يشتد الجدل اليوم حول حقيقة موقف الشريعة مما بات يعرف بجرائم الشرف، وهو موقف تبناه للأسف القانون السوري ذات يوم استيراداً من القانون الفرنسي، ثم غلب على الناس تصور أنه مستمد من الشريعة الإسلامية وهو ما يقتضي أن نبسط فيه القول بالحجة والبرهان.
وتأتي هذه الدراسة بعد صدور تعديل جوهري يلغي قانون العذر المحل الذي كان يحمي القاتلين من العقاب على أساس أنهم إنما قاموا بجرائم القتل لغسل العار.
فإلى أي مدى يكون القتل في ساعة الغضب قتلاً لدفع العار في ميزان الشريعة؟
لا شك أن الإسلام جاء حرباً على الزنا والفحشاء، وهذا الموقف تؤكده كل ديانات السماء، كما يؤيده الشرفاء في كل مكان في هذا العالم حماية للأسرة ورعاية للفضيلة.
ولكن موقف الإسلام في مواجهة الفحشاء لا يعني أبداً تفويض الناس بإقامة الحدود وبالتالي دخول المجتمع في فوضى لا تنتهي، وهو ما صار يعرف بجرائم الشرف.
وقد رغب الإسلام في ستر المسلم نفسه وستر غيره من المسلمين، فعن أبى هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “من ستر مسلمًا ستره اللّه فى الدّنيا والآخرة”( ).
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “يا هزّال لو كنت سترته عليه بثوبك لكان خيرًا لك ممّا صنعت”( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: ” كلّ أمّتي معافًى إلّا المجاهرين وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملًا ثمّ يصبح وقد ستره اللّه عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربّه ويصبح يكشف ستر اللّه عنه”( ).
والكلام نفسه نص عليه الإنجيل الكريم على لسان السيد المسيح حين جاء الناس بخاطئة ليرجموها فقال لهم السيد المسيح: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر!
ولا شك أن هذه الأدلة واضحة في وجوب درء الحدود قدر المستطاع، عصمة لدم الإنسان وإفساحاً لباب التوبة والاستغفار.
وقد جاءت الشرائع جميعاً شديدة وصارمة في مسألة قتل الإنسان، حتى أنها أوجبت الخلود في النار لقاتل النفس الإنسانية، كما تدل على قوله سبحانه وتعالى: {ومن يقتل مؤمنًا مّتعمّدًا فجزآؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا} [النساء: 93].
واعتبر الإسلام أن قتل نفس واحدة يساوي في الإثم قتل جميع الناس.(من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا، ولقد جاء تهم رسلنا بالبيّنات، ثمّ إنّ كثيرًا مّنهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون) [المائدة: 32].
ومن المؤسف أن الماد 548 من قانون العقوبات السوري كانت تسمح بقتل الرجل لقريبته إذا فاجأها في وضع فحشاء، ثم تمنحه حق العفو التام عن الجريمة وهو ما أسماه القانون العذر المحل، كما أنها منحت العذر المخفف للقاتل إذا رأى القاضي أن سلوكها كان مريباً! على أنه ليس في القانون ضابط لكلمة (وضع مريب).
والحقيقة أن جريمة القتل بدافع الشرف تخالف الشريعة في ثلاثة أمور كلها من الكبائر:
فهي أولاً إثبات للحد بغير بينة وهذا حرام وفيه عقوبة القذف على فاعله ومرتكبه إلا إن كان زوجاً أو زوجة ففيه اللعان، ويحرم بعد اللعان اتهامها بشيء، ولا شك أن أي اتهام بغير بينة هو في الواقع قذف بالباطل وهو من الكبائر.
والبينة كما هو معروف أربعة رجال عدول يشهدون برؤية الفاحشة بشكل ينقطع فيه أي التباس، وفي حال تردد أي من الشهود فالجلد ثمانين جلدة حكم كل من يشهد صادقاً أو كاذباً، وحين اعترض صحابي كريم على هذا الأمر وقال: يا رسول الله أحدنا يرى مع امرأته رجلاً، فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه، يذهب فيلتمس البينة فلا يعود حتى يكون الباغي قد قضى نهمته!! فقال النبي الكريم: انظروا إلى صاحبكم.. إنه لغيور وإن الله لأغير منه.
وهي ثانياً حكم بالقتل بغير حق، حتى مع افتراض الفاحشة فالعقوبة المقررة في الشرع هي الجلد، وهي خاضعة من وجهة نظرنا للتغيير بحسب واقع الأمة والبحث عما يردع الزناة ويكفهم عن غيهم وفجورهم.
وهي ثالثاً افتئات على ولي الأمر وهو حرام، إذ المكلف شرعاً بإقامة الحدود إنما هو الدولة بمؤسساتها القضائية والتنفيذية وليس ذلك أبداً من شأن الأفراد أياً كانت غيرتهم واهتماماتهم.
كما أن هذه المادة تشتمل أيضاً على تمييز بين الرجل والمرأة في الحكم الشرعي وهو مرفوض شرعاً، ولم يرد في أي من الجرائم تمييز بين المرأة والرجل في العقوبة، بل يتساوى الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والمسؤوليات وفق ظاهر قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.
ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الفقهاء ألحق القتل بدافع الشرف بباب درء الصائل، واعتبر القتل في هذه الحالة كالقتل في حالة رد الصائل الذي يقتحم الدار ليسرق أو يقتل، وفيه ورد الحديث الشريف من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون نفسه فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن هذا المنطلق تم وصف هذا اللون من القتل على أنه قتل مباح، ويستدلون على ذلك بحديث مابور الخصي.
وخلاصة خبر مابور الخصي ما حكاه ابن إسحق في السيرة أن المقوقس ملك مصر أهدى للنبي الكريم جارية وغلاماً وقد تزوج النبي الكريم الجارية وهي مارية القبطية وقبل الغلام وهو مابور، وكان مابور يخدم النبي الكريم في بعض العوالي حيث أسكن مارية القبطية، وخلال ذلك جاء من يشي بهما للنبي الكريم ويتهم مابور بالفاحشة مع مارية، ونقل ابن إسحق أن النبي الكريم قال لعلي بن أبي طالب اذهب يا علي فاقتل مابور ، وتوجه علي من فوره إلى البستان حيث يقيم مابور وهو مشرع السيف وحين رآه مابور عرف مراده فهرب فتبعه علي فصعد شجرة فتسلق وراءه علي شاهراً سيفه، فسقط مابور من السجرة فانكشفت عورته فإذا هو مجبوب!! فعاد علي إلى النبي الكريم فقال يا رسول الله أحدنا ترسله في أمر أفيكون كالسكة المحماة ينفذ ما أمرته أن أن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب؟ فقال له النبي الكريم بل إن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب فأخبره علي بما رأى فقال له النبي الكريم: أحسنت فكف عنه حينذاك.
وحديث مابور الخصي حكاية مضحكة، فهي في عرف المحدثين نصوص ضعيفة واهية غير مقبولة سنداً ولا متناً، نقلها الأصفهاني في الحلية والمجلسي في بحار الأنوار، وعلى الرغم من وهاء سندها واضطراب متنها فإنها تجد من يرويها عادة على أساس أنها سنة نبوية!!.
ومن المخجل أن نتورط برواية نصوص كهذه على أنها من السنة، ونبرر بها جرائم القتل، فالحكاية هذه تتهم النبي الكريم بأنه قمع قول يصدر أحكامه الشرعية بناء على الوشايات والإشاعات، وأنه أمر بإقامة الحد بغير بينة ولا شهود، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يأمر بذلك، وأنه لم يمنح الخاطئ أي فرصة للدفاع عن نفسه أو إثبات براءته، وأنه أمر بقتل العبد في جريمة الزنا وقد أجمعت الأمة على أن ليس على العبد رجم في الزنا وأن عقوبته نصف عقوبة الحر، وأن النبي أمر بمعاقبة أحد طرفي الزنا وترك الآخر، وهو موقف يتنافى مع العدالة ومع المنطق، إضافة إلى تفاصيل الحكاية الكاريكاتورية في تسلق الجدران والتعربش على الشجر وانكشاف الثياب وهي حكاية خرافية لا تمت للعقل ولا للمنطق بأي سبب ولا نسب.
إن الصحيح من سيرة النبي الكريم أنه جاءه هلال بن أمية ثائراً هائجاً وقد قذف امرأته بشريك بن سحماء!! وذكر ذلك للنبي الكريم أمام جمع من الصحابة، وكان الموقف يستدعي أن يرسل النبي علياً بسيفه ذي الفقار ليضرب به دفاعاً عن العفاف الاجتماعي، ولكن موقف النبي الكريم كان في غاية الحكمة والبصيرة والاتزان وقال لهلال: أمعك بينة؟؟ ويشتد هنا انفعال الرجل ويقول: يا رسول الله أحدنا يجد مع امرأته رجلاً يذهب فيلتمس البينة!!؟ والبينة هنا أربعة شهود عدول يشهدون أنهم رأوا الفاحشة، ولكن النبي الكريم يكرر وهو على رأس المؤسسة القضائية: يا هلال.. البينة أو حد في ظهرك!! والحد هنا ثمانون جلدة بجريمة القذف بدون بينة! لقد كان أمراً محيراً ومفاجئاً لهلال بن أمية الذي وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه، فعلى الرغم من ظهور صدقه في دعواه ولكن النبي الكريم يطالبه بالبينة ويهدده بالعقاب!
لقد كان عرف الناس في الجاهلية أن القاتل هنا في هذه الحال يستفيد من العذر المحل، ويبارك عمله الذي أقدم عليه على أنه غسل للعار ودفاع عن الشرف، ولكن من الواضح أن الشريعة أبطلت ذلك وأقامت نظام العدل والدولة المدنية المتحضرة مكان التقاضي بشرع الغاب، وبادر عدد من الصحابة بالدفاع عن هلال وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله أحدنا يجد مع امرأته رجلاً يذهب يلتمس البينة فلا يأتي بها حتى يكون الفاجر قد قضى نهمته!! ثم قال بغيظ: أحدنا يجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه، والله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا!! قال رسول الله: انظروا إلى صاحبكم إنه لغيور وأنا أغير منه وإن الله أغير منا!! ثم التفت إلى هلال وقال مرة أخرى: البينة أو حد في ظهرك!!
ويصر هلال على دعواه، وفي موقف متين في الدفاع عن رأيه يقول هلال: يا رسول الله! والله إني لصادق ولينـزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد!! في جرأة تعكس مدى ما منحه الإسلام للأفراد من جرأة في مناقشة الشريعة والدفاع عن الرأي.
وبالفعل فقد نزل القرآن في براءة ظهره من الحد بجريمة القذف وجاءت تفاصيل اللعان وفيها المنع من محاكمة الزوج بتهمة القذف إذا رمى زوجته، وهكذا فقد جاءت الآيات ببراءة الزوج القاذف ولكنها لم تتعرض أبداً لبراءة الزوج القاتل، وظل القتل بدافع الشرف مشمولاً بعموم تحريم القتل في الشريعة، ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً.
وربما كان أفضل مجال للقدوة الصالحة هو ما لقيه النبي الكريم حين واجه محنة قاسية في حياته تتصل بزوجته الطاهرة عائشة حين وقع المنافقون في عرضها وأطلقوا ألسنتهم بالسوء فيها.
وها هنا فإن علينا أن نراقب رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه العظيم حين وقعت في مسامعه هذه الشائعات، إنه لم يخترط سيفه ويذهب إلى داره لغسل العار، وسفح الدم، لقد ظل أربعين يوماً يعاني أشد العناء مما يسمعه من الناس حول أهل بيته ولكنه مع ذلك لم يخول نفسه وهو رسول الله أن يقيم حداً بدون بينة، أو أن يشارك في كلام الناس بإثم أو مظلمة.
وكان أكثر ما فعله في هذه المحنة القاسية أنه قال لعائشة: يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فهلمي أستغفر لك الله!!
إنها بالفعل أخلاق الأنبياء وهو ما نحتاجه عندما يغلي الغضب في الرؤوس ويفقد المرء التركيز فلا يعرف السماء من الأرض ولا الطول من العرض ولا النافلة من الفرض.
علينا إذن أن نعترف بأن تبرير جرائم القتل بدوافع الشرف أمر ينتمي للتقاليد البالية وليس لروح الشريعة ولا لهدي النبي الأعظم عليه سلام الله.