مقالات

تحال الأوراق الى المفتي

لا أدري من الذي أدخل هذا العرف في القضاء الجنائي، وبات الجميع يعرفه جزءاً من دراما السينما المصرية يسمعها الجمهور بصوت القاضي الجهوري في الحلقة الأخيرة من المسلسل، ومع أنني لا أملك جواباً مقنعاً لهذا العرف القضائي ولماذا تحال الأوراق إلى المفتي قبل الإعدام، ولكنني أعتقد انه اجتهاد قضائي صحيح، وهدفه تعقيد تنفيذ الإعدام، وإتاحة الفرصة للدين ليقوم بدوره الاجتهادي والفقهي للبحث عن أي شبهة تدرأ الحد، وعن سبيل يتم فيه وقف عملية الإعدام، والبحث عن عقاب آخر… وهذا كله يأتي في باب أساليب الشريعة لمناهضة عقوبة الإعدام.

ويمكن القول إن هذا العرف الحقوقي يعود إلى اجتهاد حكيم للإمام عمر بن عبد العزيز في آخر القرن الأول الهجري عندما كتب إلى الأمصار بمنع تنفيذ أي حكم قضائي يتصل بالدماء يعني قتل او قطع أو صلب إلا بعد عرضه على الخليفة نفسه، وفي هذا السبيل كان عمر بن عبد العزيز قد شكل خلال ولايته على المدينة 80 هجرية هيئة فقهية تضم سبعة من قضاة المدينة وهم سعيد بن المسيب وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وسالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وكان هؤلاء الفقهاء السبعة يستبدلون بشكل دوري، وحين ولي الخلافة حافظ على هذا الدور لمجلس المفتين والفقهاء وكان يتولى بالفعل قرار النقض الفقهي ضد أحكام القضاة والبحث عن أي شبهة تدرأ الحد وتحقن الدماء، واشترط عمر بن عبد العزيز في تنفيذ أحكام القضاء إجماع الهيئة الفقهية، وكان ذلك سبباً مباشراً لتوقف أحكام القطع والصلب نهائياً، ولتقليل عدد وقوعات القصاص حيث يقوم الفقهاء بالبحث في المعاذير والشبهات التي تدرأ الحد، وكان الحاكم (الذي يخاف الله) يتهلل لقرار مفتيه بمنع القطع او الصلب أو القصاص تحقيقاً للقاعدة الفقهية الشهيرة ادرؤوا الحدود بالشبهات وحيثمما وجدتم مدخلاً في العفوفادخلوه فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.

ظل هذا العرف العمري مستمراً بعد عمر بن العزيز، ولكنه كان يتعرض باستمرار لضغط الخليفة وهواه، كان يختار من الفقهاء من يوافق هواه ويبرر له ما يريد فعله، فيما بقي باستمرار فقهاء حازمون يرفضون أن يميلوا مع الريح ويصرون أن يحملوا بأمانة وعزيمة مسؤولية الدماء التي أناطها الله بهم، ويدمون نصحهم وحكمهم للسلطان، وقد نجح هؤلاء في إحياء كثير من المحكومين بالإعدام، ولعل اشهر هذه الحوادث موقف الفقيه العظيم محمد بن الحسن الشيباني مستشار هارون الرشيد الذي رفض الحكم المقدم للخليفة هارون الرشيد بإعدام الإمام الشافعي، واستجاب هارون لقرار المفتي وألغى الحكم، وبذلك غنمنا في تاريخ الإنسانية إمامين عظيمين لا يزالان فخراً لكل مسلم.

وقد دخلت هذه العبارة قانون تحقيق الجنايات الأهلي المصري منذ عام 1883 في المادة 207 وما يليها: “في مواد الجنايات التي تستوجب الحكم بالقتل حسب الشريعة الإسلامية الغراء يجب على المحكمة أن تستفتي قبل الحكم مفتي الجهة الكائنة فيها، وترسل له أوراقها ويلزم إعادتها خلال ثمانية أيام مصحوبة بردّه، وبعد أخذ رأي المفتي تحكم المحكمة بالعقوبات المقررة في قانون العقوبات”. 

ومن الجلي ان دور المفتي وفق هذا القانون أساسي ومسؤول، وموعده قبل صدور الحكم لا بعده، ودوره في الحكم جوهري وأساسي.

ولكن هذا الواجب الديني الرهيب والمسؤول والخطير تحول في العقود الأخيرة إلى نوع من المسخرة، وبات الكل يعرف أن ختم المفتي ليس إلا قضية شكلية يبرر بها الدكتاتور رغبته بالانتقام من مخالفيه وتحميل العمامة وزر الدم!!

ولم يعد يخطر ببال أحد أن المفتي يملك أي حق في وقف قرار الإعدام أو تأخيره أو تأجيله، واستقر في العرف القضائي أن دور المفتي هو طقس شكلي لا يتعدى تنسيق طقوس الوفاة من تلقين الشهادتين والموافقة على القبر والكفن!!


واتجه العرف في القانون الجنائي إلى اعتبار الإحالة إلى المفتي تعني أن الحكم مبرم نافذ، ولا يجوز وقفه ولا تأجيله!

ومع أن القوانين عامة تطورت إلى حد بعيد، ولكن هذه المادة بقيت على حالها، وقد استخدمها الاستبداد بشكل تآمري لئيم، وباتت مظلة لارتكاباته وبطشه، يمنحها مفتي الجمهورية للسلطان على الوجه الذي يشتهيه، ولم يمتلك المفتي الجراة ليرفع صوته ضد جرائم الإعدام السياسي واكتفى بالتدبر والتأمل في رغبة السلطان وإنفاذها على وجه يليق بجلاله وكماله وبطشه!!

واليوم تزدهر هذه الممارسة الباردة في القضاء المصري، وفي الوقت الذي يتجه فيه العالم لإلغاء عقوبة الإعدام تزدهر هذه العبارة الأثيمة وبشكل خاص في الجرائم السياسية وفي عام 2014 حولت محكمة المنيا بمصر في يوم واحد 528 اسماً إلى المفتي للمصادقة على إعدامهم وهو رقم يعادل وقوعات الإعدام في العالم كله لعام 2019 ومع ذلك ظل المفتي يكرر التوقيع نفسه سائر الليل حتى أشرق الفجر! وهو يتغنى بالعدالة والشريعة ولم يقع حتى على أي خطأ في العدالة في كل القضايا، ولا حتى على خطأ لغوي أو صياغة يستدعي التنبيه في كل القضايا المعروضة عليه والمصممة أساساً على قد السلطان ونزوته الانتقامية!!

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم **** ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهـــــــان ودنسوا ***** محياه بالاطمـــــاع حتى تجهما

من العار أن تعلن 104 دول صراحة تخليها عن حكم الإعدام، وتقوم 30 دولة أخرى بالتوقف الكامل عن ممارسة الإعدام، وقد توقفت هذه الممارسة نفسها في شمال أفريقيا كلها لمدة 25 عاماً إلا في مصر حيث تشهد ازدهاراً مخجلاً يتنامى بقوة الكراهية والتساخط والانفعال، وتغيب فيه إرادة العقل والمنطق.

كل جهد يوقف نزيف الدم، فهو طاعة لله وبر، والبلاد التي تشهد انتقالات كبرى وتحولات جوهرية تحتاج إلى صوت العقل والتسامح والرحمة، وهو الصوت الذي قدمه رسول الله في يوم واحد لعشرات ممن استوجبوا القصاص والعقوبة وفيهم قاتل عمه حمزة ومصعب وياسر وسمية وعشرات الصحابة وقد وقفوا بين يديه يوم الفتح فقال لهم كلمته الخالدة: اذهبوا فانتم الطلقاء!

هل سيملك المفتي في بلاد المسلمين أن يراقب الله في كل فتوى دم، فمن قتل نفساً بريئة بغير حق فقد قتل الناس جميعاً ومن أحياها فقد أحيا الناس جميعاً، وهل ستقترن العمامة البيضاء بالعفو الأبيض الذي تنتظره الشعوب الانفعالية في أيام الصخب والفوضى والثأريات والدماء؟

 قناعتي ان الحاكم العاقل أحوج إلى اعتراض المفتي من بصمته! وأنه سيجد في رأيه وحكمته في حقن الدماء مصلحة حقيقية للمجتمع للوصول إلى منصة العفو والغفران وتجاوز الماضي الأليم.

Related posts

د.محمد حبش- العرب…. من ثقافة النمل إلى ثقافة النحل 29/2/2008

drmohammad

بوريس جونسون – جسور الحضارة

drmohammad

د.محمد الحبش- تقبل الله طاعاتكم .. وكل عام وأنتم بخير 12/10/2007

drmohammad