كان في الخاطر أن أكتب لك هذه الكلمات لتقرأها أنت، ولكنني أكتبها اليوم بمرارة وقد صرت في دار الحق، ولكنها تأملات تنهض برسالتك من جديد عل إنساناً جديداً يحمل الشعلة بعدك.
مع أنه لم يكن فيلسوفاً أو فقيهاً عميقاً ولكنه كان بصيراً تماماً بغاية رسالته، وكان يعيش لها عمره بإخلاص وأمانة، وهي رسالة العزف على أوتار القلوب من أجل إيقاظ نوازع المحبة، بشكل خاص بين أبناء محمد والمسيح، على صورة صلاة مشتركة تصدح في صبح الرجاء.
كأي منشد فإن باحة نشيده وحبه هي في العادة الحدائق والخمائل والزهور، ومن طبع النشيد أن ينفر من المنصات الرسمية التي يتم تأجيرها عادة بالدقيقة الواحدة بالدولار واليورو، وهي معادلات تقتل في العادة كل توق إلى الإبداع، ولكن حمزة شكور كافح طويلاً ليقدم النشيد في أجواء القاعات الباذخة في العالم يجدد لهم رسالة فنه ونشيده، ولم يكن ذلك بكل تأكيد هوى قلبه أو ملعب إلهامه ولكنه رأى في هذه الأجواء آفاقاً صحيحة لرسالته التي كرسها بكفاحه الطويل، ليصل إلى مسامعهم، ويوقظ نشوة الحنين إلى عالم أسمى تتكسر فيه حواجز الكراهية.
حدثته يوماً عن الفارابي، الحكيم المغني، والمعلم الثاني الذي ملأ العالم برسالة الحكمة فيلسوفاً عبقرياً ومفكراً ثائراً، لقد كان يجد متعة قلبه في بساتين ربوة دمشق على ضفاف بردى- رحمة الله على بردى- ومع أن أصحاب هذه البساتين كانوا يرتبون للفارابي أفخر الدعوات ليباهوا بها زوارهم وكان يعتذر عنها بأدب جم، ولكنه كان في العشية يواعد نواطير هذه البساتين فيأوي إلى حجراتهم على هامش هذه القصورالفاخرة وهناك يعزف ويغني!!
ليس في ذلك اي أسرار فالرجل يبحث عن قرة قلبه، ومكانها بكل تأكيد ليس على منصاتهم الفاخرة الباذخة، وإنما مكانها بكل تأكيد حيث يأمن العصفور وتنق الضفدع ويجري الماء في جدوله، ولا يكون في الأرض من ينازع الطبيعة عالمها الرغد الجميل الطافح بالمحية.
كان كثير من أصحاب القصور يفاجؤون بأوتار الفارابي في مزارعهم ولكن ليس على موائدهم الذهبية بل في حجرات نواطيرهم!! حتى عرف الفارابي في الشام بأنه صديق النواطير.
ولكن حمزة شكور حمل همه إلى أفق آخر، لقد اختار أن يكون سفير سلام، إنه منصب لم تعينه فيه الأمم المتحدة ولم ترشحه إليه اليونسكو أو اليونيسيف ولكنه رحل بنفسه إلى رسالته تلك، واختار أن يندفع صوب عواصم الأرض ليتحدث بلغة العالم الموسيقا والغناء عن مكان سوريا في ضمير العالم رسالة محبة وسلام تشرق بنور محمد ورسالة المسيح.
واجه أول ما واجه في رسالته مكان الموسيقى في الفن الإسلامي فقد كانت أجواء التقليد من حوله تجعل الأوتار والمعازف في منزلة الخموروالمآثم، وكان يأمل أن تشاركه الأوتار في بث رسالة الحياة من دون أن يخسر جمهوره المحافظ، ونظر إليه بعضهم بأنه مارق يلعب بالثوابت ولكنه كان قانعاً بأن رسالته في نشر المحبة لا بد أن تركب كل وسائل التأثير، ولا أذكر أنه التقاني مرة إلا سألني عن استخدامه الموسيقا في أوتاره، وجمعت له ذات يوم فتاوى ابن حزم إمام فقهاء الأندلس من كتبه المحلى وطوق الحمامة في الإلف والإيلاف ومداواة النفوس والغناء الملهي، وهي دراسات في العمق نفض فيها ابن حزم تابو التحريم عن الوتر واللحن، عبر دراسة صارمة للأدلة والنصوص بآلة فقهية بصيرة، تلتزم الحجة والبرهان من السنة والكتاب، بحيث لا تترك جدلاً لذي جدل، وقال في آخرها بثقته المعهودة ولسانه الصارم كسيف الحجاج: من لم تهزه الأوتار وتطربه الأشعار فهو فاسد الطبع حمار!
تماماً كما تصنع قوافل المحبة كان حمزة شكور يحمل في مركبته المتعبة فريقه العربي الإسلامي من ستة وثلاثين عازفاً وملحناً ومنشداً، ويشق طريقه بين القارات في الأرض يحمل رسالة واحدة وهي أن سوريا أرض المحبة والتسامح والأمل، وأن المسلمين يحملون في جوانحهم قلوباً دائماً وهم على الرغم المأساة والمواجع يعرفون الغناء والفرح، وترقص أرواحهم لكلمة الحقيقة، وينقلونها بأفئدتهم إلى كل مكان في الأرض فيه آذان تستمع نشيد المحبة.
حين كرمه الرئيس بشار الأسد كان يدرك تماماً قيمة الرسالة التي يؤديها، ومعنى وصول شكور وجوقة الفرح معاً إلى العواصم الحائرة في العالم.
ومراراً حضر السيد الرئيس مع عقيلته الكريمة إلى دار الأوبرا الوطنية ليستمتع بنشيد حمزة شكور ومعه جوقة الفرح بلابل تغني للمحبة ولسوريا ولمحمد وللمسيح.
لست أعلم بالضبط كيف استطاع حمزة شكور أن يركب مركب العالمية ويحول النشيد الديني من مكانه التقليدي في حلقات الدراويش إلى قاعات الأوبرا الفاخرة في عواصم الغرب من أستراليا إلى لندن، إنها أمنية مشروعة في قلب كل مغن ولكنها بكل تأكيد ليست في وارد إمكاناته المحدودة، ولكنه على كل حال وصل، وحمل الجرس، وعزف على مسامعهم وغنى!
ليس سهلاً فقبل بدئك فارجع
يرفض البحر أن يقول لماذا
موقع الدرة الفريدة صعب
وخلال الطريـق تدرك هــذا
من باريس إلى مدريد إلى ليون إلى نيس إلى نابولي وميلانو إلى روما ثم مدريد، وعند طليطلة وقرطبة وغرناطة وأشبيلية غنى حمزة شكور على منصات حائرة طالما تليت فيها رسائل الكراهية صوب الشرق الإسلامي، وهي المدائن التي انطلقت منها حملات بطرس الناسك تصرخ في مسامع الأوروبيين صوت الكراهية، تحشد الجيوش للغارة على الشرق الإسلامي باسم الرب، وهي المدائن التي شهدت ضد العرب محاكم التفتيش الرهيبة ومشانق دراكولا وإيفان الرهيب وإيزابيلا وفرناندو، ولكن حمزة شكور تمكن من إسماعها لحن الشرق الدافئ بعيداً عن صخب السياسة، بروح إسلامية مسيحية عكست انعطافاً بالغ الأهمية في وعي الشرق بالغرب ووعي الغرب بالشرق.
بعد تسعة قرون من صيحات أوريان الثاني في أوروبا لحشد الكراهية ضد الشرق لإشعال حروب الفرنجة وقفت شابين شاتل مديرة مؤسسة زمزمة للثقافة وقالت لقد أسمعنا حمزة شكور لحناً آخر من الشرق أحيا في قلوبنا الحب والجمال، وقال جوليان فايس في باريس لقد سمعنا غناء حمزة شكور للمحبة، بحنجرته الآتية من الشرق وشعرنا بالعار للطبول التي كانت تقرع هنا قبل تسعة قرون لإحراق الشرق الإسلامي!!
ولم يجد جوليان فابس كفارة للخطيئة التي ارتكبتها فرنسا بحق الشرق إلا أن يعتنق الإسلام ويتسمى باسم جلال الدين فابس ويسكن في حلب قرب باب قنسرين ويكرس حياته للنشيد الصوفي بأوتاره العربية.
لا يمكن فهم رسالة حمزة شكور إلا بالوقوف عند شريكه في مركب المحبة الأب الياس زحلاوي وهو بالمناسبة مفكر عربي كبير، وعالم لاهوتي فريد، ولكنه آثر أن يطرح معارفه اللاهوتية العميقة على هيئة أوتار وحناجر، ووقف إلى جانب حمزة شكور يعانق الكنائس القديمة ويمسح الحزن عن المساجد، وجعل يصدح بأصوات شبيبة الدير المقدس أنشودة طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع.
هل قام حمزة شكور بتغيير العالم عبر حنجرته وأوتاره؟ بالطبع لا، ولكنها شمعة في نفق من ظلام ، يكفيه من مجده أنه جعل الناس في الغرب يعشقون بأوتار شرقية، في صلاة موصولة بالمحبة على ذكرى محمد والمسيح، وأنه وفد على ربه بأغنية الأسماء الحسنى التي منحها لحنه وصدحه:
ووقفت في جوف الدجى ثملاً
أشكو النوى كحمائم الأيك
فمتى أوان لقائنا
ومتى يحلو الهوى
يا مالك الملك
لقد أدى رسالته بإخلاص، وهو يأمل أن تستمر رسالته كأنه يقول للآتين من بعده:
أهيم بليلى ما حييت وإن أمت أوكل بليلى من يهيم بها بعدي
أدعو الله أن تعزف بقيثارتك على أوتار الملأ الأعلى في رغد الجنة، مع سرب من طير خضر، وأن تسمع في حدائك ونشيدك قول الله تعالى: طال شوق الأبرار إلي وأنا أشد إليهم شوقاً.