مقالات

السودان يبدأ تطبيق الشريعة

السودان يبدأ تطبيق الشريعة

وهذا هو العنوان الدقيق لما يجري في السودان اليوم، حيث أنجز الشعب السوداني من دون أي عنف أنجح ثورة عربية باتجاه مشروع تغيير شامل، وحاصر رموز الفساد، وزج بالفريق الديكتاتوري الظالم في السجون، وبدأ المشوار من جديد.

وفي إعلان شديد الوضوح في12/7/2020 أعلنت السودان أنها أنجزت تعديلاً ضروريا في قانون العقاب، وألغت العمل بحد الردة الذي لا مستند له في القرآن الكريم، والمناقض بالكامل لقيم القرآن الكريم في الحرية والاختيار.

وفي تصريح تال صرح رئيس الوزراء أن السودان يتجه للتحول إلى نظام ديمقراطي، مرجعيته الشعب، يكفل الحقوق الدينية للناس، ويحقق المساواة والديمقراطية، وينتظم مع القوانين الحديثة في التحول إلى العقاب الإصلاحي.

وفي الواقع فإن هذا الإعلان وما يتلوه من فصل السياسة عن الدين، من وجهة نظري هو الطريق الحقيقي لتطبيق الإسلام، وهو ما يعكس الوعي العميق بمقاصد الإسلام في قيم العدل والحرية والمساواة، وليس ذلك النموذج الضاري الذي أطلقه الاستبداد لتطبيق الشريعة منذ نحو أربعين عاماً على يد النميري، الذي أعلن في سبتمبر 1983 تطبيق الشريعة الإسلامية، وفيما كان الناس ينتظرون من الشريعة ان تحقق لهم الازدهار والمساواة والحرية والعدالة، تبين أن تطبيق الشريعة الذي قصده النميري ليس إلا فرض الحجاب بالقوة والعودة إلى العقوبات الجسدية التي طورها الفقهاء بجدارة وعلم منذ قرون، وهي عقوبات بدائية كانت سائدة في القرون الأولى ثم قام الفقه البصير بتطويرها وإصلاحها، وبدأ التحول بكفاءة واقتدار إلى العقاب الإصلاحي.

وفي بداية مسمومة لتنفيذ هذا القانون أعلن النميري محاكمة خصمه الزعيم السوداني محمود محمد طه بتهمة الردة، وتم تنفيذ حكم الإعدام فيه كواحد من أول تطبيقات حكم الشريعة.

ومحمود طه لم يكن على الإطلاق ملحداً أو مسيئاً للإسلام، لقد كتب جملة كتب منها تطوير قانون الأحوال الشخصية، ورسالة الصلاة، وطريق محمد، ولا إله إلا الله، لقد كان بكل بساطة مجدداً صلباً يدعو إلى أنسنة الإسلام، ويعتبر مسؤولية القرآن الأولى في حماية حقوق الإنسان، وتحقيق المساواة والعدالة في الأرض.

لقد تبنى أفكاره ودافع عنها بصلابة ولم يرتعد أمام المقصلة، وفاضت روحه وهو ينادي بوقف تشويه الإسلام وإعطاء الشعب حقه في الحرية والعدالة.

وأعتقد ان من أوجب الواجبات اليوم إنصاف هذا المفكر الكبير، فقد كان أعظم السودانيين بصيرة بمآرب الاستبداد، ومن وجهة نظري فقد كان أكثرهم تعظيماً لقيم الدين الصحيحة القائمة على احترام الإنسان وإخاء الأديان.

ولمن لا يعلم ما معنى تطبيق الشريعة الذي فرضه الاستبداد على السودانيين مستغلاً عاطفة الناس المشبوبة نحو الإسلام، فقد أدخل القانون المذكور عدداً من العقوبات الجسدية أهها وأخطرها حد الردة.

وحد الردة كما بينه فقهاء كثير يتناقض مباشرة مع الآيات المفتاحية في القرآن الكريم: لا إكراه في الدين، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر.. وغيرها من الآيات المؤسسة لقيم الحرية والاختيار، ويجب القول أن الآيات ذكرت في 22 موضعاً في القرآن الكريم أخبار المرتدين ولم تذكر في أي آية منها أي لون من العقوبة لمن يختار ديناً آخر غير الإسلام.

ولمن يريد أن يتعرف على المادة التي كان ينص عليها قانون العقوبات السوداني بشأن قتل المرتد المختلف في الدين فها هي المادة برقمها

نص المادة “126” بعد التعديل:

(1) يعد مرتكباً جريمة الردة كل:

(أ) مسلم يروج للخروج من ملة الإسلام أو يجاهر بالخروج عنها بقولٍ صريحٍ أو بفعلٍ قاطع الدلالة.

(ب) من يطعن أو يسب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم علناً بأي طريقة.

(ج) من يطعن في القرآن الكريم بالتناقض أو التحريف أو غير ذلك.

(د) من يكفّر أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجملة أو ساداتهم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علي مستحلاً ذلك.

(هـ) من يطعن في أم المؤمنين عائشة فيما برأها منه القرآن الكريم.

(2) يُستتاب من يرتكب جريمة الردة ويمهل لمدة تقررها المحكمة، فإذا اصر على ردته ولم يكن حديث عهد بالإسلام. يُعاقب بالإعدام.

(3) تسقط عقوبة الردة متى عدل المرتد قبل التنفيذ ويعاقب بالجلد وبالسجن مدة لا تتجاوز خمس سنوات.

ومن المؤلم أنه لو تم تطبيق هذه المواد على الصحابة أنفسهم فسيتم اتهام كثير منهم بالردة، حيث وقع بينهم الاختلاف وقاتل بعضهم بعضا، وطعن بعضهم في بعض، واختلفوا في طريقة تدوين القرآن نفسه، ولست أدري ما علاقة اختيار موقف سياسي من صراع ما في التاريخ بأنه ركن في الدين يوجب تركه القتل؟

اليوم ينضم السودان إلى 52 دولة إسلامية نجح فقهاؤها وعلماؤها القانونيون في وقف العقوبات الجسدية ونجحوا في التحول إلى العقاب الإصلاحي، تنفيذاً لوصية الرسول الكريم: أنتم أعلم بأمور دنياكم، وللمبادئ الفقهية الشهيرة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، والأمور بمقاصدها، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، ونظروا إلى القرآن الكريم على أنه نور يهدي وليس قيداً يأسر، وأنجزوا هذا الإصلاح استجابة لروح الآية الكريمة التي خاطبت المؤمنين بالوفاء بالعقود حيث وقّعت الدول الإسلامية على شرعة حقوق الإنسان وباتت جزءاً من التزام المسلمين في استخلاف الأرض وإعمارها.

ويجب القول إن هذا التطور التشريعي قد تحقق في غالبية البلدان الإسلامية عبر جهود فقهائها المستنيرين من علماء الشريعة والقانون، الذين نجحوا في خدمة مقاصد الشريعة وأهدافها، وامتلكوا مرونة والوعي والبصيرة في تطور الأحكا بتطور الأزمان.

ولا زالت ثلاث دول بالتحديد ترفض هذا التحول التشريعي، على الرغم من أنها تكاد تكون قد أوقفت تطبيقه، وهي السعودية وإيران والصومال، وبدرجة أقل موريتانيا وباكستان.

لن يرضي هذا الموقف مشايخنا الواعظين من رجال الدين، ولكنه سيلتقي بشكل أكيد في جهود الفقهاء المستنيرين الذي كتبوا القوانين في 52 دولة في العالم الإسلامي وهم من خيرة فقهائها وعلمائها ومحققيها.

أرجو أن لا أكون قد بالغت في التاؤل، ولكن قناعتي الراسخة أن الخطوات المتسارعة التي يقوم بها السودانيون باتجاه أنسنة القوانين، ووقف حد الردة، والتمييز بين الدين والسياسة، وتحقيق الحرية للناس والمساواة بين المواطنين على اختلاف أديانهم، هي التي تمثل العودة الحقيقية إلى الإسلام وتطبيق الشريعة.

Related posts

د. محمد حبش- دروس من رمضان 27/10/2006

drmohammad

د.محمد حبش- صندوق النفقة…. محاولة لرفع العناء عن المطلقات 10/4/0229

drmohammad

د.محمد حبش- جهاد من أجل استقلال سوريا..من مؤتة إلى اليرموك إلى ميسلون18/4/2008

drmohammad