مصارحة في يوم الشهيد…
لا تستطيع هذه الصفحة أن تمر على ما يشهده الوطن من أحداث دقيقة مرور الكرام، ولا نستطيع أن نشيح بوجوهنا عن المآسي والدموع التي نشاهدها كل يوم لأم الشهيد وأخت الشهيد وبنت الشهيد.
والشهادة رسالة مستمرة منذ ألقي إبراهيم في نار النمرود ومنذ نصب اليهود خشبة الصلب لعيسى بن مريم ومنذ قدم شهداء بدر وأحد أرواحهم في سبيل الله والمستضعفين في الأرض، وهي موصولة بأعواد المجد التي نصبت في ساحة المرجة للشهداء الأحرار وهم يعزفون نشيد الحرية والفداء إلى مواكب الشهداء على أرض الجولان الطاهر وأرواح الشهداء الذين يسقطون الآن دفاعاً عن الحرية والاستقرار والإصلاح.
ويجب القول أن الضحايا في الاحتجاجات الأخيرة ثلاثة: فتى خرج يهتف للحرية وللشهداء ويطالب بالإصلاح ورفع المظالم فأصابته رصاصة غادرة فهو شهيد، ورجل أمن مسؤول عن حماية أرواح الناس خرج يؤدي واجبه في منع التخريب والاعتداء فأصابته رصاصة الغدر فهو شهيد، وثالث خرج أشراً وبطراً ورئاء الناس مستأجَراً لئيماً يتاجر بالبندقية ويقبض استحقاقه بفوارغ الرصاص فوقعت عليه يد العدالة فقتل فهو مقتول بلا كرامة وهو عدو لله والإنسان وليس هذا شرفاً للسلطة ولا للمعارضة، وهو عار لأهله وأسرته، وهو في جيش الشيطان وليس في جحافل الرحمن!
لقد أعلنت سوريا احترامها وتقديرها للشهيد، ويوم وقف مجلس الشعب تحية وإجلالاً للشهداء كان يقصد تماماً الشهيد الأول والثاني، شهداء الحرية وشهداء الدفاع عن المستضعفين في الأرض، ولم يقصد أبداً القاتل المجرم من النوع الثالث أياً كانت الجهة التي استأجرته وحشت الرصاص في بندقيته ومسدسه الغادر.
لقد فقدت سوريا خلال الشهر السالف عدداً من خيرة أبنائها ونحن نحتسبهم عند الله تعالى شهداء أبرار، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، ولكن اللحظة تدعونا إلى حوار هادئ مع المطالبين بالإصلاح في ضياء الشريعة الخاتمة، فهناك قواعد شرعية يجب أن يلتزمها كل من يطالب بالإصلاح من أفراد الأمة، ويأتي على رأس هذه الشروط التزام السلم سبيلاً ونهجاً للمطالبة ونبذ العنف بكل أشكاله وألوانه.
إن الشريعة جاءت واضحة في التمييز بين مطالب الجهاد ومطالب الإصلاح، فالشرع الذي أمر بالإقدام ساعة الجهاد هو الذي أمر بالإحجام ساعة الفتنة، ودعا إلى التزام السلم في كل مطالبة تطلبها في أمتك، وهو قوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، وفي بيان النبي الكريم:( من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف)، وفي الخبر أن واعظاً دخل على الخليفة العباسي المأمون فبدأ بالموعظة وأغلظ له في الكلام، فقال له المأمون رويدك يا هذا فإن الله أرسل من هو أفضل منك إلى من هو شر مني أرسل موسى إلى فرعون، فقال له اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى.
المطالبون الذين يهتفون بالحريات والذين أصبحوا الآن حكماً تحت سقف القانون مدعوون إلى حماية نشاطهم الإصلاحي بنبذ العنف بكل أشكاله وخوض كفاح بلا عنف، وإعلان صريح وواضح برفض كل أشكال عسكرة الاحتجاج السلمي، ليس فقط لأنه مطلب الدستور والقانون والعقل، ولكن لأنه أيضاً مطلب الشريعة الغراء التي أعلنت موقفاً واضحاً وصريحاً في رفض العنف الداخلي بشتى ألوانه مهما كانت الظروف ضاغطة وقاسية على الإنسان ومهما وجد نفسه يطالب بالعنف في سياق آخر.
عن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول إنا كنا قبلك في عافية وخير فمن الله علينا بالإسلام فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال نعم، وله دخن، قلت وما دخنه؟ قال: دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام، قال: تعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى تلقى الله وأنت على ذلك!
وتزداد وصايا النبي الكريم وضوحاً في اجتناب العنف في أي مطالب إصلاح فيقول: ستكون بعدي فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الساعي، وحين سأله أحد الصحابة الكرام بقوله: أرأيت إن دخل علي داري وكسر بابي وأراد قتلي؟ قال: كن خير ابني آدم!! قل : لئن بسطت إلي يديك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين!! وبعد أن أصاب حذيفة الذهول من ذلك عاد النبي الكريم ليقول له مؤكداً ومشدداً: فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك، يبوء بإثمه وإثمك!!
إن الدعوة إلى اللاعنف في العمل الإصلاحي لا تعني على الإطلاق القعود عن الكفاح من أجل الحرية والعدالة ولكنها في الواقع استجابة لوصية الشريعة الغراء في حرمة الدماء.
ولا شك أن حرمة الدماء تدعو المؤمن إلى تحمل المسؤولية الكاملة فلا يتوقف المؤمن عند حدود اجتناب السلاح بل إن من مسؤوليته أيضاً أن يرفض أي عسكرة للعمل الإصلاحي، وأن يعلن براءته من كل سعي يزعم الإصلاح ثم يستهتر بدماء الناس، فلا يكفي في مواجهة هذا المنكر أن ينكره القلب ولا حتى اللسان بل إن الواجب يقتضي هنا حماية أرواح الناس ما أمكن إلى ذلك سبيلاً وتحمل المسؤولية التي أمر بها الرسول الأعظم بقوله فيما رواه البخاري عن النعمان بن بشير:(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
إن اللاعنف ليس موقفاً سهلاً إنه في العمق تحد رهيب يدعى إليه المؤمن، ولا ينبغي للمؤمن أن يخرجه سلوك الجاهلية عن موقفه الرباني، والمؤمن يخشى الله في الدماء ولا يمكن أن يرضى بإراقة الدم أو أن يكون هو معبر فتنة ودم مهما كانت الفتن التي تحيط به من كل وجه.
إنني لا أنكر أن الشريعة أمرت بالعنف في الجهاد وقوله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة)، و(اقتلوهم حيث وجدتموهم)، ولكن هذه الأوامر كلها إنما وردت في ساعة الجهاد وهي المقاومة المشروعة ضد المحتل الباغي الغاشم الكافر الذي يحتل الأرض ويهتك الأعراض ويفتك بالدماء، ولكن الشريعة التي أمرت بالإقدام ساعة الجهاد أمرت بالإحجام ساعة الفتنة وبقدر ما يؤجر القائم في الجهاد يؤجر القاعد في الفتن.
وكما ميزنا بين الجهاد وبين الفتنة، فإن علينا أن نميز أيضاً بين الإصلاح وبين الفتنة، فالإصلاح سعي محمود أما القعود فهو تثبيط وعجز، وحاشا للشريعة أن تأمر بالعجز وتمجد الخمول والهوان والذل، ولكن فرق ما بين الإصلاح والفتنة هو استخدام السلاح، فالفتنة هي حمل السلاح في وجه المؤمن، والمقصود هنا داخل الوطن، أما الإصلاح فهو الدعوة إلى الخير والعدالة وقول كلمة الحق التي مجدتها الشريعة وأثنت على قائلها، حتى وصف الرسول الأعظم قائلها بأنه من أعظم المجاهدين، وفي الحديث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوماً فقال له رجل: اتق الله يا أمير المؤمنين!! فقال له رجل ويحك! لا تألت أمير المؤمنين! أي لا تتجرأ عليه، فقال له عمر بن الخطاب وكان أقوى الناس حزماً وعزماً، دعه يا رجل فو الله لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها!!