كم تمنيت أن يكون المجرم صهيونياًَ محترفاً أو من جنسية استعمارية مصت في الماضي خيرات سوريا وهي تراودها اليوم لتستأنف ما بدأته من قبل، ولكن خبر السوء لم يبطئ حين تأكد أن التفجير كان من تدبير جماعة تكفيرية عربية مسلمة أرسلت الموت لأبناء الشام الشريف مع صباح ليلة القدر، عند قارعة الطريق.
إن التكفير أكبر آفات العصر وهو نار توقدها الإدارة الأمريكية بحروبها الطائشة، حيث تمنح للتيارات التكفيرية فرصة ذهبية لتجنيد الناس في أعمال الموت، حيث يتم تصوير المجتمع برمته قاعداً عن الجهاد في وجه الغازي الأمريكي وبالتالي مرتداً عن الصراط المستقيم، ويروج القول الأول من مات لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو فقد برئت منه الذمة!!.
لم يقعد التكفير تاريخيا ًعن ممارسة الموت، وفي ضحايا التكفير الأول أسماء كبيرة أبرزها علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، فقد امتدت إلى الراشدين يد التكفير وقال أعداء عثمان اقتلوا نعثلاً فقد كفر، وقال أعداء علي رضي الله عنه في الثناء على قاتله المجرم عبد الرحمن بن ملجم:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً
إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً!!
وبدون أدنى تعليق فإذا كان التكفير قادراً على غسل الأدمغة إلى حد تصنيف صهري النبي الكريم الإمامين الراشدين هدفاً مشروعاً لإقامة حد الردة، فمن دون أدنى شك سيتم إدراجنا جميعاً في هذه القوائم بدم بارد، ولن يكون أحد بمنأى عن سيف الغدر الذي ينصبه التكفير للناس، ويوردهم موارد الهلاك.
ومع أن المقال الصحفي يجب أن يتجنب الوعظ والإرشاد ولكنني معني هنا بأن أشير إلى بعض الأحكام الفقهية التي تترتب على المؤمن في مواجهة هذا اللون من الانحراف.
إن الله تعالى يقول: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، وهذا الحكم يؤسس لجملة من التكاليف الشرعية الواجبة على المؤمن، فلم يعد مقبولاً من المؤمن أن يقول إنني غير معني بالسياسة وبالتالي فليس لي شأن بما يجري، بل إن التكاليف الشرعية تلزمك هنا بعدد من الواجبات الكبيرة، أولها النهي عن المنكر باليد واللسان ثم بالقلب وذلك أضعف الإيمان، وبالتالي مقاومة أي تفكير أو ممارسة تؤدي إلى التكفير، وعلينا أن نراقب ما يتلقى أولادنا من المعرفة، بحيث لا يتاح لأحد أن يستورد لهم ثقافة التكفير تحت أي لبوس كان، وعلى المؤمن أن يتأهب للرد على كل ثقافة تكفيرية سواء كانت في حلقات الظلام، أو تسللت إلى المحاريب أو المنابر، ومن المؤسف أن نقول إن كثيراً من ثقافة التكفير تسللت إلى بعض المناهج التعليمية (قتل تارك الصلاة نموذجاً) وفي نموذج أقرب يمكن الإشارة إلى لوحة طبعت قبل سنوات (لوجه الله) وعلقت في مساجد دمشق ومدارسها وفيها فتوى ابن تيمية بنواقض الإسلام العشرة التي من فعل واحدة منها فقد كفر وارتد وحل دمه وماله بالإجماع وحين تدنو من هذه العشرة تفاجأ بأنها تشتمل على تكفير من احتكم إلى قانون وضعي ومن زار قبراً يعظمه، ومن استغاث بغير الله، وهكذا فعبر هذه اللوحة يتم هدر دم عدة ملايين من السوريين مرة واحدة، ونحن لا ننتبه لما نروج من ثقافة التكفير والدم.
وهنا فإن المؤمن ليس قمعاً للقول بل هو مطالب شرعاً أن يأخذ على يد الظالم، وهذا الظالم قد يكون تاجر سلاح محترفاً لصناعة الموت وقد يكون كاتباً أو خطيباً تكفيرياً يهدر دماء الناس بما يصدره من فتاوى متهورة، وقد يكون شيخاً فضائياً ينقل من تراث الأجداد، ولا يجوز أن ينظر إلى آراء كهذه تراق فيها الدماء على أنها محض وجهات نظر!! بل يتعين على الأمة أن تأخذ على يد ظالم كهذا، وتقف في وجهه ولو زحم خطابه لنصوص من الأدلة فإن النص الذي لا شك فيه هو أن الإسلام رحمة للعالمين، وكل نص يريق دماء الناس لمواقفهم الدينية فهو كفر برسالة الإسلام في التسامح والرحمة!
وعلى المسلم أن يزود مخزونه من ثقافة احترام الإنسان، أياً كان دينه أو جنسه أو لونه، من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.
ولكن ما هو أكثر وجوباً في هذه الحالات هو وجوب الحذر من كل كيد يتربص بالأمة فلا يقبل من المؤمن في أوضاع كهذه أن يعتبر نفسه غير مسؤول عما يجري، وأن يشير إلى مسؤولية الآخرين، بل إن الجهر بالشهادة يعتبر هنا واجباً شرعياً تاماً، بحيث يحرم كتم الشهادة إذا كنت ترتاب في أمر بعض من يخططون للموت والقتل.
كل مؤمن خفير، وعلينا أن نحترس من الناس بسوء الظن، وفي ظروف كهذه فالمسلم مأمور أن يكون أكثر الناس وعياً وحذرا بما يرتاب منه، وليس من حقه هنا أن يأخذ الآخرين بحسن الظن، وعلينا أن ندرك الدور المتكامل بين مسؤولية الحاكم ومسؤولية المحكوم، ودور كل منهما في مؤازرة صاحبه.
إن عبارات مثل: يصطفلوا، ما دخلنا، من تدخل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه، الطاقة اللي يجيك منها الريح سدها واستريح، فخار يكسر بعضو، وغيرها من أمثال اللامبالاة المشحونة باللؤم والسخرية لا يجوز أبداً أن تكون ناسخة للتوجيه القرآني الصادق الطافح بالمسؤولية والجدية: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
لا أحد يريد لهذه المأساة أن تتكرر ولكن من لا يحسب لا يسلم، ومن مكمنه يؤتى الحذر، واحترسوا من الناس بسوء الظن، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
في فوضى الفتاوى التي تطبع اليوم القنوات العربية والصحف والمجلات العربية فإن لدينا مخزوناً من فتاوى التكفير يجعلنا نشعر بالحرج والمسؤولية المباشرة في حماية أوطاننا، ولست راغباً أن أقدم خدمة بالمجان في دعاية لفتاوى كهذه، ولكنني أثق بعقل المؤمن الذي ينطلق من قول الله تعالى: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً!! ويقول ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله إن الله واسع عليم.
الجنة للشهداء الذين رفعت أرواحهم إلى الله في ليلة القدر، اللهم اجعل الجنة لهم داراً واجعل النبي لهم جاراً واجعل الملائكة لهم زواراً.