قراءة في الجانب الأخلاقي للصراع على القدس
القدس مدينة الصلاة والسلام والمحبة، شهدت هجرة إبراهيم وولادة السيد المسيح ومسرى النبي محمد، وكان الآتي من الأنبياء يبشر برسالة الآفل أنها أرض السلام والمحبة.
ولكن فكرة السلام والمحبة في القدس صارت مشهداً مستحيلاً مذ عصفت بالأرض أوهام البغي الصهيونية تفسد الحرث والنسل، ولم تجد القدس طعم الراحة من عناء الحروب المتواصلة منذ أكثر من ستين عاماً، حتى صار أبناؤنا يتساءلون: كيف تكون مدينة السلام وهي مدينة الصلب والحروب والدماء؟
من وجهة نظري فإن القدس اليوم تحدد ملامح العالم الجديد، حيث يرتسم الصراع على الأرض من زاويته الأخلاقية بصورة لا لبس فيها ولا غموض:
خندقان متقابلان في هذا العالم، يحتشد في الخندق الأول أصحاب النوايا الطيبة من أبناء السماء، والمناضلون الشرفاء من أجل الإنسان، في حين يحتشد في الخندق الآخر أتباع الإله الجديد الذي لا يجرؤ أحد على ذكر اسمه إلهاً، وهو الدولار الذي يحرك أساطيل أمريكا وفرقاطاتها ومدمراتها إلى البحار السبعة في العالم .
حين تخوض أمريكا الحروب المدمرة في العراق وفي أفغانستان وباكستان لا تتردد في تبرير ما تفعله تحت عنوان بارد وصادم، إننا ندافع عن مصالحنا، ولا يهم بعد ذلك ما تدفعه الشعوب الأخرى من أجل مصالح أمريكا، إن التبرير بهكذا كلمة ينزع كل مبرر أخلاقي عن هذه الحروب الظالمة، ويصدمك بالحقيقة الفاقعة: الحروب من أجل المصالح الحيوية لأمريكا!!
كيف يقرأ الاستكبار العالمي خريطة الشرق الأوسط؟
لقد قرر الاستكبار العالمي أن بلاد الشام التاريخية تقوم فيها أربع دول وخمسة شعوب والدول هي إسرائيل وسوريا ولبنان والأردن، والشعوب هم الإسرائيليون والسوريون واللبنانيون والأردنيون والفلسطينيون وببساطة هناك شعب زائد في الشرق الأوسط يجب التخلص منه وهو الشعب الفلسطيني!!
ومضى فلاسفة الشر يستخرجون الأصول الدينية والفلسفية لارتكاب جريمة كهذه من نصوص ظالمة آثمة زرعت في العهد القديم، ورتل الحاخامات مزاميرهم الجديدة:
وظهر له الرب وقال: « اسكن في الأرض التي أقول لك. تغرب في هذه الأرض فأكون معك وأباركك، لأني لك ولنسلك أعطي جميع هذه البلاد، وأفي بالقسم الذي أقسمت لإبراهيم أبيك. وأكثر نسلك كنجوم السماء، وأعطي نسلك جميع هذه البلاد!!
ولم يتردد شراح التلمود في تفسير النص بأنها الأرض الممتدة من الفرات إلى النيل تماماً كما يشرحها علم إسرائيل المرسوم بين خطين أزرقين على أرض بيضاء خالية تستقر فوقها نجمة داود السداسية التي جعلها اليهود علماً لدولة إسرائيل.
ولا تتردد النصوص التوراتية في الإشارة إلى وجوب تخريب المنطقة بين الفرات والنيل تخريباً تاماً حتى يرحل منها البغاة ويسكنها شعب الرب المختار من بني إسرائيل.
فعن دمشق يقول إرميا 49 في دمشق اضطراب لا يستطيع الهدوء. ارتخت دمشق والتفتت للهرب. أمسكتها الرعدة، … تسقط شبانها في شوارعها، وتهلك كل رجال الحرب في ذلك اليوم، يقول رب الجنود. أشعل نارًا في سور دمشق فتأكل قصور بن هدد .
والنبوءات تذكر أشياء مماثلة عن حمص وحلب وبابل وأور، بحيث يتعين تخريب الشرق من أحل قيام دولة إسرائيل الجديدة التي لن تقوم إلا على ركام من المظالم والمآثم.
وبسرعة لم تعد تلك المظالم والمآثم شيئاً يستحى منه بل صارت هدفاً مشروعاً تسعى إليه سياسات الاستكبار العالمي، ووجدت من يفسرها ويشرحها على ألسنة فلاسفة كبار يحظون بشهرة عريضة في الغرب، وهنا يمكنني أن أقتبس من عبارات نيتشة الذي كان أكثر فلاسفة ألمانيا تأثيراً حين كتب في كتابه هكذا تكلم زرداشت: إن قيام الحضارة الحديثة لن يتم إلا بعد التخلص من الضعفاء والمرضى، إن هؤلاء الضعفاء والمرضى والعجزة يعيقون التقدم الضاري ويسهمون في تخلف الحضارة الجديدة ولا بد من التخلص منهم وسيكون ذلك بكل تأكيد عن طريق إبادتهم وتوفير موت سريع لهم ، وقال بصراحة اقتل الضعفاء اسحقهم اصعد على جثثهم، لا قيامة للإنسان الجديد السوبرمان إلا بعد التخلص من هذه الحشرات، إن الأخلاق هي أكبر عائق في وجه التقدم البشري، ولا بد من الانتباه لما يمارسه الوعاظ من الكذب لتعويق الحضارة عن طريق الرعاية بالضعفاء وقتل الوقت في خدمتهم في حين أن الأفضل لهم وللبشرية أن يموتوا بسرعة ليقوم الإنسان الجديد بإكمال مهمته!!
يجب منع الضعفاء والفقراء من الزواج يجب أن يكون الجيل الجديد فقط من الأقوياء والأذكياء والأغنياء، ولا فائدة من زحم العالم بهكذا حشرات طفيلية بل إن ترحيلهم إلى المقابر هو واجب أخلاقي تفرضه طبيعة الحضارة الحديثة
لقد أعلن نيتشة أن الله مات وأن من العقل أن توضع مومياؤه في المتحف بعد أن لم يعد له عمل في هذا العالم.
إن الفقراء ماكرون دهاة يمارسون الكسل والخمول في الليل ويقومون في النهار لاستجداء ما جمعه الأغنياء بكدهم وعرقهم وجهدهم، فالصدقات بحد ذاتها مكر من الفقراء لاستخراج ما في جيوب الأغنياء!!
قال للارستقراطيين: ليس من حقكم ممارسة التواضع الأبله الذي يجعلكم متساوين مع العامة الناس إنها خيانة لما بذله آباؤكم، لقد دفع آباؤك ثمناً غالياً من أجل دمك الأزرق، فاحذر أن تفرط بمكانك هذا تحت ضغط دموع البائسين!!
إن ثقافة كهذه أشعلت الحروب في العالم مرات كثيرة وقد كانت بشكل مباشر أكبر أسباب الحربين العالميتين، وانتهت بالتالي إلى سيطرة القوي على الضعفاء واستئناف بناء ناطحات السحاب على ركام المسحوقين الذين لا حق لهم في الحياة بعد.
إن هذه الثقافة بالضبط هي التي تحرك الصهيوني الجشع لممارسة القهر والظلم ضد أهلنا في فلسطين وضد كل آمال العودة والحياة الكريمة على أرض فلسطين على أساس أن الفلسطينيين شعب زائد وأرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وهكذا بدأت مأساة فلسطين.
وحتى لا نتهم بأننا ننظر بمنظار أسود ولا نفهم الموقف الأخلاقي للأمم المستكبرة في دعم الصهاينة فأنا أختار هنا أن أروي لكم تجربة إنسانية هامة عاناها مفكر ألماني كبير في حياة صاخبة قاسية على أرض فلسطين.
ولد ليوبولد فايس عام 1900 من أسرة يهودية متدينة وأتيح له أن يتلقى ثقافة واسعة حول العهد القديم ، وظهر نبوغه مبكراً الأمر الذي وفر له المشاركة في عدد من الرحلات حول العالم ، والزيارات المتكررة إلى الشرق الأوسط، وبسبب ميوله الدينيية فقد تم إطلاعه على خفايا المشروع اليهودي في فلسطين ، وأن أرض الميعاد التي منحها الله لشعبه المختار جاهزة تماماً لاستقبال المهاجرين الأتقياء من أفراد الشعب اليهودي التائه ، وأن حضور اليهود إليها يشكل خدمة كبيرة للمنطقة وإحياء لأرض مهجورة تماماً لا يسكنها إلا قليل من الرعاة والبدو الرحل، وأن الأتقياء اليهود قد وفروا كل شيء لاستقبال إخوانهم المهاجرين ، وأن سائر السكان المحليين قد حرثوا جبل الهيكل بشوق وهم ينتظرون ببالغ الشوق قيام الهيكل المزعوم على تلك التلة الخالية القفراء !
لقد كانت فكرة واضحة تلك التي قدمها مبشرو قيام أرض الميعاد، إنها تتلخص في: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض!!
ولكن لم يطل الأمر بفابس حتى أدرك الحقيقة ، إن المشروع يرتكز على إبادة شعب كامل وتشريده في الأرض من اجل قيام أوهام توراتية ، وكانت عمليات شراء الأراضي أو اغتصابها تتم على نطاق واسع، ولم يتردد الرجل في إعلان رأيه بصراحة إنها جريمة نكراء ترتكب باسم الرب وما أكثر الجرائم التي ترتكب باسمه أيضاً ، وطفق يطوف في الشرق يحذر من المشروع الصهيوني الذي رأى فيه إبادة للشعب الفلسطيني واليهودي معاً ، من خلال زجهما في رياح البغضاء .
لقد صرخ صرخته في البرية واعتنق الإسلام وتسمى باسم محمد أسد وكتب العديد من الكتب منها : الإسلام على مفترق الطرق ، والطريق إلى مكة ، وهو أول من نادى بتأسيس جمعيات العودة ، عودة اليهود من حيث جاؤوا من آفاق الأرض ، والاعتراف بأن ما جرى لم يكن إلا مؤامرة على الشعبين معاً ساقت إليه أوهام توراتية خرافية .
لقد كان المشروع اليهودي جاهزاً وكانت رياح البغضاء جاهزة لحشد قوى الشر في الأرض لاقتلاع الشعب الزائد في الشرق الأوسط ( الشعب الفلسطيني ) وتوطينه في أماكن أخرى في العالم، وكان يفترض أن يتم ذلك خلال خمسين عاماً من مؤتمر بال بسويسرا الذي دعا إليه هرتزل، وكانت الحسابات اليهودية جاهزة لشراء كل ارض فلسطين بالذهب الأسود والأصفر، ولكن بعد مرور مائة وعشرة أعوام على الأحلام اليهودية وستين عاماً على النكبة فإن الأحلام الصهيونية لا زالت وهماً هائجاً لن يستقر له قرار في أرض فلسطين، ولا تزال المقاومة تصلي بنارها كل من يفكرون بخيانة الشعب الفلسطيني والتآمر عليه، وعلى الرغم من آلة الحرب الإسرائيلية المدمرة فإن المقاومة لا تزال تكتب على الأرض وبلغة الدم والمقاومة أرض العرب للعرب، وفلسطين عربية والقدس منار العروبة الباقي حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
المقاومة وأطفال الحجارة وإرادة الحياة تعيد مكانة القدس عاصمة للعالم الروحي، وتعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد، حيث يهتز المهد والمسرى ليوقظ في ضمير العالم خطاب الروح، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.