انتهت قبل أسابيع مناسك الحج وشعائره بسلام بعد أن شابها قدر كبير من الخوف والاتهام المتبادل بعد المواقف الانفعالية التي تتالت قبل أيام من بدء المناسك حين طالب #الخامنئي بوضع الحج تحت وصاية دولية لضمان حياد المشاعر، وهي دعوة تعني ضمناً نزع سيادة الدولة #السعودية عن أراضيها، وإقحام السياسة في المناسك، وأعقب ذلك مباشرة موقف المفتي السعودي عبد العزيز آل الشيخ الذي أعلن فيه أن الإيرانيين الشيعة ليسوا مسلمين وأنهم كفار ومجوس!!
ومع أن السعودية خطت خطوة حكيمة في التهدئة حين منعت المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ من خطبة موقف عرفة التي يؤديها منذ أكثر من عشرين عاماً، تعبيراً عن رفضها للفتوى المتهورة التي أطلقها الرجل بوصفه جزءاً من الخطاب الرسمي للدولة السعودية، وتبع ذلك تصريحات متتابعة لمسؤولين سعوديين بأن الحج مفتوح لكل المسلمين بدون استثناء، ولكن ذلك لم يغير من طبيعة النزاع الاتهامي العنيف الذي يطبع علاقات البلدين وبشكل خاص في الجانب الفقهي والعقدي.
وجاءت الخطوة التالية في إعلان القيادة الدينية الإيرانية أن الحج هذا العام إلى كربلاء، وأن مكة ليست مكاناً صالحاً للنسك! وبسرعة التقط هذا الموقف مئات شيوخ الشيعة الذين فاضت خطبهم ومقالاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، تتدفق بروايات كثيرة كانت حبيسة الكتب الصفراء بدأت بأن الحج إلى #كربلاء يعدل حجة كاملة، إلى عشر حجج إلى مائة حجة ووصلت الروايات عند كتابة هذه السطور أن الحج إلى قبر أبي عبد الله الحسين يعدل ألف حجة وعمرة مع رسول الله!!
لا أعتقد أن قراءنا هنا مولعون بمتابعة جوائز المناسك، ونحن لا نكتب هنا لبيان الأحكام الشرعية، ولكن المسألة باتت ترتبط ارتباطاً تاماً بتحديات الحياة الاجتماعية والموقف السياسي بين البلدين والمذهبين.
ولا أعتقد أن القراء الكرام يمكنهم أن يتخذوا موقفاً وسطاً من هذا النزاع الطاحن الرهيب، ومن المستحيل أن تقف محايداً أمام دعوات علنية لتحرير #مكة من جديد وشن حرب طاحنة لنزع أمانة الحج من الأسرة السعودية المالكة التي تنهض بأعباء الحج منذ نحو مائة عام بدون توقف.
ولكن موقفك ضد الجنون الطائفي في استهداف مكة لا يعني بالضرورة موافقتك على الخيار الآخر نحو إنهاء حج الشيعة إلى مكة على منطق مستريح ومستراح منه، ويقتضي العقل أن يكون الخيار الثالث متاحاً، وهو خيار رفض الجنون الانفعالي الذي يمارسه الإقصائيون هنا وهناك، والدعوة من جديد لكلمة سواء تجمع طرفي الأمة في شتاتهم الدياسبوري الرهيب.
ما يعنيني هو أن بلاد الشام والعراق تشكلان حوضاً بشرياً يسكنه نحو ثمانين مليون مسلم، ثلثهم شيعة وثلثاهم سنة، إلى جانب أقليات أخرى لها عناء آخر، وهذه الأرقام المتقاربة للسنة والشيعة في منطقة بلاد #الشام و #العراق، أو سوراقيا التاريخية تفرض مخاوف رهيبة لا يمكن التغافل عنها، ولم يعد ممكناً على الاطلاق تأجيلها بعد أن أصبحت أبرز عناوين الحرب الضارية التي تعصف بالبلاد والعباد.
هذا التقسيم التاريخي التراثي لم يكن له معنى قبل عقود قليلة، وكان الكلام عن التقريب بين السنة والشيعة يحظى بأهمية واحترام، وسارت الحياة عقوداً طويلة في انسجام فريد، وكان الخلاف يعتبر شأناً فقهياً تراثياً لا يمس الحياة السياسية والاجتماعية، ولكنه انفجر ليصبح أول الاعتبارات التصنيفية في المنطقة منذ الحرب العراقية الايرانية وما تلاها من أحداث متتالية، لا زلنا نعيش اليوم أشأم فصولها الدامية.
شهد الموقف الطائفي انتعاشاً على الجانبين بعد فتوى الحج، ومضى الانفعاليون يرسمون ردود أفعال طائشة على الجانبين، فيقول الأولون مستريح ومستراح منه والتوحيد لا يتسع للقبوريين!! فيما يقول الآخرون حان الوقت لننتفض على بلد أبي سفيان ونستكمل ثورة النبي محمد وأهل بيته لفتح مكة من جديد!!
لن أفرح بغياب الشيعة عن المسجد الحرام، وأعتقد أن هذا الموقف الانفعالي لن يخدم السنة ولا الشيعة، وسيعود بأفدح الأضرار على الطائفتين، وحتى الذين يحلمون بأن الموقف سيصرف أنظار الشيعة عن المسجد الحرام ويدفعهم إلى بناء مناسك جديدة في النجف وكربلاء واهمون، وهم يسيرون عكس حركة التاريخ، فهذه محض فتاوى ثأرية لا علاقة لها بروح الفقه الشيعي ولا نصوصه المؤسسة التي تفرض مكة المكرمة نسكاً إلزامياً على كل من يتبع مذاهب أهل البيت.
وتكمن الخطورة هنا أن انصرافهم عن الحج لن يكون في سياق الانتقال إلى نسك آخر منفصل في الزمان والمكان، بحيث يعبد كل فريق ربهم كما يرغبون، لكم دينكم ولي دين، ولكنه سيكون في إطار الاحتشاد لجمع الغضب والتوتر ضد السنة الذين سينعتون بالنواصب، والذين سيتهمون باحتكار الحج لصالح الأسرة السعودية الحاكمة، التي منعت الشيعة من الوصول للبيت الحرام، ولا شك أن ذلك الحشد الانفعالي الذي نتابعه على وسائل التواصل الاجتماعي سيتحول بسرعة إلى دعوات للجهاد ضد حكومة مكة، وبالتالي تأجيج الحرب الموعودة بقراءاتها المتناقضة للدخول في هرمجدون الزمان الأخير وما يتصل به من أنهار الدم وجحافل القتلى الضرورية الموطئة لظهور المهدي ونهاية العالم.
لا أطمع أن أغير العالم بهذه المقالة ولكنني حريص أن أسلط الضوء على خطورة الانكفاء الشيعي عن نسك الحج، وخطورة الفرح الصبياني الذي نمارسه بغياب الشيعة عن المناسك، ودعوة العقلاء من أهل الحكمة لسلوك طريق آخر يبدد مخاوف القوم، ويحقق عودتهم من جديد للمناسك الشرعية الواجبة في مكة وعرفة والمزدلفة ومنى، وفق كتبهم المؤسسة للمذهب الجعفري نفسه، ويجب أن لا يتاح للقوالين العاشورائيين أن ينتجوا مناحة جديدة ضد السنة تحت عنوان منع المناسك والاحصار عن المسجد الحرام.
ربما تكون هذه الزاوية ليست المكان المناسب لشرح هذه المخاطر، ولكنها على كل حال تكفي لإيقاظ الوعي لدى أمة كتبت عليها أقدراها المريرة أن تنقسم إلى هذه القسمة الملعونة، بكل حمولتها الايديولوجية الصاخبة، على أرض يعيشون فيها متجاورين لا خيار لهم ولا خيار لهم ولا خيار لهم إلا في العيش المشترك على الرغم من رحى الحرب التي تعصف اليوم في أكثر من مائة مدينة سورية وعراقية تحت هذا العنوان الطائفي اللعين.