مقالات

د. محمد الحبش- هموم…. في مناسك الحج الأعظم 16/11/2007

لماذا يجب أن يكون عمر الحاج السوري خمسة وستين عاماً لأداء فريضة الحج? وما الذي تبقى من قوته وفتوته ليؤدي العج والثج والرهق بعد الخامسة والستين?
لا توجد رحلة في الدنيا أمتع لدى المسلم من رحلة الحج, إنها اللحظة التي تلتقي فيها مواجد الأرض بأوصال السماء وينادي الله فيها عباده هلموا إلى رب كريم يلهم الخير ويثيب عليه الجزيل.‏
أشعر بالحرج بالطبع أن أكتب في قضايا الحج الإجرائية بدل التوجه إلى النفحات المقدسة التي يمنحها درس الحج الأعظم للقلوب المشتاقة التي تنتظر نفحات الله عند أشواق البيت الحرام.‏
ولكن لا بد مما ليس منه بد, ولنبدأ سرد الحكاية:‏
بدأت القصة في 25 آذار 1985 عندما تقدمت المملكة العربية السعودية إلى مؤتمر وزراء الخارجية في الدول الإسلامية المنعقد في عمان تطلب من الدول الإسلامية التعاون في ضبط وتحديد عدد الحجاج, حيث تم الاتفاق على أن يتم تحديد عدد الحجاج من كل دولة بواقع واحد بالألف من عدد السكان, واستند القرار إلى واقعتين: الأولى هي أحداث الشغب التي حصلت وراح ضحيتها المئات من الحجاج, والثانية أن المملكة تقوم بمشروع طموح لتوسعة الحرمين وأن ذلك يتطلب تقليل عدد الحجاج حتى يتمكن الناس من أداء مناسكهم خلال تعطل كثير من المرافق في الحرمين الشريفين.‏
وبناء على قرار المؤتمر فقد اتخذت سورية إجراءاتها لتوفير الحج للعدد الممكن من السوريين على أساس أن الأولوية لمن لم تتح له فرصة الحج من قبل وبالتالي لأولئك الذين هم أكبر عمراً وأتيح لهم بالطبع أن يصطحبوا محارمهم وقراباتهم بحيث يتوفر ذلك للناس على قدم سواء.‏
وبالفعل فقد مضت سورية منذ عشرين عاماً بتنفيذ ذلك, بصرامة لا نحسد عليها وفرضت ضوابط دقيقة على مراقبة حركة الحج السابق بحيث لا يتاح للإنسان الحج مرتين رعاية لحق أفراد المجتمع الآخرين.‏
ولكن ذلك ظل يقترن باستثناءات كثيرة يقدمها وزير الداخلية أو وزير الأوقاف, كانت تعالج من خلالها حالات استثنائية, وكان المطلوب دوماً أن لاتتجاوز سورية السقف المحدد لها في ذلك.‏
ومع أن المبررات التي استند إليها قرار منظمة المؤتمر الإسلامي قد زالت, فلم يعد هناك شغب وتم إنجاز التوسعة على وجه رائع تشكر عليه المملكة, ولكن الأمر ظل يطبق في سورية بشكل صارم في حين وجدت سائر دول الجوار سبيلاً لحل هذه المشكلة.‏
سورية تستحق أكثر من الكوتا الموضوعة وهي واحد بالألف من الحجاج لسبب بسيط وهو أن سورية من بلدان الجوار والله أوصى بالجار ومن الطبيعي أن يكون نصيب الجار أكبر من نصيب سواه والمملكة تقوم بهذا بشكل طبيعي مع دول الجوار وبشكل خاص اليمن ومصر والأردن وفلسطين وقد بلغ عدد الحجاج في العام الماضي من لبنان نفس عدد السوريين على الرغم من أن المسلمين في لبنان لا يزيدون عن ربع سكان سورية.‏
وهناك بلاد لا يشكل المسلمون فيها الأغلبية المطلقة وهي تحظى بالحق نفسه واحد بالألف, فإثيوبيا مثلاً فيها نحو سبعين مليون مواطن ولكنها لا ترسل سبعين ألف حاج, فهناك نسبة كبيرة من غير المسلمين فيها كما أن الفقر والمرض يحول دون قيام الناس بفريضة الحج على الوجه الذي يرضاه الله تعالى, وكذلك فإن حصة أندنوسيا نحو مائتين وعشرين ألف حاج ولكنها لا ترسل هذا العدد كله, فيما تبقى الشروط الصارمة بحق سورية تمنع المواطن السوري من الوصول إلى بيت الله الحرام قبل بلوغه الرابعة والستين من العمر!!‏
كنا بالطبع على استعداد للاستنفار المعتاد لتلبية طلبات الأصحاب والأصدقاء في تأمين استثناءات جديدة للراغبين بأداء فريضة الحج وهي تتطلب منا الطواف بين وزارة الأوقاف والداخلية والسفارة السعودية ومكاتب الحج حين فاجأنا السيد وزير الداخلية بموقف حازم في البرلمان وقال لقد اتخذت القيادة قراراً بمنع أي استثناء وتمت إضافة الاستثناءات جميعاً إلى المفاضلة العامة بحيث لا يملك أحد على الإطلاق استثناء أي من الناس, وهكذا فبالإمكان أن تعتبر أي قضية استثناء هنا هي قضية فساد يتعين ملاحقتها!!‏
بالطبع القرار لم يكن ساراً لنا على الأقل لأن الناس ستأكل وجوهنا هذه الأيام وأين سنهرب من وجوه الناس الذين سيقولون ما هذا النائب الذي لايستطيع أن يدبر استثناء للحج?‏
وبالفعل فلدي اليوم مئات من المطالب لمواطنين كرام يرغبون صادقين بأداء فريضة الحج ولكنني لا أجد السبيل لفعل شيء, بعد أن حسمت الدولة الأمر ومنعت سائر أنواع الاستثناء, وقلت للراغبين بالاستثناء الأمر للمصلحة العامة, وهو كاس على كل الناس, والموت مع الجماعة رحمة, والحج نداء من الله فمن ناداه الله يسر له السبيل, وأمامكم باب العمرة مفتوح للراغبين والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.‏
ولكن المؤلم هو أن هذا الاستثناء الذي أغلق من الباب دخل من الشباك ووصلت إلى البلد عشرات الآلاف من الفيز التي تقدم للناس على أساس أنهم لحامون وسلاخون وبقالون وفراشون ونصابون للخيم ونزاعون لها, وبدأ تسويق هذه الفيزا عبر وسطاء محترفين لهم مفاتيح خاصة وطرق خاصة لتأمين بيع فيز تعادل عدد الحجاج كلهم أو تزيد, ولم يعد هناك حاجة في الفيزا الجديدة للنص على المهنة وصارت الفيزا تباع وتشرى بالمبلغ ا لمرقوم وذلك كله من وراء وزارة الداخلية ووزارة الأوقاف!!‏
تعددت الأقاويل في تبرير ذلك فمن قائل هي فيز تمنح للأمراء يقومون ببيعها وتسويقها, ومن قائل هي منحة من المملكة لمساعدة الحجاج السوريين على تأمين سفرهم خارج الكوتا المقررة, ومن قائل هي بازار فساد يعتمد التزوير والغش والتدليس لجمع الثروات, وهكذا فقد وصل ثمن الفيزا حتى الآن على ما نسمع إلى ثلاثين ألف ليرة وربما سيرتفع فيما يأتي من الأيام مع اقتراب موسم الحج.‏
إنها مسألة محزنة بكل تأكيد, ولا بد من معالجتها على أعلى المستويات. وما يجب التنبيه إليه هنا هو أن هذا المبلغ الذي يدفع لتأمين فيزا الحج ليس إلا رشوة تامة ينطبق علها مباشرة قول الرسول الكريم: لعن الله الراشي والمرتشي, وحتى يقطع النبي الكريم كل باب ينفذ منه هذا اللون من الفساد قال: والرائش بينهما وهم السماسرة المحترفون الذين يتولون التوسط في نقل الرشوة بين الطرفين.‏
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير‏
لا يقبل الله إلا كل خالصة ما كل من حج بيت الله مبرور‏
قد لا يكون الحل متوفراً وقد لا يكون في المستوى المنظور سبيل لمنح الناس أكثر من الكوتا المحددة ولكن مع ذلك كله فلا أعتقد أن هناك وجهاً في الشريعة يبيح للمرء أن يدفع المال بغير وجه حق لأداء مناسك الحج.‏
إن الرشوة تسمى في كل بلاد العالم الفساد, ولا يحلها عقل ولا دين ولا منطق, فكيف يمكن أن يقوم العالم كله بمحاربة الفساد ثم نبرره نحن في أقدس مناسك العبادة!!‏
بقدر ما نطالب بحل هذه المشكلة بقدر ما نؤكد أن الرشوة من أجل أداء النسك من أبشع ألوان الحرام.‏

Related posts

ردة ولا أبو بكر لها

drmohammad

بوريس جونسون – جسور الحضارة

drmohammad

د.محمد حبش- فرصتك للخلاص من التدخين 29/9/2006

drmohammad

Leave a Comment