مقالات

د.محمد حبش- أولها شام وآخرها شام 4/4/2008

قراءة غير سياسية في قمة دمشق

لا أجهل أبداً أن القمة العربية ليست موضوعاً مباشراً لأي حديث نبوي ولم ترد في كتاب ولا سنة، ولم يشأ أحد أن يشير من قريب أو بعيد إلى مقدس طوباوي يتصل بقمة دمشق، وعلينا القول بوضوح إن القمة كانت حصيلة نشاط سياسي خبير قاوم الضغوط بنور الحكمة وتمكن من تسجيل نجاح فريد في ظروف بالغة التعقيد.
ولكن الموقف الذي اختاره الأسد لضيوفه عند منصة البيعة، الزمان والمكان، هو الذي دفعني أن أكتب هذه الحروف بتأملات تتصل بالغيب في نشاط سياسي بشري خالص.

فالزمان هو عيد المولد النبوي والمكان هو غوطة دمشق، والخلفية هي جبل قاسيون، ولا أظن في الضمير الإسلامي ما هو أكثر ألقاً من الزمان والمكان لعقد قمة العرب التي تعلقت بها الآمال والأهوال، والتي ستبقى إلى أمد طويل محطة فارقة في تاريخ العرب.

اكتسبت سوريا مكانتها في التاريخ في ضمائر المؤمنين بعد أن قدم النبي الأكرم سلسلة من الإشارات والتوجيهات التي تحض على فضل الشام ومكانة أهله، وللأمانة يجب القول إن النبي الكريم لم يحرك جيوشه أبداً خارج جزيرة العرب باستثناء جهة واحدة فقط هي دمشق، فهو لم يرسل جيشاً إلى العراق ولا إلى مصر ولا إلى السودان، ولكنه كان مصراً على تحرير سوريا وخرج بنفسه إلى الشام وبلغ تبوك في ثلاثين ألف مقاتل ثم أرسل جيش مؤتة حيث قضى الأبطال الثلاثة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة في مؤتة عند تخوم الشام كأول أبطال استقلال لسوريا، وظل بعد ذلك يقول أنفذوا بعث أسامة بن زيد لفتح الشام، حتى وافاه الأجل.

وفي حديث ذي دلالة يروي الصحابي الكريم زيد بن ثابت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم نؤلف الرقاع إذ قال: طوبى للشام طوبى للشام، قلنا ولم يا رسول الله؟ قال لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها.
وفي حديث آخر: إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام

وقد جمع ابن عساكر في الجزء الأول والثاني من كتابه العظيم تاريخ دمشق أكثر من خمسمائة أثر وخبر عن فضل الشام ومكانتها عند الله، منها ما هو صحيح النسبة إلى رسول الله ومنها ما هو أماني كتب بعاطفة المحبة أكثر من روح العقل.

ولكن ذلك بكل تأكيد لم يكن وراء تلك البرامج التي أعدت بعناية للترتيب للقمة، بل ظل الإعداد للقمة يعتمد التحليل السياسي والقراءة الواقعية للأحداث، ولم تكن دمشق تطرح نفسها بلد الأبدال والأوتاد والأغواث والأقطاب، بل طرحت نفسها ببساطة بلد الصمود على الثوابت العربية والإسلامية في وجه التحدي الأمريكي!

لقد تم الإختيار أن يكون اللقاء بالزعماء العرب في غوطة دمشق، وهي أرض جاء النص النبوي بوصفها أنها فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى، والفسطاط هو الأرض الآمنة والملحمة الكبرى هي الفتن والحروب، ولا أظن أننا نحتاج لأي زيادة تفسيرية ونحن نرى سوريا اليوم آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان على الرغم من أنها تعيش اليوم في عين العاصفة، بعد أن أحرقت أمريكا كل الشرق الأوسط الكبير والصغير والجديد والقديم، وأشعلت النار من كابول إلى غزة هاشم.

ليس سراً أننا عانينا الإحباط والقلق قبل انعقاد القمة العربية وكان موقف بعض الحكام العرب محيراً ومخجلاً، ولكن الأسد كان له رأي آخر وحين تقدم أمام الرجال ليأخذ بيعة العرب اختار أن يقف معهم عند إطلالة فريدة على قاسيون اختارها بعناية ومن خلالها قدم ألف صورة وصورة.
فما هو قاسيون؟
قاسيون جمع قاس وهو جمع عربي آرامي لا يتفق مع العدنانية العربية التي تجمع القاسي على قساة، والجبل الكبير لديه أيضاً رسالة ثقافية إلى جانب رسالته في الصمود والثبات فهو يريد أن يقول إن الآرامية لهجة عربية عريقة، متجذرة في هذه الأرض فاعرفوا أنفسكم وتاريخكم أيها العرب.
قاسيون رمز لشموخ سوريا ورسوخها في الأرض وهو مجد الشام وصورة تاريخها العريق القديم، وحكايات شعوب عانت من القهر والإذلال والحرمان ولكنها هاجرت إلى دمشق ووجدت في حضن الجيل القديم ملاذاً وأمناً، وكان هؤلاء المستضعفون حين تثقلهم أهوال الدهر بما يلقون من المظالم يشدون عصا الترحال صوب الشام الشريف ويقولون أولها شام وآخرها شام، وهي أرض المحشر والمنشر.

أورد ابن عساكر في قاسيون عشرات النصوص من خبر وأثر بعضها مرفوع وبعضها موقوف وبعضها مقطوع، ومع أنني ليس لي ولع بتحقيق مسانيد الرجال وفق قواعد المحدثين، ولكن لا بأس أن نتذكر بعض ما بقي في قاسيون من المعالم الباقية ففيه مغارة الدم التي يقال إن قابيل قتل فيها هابيل وفيه مقام الأربعين وبه قبور لإبراهيم وإلياس واليسع وهم أنبياء مكرمون، وأربعون محراباً تذهب الأسطورة إلى القول إنها محاريب الأبدال من أهل الله في الشام الذين لا تخلو منهم الأرض وكلما مات منهم ولي ظهر ولي آخر ولن تخلو الشام من أربعين قائم لله بحجة!!
وفي قاسيون أوى نبي الله ذو الكفل، وإلى قاسيون أوى الصوفية المستغرقون في الجوى الذين كانوا يرسمون العلاقة بالله والناس على مراكب المحبة وليس على تجهم القصاص، هداة لا قضاة وربانيين لا رهبانيين، وفيه قباب الأولياء ومحاريب الأتقياء، وفيه شارع كامل للمدارس الإسلامية التراثية تحكي كل عصور الإسلام.

وفي قاسيون حي المهاجرين الذي ظل خلال التاريخ يحتضن أبناء الشعوب المقهورة التي تفر من الحروب ففيه حارة بخارية وحارة شركسية وحارة مقدسية وحارة نابلسية وحارة موصلية وحارة كردية وحارة بلقانية وحارة قوقازية وحارة للمغاربة وحارة للجزائريين، ومن هؤلاء جميعاً يتكون جبل قاسيون، وقد اختار الناس عن وعي اسم جبل المهاجرين للتعبير عن هؤلاء الذين ظلوا خلال التاريخ يحفظون الود للشام التي لم تفرط بهم ولم تسلمهم ولم تخذلهم، ولم تخضع لابتزاز ظالميهم ، ورفعت الصوت في وجه الظالمين الذين كانوا على الدوام يطالبون بأعناق هؤلاء المقاومين بأن سوريا لا يمكن أبداً أن تذل أو تذل.
إلى دمشق أوى أبطال المقاومة الجزائرية والمغربية واليوم يأوي إليها أبطال المقاومة الفلسطينية والعراقية واللبنانية، وفيها يأنسون برائحة الأنبياء وهنا على سفوح الجبل الكبير.
ألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عيناً بالإياب المسافر
هذا هو تاريخ سوريا، ونحن لن نكون إلا كذلك، وعلى صخر قاسيون كانت تتحطم أوهام الذين يراهنون على خضوع سوريا.

وفي الجبل العريق ضريح الشيخ محيي الدين بن عربي رسول العاشقين وإمام العارفين، وهو الرجل الذي يختصر ضريحه في سوريا تاريخ الإيمان وهو الرجل الذي لم يبال في الله لومة لائم يوم أرسل نداءه في ضمير العالم لقد صار قلبي قابلاً كل ملة،

أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني.

ومن قبة السيار التي كان يرتادها معاوية بن أبي سفيان إلى جامع زين العابدين الذي أوى إليه المظلمون من أهل بيت النبوة إلى مقام الأربعين الذي كانت تسكنه الأولياء كان الأتقياء من أهل المعرفة يجوبون قاسيون حفاة حاسرين تأدباً مع من دفن بقاسيون من العارفين العاشقين.

Related posts

د.محمد حبش- من سنوات الضياع إلى باب الحارة 8/8/2008

drmohammad

د.محمد حبش- قرأت الحب في أربعين وجهاً فما رأيت أصدق من وجه أمي 21/3/2008

drmohammad

تبادل المحبة – ألمانيا والنبي محمد

drmohammad

Leave a Comment