعل مساو في القوة ومعاكس في الاتجاه وصل الى سوريا المحاربون الايديولوجيون المؤمنون بان لا حل في العالم بشيء الا بالحرب والنار، وأن الله كلفهم بقتال البشرية قتالا ضارياً حتى تزول رايات الكفر والشرك والنصيرية والصليبية والرافضة، وجاؤوا يرفعون شعاراً أسود وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله!!
وبدوره قام النظام باستجلاب كل ما في العالم من كتائب الطائفية البغيضة من حزب الله والنجباء والفاطميين ولواء ابي الفضل العباس وسرايا جعفر وهي كتائب محاربة مقاتلة على اساس ايديولوجي محض ولا يستطيع أي فجور سياسي مهما بلغ أن يقول ان أحدا من هؤلاء جاء إلى سوريا في سياق اهداف الامة العربية في الوحدة او الحرية او الاشتراكية.
ربما تحتاج هذه الصورة إلى عشر دقائق من المتابعة على قناة النجباء الفضائية التي لا تخفي أبداً مشروعها الطائفي البغيض على تراب سوريا، ويكفي النظر في العصائب الحمراء على جباه النجباء الفاطميين وهي تهتف لثارات الحسين من النواصب، وقتال العويين والبكريين (أتباع أبي بكر وعمر) وقتال بني أمية وهو اسم تقليدي يستخدمه الخطاب الطائفي لهدر دماء أهل دمشق وحلب تحديداً.
بالمقابل ازداد الخطاب الطائفي عند فصائل كثيرة من المعارضة وتحولت عدة فصائل منها الى قوى محاربة لا علاقة لها بالاوطان ولابالانسان، وظهرت داعش والنصرة، ومن يدور في فلكهما من الكيانات المحاربة التي تدعو بصراحة لقتال الطوائف وفرض شروط الذمة والمهانة جزاء وفاقاً.
قال لي صاحبي هل تذكر مواويلك التي كنت تلقيها عن الانسان السوري والتغني بعقله وسلميته وروحانيته وعدالته ووعيه.
أين هم اولئك الفينيق الأشباح الذين كنت تزكيهم بوصفهم حالة مقدسة في الاخاء الديني والتوحد الانساني؟
هل هم ابناء داعش والنصرة والمصالب والمحارق التي نشاهدها كل يوم ونحن ننظر في اوهامهم وعباءاتهم؟أم هم جحافل الفاطميين والنجباء الذين يتقربون الى الله بذبج النواصب؟ أم هم جحافل الدواعش الذين يتقربون الى الله بذبح الجميع.
هل هم الحشد الشعبي المتوحش الذي تنفتح شهيته على الجرائم امام كاميرات التصوير؟
هل هم هذا النظام المتوحش الذي أفتى في نصف سوريا أرضا وشعباً بأنها حواضن الإرهاب وراح يلقي البراميل على رؤوس الناس دون ضمير ويهلك الحرث والنسل؟
هل هم رجال حزب الله الاصفر العائد لتوه من ثارات الحسين والذي يخوض حربه الضارية لقتال الشعب السوري من اجل المراقد.
أين كان يختفي هذا المستنقع الرهيب الذي تعيش فيه كل بكتيريا الكراهية السوداء الموجودة في هذا الوطن التعيس؟
وهل حقا كنا ندرس وحدة وطنية؟ أم نمارس لعبة التكاذب الكريهة ونحتبئ وراء اصبعنا ونمارس إلقاء الخطب في الوحدة الوطنية بأفواهنا وألسنتنا في حين تنام قلوبنا على ركام من الضغائن؟
لقد كتبت طويلاً في حقوق الأقليات، لم أكتب عنهم بلغة فقهية أصولية، ولا بلغة حقوقية صارمة، لقد كتبت عنهم باستمرار بقلم مرتعش وروح متدفقة وعين دهشانة أتغنى بتاريخهم ورجالهم، علويين أمجاداً، ودروزاً أحراراً، واسماعيليين فلاسفة، وقساوسة منيبين، وعدويين وآشوريين، لقد حننت إلى قبابهم الخضر، وصليت في جبل زين العابدين، وتعمدت بقباب إخوان الصفا بمصياف، ونذرت عند شعيب في وادي بردى، وحجت روحي إلى مقام عدي بن مسافر وقضيت ليالي كثيرة عند مار موسى الحبشي في ضيافة باولو داليلو، وأمضيت شبابي أرسم لوحة الوطن على عيون علمه الأحمر نجمة لمحمد ونجمة للمسيح.
كان كل طقس مها يزيدني إيماناً بوجه الله الواحد ورضوانه وجنته ودينونته، وعاله الجميل الذي كنا نعمل على بناء نسخة منه على هذه الأرض الجميلة.
لست أدري هل يسوغ القول إنه قد انقرض تماماً هذا اللون من الصوفية السورية الثملة بتاريخ القديسين وآلهتهم وأنبيائهم ودجاليهم وحكاياتهم وأساطيرهم، والمترعة برواية تأملاتهم العميقة السابحة في فضاء اللامكان، والآيلة في النهاية إلى القدس المنشور بين مرقد صلاح الدين وضريح يوحنا المعمدان.
على من نتلو هذه المزامير الحزينة؟
هل كنا نمارس التكاذب ونصنع من ركام التناقضات صورة وطن ملون؟ هل كانت لمع ألوان متناغمة، أم اصطكاك أنياب ومخالب!!،وهل كانت غناء وحناجر، أم سكاكين وخناجر!!، وهل بقي فينا شيء من هذا الجمال الذي نتوهمه في تراث الآباء؟ أم أننا نكررهم تماماً كما هو تاريخهم الدموي المشين؟
ولأني مؤمن بأن الله خلق العالم من أجل نهاية سعيدة فإنني ما زلت أنظم الشعر في تراب سوريا وورودها وزهورها وأنبيائها وقديسيها، ولا يوجد لدي أدنى شك أنني سأتلوها على مسامع السوريين من جديد ذات يوم.
كل يوم أزداد حنيناً إلى ذلك السوري الجميل الذي زرع أرضه بكفاح يديه وسقاها بماء جبينه وأنبت منها قمحاً وأنبياء…