Uncategorized

تبادل المحبة – فرنسا والرسول محمد

قد يكون من أقسى الأقدار أن تكتب عن الحب في زمن الحرب، وعن السلام في عصر الخوف وعن المحبة في عصر الكراهية.

وفي العصر الذي يزنر فيه المتحمسون خصورهم بأشد عبارات الهجوم الناري على فرنسا بوصفها بلداً للشيطان تحادّ الله ورسوله وتعادي المسلمين، فإن هذه المقالة ذاهبة للحديث عن البستان الخلفي للثقافة الفرنسية حيث يمكن أن يلتقي العقل والعقل، والشعر والموسيقا والعطر والجمال بعيداً عن صخب السياسة وحروبها التي لا تنتهي.

ويقول صاحبي: هل من العقل أن تكتب عن الإخاء الإسلامي الفرنسي ونحن نخوض أشرس حرب ضد اللائكية الفرنسية التي تستهزئ بالأنبياء وتغلق المساجد وترحل الدعاة وتصرح أن الإسلام في أزمة؟

مؤسف أنني أختلف اختلافاً حاداً في الوعي بما يحصل، وعلى الرغم من كل ما ينشر عن ممارسات فرنسية ضد الحركات الدينية والنقاب في فرنسا فما زالت الديمقراطية الفرنسية تمنح المسلمين في فرنسا حقوقهم التي لا يحلمون بها في كثير من ديار الإسلام، وهي الأمة التي احتضنت ملايين المهاجرين من بلاد الحرب والفقر، تحت شعارات الثورة الفرنسية في الإخاء والمساواة والعدالة.

على كل حال فليس المقصود بالمحبة ماكرون ولودريان من رموز السياسة، ولا ماري لوبان ولا شارل مارتل ولا عبد الرحمن الغافقي ولا فيليب الثاني من رموز الحرب، أنا أتحدث عن شعب وثقافة وعلم وتاريخ، وفلاسفة وشعراء ونخب وصالونات، عن جسور من المحبة والمودة بدأت بأميرة الغال مريم المجدلية الفلسطينية وسلالتها الملكية إلى فيكتور هيجو وروجيه غارودي.

أما سفير المحبة الذي أكتب عنه اليوم فهو فيكتور هيجو، أشهر شعراء فرنسا وأدبائها، 1802-1885م

ولد في العصر النابليوني وشهد حمامات الدم التي أفرزتها الكراهية بعد ثورة هائلة طرحت شعارات العدالة والرحمة ولكنها مارست أبشع الممارسات وارتكبت الشر والدم، وشنقت الملوك بأمعاء القساوسة، ودحرجت الرؤوس على المقاصل، وبعد أقل من سبع سنين على نجاح الثورة أعادت فرنسا إنتاج قيصر جديد، واشتعلت أوروبا بالحرب والأطماع، وعاد الناس يبتهجون لانتصارات الجيوش الفرنسية على الرغم من الحروب الدموية والكوارث التي خلفها الطموح النابليوني، ومن المدهش أنهم كرروا ما فعلوه مع لويس الرابع عشر ولم يأخذوا عليه جرائمه بل هزائمه، فكان إثمهم كإثم مليكهم واستمروا في بلاهة يلهثون وراء المجد بالبارود والمدفع.

ولا أشك أن التاريخ الحقيقي برأيي لانتصار الثورة الفرنسية لم يكن في مقصلة لويس السادس عشر ولا في انتصارات نابليون، فذلك كله امتداد الهمجية لا الثورة، بل إن انتصار الثورة الحقيقي كان بعد أفول الحرب العالمية الثانية المخزية حيث تم انتصار أحزاب الحرية على أحزاب الاستعمار وأعلنت فرنسا أنها ستخرج من مستعمراتها وستتصرف كأمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم.

في العصر النابليوني أطل علينا الشاعر الفرنسي فيكتور هيجو، إنه أشهر أدباء فرنسا على الإطلاق، أنزله الفرنسيون منزلاً فريداً في قلوبهم وضمائرهم، وطاروا بذكره في الآفاق، وعلى الرغم من القيمة التاريخية الهائلة لكنيسة نوتردام فإن معظم سكان الأرض لم يسمعوا بها لولا رواية هيجو أحدب نوتردام، حيث سجلت إزميرالدا الغجرية السمراء والأحدب كوازيمودو أعمق ما يملكه الإنسان من مشاعر الأسى والأمل، وجوهر ما فطره الله عليه من البحث عن الجميل والنبيل بين ركام الأطماع في هذا العالم .

أما البؤساء، فقد صار الوصف الأكثر شعبية في العالم ولا تذكر كلمة بؤساء في أي مكان في الأرض إلا قال قائل: البؤساء لفيكتور هيجو، حيث سجل هذا الشاعر المرهف انتصار الكلمة على الثروة، وتفوق الأدب على الحرب، والتاريخ على الواقع.

ومع أن رسالة هيجو واضحة جداً في تمجيد البائسين والحزانى والارتقاء مع آلامهم ولكن هوليوود صنعت من الروايتين أفلاماً متناقضة ففي حين رسم تشارلز لوغتون ووارين أوهارا نهايات سعيدة في فيلم 1939م فقد أصر الآخرون على انتصار الشيطان وانتحار النبي.!!

عاش هيجو حياة صاخبة، ومع أنه نعم بحياة جيدة أيام شارل العاشر ولويس فيليب إلى عام 1848 ولكنه عانى أشد الصعاب مع نابليون الثالث الذي عمل على نفيه إلى جزيرة جرسي في بحر المانش حيث استمرت غربته 18 عاماً إلى أن سقطت الملكية 1870م وانتصر الفقراء وتم تدمير تمثال نابليون.

عاد هيجو إلى باريس وقد اتخذه الفرنسيون أيقونة سلام وثقافة ووحي، وعكف على تنقيح كتابه الأخير أسطورة القرون، وفي غمار ما كان العالم يشهده من إرهاصات الحرب المدمرة كان هيجو يحلق في عالم الروح السامي ويتحدث عن عالم بلا بؤس، تسود فيه الفضيلة وتنتصر فيه الروح.

أما البطل الذي اختاره هيجو للحديث عن العالم الأكمل نبلاً ومجداً فقد اختار محمداً رسول الله، وفي قصيدة عجيبة أسماها السنة التاسعة للهجرة (L”an neuf de l”Hégire) طار هيجو في الزمان والمكان وحط في أرض الحجاز وفي مزيج روحي هائل بين مكة والمدينة راح يصف لنا المشهد الإلهي الغامر الذي كان يحيط برسول الإسلام في اللحظات الأخيرة من حياته حيث أنجز انتصاره الأعظم ودانت له جزيرة العرب، وكتب بقلم الدهشة وعين الحب:

ارتقى كبيراً جليلاً في خطبة الوداع…..

كان وقوراً مهيباً لم يوجه كلمة لوم أو عتاب لأحد

إذا احتكم إليه رجلان فإنّه بهيبته يجعل المُدان معترفاً والمدين مطمئنّاً

ثم راح يتأمل في ذلك الوجه النوراني الذي تشرق فيه معالم الأنبياء:

كان عالي الجبين، خدّاه ملائكيّان

حاجباه غير كثيفين وعيناه عميقتان.

عنقه أشبه شيء بآنية زهور فضيّة.

ثم شرع يروي لنا تواضعه وحكمته، فكان يصغي للحديث بسمعه وبقلبه وهو أدرى به:

يصغي بصمت ولا يتكلّم إلا آخر المتكلّمين.

لا يجري على لسانه دائما غير ذكر الله

لقد كان يعيش بين الناس، يشاركهم عناءهم وكدهم، ولكن روحه كانت تحلق بين الملائكة والقديسين:

قليل الميل إلى الطعام. يشدّ الحزام على بطنه

يسهر بنفسه على حلب نعاجه..

يجلس على الأرض ويرتق ثيابه

كثير الصوم خارج الأيّام الرمضانيّة

ولكن قصور السماء التي تراوده عن نفسه كل يوم لم تستطع إغواءه، إنه يرمق أبراجها العاجية باستخفاف ثم ترقص عيناه للقاء الدراويش والبؤساء:

كان أثناء مشيه يصافح العابرين، وينصت إلى المتحدثين

وكان آخر من يتكلم، وكان فمُه دائم الذكر

لاهجاً بالدعاء يأكل قليلاً ويربط على بطنه حجراً.

وحين يتحدث هيجو عن أسطورة القرون فهو لا ينسى أبداً أول إعلان لحقوق الإنسان في العالم، لقد كان ذلك على جبل الرحمة في مكة حين ارتقى محمد منبره آخر مرة بصيحات واضحة أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، ثم التفت يودعهم بحنين:

أيّها الأحباء سأخبركم أنني سأكون ضيفاً على الله، إذن عجّلوا فهذه هي اللحظة الموعودة،

كانت عيون الحاضرين عذبة مشتاقة كما لو أنّها عينا حمامة.

بكوا جميعاً لمّا رأوه بعد ذلك يدخل إلى بيته، وكثير منهم لزموا المكان دون أن يغمض لهم جفن، وقضوا الليل نائمين على الأرض.

وفي وصف آسر يأخذك هيجو إلى آخر شمس طلعت على وجه محمد.. لقد أعجزه المرض وحان الوداع..

وفي الغد عندما طلع النهار، ذكر أبو بكر أنّ محمّداً لم يستطع أن يقوم من فراشه، لقد أمرني أن آخذ المصحف وأقيم الصلاة.

تراجعت زوجته عائشة إلى الوراء، ومحمّد ينصت إلى ترتيل أبي بكر، وكان غالباً ما يخفض صوته عند نهاية الآية، وقد شوهد محمّد يبكي وأبو بكر يرتّل بهذه الطريقة.

وفي وداعه الأخيرة ينقل هيجو صورة غنية لجيش من الملائكة كان في حجرة محمد وحين جاءه جبريل يستفسر عن رغباته في تلك الساعات الرهيبة… قال فوراً: بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى!!

كان ملاك الموت عند المساء وراء الباب، أهلّ طالباً أن يسمح له بالدخول.، ليدخل، بدا نظر النبيّ يشعّ، بنفس الإشعاع الذي كان له يوم ميلاده. فقال له الملاك: يريد الله حضورك.، قال النبيّ نعم. رعشة علت صدغيه، نفحة فتحت شفتيه ومات محمد.

قد تكون هذه التغريدات هائمة في فضاء تائه، ولا شك أن فرنسا مزدحمة بالفرنكيين أصحاب النظرة الصليبية القاتمة، ولكن روح هيجو بكل تأكيد جزء من فرنسا الأكثر نبلاً والأكثر أصالة، فهكذا ينظر حكماء فرنسا التاريخيون لرسول الله، وهكذا يرسمون معالم إشراقه، وأجزم دون تردد أن الأمة التي اختارت فيكتور هيجو شاعرها وأديبها وحكيمها تضم ملايين المحبين لرسول الله ولا أبالغ في شيء إن قلت إنهم لا يقلون عدداً وأثراً عن الملايين الستة من المسلمين الذين يعيشون في الجمهورية الفرنسية.

إنها محاولة لعزف الأوتار الجميلة في صخب الحروب الطامية، محاولة للإجماع على الجميل والاتفاق على الحب، إنها عملية شاقة التنقيب عن الحب في ركام الكراهية.

وحين بحثت فرنسا عن رمز جامع تضعه على الفرنك الفرنسي وجدت فيكتور هيجو، فيلسوف الأنبياء والبؤساء، فليس في أدباء فرنسا وشعرائها من يستحق هذا التكريم قبل هيجو، أما بيته في ساحة فوج بباريس فقد صار اليوم متحفاً للفلسفة والحكمة وإخاء الإنسان وأجمع الفرنسيون على تسميته بمتحف فيكتور هيجو.

ولكن لا تغادر هذه المقالة قبل أن تقرأ أعمق ما قاله هيجو: لا تحاول أن تغير من أحدهم حتى يشبهك، ولا تغير من نفسك حتى تشبه غيرك، لقد خلقنا مختلفين لنتكامل لا لنتناسخ!!

Related posts

رياح الموت الطائفي… رؤية غير طائفية

drmohammad

العدو …ثقافة الكراهية والاستعداء 2016

drmohammad

د.محمد حبش- الديانة أم الأخلاق

drmohammad