Uncategorized

ميركل… دروس الوداع الأخير

ودعت ميركل بيت المستشارية في برلين، وعادت لشقتها في وسط برلين في بناية تتكون من شقق عدة وسط برلين في كورنيش شبريه قرب متحف بيرغامون، وهي بناية شعبية بنيت في القرن التاسع عشر! وليس لها حديقة ولا فناء، وهو المنزل الذي لم تفارقه خلال فترة الحكم التي تمنح فيها الدولة سكناً خاصاً لائقاً للمستشار الألماني، ولكنها فضلت العيش مع زوجها أستاذ الكيمياء الدكتور يواكيم سوير في بيتهما القديم.

لا أعتقد ان المستشارة الألمانية تنظر إلى هذه المعلومات بالدهش الذي ننظر إليه، فهي بالنسبة لها أسلوب حياة تعودته، ولا ترغب في تغييره، فيما نراه نحن عجائب ملائكية لا يمكن أن تصدر من حاكم عاقل!

كتب كثيرون عن المرأة الهائلة التي دخلت الضمير السوري كأم للاجئين، وصورة مشرقة للحضارة الإنسانية، واحترام حقوق الإنسان وبناء أرقى درجات التكافل والتضامن مع البائسين في العالم.

أنجيلا ميركل ليست ملاكاً ولا معجزة إنها تطور طبيعي ومستقيم لبلاد أنجزت نجاحها الحضاري عبر آلاف من المفكرين والعلماء والفلاسفة الذين قاموا بتنوير العقل الألماني وحملوه على الوعي بمكانه أمة بين الأمم وليس أمة فوق الامم، وأقنعوه أن يسنَّ التشريعات القانونية التي تحترم حقوق الإنسان ونجح عبر تصويت برلماني سليم، أن يلزم الحكومة أن تحتضن كل من داس التراب الألماني من البلاد البائسة وتنفق عليه وعلى أسرته ما يوفر له الكرامة والعيش النبيل، وأقنعوا الشعب الألماني الهائل أن يدفع من ضرائبه نسبة عالية تصرف للتكافل مع البائسين، والإحساس بأخوة الإنسان للإنسان، حتى صارت ألمانيا نموذجاً رائعاً في حقوق الإنسان تدفع المظلومين في العالم أن يركبوا البحر ويعبروا الغابات والمجاهيل ويمارسوا أخطر المغامرات للوصول إلى التراب الألماني.

لم تكن ألمانيا كذلك في التاريخ، وكانت تعيش هذا الغرور الذي نعيشه اليوم، وفي مطلع هذا القرن كان الألماني يعيش عصراً نازياً  يعتقد أنه خير أمة أخرجت للناس، ولم يكن يشك أبداً أن الله فضل الجرمان على العالمين، وكان يتحدث عن أمجاده من شارل مارتل إلى شارلمان وأوتو العظيم وفريدريك بارباروسا وشارل الخامس كآلهة مقدسين، بل إنه أطلق اسم القداسة على الامبراطورية نفسها فبات اسمها الامبراطورية الجرمانية المقدسة، وكان يمنع النقاش في حق الملك الإلهي الذي يناله بحكم إلهي خالص، وكان الواعظون يرددون اسمعوا وأطيعوا لمن ولاهم الله عليكم، ولو أخذوا أموالكم وضربوا أبشاركم، وكان يرى أوروبا برمتها حديقة لفناء قصر الامبراطور، ولم تكن الأمم الأوربية في وعي الألماني النازي إلا أمماً شاردة ضالة، يجب ردها بحد السيف إلى حديقة الطاعة.

ومع أن النازية المتعالية كانت شأناً سياسياً خالصاً ولكن لا يمكن تجاهل دور رجال الدين الذي قدموا بدورهم ديناً نازياً يأمر بالعلو والتفوق، ويكرس الجنة لأبناء الامبراطورية المقدسة فيما لا يرى في الأمم الأخرى إلا أمماً غبية فاشلة، نسيها الله في غمار ما خلق من الخلق، وكانت الرؤية السائدة أنه لا خلاص خارج الكنيسة، وأن الله لا يقبل من الأمم صرفاً ولا عدلاً حتى تهتدي للنور الإلهي الذي زرعه على صخرة بطرس، وفق ما شرحه الفقهاء بدليل النص والإجماع، وكانت صلوات الكنائس لا تكتمل إلا بتلاوة الدعاء واللعن على المسلمين والوثنيين ولاحقاً على البروتستانت، وكان أعظم ما يتقرب به الأتقياء هو الذهاب للقتال في بيت المقدس وإراقة دم (الكفار) وهو المصطلح المفضل للكنيسة للتعبير عن المسلمين.

وحين توفر للألمان زعيم يحمل هذه الأوهام النازية أشعلوا بضراوة أشد حروب التاريخ شراسة وعنفاً وموتاً ودماراً، وصرخ الفرهرر ورجاله الروس لنا وبولندا لنا والنمسا لنا وبلجيكا لنا وهولندا لنا، نحن الأمة المختارة على العالمين، وهذه العواصم بنتها الإمبراطورية المقدسة ونحن وارثوها، والتهب العالم بنار الحرب، وسقط أكثر من ثلاثين مليون بين قتيل ومعاق، وتم تدمير أكثر المدن عراقة في العالم، ولم يتوقف ذلك الغرور الهائج إلا حين استقرت الرصاصة في رأس هتلر وعشيقته إيفا براون ودخلت جيوش الحلفاء إلى برلين وانتهى الحلم النازي كله، ووافق الألمان على التوقيع على وثائق الهزيمة، التي لم تكن في الواقع إلا اعترافهم بأنهم أمة بين الأمم وان عليهم أن يدخلوا مرحلة تأهيل تنزع منهم مؤقتاً أظافرهم وأنيابهم وأسلحتهم حتى يدركوا بيقين هذه الحقيقة.

كانت ضربة ضرورية على الرأس الفارغ ليدرك أنه يعيش في كوم من الأوهام وأن العالم في قد صار في مكان آخر، وأن الحدود لا يرسمها الحالمون الواهمون الذين يحتفظون بنصوص مقدسة لصور العالم كما يريده الرب وكما يجب أن ترسمه المدافع، وان العالم بات يؤمن بالقانون الدولي، وأن ألمانيا العظيمة ليست إلا مثل لنخشتاين ولوكسمبورغ، أمة بين الأمم، يحكمها القانون الدولي وقواعد الحق.

لم تحتج ألمانيا أكثر من عقدين وفق خطة ماريشال لتعود أقوى اقتصاد أوروبي معافى من جرثومة الاستعلاء والنازية، وبدأ نساء البوندستاغ ورجاله الذين انتخبهم الشعب يعملون في كل اتجاه لإنتاج قوانين إنسانية حضارية تؤمن بأخوة الإنسان للإنسان، وتكفر بالحرب وأوزارها، وتؤسس لمجتمعات تعيش متشاركة متعاونة متراحمة.

قانون اللاجئين الذين أقره البوندستاغ يفرض الضرائب على كل ألماني ليتضامن مع أخيه الإنسان ويرسل قوافل الإغاثة إلى المنكوبين في الأرض حيثما كانوا، أما من وصل إلى التراب الألماني فقد صار بحكم القانون في ذمة ألمانيا ومسؤوليتها وعلى الألمان أن يدفعوا من أموالهم ليعيش هؤلاء البائسون في كرامة وعيش كريم.

ليست ميركل من وضع هذه القوانين ولكنها كانت بالفعل أروع من يطبقها ويطورها، ولم توضع هذه القوانين بسبب كاريزما ميركل مع اللاجئين السوريين والصور السلفي التي التقطها الشاطرون مع ميركل، ولكنها وضعت لأن الألمان كشعب أنتج الفلسفة الحديثة وأنجز الإصلاح الديني وذاق أهوال الحرب بات أعرف الشعوب بمسؤولية الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وبات أقدر شعوب الأرض على تفسير قول النبي الكريم حول المؤمنين في توادهم وتراحمهم وذلك بالنسخة الألمانية: مثل الإنسانية في توادها وتراحمها كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

لا أكتب هذا الكلام تملقاً لميركل ولا للألمان فهم لن يقرؤونا بالعربية، ولا يحتاجون للغة التملق، فقد تجاوزوا فنون المديح والتدبيج والتمجيد منذ زمن بعيد وباتوا بالفعل في داخل عصر الإنسان، ولكنني أكتبه لهذا الصديق العربي والكردي الذي لا يزال يرى انه الوحيد الذي يعتني به الله، وأنه الشعب المختار دون أمم العالم، وأن المطلوب منه أن يزداد تمسكاً بعناده وغروره وكفره بقيم الحضارة الحديثة وحقوق الإنسان لأنه يمتلك النسخة المقدسة التي لا يجوز تعديلها من حقوق الإنسان وكرامة والأوطان.

حين قال الألمان ألمانيا فوق الجميع أحرقوا العالم، وحين قالوا ألمانيا مثل الجميع انتهت الحروب وتحولت أوربا إلى أروع ناد ديمقراطي تلتقي فيه الأمم.

Related posts

الإسلام أو الجزية أو السيف!!

drmohammad

هل نحن أمة العقل أم أمة النص؟

drmohammad

إسلام بلا عنف

drmohammad