خير المطالع تسليم على الشهدا أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا
فلتنحن الهام إجلالاً وتكرمة ….. لكل حر عن الأوطان مات فدا، فالشهادة هي المكافئ الموضوعي للموت، والشهداء لا يموتون إلا إذا اعتبرت أن البذرة المزروعة في أرض مخصبة قد ماتت، ولا يموتون إلا إذا اعتبرت أن الغصن المنزرع في أرض جديدة غصناً مائتاً، إنهم صناع الحياة بحق، وهم يرقدون في أسرة الجنة ليهبوا الحياة لأجيالهم باسمين راضين، وهم بذلك لا يرسمون وجه العالم الآخر فحسب بل يرسمون وجه الدنيا بالرضا وقرة العين.
ولكن الشهادة التي نتحدث عن مجدها ومكانتها ليست في الواقع هدفاً يسعى إليه الإسلام بقدر ما هي تضحية تفرض على المسلمين اضطراراً، ويجب أن يكون واضحاً أن الإسلام ليس معنياً بتحويل الناس إلى شهداء، وقد قال النبي الكريم بوضوح: لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاثبتوا واستعينوا بالله، إن الله مع الصابرين.
في بدر كان الرسول الكريم يرفع يديه إلى السماء حتى يبدو بياض إبطيه يسأل الله العافية والسلامة ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض!!
كان واضحاً أنه لا يريد لأصحابه أن يموتوا في سبيل الله، بل كانت رسالته أن يعيشوا في سبيل الله، فحاجة الأمة لمن يعيش في سبيل الله أكبر من حاجتها لمن يموت في سبيل الله!!
حين كانت الانتفاضة قدراً محتوماً يكابده الشعب الفلسطيني كان العمل الاستشهادي أكثر ما يوجع فلب العدو، وكان الشرفاء من أبناء فلسطين يوقفون تقدم الدبابات المجرمة بأجسادهم العارية المفخخة، فيهبون الحياة لمئات كان يمكن أن يكونوا ضحية جنازير الدبابات الغازية ودمارها، وكانوا ينزرعون في الأرض شهداء لينعم أطفالهم بشجرة البرتقال ونعيم المدرسة وبسمة الحياة.
ولكن العمل المجنون الذي نشاهده اليوم في الفتنة الطائفية التي صنعها الاحتلال في العراق أنجز أكبر تشويه للشهادة والشهداء، حين صارت صناعة الموت هي المهنة الأكثر رواجاً في العراق، وفي كل يوم انتحاريون وانتحاريات يفخخون أنفسهم في مجالس عزاء أو مواكب جنائز أو أسواق أو مطاعم، ومع ذلك فنحن نجبن أن نمنح هذه الجرائم اسمها الحقيقي كأعمال انتحارية دنيئة، لا تتصل بسبب ولا نسب بثقافة الشهادة!!
الانتحار صناعة الموت، وأسوأ ما فيه أن يتم تصويره على أنه جهاد في سبيل الله، وأن نبتغي له نسباً من جهاد الصحابة الأوائل الذين قضوا في رسالتهم لنشر الإسلام، وأوقفوا ألف حرب أهلية كانت ترسم حدود القبائل ودفعوا الناس باتجاه مواجهة عدوهم الحقيقي الذي يتربص بهم الدوائر.
كان السيف يسير بجوار المصحف ليس لفرض الإيمان على الناس ولكن لتعلم الملوك أن من حق كل أحد أن يعتقد بما يؤمن، بعد أن بطش المستبدون برجال الدعوة، فحين أرسل الرسول دعاته في الآفاق كانوا يواجهون أقدار الموت، ففي يوم الرجيع أرسل النبي ثمانية من خيرة أصحابه ولكن الموت كان يتربص بهم على يد إرادات مجرمة فاجرة، وفي يوم عضل والقارة أرسل النبي الكريم ثمانية وثلاثين من خيرة أصحابه ولكنهم حميعاً قتلوا على يد مجرمين يتربصون بكل إرادة خير، أما رسول النبي إلى غسان الحارث بن عمير فقد قتله شرحبيل بن عمرو الغساني، ولو ظلت الرسالة بيد الداعية الأعزل لطوت رمال الصحراء كل إرادة تغيير، ولأصبح الدعاة شواهد مقابر في عصر من الاستبداد كان لا يتردد في البطش بالناس الذين يجرؤون على مقاومة قانون الغاب السائد: الناس على دين ملوكها.
وكان لزاماً على النبي الكريم أن يسير السيف بجوار المصحف حماية للأخيار الأطهار الذين يحملون الرسالة لئلا يكونوا ضحية البطش الأعمى للمشركين.
ولكن السؤال الآن: من هم الذين يجب أن نجاهدهم من أجل هذا الهدف النبيل؟ إن العالم يفتح ذراعيه للفكر الجديد من أي مصدر كان، وأصبحت القاعدة القديمة التي تقضي بإلزام الناس بدين ملوكها مرفوضة عبر كل مؤسسات الدنيا ومجامع الأرض، وأصبح السطر الأول في دستور كل أمة في العالم هو لا إكراه في الدين، وأصبح بإمكانك نشر رسالتك بوسائل لم يحلم بها الأولون في الصحافة والأنترنت والفضاء ووسائل الاتصال المختلفة.
كان مشوار الكلمة من مكة إلى المدينة يستغرق بضعة أيام أما مشوارها إلى الشام أو إلى مصر فقد كان يحسب بالأسابيع، وكان مشوارها إلى أوروبا يحسب بالشهور أما مشوار الكلمة إلى الأرجنتين أو البرازيل أو اليابان فقد كان في عالم الوهم قبل أن تبدأ رحلات السفن التي كانت تستغرق شهوراً طوالاً، ولكن ذلك كله اليوم قد أصبح ذكرى من الماضي وأصبحت سرعة الكلمة تحسب بأجزاء من الثانية، فقد تمكنت تكنولوجيا نقل المعلومات من نقل الكلمة والصوت والصورة والفيديو حول العالم كله في أقل من عشر ثانية!!
كان نقل الفكرة محفوفاً بالمخاطر، وربما أدى إلى مصرع الرسول قبل أن يتمكن من إبلاغ رسالته، ورب صحابي أرسله الرسول الكريم فأكلته في الأرض عوادي السباع والطير قبل أن يبلغ برسالته مبلغها، وكانت الملوك تغضب لسماع كلمة الدعوة وتقوم بقمعها بشتى الوسائل وربما قاموا بقتل الرسل دون أن تطالهم محاسبة أو محاكمة، وكان بطش المستبد يتربص الدوائر بكلمة الحكمة ويورد أصحابها موارد الجحيم.
ولكن الفكرة اليوم تطوف من أرض إلى أرض وتنتقل من أفق إلى أفق بالصوت والصورة، دون أن تخاف من أحد، أو يتهددها أحد في البر والبحر، ولا تخشى لومة لائم ولا بغي باغ ولا حتى الذئب السارح.
إن الشهادة قدر يكتبه الله على الأحرار وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العار أن تموت جباناً، ولكن ثقافة الشهادة ابتليت اليوم بصناعة الموت، وأصبح في العالم اختصاصيون يختبئون على مواقع الأنترنت ويرسلون أوامر الموت إلى حلقات الموت، مجللة بما شئت من آيات القرآن ونصوص السنة، تنتزع من سياقها وتسرمد في الزمان والمكان، والنتيجة تفجير في مطعم أو مدرسة أو مسجد أو عزاء!
لست أدري كيف يفكر هؤلاء وأشك أن يقع أي من كلامي هذا في مسامعهم، أو أنهم يقرؤون أصلاً، ولكننا على كل حال مدعوون لقول كلمة الحق وهي كلمة قد تكلفك روحك في زمن يحتكم فيه إلى البندقية ولا يحتكم إلى العقل.
لقد تعرض الشهداء لتشويه رسالتهم، ولكن لا يوجد في تاريخ الدنيا تشويه للشهادة أكثر مما يقوم به هؤلاء الذين يلبسون الأكياس السوداء وهم منقوبو الأعين، يزبدون ويرعدون، ومعهم بنادق شريرة غبية مجرمة تقع في صدور الأهل، ولا تعرف الطريق إلى دبابات العدو، يكبرون عندما يقتلون، دون أن تكون لديهم أدنى فكرة عن القاتل أو المقتول، لا يدري القاتل لم قتل ولا المقتول لم يقتل!
ونص الشهداء في القرآن هو نص حياة وأمل: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما الموت ليس غاية المؤمن والشهادة ليست مشروع موت، وإنما هي مشروع حياة، آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المحسنين.