شرحت السماء رسالة المرأة بكلمة واحدة وهي قول الله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والولاية هي النصرة والطاعة والوفاء والتكامل، وهو مجد لا أعتقد أننا نسعى إلى ما هو أكثر منه كمالاً وأوضح منه مآلاً، وهو أن المرأة في الإسلام نصف المجتمع وشطر الحياة وكل سعي لتمكين المرأة من حقوقها ورفع الظلم عنها فهو كفاح في سبيل الله والمستضعفين في الأرض.
وهذه الحقيقة هي بالضبط تلك التي كانت تسعى إليها المرأة منذ بدأت الرسالة التي أعلنت وجوب تحقيق العدالة بين الرجل والمرأة على السواء، وفي هذا السياق يروي مسلم بن عبيد أن أسماء بنت يزيد بن السكن وهي سيدة من الأنصار اشتهرت بفصاحتها حتى سميت خطيبة النساء، تقدمت إلى صفوف الرجال في مسجد رسول الله وقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، وإني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين، كلهن يقلن بقولي وعلى مثل رأيي:
إن الله تعالى بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك واتبعناك، وإنا معشر النساء مقصورات مخدرات، قواعد البيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن معاشر الرجال فضلوا علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والجهاد في سبيل الله، وإذا خرجوا إلى الجهاد حفظنا لهم أموالهم، وغزلنا أثوابهم، وربينا أولادهم، أفنشاركهم في هذا الأجر يا رسول الله؟ لقد كانت أسماء تخوض كفاحها لتحقيق المساواة المأمولة التي هي أبرز مقاصد الإسلام، وقد نالت بجرأتها وعقلها احترام النبي الكريم وثناءه، والتفت إلى أصحابه الكرام قائلاً: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن من هذه؟ فقالوا: لا والله يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا!!
وفي رواية أن أم سلمة قالت: يا رسول الله مالي أرى الرجال يذكرون في القرآن ولا أرى النساء يذكرن؟ فأنزل الله تعالى الآية: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانمتين والقانتات والصابرين والصابرات والصادقين والصادقات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمان والضائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهن مغفرة وأجراً عظيماً.
إنه كفاح حقيقي شاركت فيه المأة في اقتراح الشريعة وفي المطالبة الواضحة بحقوق النساء يجعلنا اليوم نشعر بمسؤوليتنا تجاه المرأة في البناء الاجتماعي.
قبل سنوات أصدرت كتابي المرأة بين الشريعة والحياة وقد أثار الكتاب سلسلة من ردود الأفعال تفاوتت بين غضب عارم ونقد هادئ وإعجاب بالغ، وهذا أمر طبيعي في كل فكر جديد، وبعد سلسلة من الأخذ والرد وبعد أن طبع الكتاب ست طبعات متتاليات، وطبع ضده ثلاثة كتب وعدد من المقالات، فإن الحقيقة التي ازدادت لدي رسوخاً هي أن المرأة لا زالت مغيبة عن جوانب متعددة في البناء الاجتماعي، وأنها لا تزال تعاني الرهق من التقاليد البالية، والعادات القاسية التي يلبسها المجتمع عباءة دينية، ويربطها بأوامر الشريعة في حين أنها ليست إلا اجتهاداً لبعض الفقهاء في مواجهة اجتهاد فقهاء آخرين كانوا أكثر تسامحاً وتنويراً ولكن آراءهم واجهت حرباً ضارية تحت ضغط التقاليد.
ولكن المرأة المؤمنة التي نبحث عنها ليست تلك الكائن المنزوي السلبي الذي يقتل أوقاته بتلاوة الأذكار، وقيام الليل وصيام النهار، ولا ترى الرجال ولايراها الرجال، أو تلك التي تسكن في زاوية الحرملك من باب الحارة لا تعرف من الحياة إلا مكائد الغيرة والحسيدة والخضوع والرهاب والخوف ولا تملك قدرة على المبادرة والمواجهة مع الحياة.
المرأة المؤمنة التي نبحث عنها هي مريم المقدسة التي أنجزت ثورة حقيقية في عالم اللاهوت، وفرضت على المجمع المقدس قبول النساء، وبلغت مجداً تسعى إليه الأنبياء، هي آسيا بنت مزاحم زوجة فرعون التي تمردت على ترف القصر وذهبه وجواهره، وأنكرت مظالمه ومخازيه، ووقفت في وجه الفرعون أعتى عتاة الأرض واعتصمت بالله هادئة وجبارة حتى أشرق الله في فؤادها ونصرها على مكائد القصر ووسوسة البلاط، وهي خديجة التي كانت أول قلب اطمأن بالإسلام والتي وقفت إلى جانب زوجها نمراً متوثباً في رسالته الجديدة، كلا والله لا يخزيك الله أبدأ ، امض لما أمرك الله به، ولا تحزن، إنك لتحمل الكل وتنصر المظلوم وتعين على نوائب الدهر، وهي عائشة المعلمة العارفة التي كان المشيخة من أصحاب رسول الله يأتونها في دقيق المسائل والتي قال ابن المسيب ما رأيت الكلام في فم أحد أفصح منه ولا أفخم منه في فم عائشة، وهي خولة بنت ثعلبة التي ناضلت أمام رسول الله وجادلت بجرأة ويقين، حتى استمع الله إليها من فوق سبع سموات، حتى حققت تعديلاً دستورياً جوهرياً في التنزيل يستجيب لمطالب النساء، وهي زينب الكبرى التي زلزلت عروش الملوك بمواقفها البطولية والتي أصبح ضريحها أكبر ضريح امرأة مقدسة في العالم ولا زالت تستمطر الزائرين بالملايين في كل عام يلتمسون عند ضريحها مجاديح السموات، وهي سكينة بنت الحسين التي افتتحت في تاريخ العرب أول صالون أدبي في الإسلام، وصارت مفزع الناس في الحوائج ومرجعهم في المعرفة، وهي رابعة العدوية التي هتكت الأسرار جميعها ووقفت أمام الله بحبها الفريد، وكان فؤادها يفيض عليها كتاباً وسنة، وطهراً ونبالة، وقياساً واستحساناً.
ولكن الحديث عن حقوق المرأة ومساواتها أصبح اليوم لوناً من الترف الفكري، الذي يعتمد صيغة خطابية إنشائية، ولكننا نخفق عادة في تحويل هذا اللون من الخطاب إلى إنجاز حقيقي لصالح المرأة ولصالح العدالة والمساواة.
الشريعة صالحة لكل زمان ومكان شعار نردده كل يوم, ولكن لن يكون لهذا الشعار أي معنى إذا قررت الأمة الهمود والقعود عن الاجتهاد, وكذلك فإن قانون الأحوال الشخصية يسهم في حماية الأسرة, ولكن حمايته ورعايته تتطلب جهوداً مستمرة في التطوير وإلا فإن القعود عن تطوير القانون وبالتالي تغليفه بالتابو المانع للتطور سيؤدي حكماً إلى الإساءة إلى الأسرة وإثبات عجز الفقه عن مسايرة الحياة.
هذه المقدمات التي نسلم بها هي في الواقع مدخل لما ينبغي أن نقوم به من كفاح في سبيل تمكين المرأة والدفاع عن حقها في المشاركة وبناء الحياة.
ومن موقعي في التشريع فإنني أحب أن أشارك في رسم بعض الآمال الممكنة التي نترسم من خلالها بعض الإصلاحات التشريعية التي تسعى لإنصاف المرأة والدفاع عن حقوقها.
ربما كانت أقرب النقاط الواردة في سياق التطوير هي تأمين سكن الحاضنة, إذ يملك القضاء اليوم وفق المادة 142 من قانون الأحوال الشخصية أن يفرض على الرجل الإنفاق على المحضون, ولكنه لا ينص على إسكان الحاضنة والمحضون, وفي هذه الحالة فإن كثيراً من الآباء القادرين لن يقوموا بأي مسؤولية تجاه أبنائهم باستثناء النفقة وهي لا تشمل بالضرورة الإسكان للحاضنة والمحضون, وقد ترك هذا الأمر على الأريحية للقضاة فمن شاء فرض السكنى ومن شاء لم يفرض السكنى على الزوج للحاضن والمحضون, إلى أن مضى الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض على الأمر بنفقة الإسكان أو استئجار البيت المناسب للحاضنة والمحضون ولكن ذلك ظل محض اجتهاد قضائي لايتمتع بصلابة القانون وتماسكه, وحين يعجز القضاء عن فرض إسكان الحاضنة والمحضون على ولي النفقة فإن معنى ذلك أن عناء كبيراً ينتظر المرأة التي ستحضن في بيت أهلها وهو ما سيحول بكل تأكيد دون توفير جو آمن للطفل المحضون وسيبقي الأسرة في منازعات لا تنتهي, ويستوي في هذه الحالة الحاضنة من زوج غني أو فقير فالأمر بالنفقة لا يشمل ضرورة الأمر بإسكان الحاضن, وهو ما يتمسك به الغني نكاية بالمرأة ورغبة في إكراهها على التخلي عن الحضانة.
هناك إذن حالتان يمكن القانون أن ينصف فيهما المرأة الحاضنة:
• الأولى: حين يرفض الغني توفير السكن للحاضنة بدعوى أن القانون لا يلزمه ذلك.
• الثانية: الزوج الفقير يرفض توفير السكنى أو يشح في النفقة بدعوى عدم القدرة على ذلك.
وهنا يستطيع القانون أن ينصف المرأة في الحالتين, ففي الأول يتعين النص على أن إسكان الحاضنة والمحضون من مسؤولية الرجل تأسيساً على القواعد الشرعية العامة, وعلى قوله تعالى: أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن, والإسكان أصبح اليوم جزءاً لايتجزأ من النفقة, بعد أن تغيرت طبيعة الحياة ولم يعد هناك بالضرورة بيت واحد للأسرة تعود إليه المرأة المطلقة بعد أن أخفقت في استكمال حياة الزواج.
وفي الحالة الثانية فإن إنشاء صندوق النفقة يمكن أن يحل المشكلة حيث يتعين هنا على الرجل أن ينفق بقدر يساره وفق القاعدة القرآنية ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره, وكذلك قول الله تعالى لينفق ذو سعة من سعة ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله, وبالتالي فإن الدولة ملزمة ومن خلال صندوق النفقة أن تستكمل ما قصرت عنه النفقة إضافة إلى التزام الزوج الفقير بما يحقق لوناً من التكافل بين أبناء الأمة لاستيفاء هذه الحقوق التي تقصدها الشريعة.
وهكذا فإن صندوق النفقة مشروع تطويري يتصل بتأمين حاجات المرأة المطلقة, وقد أقره القانون المصري منذ عدة سنوات, حيث تقوم الدولة بتأسيس هذا الصندوق على أساس أن يكون وسيطاً بين المستحق له والمستحق عليه, ويتولى الإنفاق على المرأة المطلقة, ويتلقى الصندوق دعماً من الدولة ويمكنه أن يثمر موارده بما يحقق المزيد من المزايا للمرأة المطلقة.
ومع أن عدداً من الباحثين حذروا من الإفراط في منح المطلقة هذه المزايا على أساس أن ذلك سيرفع نسبة الطلاق حيث ستشعر المرأة بأن الطلاق لم يعد يكلل بالمخاطر والعناء, وسيهون عليها هنا الطلاق أو طلب الطلاق وربما في النهاية التعسف في إيجاب الطلاق وهي مقاصد لن تعود بالفائدة على المجتمع أو الأسرة.
ومع احترامي لهذا الرأي ولكن أياً من التحسينات القانونية لن يجعل الطلاق فردوساً تسعى له النساء, وسيظل الطلاق أبغض الحلال وسيظل أقسى أشكال القدر الذي تواجهه المرأة, وسيظل عملنا هنا كمن يرش على الموت السكر.
ويركز عدد من الباحثين على أن الشرع معني مباشرة بحقوق الأسرة كلها وليس المرأة دون الرجل, أو الرجل دون المرأة, وأن علينا أن لا نفرط في تحميل الرجال مطالب النساء, خاصة أنا لا نستطيع الموافقة على أن الرجل دائماً هو المسؤول عن عناء المرأة أو طلاقها, مع الرفض الشديد لإلزام الرجل بتأمين سكن للمطلقة غير الحاضن اكتفاء بما ورد في السنة من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن ليس للمطلقة المبتوتة نفقة ولا سكنى, وهو موقف موضوعي كان له أثر حقيقي على تنوير هذه النقطة بالذات والحيلولة دون اندفاع متهور في تحميل الرجل وزراً أبدياً للإنفاق على امرأة قد يكون عانى منها أو عانت منه الأمرين, حتى أذن الله بالفرج, وهنا فقد حسم القرآن الكريم الأمر بقوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله عزيزاً حكيما).
إن ما يقدمه الفقه المحافظ والفقه التجديدي ضروري ومتكامل، حيث يغني كل من الاتجاهين مقاصد الآخر, فالرغبة في حماية العفاف الاجتماعي تتكامل مع الرغبة في تطوير المواد القانونية بما ينسجم مع الفقه الإسلامي, وهو موقف يذكرك بالتعاون البناء الذي شهدته الدولة الإسلامية في عصرها الذهبي بين الفقهاء من المدارس المختلفة لأبي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي.