بداية لا بد من القول أن القرآن الكريم يذكر لنا أخبار الحيوان في صورة أمم ملهمة، وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون.
ومع أن كل الكائنات أمم أمثالكم ولكن القرآن تخير لنا منها الأمم الحيوانية المنظمة التي تصلح أن تكون قدوة في باب من أبواب التنمية والحكمة، ومن هذا الباب ذكر لنا أمة النحل وأمة النمل.
اختار الله سبحانه أن تكون ملكة النمل ومملكة النحل اسمين لسورتين كريمتين في القرآن الكريم، وهي سور طويلة ذات دلالة، في حين أن القرآن الكريم خص الفيل بسورة قصيرة من أربع آيات حيث ذكره مركباً للمجرمين المفسدين في الأرض، ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، وفي تفاصيل القصة معلومات لخصها الشاعر العربي بقوله: لا بأس بالقوم من حجم ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير
النمل مملكة النظام والانضباط، تحكمها عقلية شمولية في مجمتع شيوعي، وبالطبع فأنا أقصد النمط الاقتصادي ولا أقصد التفكير المادي الجدلي الإلحادي فنحن نعتقد أنه ليس في أمة النمل نملة ملحدة، وقد قال الله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، ولكن النمط الاقتصادي الذي يحكم اقتصاد النمل هو نمط شيوعي تنظمه قاعدة: من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته.
مع أن سورة النمل فيها ذكر أنبياء وأصفياء وأولياء كثير، وفيها ذكر داود وسليمان وهود وصالح، ولكن الاسم المختار للسورة هو سورة النمل، ومع أن القرآن يشير إلى مملكة النمل باحترام ولكنها تعكس في الواقع حكاية المجتمع الاستهلاكي العاجز عن الإنتاج، ولكنه غير عاجز عن الاستيراد والتخزين، حيث تقدم صورة واضحة للمجتمع الاستهلاكي النشيط الذي يجمع في الصيف ليستهلك في الشتاء، وهكذا فعلى الرغم من الدأب والنشاط الذي يتحلى به مجتمع النمل إلا أنه يبقى نموذجاً للمجتمع الاستهلاكي، الذي يجهل أي معلومات عن القيمة المضافة أو عن تحرير الأسعار أو عن إعادة التصدير، وبالتالي فليس لديه في مملكته غرفة للصناعة ولا للتجارة، ولا فريق اقتصادي حكيم ولا هيئة أوراق ولا مكتب استثمار، وهو يكتفي بهيئة متميزة لإدارة المحاصيل وسجلات مضبوطة للمستودعات وخبرات ناجحة في التخزين وحماية المحاصيل.
يذكره القرآن أمام تقدم جيش سليمان، حتى إذا أتوا على واد النمل، فينسب الوادي إلى النمل لأن الأرض لمن يعمل بها، والحقل لمن يزرعه، وفي سطر واحد تدرك أن حكومة النمل حققت قدراً عالياً من التنظيم، ففيها قوات استطلاع وإشارة وفيها كفاءات إعلامية قادرة على التصرف بسرعة وحكمة، يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ، وفي الآية بيان أن المساكن التي أسسها النمل كانت مناسبة لمواجهة كوارث الدهر وطوارق الليل والنهار، حين وقف خطيب النمل فيهم يستخدم أداة النداء المناسبة للجماهير قائلاً يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون.
النمل مجتمع تعاوني منظم، يتميز أفراده بالدأب والجدية في الحياة، وهم باقون على رغم سياسة الغاب التي تنص أن البقاء للأقوى، وبقاؤهم هنا سببه تحقق النظام فيما بين أفراد أمة النمل، وهذا سر احترامه في القرآن، ولذلك ذكر الله مجتمع النحل ومجتمع النمل ولم يذكر مجتمع الصراصير، هل رأيت صرصورين يتعاونان في شيء أو يكلم أحدهما الآخر، رب أسألك نفسي، ولأجل ذلك فإن الروايات لم تكف عن حكاية النملة والصرصار، وبالتالي حكاية الجد والكسل، وحكاية العبث والأمل، وخلال تاريخ طويل انقرضت فيه الديناصورات العملاقة والأستيوصور والأسموصور والكرونوصور والثيراناصور والبابسيصور وأشباهها من الكائنات العملاقة التي عاشت بين العصر الحجري والعصر الطباشيري، وعلى الرغم من حجمها العملاق وقوتها التدميرية فإنها هلكت في الواقع وبقي النمل، تمكن من تجاوز كوارث التاريخ وحافظ على نفسه وهو يسجل نمواً مطرداً على الرغم من كل ما أبدعته يد الإنسان وعقله من وسائل إبادة في النمل.
ولكن النمل على ذلك كله لم يتجاوز المستوى الاستهلاكي وظلت خبراته تقتصر على إدارة المستودعات، وفي أحسن الأحوال فقد تمكن من توفير الأمن الغذائي للشعب، وتمكن من حمايته نسبياً من الكوارث الطبيعية التي تضرب به في كل حال.
ومع أن النمل حظي بذكر في القرآن، ولكن النحل حظي باحترام آخر حين وصفه الله بتكريم خاص وقال وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومما يعرشون.
والوحي الإلهي وإن تأولناه هنا بالغريزة الطبيعية كما يشير جمهور المفسرين ولكنه على ذلك يتضمن معنى تكريمياً فريدً لا يصح إنكاره أو تجاوزه.
وأمة النحل تمتاز على أمة النمل بأنها أمة إنتاجية صناعية، وأنها قادرة على تحويل الرحيق إلى عسل، وأنها تتبع نظاماً دقيقاً صارماً في بناء حياة آمنة هادئة مطمئنة.
التراتبية والانضباط في مملكة النحل، وصحة القصد إلى العبير والزهر دون سواه جعل النحل مصدراً ثراً للإلهام والعافية والشفاء، وجعله أهلاً لتلقي الوحي الإلهي، وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون.
وفي النحل أشار القرآن إلى تعدد مصادر الإنتاج: ثم كلي من كل الثمرات، وخص الثمر دون الورق والشجر لأن المراد العنب وليس أن نقاتل الناطور، ثم قال: فاسلكي سبل ربك ذللاً، والمقصود هنا هو تذليل وسائل الإنتاج وتوفيرها لتأمين محصول جيد، وبعد ذلك أثنى على إنتاجها وروج له بين الناس ولا زال الوصف الإلهي إلى اليوم على رأس ما تقدمه شركات الإنتاج: يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، ولاحظ كيف عبر عن مملكة النحل بالنحلة الواحدة فلم يقل من بطونهن ولكن قال من بطونها، وقال اتخذي ثم كلي، فاسلكي، وهو خطاب للواحدة فلم يقل اتخذن ثم كلن واسلكن، وذلك لنلاحظ أن النحل يتصرف كالنحلة الواحدة، فالنظام والعمل والجهد يجعل من مملكة النحل وهي ألوف مؤلفة بمنزلة النحلة الواحدة.
شخصياً لست مولعاً ببحوث الإعجاز، ولا رصيد لدي يدفعني لمزاحمة أساتذة الإعجاز، ولكن الرسالة هنا واضحة ويمكن قراءتها بلا أسرار، فالأمة الإسلامية اليوم تفتقر إلى ثقافة النحل، ولكنها على ذلك لم تبلغ ثقافة النمل بعد.
مملكة النمل مملكة عمل ودأب واستهلاك، أما مملكة النحل فهي مملكة عمل وإنتاج وإبداع.
لا مبالغة فيما يمكن أن يقال عن فوائد العسل الذي أصبح بكل جدارة جزءاً رئيساً من كل مائدة ويتم تقديمه بأنه سيد الطعام، وهو أيضاً جزء رئيس في تركيب الأدوية وغالباً ما يكون وحده دواء شافياً لا يخالطه شيء، ولم تهتز صورته عبر التاريخ منذ استخدمه الفراعنة في ستين وصفة طبية إلى أن أصبح اليوم في أكثر من ستين ألف وصفة.
ولأنني لا أمتلك معرفة طبية كافية لفوائد العسل فسأبقى في الإطار الأدبي للعسل والنحل، فقد قالت العرب كثرة الأسماء دليل على شرف المسمى، وقد أحصت العرب عشرات الأسماء للعسل منها العسل والسلوى والذواب والمأذى والحافظ الأمين والذوب والطرم والطريم والضرب والشوب والنسيل والشهد وجني النحل والآرى والنسلة والزبد وريق النحل ومحاج النحل، وقد جمع الفيروزابادي صاحب القاموس كتاباً خاصاً عن أسماء العسل أسماه ترقيق الأسل لتصفيق العسل، أورد فيه ثمانين اسماً للعسل وشرح دلالة كل اسم منها.
مع أنه ليس من عادة هذه الزاوية أن تتصرف كواعظ، ولكن ثقافة النمل ومملكة النحل تحمل خطاباً إرشادياً لقوم يتفكرون، ورحم الله الشاعر العربي:
تريدين لقيان المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل
نتصرف اليوم بعقلية النمل في الاستهلاك فمتى ننتقل إلى ثقافة النحل في الإنتاج.
تتصرف اليابان كدولة نحل، في حين أن طموح العرب لا يتجاوز ثقافة النمل، ولكن سلوكنا لم يبلغ ثقافة النمل بعد.
باع العرب نفطهم بسبع دولارات للبرميل الواحد قبل نحو عشر سنين واليوم يبيعون بمائة ودولارين، أي بنحو خمسة عشر ضعفاً، ومع ذلك فقد بلغ حجم المديونية العربية 160 مليار دولارفيما تصل أعباء خدمة هذه الديون إلى 12 مليار دولار سنويا وذلك وفق تقرير مجلس الوحدة الاقتصادية العربية لعام 2003 مع أن التقرير نص على أن العرب يملكون 62 بالمائة من الاحتياط النفطي العالمي،
وهكذا فإن مشهد الاستهلاك العربي لم يتغير وظلت قدرة العرب على تحقيق القيمة المضافة على السلع لا تتجاوز اثنين في المائة، بل إن تقرير منظمة النمو من أجل العولمة الصادر في مصر عام 1999 نص على أنه زادت القيمة المضافة للصناعات الغذائية فى الدول العربية بمعدل نمو سنوى قدره 0.7%. في حين أنها ارتفعت العام الماضي وحده في الصين بواقع 18.3 بالمائة، وسجل نمو الصناعة الثقيلة بواقع 19.6 في المائة، وزاد إنتاج الهواتف المحمولة بنسبة 35.3 في المائة، وإنتاج السيارات بنسبة 22.3 في المائة، وذلك كله خلال عام واحد.
أرقام من الاقتصاد العربي لها دلالة واحدة أننا لا نزال نعيش ثقافة النمل السوداني، فمتى ننتقل إلى ثقافة النحل الياباني.