ينفرد الجامع الأموي بعدة مزايا تجعله فريداً في العالم الإسلامي، فهو رمز الخلافة الإسلامية الأموية في ازدهارها وانتصارها ومجدها، وهو أوضح صورة للمسجد الجامع الذي كان يعتبر كور المجتمع ومركز قراراته، ومركز العلم والمعرفة وملتقى السراة والقادة والنخب.
ولن يكون هذا المقال بالتأكيد دراسة في تاريخ المسجد الأموي أو هندسته أو عجائبه، ولكن المعنى الذي أرصده هنا للمسجد الأموي الكريم هي دوره في مواجهة ثقافة الجمود على النص، وقدرته على تجسيد الإسلام الشعبي الذي أجزم أنه لم يكن يشبه الإسلام اللاهوتي الذي تفرضه مدارس الفقه والكلام.
فقد التزم المسجد الأموي بوضوح بخيارات كثيرة تعتبر ثورة على الفهم الظاهري للنص، ولا يمكن بحال من الأحوال تبريرها أو تفسيرها:
ففي المسجد الأموي قبر النبي يحيى أو يوحنا المعمدان كما يسميه المسيحيون، والقبر ظاهر وقائم وفيه نحو خمسين مخالفة شرعية صريحة وواضحة لظاهر النصوص من القرآن والسنة لا يمكن تأويلها، وأهونها الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبياءهم مساجد.
وفيه تفخيم القبر وإظهاره وتوسطه في المسجد ونصب الستور عليه ووضع العمائم عند رأسه والشموع على بواباته وعقد النذور عليه والتبرك به وهذه كله طامات في العقيدة والفقه ولا يمكن تبريرها أو الدفاع عنها باي سبيل من النص أو أصوله.
وهذه المخالفات تقع على رأس نواقض الإسلام العشرة الموجبة للكفر الأكبر كما حددها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
وفي المسجد الأموي جرن المعمودية الذي تعمد فيه النصارى أبناءها، وهو منسوب ليحيى عليه السلام، ومن المؤكد أن الرواية هنا أسطورية فيوحنا المعمدان كان يعمد في نهر الأردن وقد قتل هناك، ولكن الجرن النصراني موجود بوضوح في قلب حرم المسجد، وهناك أكثر من عشرين نصاً في النهي عن تعظيم شعائر النصارى ووجوب هدم كل أثر يرمز لغير التوحيد، ناهيك عن الاحتفاظ به في المسجد والصلاة من بين يديه ومن خلفه.
وفي المسجد الأموي خمسة محاريب وهو اجتهاد لا نظير له في اي من مساجد الإسلام، والمحراب في ذاته بدعة لا سند لها من كلام الرسول، فكيف بالمحاريب الخمسة وما فيها من زخارف ونقوش ورسوم، وما ترمز إليه من إقرار التعدد في الواحد، وتكريس المذاهب الخمسة، وعند هذه المحاريب يقف غلاة الظاهرية باستنكار ويقرؤون غاضبين: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله!
وفي المسجد الأموي مشهد الحسين عليه السلام وفيه محراب زين العابدين، وبغض النظر عن معنى الرواية ولكن من المؤكد ان النهي مترافد في الأحاديث عن اتخاذ المشاهد في المساجد قبوراً يصلي عندها الناس، وتجتمع فيه النساء والرجال، ويتبرك بآثارها وجدرانها وكل ذلك منهي عنه بألف سبيل من النص والكتاب.
وفي المسجد الأموي نظام من الأذان لا يشبه أي مسجد آخر في العالم الإسلامي إذ يؤدي الأذان فيه جوقة من المؤذنين وهي بدعة لا نظير لها في العالم الإسلامي ولا يمكن ان تجد لها أي تبرير نصي مهما بذلت من جهود ومحاولة، ولا يمكن تصنيفها عند فقهاء المذاهب الأربعة إلا في باب البدعة المذمومة والحدث في دين الله بما لم ياذن به الله.
وفي جدار القبلة في المسجد الأموي باب هود الذي يقال إنه قبر النبي الصالح، ويقال أيضاً إن معاوية قد أوصى أن يكون قبره تحت الجدار القبلي للمعبد الذي كان لما يتحول إلى مسجد بعد، وذلك تجنباً لما توقعه من نبش الآتين لقبور بني أمية! ولا شك ان ذلك كله مصادم للتوحيد الذي هو صريح في منع دفن الناس في المسجد ناهيك أن يكونوا في جهة القبلة حيث سجود الناس.
وفي صحن المسجد أيضاً قبة بديعة كانت بيت المال الأموي، وهذا أيضاً ممنوع في الفقه الإسلامي حيث امرنا أن ننزه المساجد عن غرض الدنيا، وإذا رايتم الرجل يبيع ويشتري في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك!!…
ولا شك أن ما نورده هنا سيثير فضول كل قارئ فما هو هذا المسجد الذي يختزن كل تلك المخالفات والطامات والبدع الشرعية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ولا اشك أن لو صار أمر المأموري لداعش أو لفريقها من السلفية الجهادية لأصبحت هذه الآثار والمعالم أثرا بعد عين، ولبطش الفاس التوحيدي بكل هذه المعالم، دفاعاً عن التوحيد وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً.
ولكن كيف تقبل الإسلام الشعبي ذلك كله؟
وكيف طاف بهذا المسجد العامر كل علماء الإسلام وفقهائه وحكامه ومحكوميه وقرائه وعباده ورجاله ونسائه وأحراره وعبيده دون استنكار فعال يؤدي إلى هدم هذه البدع والمخالفات الشركية؟
إنني أقدم هذه الأمثلة الواضحة وضوح الشمس لأستدل بها على حقيقة واحدة وهي أن الإسلام الشعبي يختلف اختلافا جذريا عن الإسلام الذي يتبناه رجال الدين في خطابهم النصي حين يرفضون الخروج على ظاهر النص ويصرون على أن تكون المرجعية لظاهر النص من الكتاب والسنة.
ثلاثة عشر قرناً أو يزيد من عمر الإسلام ومن عمر دمشق تحديداً وهي أم الحواضر الإسلامية وفيها كانت خلافة الأمويين وحواضر العباسيين والطولونيين والحمدانيين والفاكميين والسلاجقة والأيوبيين والزنكيين والمماليك والعثمانيين، ولكن هذه الشعائر الأموية استمرت في مكانها برغم لبفتاوى الظاهرية الصارمة المتكررة بدون انقطاع أن هذه بدع ومنكرات يتعين ازالتها ورفعها.
إن الإسلام الشعبي ظل أقوى من إسلام ظاهر النص، وهذا المعنى هو الذي جعل دمشق تختار ابن عربي تحت عنوان الشيخ الأكبر مع أن تصنيفه عند التيار الظاهري الشيخ الأكفر.
وفي دمشق عاش ابن تيمية وابن عربي في عصرين متقاربين ولكن لا مقارنة أبداً في المخيال الشعبي بين منزلة الرجلين، فقد منحت الشام ابن عربي جبين قاسيون وسمَّت الجبل كله باسم جبل الشيخ محي الدين، وصار قبره منذ ثمانية قرون أكثر الأضرحة المباركة التي يقصدها أهل الشام، وفي حواشيه قامت أوقاف ومدارس وخدمات مجتمعية ارتبطت باسمه وذكراه، وصار في الخيال الشعبي رمزاً لدين الرحمة والتسامح والغفران.
فيما اعتبر ابن تيمية متشدداً لا يمثل سماحة الإسلام وروحانيته واودع في سجن دمشق ست مرات متتالية ومات فيه، على الرغم من شخصيته الآسرة ومواهبه الكثيرة وعلمه الغزير.
ولا شك ان ابن تيمية في ميزان أهل النص أقوى حجة وبرهاناً من ابن عربي، وأكثر التزاماً واتباعاً وتقليداً للسلف من ابن عربي بما لا يقارن.
وبالعودة إلى الجامع الأموي فإن المعالم التي ينكرها عليه اللاهوتيون لا تزال قائمة فيه، وهي في الجملة صورة تسامح وغفران وانفتاح، ولكنها عند الظاهرية وفقهاء العقيدة انحرافات خطيرة لا يمكن القبول بها، ويجب إنكارها بالقلب واللسان، وعندما تحين الفرصة فلا بد من تغييرها باليد والفأس والمطارق.
حين آوى المسجد الأموي ضريح يوحنا المعمدان أراد أن يقول لثقافة التشدد والكراهية إن الإسلام جاء مصدقاً لما بين يديه وليس ناسفاً لما بين يديه، وإن نزول القديس الجليل في حرم المسجد عنوان إخاء ومودة، وهو عندنا أيضاً نبي كريم يجمع الأديان السماوية الثلاث ويضم لها الصابئة الحرانية والمندائية أيضاً الذين يعتبرون يحيى خاتم الأنبياء!
وحين يبقى جرن المعمودية على مدى تسعة قرون في وسط الجامع الأموي فهذا يعني أفقاً غير عادي من التسامح واحترام عقيدة الآخر على الرغم من تناقضها الصارخ مع بدهيات الشريعة وعلم الكلام الإسلامي، ويعني من جانب آخر أن الفقه الغاضب لا ينبغي ان يطاع، وعليه هو أن يغير من ثقافته وسلوكه وقناعاته وليس أن يأمر الإسلام الشعبي بالذهاب إلى ثقافة الإقصاء والإلغاء.
وحين تتوزع المحاريب الأربعة في جدار القبلة والخامس في مشهد الحسين فهذا يعني روحاً من التسامح والاعتراف بالآخر وتقدير علمه وفضله، والإذن بالاختلاف وتكريس الشريعة رسالة تعدد وتنوع، والكف عن الموقف الإطلاقي الذي يحتكر الحقيقة والصواب.
حين كنت يافعاً طرحت بغضب سؤال اللاهوت البدهي الذي كان يطرحه كل زملائي في التعليم الشرعي على الشيخ بشير الباني خطيب الجامع الأموي، وطالبته بتغيير هذه المنكرات وهدم القبر لانه خلل في التوحيد وهدم المحاريب لأنها صورة فرقة وتناحر! وكان في كلامي حدة توحي بأننا ننكر المنكر اليوم باللسان وعن قريب سننكره باليد والسنان!!
قال لي الشيخ الحكيم رحمه الله، لا تقلق على التوحيد فعند هذا القبر وقف باحترام كل أئمتك الذين اخذت عنهم العقيدة، وعدد لي مائة وسبعين إماماً في العقيدة ترجم لهم ابن عساكر كانوا يقرؤون علم التوحيد في رحاب جامع بني أمية، ولا زال الضريح محل احترام وإجلال لكل من زار دمشق أو كتب فيها.
وأما المحاريب فهي صورة مجتمع متعدد يأمر باحترام الاختلاف وتقدير الاجتهاد، إنها يا بني الأمة الحكيمة والواسعة المتسامحة، إنها نصبت للمخالفين محاريب ومنابر ولم تنصب لهم مشانق ومحارق كما يريد الاستبداد، ففي محراب الشافعية كان يقرا علم الشافعي وفي هذا المحراب كان يقرا علم أبي حنيفة وهناك كان المفتي المالكي والحنبلي ينشران علم مالك وأحمد، وفي المشهد الحسيني كانت أشواق الشاميين ومدامعهم وأشواقهم وأذواقهم تعقد وصال الإخاء بين السنة والشيعة، على الرغم من الخلاف في الفقه والاعتقاد، وكان المشهد يعكس لقاء الأمويين بالهاشميين على سجادة الحب وعطور المحراب وعنبر الشوق وهي رائحة مسك وعنبر وحياة وأمل لا تشبه في شيء رياح كربلاء الدامية التي لا تزال تؤجج الغضب وتمجد ثقافة الموت.
وجوقة المؤذنين التي لا تزال تحير فقهاء المذاهب الأربعة!! فليس لهذه البدعة اي سند في الفقه الإسلامي وتبدو بصراحة استفزازاً لتيار ظاهر النص وبدعة منكرة يتعين إلغاؤها على الفور من وجه نظر التيار الظاهري، خاصة أنها تبتدع كل يوم جديداً في الاذان والإقامة وتبتكر الجوقة كل حين تهليلات وأنغاماً بين يدي الخطيب، وتراتيل بين الخطبتين وغناء وحداء وضراعة بعد الصلاة، وهي ابتكارات تتزايد باطراد في رمضان بوجه خاص، حيث تتحول الجوقة إلى جوقات ولكل واحدة إبداعاتها واجتهاداتها وأنغامها، وكل ذلك في العقل السلفي بدع منكرة يجب الخلاص منها….
ولكن الإسلام الشعبي ظل يتقبل ذلك كله ويغَنّيه ويُغْنيه، ولا يلتفت لإنكار الظاهرية، وظل الناس دون تردد يحترمون هذه الشعائر ويرددونها ويتغنون بها ولم تفلح المحاولات المستمرة التي يقوم بها التيار الظاهري بين الحين والآخر لإنكار هذه المنكرات وإلغائها، وظل الإسلام الشعبي أقوى من مخاوفهم واعتراضاتهم.
لا أستطيع ان أحاور بالحجة والدليل من الكتاب والسنة عن أي من هذه الطقوس، فالأدلة كلها في الجانب الآخر، ولكنني سعيد بان تكون الذائقة الشعبية الإسلامية الشامية بتسامحها وروحانيتها هي الجانب المنتصر بغض النظر عن ظاهر الأدلة وهرمونوطيقا النص.
الإسلام رسالة تسامح وتعايش، وحين يعجز اللاهوت أن يتفهم هذه الحقيقة يقوم الإسلام الشعبي بتكريسها وتداولها، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.