مقالات

د. محمد حبش- عاشوراء .. الحسين والحسن 18/1/2008

في مراجعة لتاريخ كربلاء ومع أن اسم الشهر المحرم وهو آخر الأشهر الحرم, وله حرمة الحج, وعلى الرغم من أن أبا عبد الله الحسين كانت له حرمة السلالة الطاهرة من أهل البيت ولكن ذلك كله لم يشفع لقراصنة السياسة الذين حشدوا أربعة آلاف مقاتل مرتزق فأحاطوا بكتيبة الطف في كربلاء وارتكبوا أبشع جريمة في تاريخ الإنسانية وهي استئصال أهل بيت نبيهم في فاجعة قد تكون أكثر مورد للدمع والحزن في الأرض, وهي تتجدد كل عام وتبعث سلسلة من الدروس الجديدة في التضحية والفداء.‏
الحدث كبير وجليل ولكنه ظلم عبر التاريخ الإسلامي بين الجحود والجمود, فبينما يقوم (الضرّيبة)في النبطية بإعادة تمثيل مشاهد المقتل إلى حد تسيل فيه الدماء وتمزق فيه الثياب, فإن العجائز كن يطبخن لهذا اليوم طبخاً خاصاً يدور بين الأبيض هنا والأسود هناك, والأمر نفسه في الثياب والفرش والستائر, وهكذا تتحول الذكرى ببساطة إلى طقوس هائجة تغيب في تفاصيلها رسالة الفداء والشهادة التي قدمها الإمام الحسين في عيد الشهادة والشهداء!‏
ولكن كيف يمكن قراءة الحدث بدلالاته الباقية في رسالة الغيرة على الأمة والجماعة?‏
إن إحياءنا لذكرى الإمام الحسين التي هي ثورة ترعد منها فرائص العدو لا ينبغي أن يصرفنا عن ذكرى أخيه الإمام الحسن التي هي أيضاً ملهمة الوحدة للأمة الإسلامية, وفي تكريم الإمام الحسن قال النبي الكريم ]: (إن ولدي هذا سيد, ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).‏
كان الإمام الحسن بن علي رضي الله عنه خليفة والده الإمام, وقد أقبل عليه الناس يمنحونه البيعة بعد أبيه, حتى بايعه من الناس اثنان وأربعون ألفاً كفلاء على من وراءهم من الأمة, يبايعونه الدم الدم والهدم الهدم, حتى إذا مضت على بيعته شهور, ونظر حال العالم الإسلامي حينئذ, ورأى ما يتقلب الناس فيه من الفرقة والضياع, آثر جانب الله على هوى أصحابه, وجعل يتصل بخصومه يدعوهم إلى مشروع رشد وجماعة, وواعد الناس بمسجد الكوفة آخر ربيع الآخر, واجتمعت في مسجد الكوفة الألوف المؤلفة غاضبة ثائرة, مشرعة السيوف, على جباههم عصائب الدم, وقد ادّهنت بالقطران, حتى إذا صارت جماجم العرب بين يديه يحاربون من حارب ويسالمون من سالم, فوجئ الناس حينئذ بإمامهم وزعيمهم عميد أهل البيت يدخل المسجد يداً بيد مع خصمه معاوية, ومشى حتى قام على المنبر, وألقى كلمته الخالدة التي ينبغي أن تكون دستور الوحدة الإسلامية الباقية, وها أنا أجمع أطرافها من روايات ابن عساكر والطبري.‏
قال: (يا أيها الناس.. إنما نحن أمراؤكم ضيفانكم , ونحن أهل البيت الذين قال الله عز وجل فيهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً..) فكررها حتى مابقي أحد في المسجد إلا وهو يخرُّ بكاء.‏
ثم قال: (أيها الناس.. إن الله هداكم بأولنا.. وحقن دماءكم بآخرنا.. وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا من سالمت, وتحاربوا من حاربت, وإن أكيس الكيس التقى, وأعجز العجز الفجور, وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه مع معاوية لا يخلو أن يكون حقاً له فأنا أدفعه إليه أو حقاً لي فأنا أنزل عنه إرادة صلاح المسلمين وحقن دمائهم). ثم قال: (إن لهذا الأمر مدة, والدنيا دول, وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون, وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ثم استغفر الله ونزل)…‏
وحين كانت الملائكة تحف بالبشرى ذلك اللقاء الوحدوي الخالد وتحقق معجزة البشارة النبوية بدور الحسن في الإصلاح, جاء شقي من الأشقياء وهمس في أذن الحسن: يا مذل المسلمين !!.‏
فالتفت إليه عميد أهل البيت, وقال له كلمته الخالدة: (العار ولا النار).‏
وكان يقول بعد ذلك: (قد كانت جماجم العرب في يدي, يحاربون من حاربت, ويسالمون من سالمت, ولكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً تنضح أوداجهم دماً, كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه?..)‏
وقد عرف المسلمون فضل ذلك اليوم, وسموا ذلك العام كله عام الجماعة, وعرفوا فضل الإمام الحسن, الذي نشهد الله أنه أقدم على ما أقدم عليه من غير جبن ولا خوف, ولاشك ولاوهن, وقد علمت سائر الأمة أن الحسن خير عند الله من طلاع الأرض من أخصامه, ولكنها رسالة الوحدة التي ألقاها الله على عاتق قيادات هذه الأمة.‏
تماماً كما نحتاج أن نقرأ في فلسطين المحتلة درس الإمام الحسين نحتاج أن نقرأ في العراق الجريح درس الإمام الحسن, وكما ينبغي أن تلهمنا سيرة الحسين الإقدام في الجولان وجنوب لبنان, فإن سيرة الحسن ينبغي أن تلهمنا الإحجام في العراق, وكما تلهمنا ذكرى الحسين أن نسل السيوف في غزة ومارون الراس وعيترون وعيتا الشعب, فإن سيرة الحسن ينبغي أن تلهمنا كيف نكسر السيوف في بغداد والرمادي والموصل وسامراء, ونختار المصالحة والرحمة.‏
أرجو أن نجدد بكل الوسائل ذكرى الإمام الحسن رضي الله عنه, ذكرى عام الجماعة, ذكرى البيعة العظيمة التي جمع الله بها أمة محمد, ذكرى فناء الفرد في الجماعة, وإيثار مصلحة الجماعة على حاجات الأفراد, والتي تصادف كما حققناه في مركز الدراسات الإسلامية يوم 28 ربيع الآخر عام 41 للهجرة, وقد صادفت يوم 1 أيلول عام661 للميلاد.‏
قد لا تكون الساعة في معصمك, ولكن ينبغي ألا تنسى أن الزمن ناطق بدرس الحكمة, إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون.‏

Related posts

تريليون دولار !!! طالبان – نهاية عصر الحروب

drmohammad

د.محمد الحبش- نحو فهم جديد لرسالة الزكاة 28/9/2007

drmohammad

قراءة في القيم الدبلوماسية في الإسلام

drmohammad

Leave a Comment