على هامش الندوة الدولية : سوريا والتحديات الدولية
كانت محاضرتي في الندوة الدولية حول رسالة الدين كأكبر طاقة روحية في الحياة ورسالته في المقاومة ومواجهة التحديات.
من طوكيو إلى بيونس إيريس، ومن سيدني إلى سياتل لا يوجد مدينة في العالم بدون معابد، هناك عشرات القرى والمدن بدون مسارح وبدون ملاعب، وأحياناً بدون مدارس، ولكن لا يوجد على الإطلاق مدينة أو قرية ليس فيها روامز دينية.
الدين جزء من ثقافة الإنسان وشخصيته، وأحيل هنا إلى ما حرره المفكر الإسلامي الكبير علي عزت بيغوفتش رئيس البوسنة والهرسك السابق في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) الذي قدم عشرات الأدلة وانتهى إلى حقيقة مقدمة فلسفية نهائية تنص على أن الإنسان حيوان عابد.
لا يوجد معنى العبادة الذي يعرفه الإنسان عند أي من الكائنات الأخرى التي تزامله في هذا الكوكب، إذا كان للإنسان من شخصية يتميز بها فهي شخصيته الدينية، وما يتصل بها من أسرار وفطرة.
وهكذا يتعين على الذين يريدون أن يتعاملوا في سوسيولوجيا الإنسان أن يدركوا تماماً أن مشاعر الإنسان في التعبد موجودة على الأقل بشكل ظاهر لدى أكثر من 95 %من سكان الأرض، ومن وجهة نظري فهي موجودة أيضاً بشكل باطني لدى 5 %المتبقية، ولذلك من المنطق أن تضاف الديانة إلى لغة الحضارة التي ندرسها ونتحدث عنها.فالحضارة الإغريقية كانت حضارة وثنية، والحضارة الرومانية كانت حضارة مسيحية، والحضارة العربية كانت حضارة إسلامية، ولا يعني أنها كانت حضارة إسلامية بيضاء، بمعنى أنها كانت تسور بأحواط صارمة تمنع دخول الآخر.بل إن المظلة الإسلامية التي كان الجميع يستظلون بها كانت تحقق الهدف الكبير من تجمع هذه الطاقات لبناء حضارة متميزة ومتفوقة دثارها وشعارها الإسلام.
وهذا المعنى عام في كل حضارة ولكنه هنا في الشرق يتخذ معنى آخر ويصبح على رأس الأولويات هنا في سوريا التي شهدت بزوغ الرسالتين معاً فهي أرض الأنبياء، وهي المنصة التي انطلقت منها الرسالتان الأعظم للعالم.
هنا يشكل الدين جزءاً من هوية الوطن، فحين يكون الدين عند الغرب ثقافة وافدة يعتنقها من يشاء يبدو الدين في الشرق وفي بلاد الشام تحديداً جزء من تكوين هذا الوطن، سوريا تسمى في الشرق الإسلامي أرض الشام الشريف وتسمى في الغرب المسيحي أرض الشام المقدسة، هذا البلد فيه التراث الديني الذي يحج إليه العالم، لا يمكنك أن تصلي في المكسيك إلا إذا كنت تتذكر في صلاتك عذابات المسيح، إن السيد المسيح جاء هنا هو ابن هذا الشرق، هو سوري بامتياز، علينا أن نتذكره وهو يقود نضاله الثوري ويقلب موائد الفريسيين في وجه الاتجار بالدين واستغلال الناس، لا يمكنك أن تصلي في أندونيسيا إلا أن تتذكر في صلاتك بلاد الشام التي صلى فيها النبي، لا يمكنك أن تقرأ هذا التاريخ من دون أن تكون واعياً لدور الدين في صناعة مجد الشام، إننا نقرأ هنا مشهداً حضارياً مختلفاً، وعلى هذا ينبغي أن نعلم أن تعاطي المشهد الديني في بلاد الشام يختلف عنه في بقية أنحاء العالم.
يمكن لدعاة ماديين أن يقامروا بالدين في ألمانيا والسويد والبرازيل وغيرها, إنهم يتحدثون عن ثقافة وافدة!! لكنك هنا في هذا الشرق في بلاد الشام تتحدث عن ملح الأرض وتاريخ الأرض عن محمد والمسيح, ومن أجل ذلك فإن كل دراسة للشرق تحيد هذا الحس الديني فهي دراسة فاشلة, وأي مشروع نهضوي يتجاهل الدين فإنه اتجاه سيبوء بالخسران.
لقد حُكم العراق بعلمانية صارمة نحو أربعين عاماَ وحين أتيح للناس أن يعبروا عن أنفسهم ديمقراطياً عادت العمامة من جديد لتحكم في العراق، وبعد أربعين عاماً من تسلم فتح زمام العمل الفلسطيني فإن كل شيء تغير مع أول جرعة من الديمقراطية وتبوأت حماس الإسلامية موقع القيادة البرلمانية بأغلبية مطلقة.
وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن أي نضال سياسي أو اجتماعي في بلاد الشام يغيب الدين من برنامجه فإنه سيجد نفسه مباشرة في مصادمة مع المجتمع ومع التاريخ ولن يكتب له الفلاح.
إن هذا المعنى قد تم التعبير عنه بشكل مباشر في علم سوريا حيث تتحدث ألوانه البيضاء والحمراء والسوداء عن الحضارات الثلاثة المتعاقبة على بلاد الشام الراشدية والأموية والعباسية فيما تتوسطها نجمتان خضراوتان، ترسمان تاريخ سوريا وتحفران في ضمير السوري ذكرى الرجلين الكبيرين في تاريخ الوطن: محمد والمسيح!!.
هنا في سوريا يندغم الإيمان في رسالة المقاومة، أليست صيحة المعركة: الله أكبر!! وبالإيمان تنقدح روح المقاومة، وبالإيمان تندفع روح البناء، والإيمان هو الطاقة الروحية التي يتألق فيها سحر الشرق وروحه، وعلينا الاعتراف بأن الطريقة التقليدية التي تعامل بها عدد غير قليل من رواد الثقافة العربية مع الإسلام على أنه كرة نار نتدفئ بها ونحاوطها ولا نحترق بها لم تكن قراءة صائبة، وأنها أفقدت الأمة أهم مصادر الطاقة الروحية التي يحتاجها الطالب في دراسته والمقاتل في معركته والسياسي في كفاحه، والتاجر في أسفاره.
إنها صيحة أطلقتها في مجلس الشعب السوري قبل سنوات، وكنت سعيداً أن أكررها في الندوة الدولية هنا بوضوح: آن لنا أن نقرأ الدين بمشهده الحقيقي كرة نور لا كرة نار!!