الإعدام.. عدالة أم توحش؟
فجع العالم بمشهد المشانق الإيرانية الاحترافية، المتدلية من الرافعات العملاقة التي تصنع للعمران والبناء ولكنها هنا تخصص في خدمة الموت وخنق الحياة وهي تبطش بعدد من المفكرين والصحفيين منهم خلال الشهر الأخير جاويد دهقان، وروح الله زم تحت عنوان الإفساد في الأرض ومحاربة الله ورسوله!!
وفيما يتجه العالم لإلغاء عقوبة الإعدام، حيث وقعت 106 دول على الصك الأممي الخاص بإلغاء عقوبة الإعدام، وتوقفت 30 دولة عن تطبيقه بالكلية، فإنه تتصدر أربع دول إسلامية بائسة قائمة الدول التي تطبق الإعدام، وتعلن الأمم المتحدة أن 86% من وقوعات الإعدام في العالم وقعت في أربعة دول تحديداً هي إيران والسعودية والعراق ومصر! حيث تم تنفيذ الإعدام عام 2019 في العالم 657 مرة منها 562 عملية إعدام وقعت في هذه الدول الأربعة البائسة!
ولكن العراق والسعودية وإيران ومصر ليس الدول الأكثر أمناً في العالم، ولم ينعكس الحكم بالإعدام على تحقيق أمن اجتماعي يأمن فيه الناس على أموالهم وأعراضهم التي ما تزال تنتهك في قارعة الطريق باستمرار، ولا زالت معدلات الجريمة في ارتفاع، ولم يتغير شيء في حياة الناس، ولا زالت البلاد الأكثر أماناً هي تلك التي توقفت منذ عقود عن تنفيذ عقوبة الإعدام.
فما هو سر تمسك هذه الدول الاربعة بعقوبة الإعدام وتفوقها على سائر دول العالم، ويا له من بؤس أن تكون في ذيل القوائم في التنمية والرفاهية والازدهار والحريات وحقوق الإنسان ولكنك تتصدر قوائم الأمم في الأرض في قائمة القدرة على القتل وسفك الدم، ثم تتفنن في إزهاق الروح الإنسانية: بالسيف كما في السعودية وبالرصاص كما في العراق وبالمشانق كما في مصر وإيران.
ومن الضروري أن نشير هنا إلى أمرين اثنين:
الأولى: إن تقديرات الأمم المتحدة تعتبر الصين أكثر بلاد العالم تطبيقاً لعقوبة الإعدام ولكن الصين لا تقدم أية أرقام على الإطلاق، وتعتبها أسرار دولة.
الثانية: إن أكثر عمليات الإعدام توحشاً وفجوراً تلك التي يطبقها الاستبداد الغاشم بدون محاكم ولا قانون ولا قضاة، ومن المؤلم ان نعترف بان عمليات الإعدام في سوريا ربما تجاوزت في أعدادها ما وقع في العالم كله، كما تثبت ذلك صور قيصر التي صارت عاراً على الإنسانية كلها، من ممارسة نظم دكتاتورية متوحشة لا يعنيها الإنسان في شيء.
فهل التوجه لإلغاء عقوبة الإعدام نوع من التابو المحرم، وأنه أيضاً مؤامرة على الإسلام وحضارته؟!
من المؤسف أنه يبدو للبعض ان مناقشة حكم الإعدام افتئات على الله ورسوله، وأنه دعوة للعبث بالشريعة وتسفيه فقهاء الإسلام، وكأن الفقه الإسلامي لم يجلب شيئا نباهي به إلا الموت!!
الإسلام شريعة حياة وهو متطور ببصيرة، ويمكن ببساطة وهدوء أن يتجاوز عقوبات القرون الوسطى التي كانت تنصب على العقوبات الجسدية وأن يتحول من عقوبات التعذيب إلى العقاب الإصلاحي بآلات الفقه البصيرة من الاستحسان والاستصلاح والعرف والذرائع، وبنور القرآن نفسه وهدي السنة التي أكدت في مناسبات كثيرة: أنتم أعلم بامور دنياكم.
إنني أملك الجرأة للقول إن عقوبة الإعدام عقوبة يكرهها الله تعالى وقد شرعها كما شرع الطلاق وأبغضها كرهها وطرح عنها البدائل باستمرار.
لقد عملت مع المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي منذ خمسة عشر عاماً، وكنت أتخير مواقف الفقهاء المستنيرين الذين سبقوا إلى المطالبة بوقف تنفيذ عقوبة الإعدام بوصفها أكثر أنياب الديكتاتوريين قسوة وتوحشاً، وأعددت دراسة فريدة نشرتها المنطمة بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية، وفيها أربعة عشر أسلوباً فقهياً حكيماً أرشدت إليها الشريعة لوقف عقوبة الإعدام، وإنهاء عصر العقاب الانتقامي إلى عصر العدالة والإنصاف.
ولعل أبسط ما نرويه هنا أن كلمة الإعدام هي كلمة محرمة شرعاً لم ترد لا في قرآن ولا في سنة، وأن الكلمة الشرعية الواقعية هي القصاص وليس الإعدام، والقصاص قد يتم بالعفو وقد يتم بالدية وقد يتم بالقتل، وكذلك فإن الشرع أمر بالعفو ودعا إليه وفرض الدية بديلاً مجزياً، وألزم القاضي ان يحكم بالدية في معظم حالات المحاكمة، وأمره ان يدرأ الحد بالشبهة وأن يتحول باستمرار إلى العقاب الإصلاحي بدلاً من العقاب الانتقامي.
وقد اهتمت جامعة أوسلو بالدراسة وعقدت مؤتمراً خاصاً لذلك ونشرتها في كتاب خاص باللغة صادر عن جامعة أوسلو، كما يمكن الحصول عليه من الأنترنت بالعربية مراراً.
وهذا رابط الدراسة لمن يهتم بذلك:
إنه أمر فظيع ان ننظر في عيون المعارضين المحكومين بالإعدام في سجون الدول المتوحشة، ثم نمارس دورنا كمزهريات صامتة أمام توحش العالم في البغي، والأسوأ من ذلك أن نعتبره أمراً إلهياً نهائياً لا تصح مناقشته، دون أن نتكلف النظر بعمق في روح الشريعة التي جاءت مناهضة بشدة لعقوبة الإعدام داعية باستمرار لتجنب هذا اللون من الشر.
ومن العجيب أن القرآن الكريم لم يذكر عقوبة القصاص إلا في موضع واحد وهو قتل النفس الإنسانية بغير حق، وذكرها مرة ثانية تخييراً في مواجهة جريمة الحرابة، ولكن الفقهاء تبرعوا برفع عقوبات كثيرة إلى الحكم بالإعدام، ومنها للأسف القتل على الردة، والرجم في الزنا، والقتل على السحر والقتل على المثليين والقتل على تارك الصلاة وغير ذلك من أشكال الاستهتار بالحياة والإنسان في تحدٍ واضح للقرآن الكريم الذي أشار إلى هذه الجرائم بوضوح وتفصيل ولكنه لم يذكر مقابل أي منها عقوبة القتل أو القصاص.
ولقد كان هذا الاستهتار بالحياة منطلقاً استند عليه الاستبداد العربي في البطش بالمخالفين، وفي سوريا على سبيل المثال فإن القوانين السورية المتلاحقة التي وضعها الاستبداد تنص على عقوبة الإعدام في 62 ممارسة، بعضها ينص صراحة على الإعدام حتى في ممارسة الرأي الحر، كما في المادة 6 لقانون حماية الثورة لعام 1964 الذي ينص على عقوبة الإعدام لكل من يعارض النظام الاشتراكي بالقول أوبالفعل أو بأي وسيلة أخرى، كما نصت القوانين اللاحقة على عقوبات أكثر غرابة وتوحشاً ومنها قانون يحكم بالإعدام لمجرد الانتساب إلى حزب سياسي!
نحن مدعوون أن ندخل بكل منابرنا الممكنة إلى ساحة النضال الحقوقي، لنرفض أي ممارسة للقتل مهما كانت ذرائعها، وخاصة تلك العقوبات السياسية التي تفرض على الناس باسم مقاومة النظام الاشتراكي أو التواصل مع العدو أو الخيانة، وهي صيغ مطاطة وماكرة تذبح فيها العدالة، ويرقص فيها الشيطان، وتنتحر العدالة.
يجب ان يدرك الإنسان سواء كان قاضياً في محاكم الثورة او محاكم الإرهاب او جلاداً في الأمن العسكري أو قاضياً ميدانياً في الفرقة الرابعة، أو مجاهداً في فصائل المحاربين الثوار أن كل قتل حرام، وأن الإعدام جريمة ثانية، وان القتل سواء كان بحكم قضائي أو بتوجيه من القيادة الرشيدة أو باتصال مخابراتي هو عمل متوحش وجريمة ضد الإنسانية وسيسأل عنها القاضي ذات يوم في المحاكم الدولية، وأنه لا يوجد أي تبرير قانوني تحت أي ستار يبرر له أمره بالقتل، وسيبقى معرضاً للمحاكمة والاعتقال إلى آخر حياته قبل ان يفد على الله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم وغصب الله عليه وأعد له عذاباً عظيماً.
هل حان الوقت لنرفع الصوت بوضع حد للقوانين التي تستبيح دم الإنسان؟ إنني اعتقد ان الفقه الإسلامي يمتلك من القدرة والشجاعة ما يراجع فيه أدبياته، ويتحول إلى ما ذهب إليه حكماء العالم من الكفر بالقتل، والبحث عن بدائل أخرى للتعامل مع الخاطئ، وهي وسائل اثبتت أنها أكثر تحقيقاً للأمن والاستقرار من نظام القتل المتوحش الذي يمارس البطش الأعمى بلا إنسانية ولا قلب.