أحلام سورية في مطار سنغافور
لدي حلم… وحلمي كسوري أن يعيش أولادي في وطن لا يسحقهم فيه الاستبداد ولا تقهرهم فيه الهويات المتناقضة، ولا يجبر أولادي على نمط حياة أجبرنا عليه خضوعاً للمستبد أو تقليداً أعمى لأوهام مقدسة.
وحلمي كان كابوساً عصقت به الكارثة السورية التي دمرت كل أحلامنا وآمالنا ولكنني استيقظت به في مطار سنغافورة.
كثيرون كتبوا عن المعجزة السنغافورية في النهضة والتفوق، وهي مدهشة بكل المعايير، فالبلدة التي لا يزيد حجمها مدينة وريفاً عن 710كم مربع وهي أصغر من أمارة أم القيوين أصبحت اليوم من أقوى اقتصادات العالم وباتت تملك 2020 أفضل مطار في العالم لسبعة أعوام على التوالي، وأكبر ميناء حاويات في العالم وسجلت وفق مؤشر الايكونومست أفضل بلد في آسيا في جودة الحياة والحادي عشر على مستوى العالم، وفيها أكبر جامعتين في آسيا، كما حققت لموظفيها أعلى دخل في العالم، وباتت معجزة اقتصادية مذهلة لكل من كتب عن التنمية الاقتصادية.
وبعيداً عن الاقتصاد، فسأذهب هنا إلى الحديث عن رسالة المجتمع الذي حققته المعجزة السنغافورية في وكيف نجحت في تحويل التنوع الديني والقومي والطبقي الذي طبع حياة السنغافوريين إلى ظاهرة غنى وثراء وتكامل.
فالظروف البائسة التي
تعيشها سوريا اليوم وهي البلد المحطم الممزق الذي هاجر نصف أهله شراداً في الأرض،
والبلد الذي بات في أسفل المؤشرات الاقتصادية والحياتية في كل العالم، والبلد الذي
يتقاضى فيه الأستاذ الجامعي 25 دولاراً، ومع ذلك فإنه لا خيرا لنا من البقاء على
قيد الحياة.. فالحياة هي القدر المستحيل المفروض على بقايا هذا الوطن المنكوب.
هذه الطروف القاهرة عاشتها سنغافورة خلال الحرب العالمية الثانية أقسى أيام الحروب
اللاهبة، حيث كانت أرضاً للصراع بين اليابانيين والبريطانيين وشهدت أرضها الوادعة
معارك الكر والفر في ظلام الحروب، الأمر الذي أدى ولادة أحقاد مريرة على أساس قومي
وأساس ديني، وقد أدى ذلك إلى تخلف هائل في بنية الحياة، وبإمكانك أن تشاهد الصور
المرعبة للحياة في تلك المدينة المنهكة في فترة الحرب العالمية الثانية، حيث ينام
الحيوان والإنسان في غرف مشتركة، وحيث يستحم الناس في الشوارع!!.
أما الهوية الوطنية فقد كانت تائهة بين التقاليد الأصلية لتلك الجزيرة الصغيرة، وبين الولاءات المضطربة للصين ولماليزيا ولبريطانيا، والتي كانت تتصارع في إطار مصالح متناقضة تماماً.
أما الهوية الدينية فكانت ممزقة أيضاً في ولاءات متناقضة أفرزتها الحروب المتتالية وارتباط رجال الديانات بشكل أو بآخر بالسياسات التي كانت جزءاً من الحرب والكر والفر.
لا يمكن بناء وطن يرزح في الأحقاد، هكذا قرر لي كوان يو رئيس الوزراء التاريخي الذي قاد سنغافورة في نهضتها ثلاثين عاما 1960-1990م وعلى الفور أعلن تجاوز المسالة القومية باعتبارها جزءاً من التاريخ الآفل، وبنى القوانين الجديدة على قيم المواطنة، حيث يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات، وأصدر عدة قوانين صارمة تجعل أي تمييز قومي عملاً مدانأً يجرمه القانون، وبات سكان الجزيرة شركاء في بناء نهضتهم، يملكون هويات متساوية تماماً حجماً ومضموناً، ولم يعد لابن البيضاء على ابن السوداء فضل ولا منة.
نجحت سنغافورة في تجاوز عقدة التوزع التاريخي والجغرافي، وحافظت على اللغات الأربعة الصينية والماليزية والتاميلية واستخدمت الإنكليزية بقوة لغة رسمية في التجارة والاقتصاد، ويعيش المجتمع السنغافوري اليوم تنوعاً شديداً يثري وجودهم الاجتماعي، حيث ترجع أصول السكان إلى 75% صينيون و15% ملاويون و7% هنود، 3% قوميات أخرى، ولكنهم يعيشون دولة المواطنة والقانون، بعيداً عن أي تمييز عرقي أو قومي.
وبسهولة تناوب على مناصب الرئاسة الماليزية رؤساء من أصول صينية وماليزية وهندية، دون أن يكون الجنس القومي سبباً للعثار في رحلة النجاح والصعود.
أما في المسألة الدينية فقد ألغت الحكومة منطق تفوق الدين الوطني، ودونية الأديان الأخرى، وأكدت مساواة الأديان، ونجحت سياسات الحكومة في جعل التنوع الديني مصدر ثراء وغنى ثقافي واجتماعي، فقد وفرت للجميع حرية المعابد والشعائر، وأعلنت هيئة الأديان (IRO) اعترافها بعشرة أديان، أقرت جميعاً باحترام التنوع والتعدد، ومنعت بصرامة أي شكل من التمييز الديني وأطلقت سلسلة برامج للتلاحم واللقاء، كما تم تعزيز مكانة معبد (Thian Hock Keng Temple) ليكون ملتقى للأديان، وتوسع من كونه معبداً طاوياً، ليصبح معبداً مشتركاً للطاوية والهندوسية والكونفوشية والبوذية، كما شهد نشاطات إسلامية ومسيحية، وقد أعيد افتتاحه رسمياً عام 2001 وفي إطار حكومي وشعبي قامت عشرات المؤتمرات واللقاءات والحوارات بين الأديان على أساس التكامل الإيجابي بين هذه الأديان، ورفع أسباب الكراهية، ونجحت الحكومة في جعل الوعي العام في سنغافورة أن الإيمان هو علاقة الإنسان بربه، وأن الوطن للجميع.
ويتوزع السكان في سنغافورة بين البوذيه 33%
والمسيحية 18% والإسلام 14% والطاوية 8.5% فيما يتوزع ربع المجتمع في أديان مختلفة
واتجاهات لادينية.
أما الاتجاهات الدينية التي لا تحمل الولاء للمجتمع ولا تعرف للناس المحبة فقد تم
حظرها بصرامة، فلا معنى لأي ديانة إذا كانت فاشلة في صناعة المحبة.
وفي عام 2014 أصدر مركز بيو لدراسات الأديان أن سنغافورة باتت أكثر بلد في العالم غنى وتنوعاً في ثقافته الدينية وأنها حققت تكاملاً وانسجاماً بتفوق فريد.
ومع أن المسلمين أقلية في ماليزيا 15% ولكن وصل بسهولة كل من يوسف إسحق وكذلك حليمة يعقوب إلى منصب الرئاسة، حيث نجحت النهضة الماليزية في تحقيق الولاء والبراء أولاً وآخراً للوطن والقانون، وبات التأهيل للوظائف العليا قائماً على الكفاءة والقدرة وليس على أي اعتبار آخر، وزيادة على ذلك فقد صنفت ماليزيا في مسح جرى عام 2015 كأفضل مقصد للسياحة الإسلامية إلى بلد غير مسلم.
تتربع سنغافورة اليوم على راس قوائم جودة الحياة في العالم، ويوشك الناظر إليها ان يقول إنها ولدت وفي فمها ملعقة ذهب، وأنها تقلبت في رغد النعيم، ولكن دراسة أعمق ستجعل تشعر بالأمل فالكوارث التي نعيشها اليوم في سوريا اجتمعت ذات يوم بكل تفاصيلها في سنغافورة، والكراهية الدينية والحقد الطائفي والفشل الاقتصادي وتسلط الجيوش الأجنبية ودمار البنية التحيتية وأكثر كان صورة ذلك البلد المنهوب المعذب، حين قرر أبناؤه أن ينفضوا عنهم غبار الماضي وأن يتطلعوا إلى المستقبل بعيداً عن وصايا الكهنة وتحدياً لوصفات الاستبداد.
أياً كانت وجهتك فانا أنصحك بتخصيص ساعتين خلال عبورك في مطار سنغافورة، لتسند رأسك في بعض حدائق مطار سنغافورة، وتحلم مع عمالقة الإصلاح الكبار الذين قدموا للعالم أعجب نموذج للقيام، وكيف استطاعوا أن يرحلوا ببلادهم من وادي الخيبات إلى مطار الأمل.