Uncategorized

أوراق النهضة

أوراق النهضة

على هامش منتدى الأربعاء الثقافي في اتحاد الكتاب العرب

 

بدأت في قاعة اتحاد العرب مطلع آذار فعاليات منتدى الأربعاء الثقافي تحت عنوان أوراق النهضة، وهي سلسلة محاضرات وندوات علمية كل أربعاء يدعى إليها نخبة من الكتاب والمفكرين في إرادة واضحة لبعث حركة النهضة العربية التي كانت قد بدأت مطلع القرن العشرين.

ويشرف على هذه الفعاليات اتحاد الكتاب العرب بالتعاون مع مركز الدراسات الإسلامية في دار التجديد بدمشق، برعاية كريمة من مكتب الإعداد في القيادة القطرية، ويعتمد المنظمون منهجاً واضحاً في توسيع دائرة المشاركة لكل أطياف الفكر النهضوي في الأمة، ويؤكدون أن النهضة العربية قدر الأمة بمجموع طاقاتها وأنه ليس من حق أي تيار مهما كان حضوره كبيراً أن يحتكر خطاب النهضة.

ولا يسع أي باحث يكتب في النهضة العربية إلا أن يشير إلى رموزها الكبار بعمائمهم وقفاطينهم بدءاً من رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا، ولكن هذه العمائم التي تصدرت خطاب النهضة لم تنحصر في قضايا الفقه الديني بل تحدثت عن هموم الناس وواجهت برامج التخلف وأدركت ضرورة اعتمادها على مفكرين مدنيين لحمل مشروع النهضة، ولكن الروح الغالبة لدى الشعب أيام الدولة العثمانية كانت تنظر دائماً إلى الريادة العلمية والنهضوية في سياق ما تعودته منذ قرون طويلة حين كان الفقيه يقود الاستقرار حيناً ويقود الثورة حيناً آخر، وتستدعى في هذا السياق أسماء كبيرة رسمت كفاح النهضة والتنوير في تاريخ الأمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وابن القيم والعز بن عبد السلام وغيرهم من الأئمة الذين كانوا في الواقع ضمير الناس، وكانوا يعكسون آمالهم وطموحاتهم ولأجل ذلك دخلوا سجون الخلفاء وذاقوا من مرارة السجن وقهر السجان.

ولكن هذا التقليد التاريخي تعرض لهزة كبيرة حين اعتصمت الدولة العثمانية بعدد من أفراد هذه الطبقة ذاتها في مواجهة رغائب التحرر المشروعة التي يناضل لأجلها الناس، وشوهت دور هذه الطبقة الريادي في الدفاع عن الحرية وقيم النهضة، وظهرت أشكال من إرادة الحرية في سياق ما أفرزته الثورة الفرنسية من الحريات، وصارت مطالب الناس في الحرية والنهضة أكثر إلحاحاً، وشارك فيها الناس بمختلف ميولهم وأديانهم ومذاهبهم.

وهكذا فعلى الرغم من جدية المشروع النهضوي الذي كان يحمله الرواد فإنه سرعان ما ظهرت في سماء النهضة قائمتان اثنتان: الأولى مزدحمة بالعمائم وفيها الطهطاوي والكواكبي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ، والثانية مطبوعة بالبزة الغربية وفيها ناصيف اليازجي وبطرس البستاني وفرح أنطون وساطع الحصري وجرجي زيدان وزكي الأرسوزي وجبران خليل جبران وطه حسين، وسرعان ما تبادلنا الريب، والاتهامات وبدا مشروع النهضة لوهلة ما مشروعاً تقسيمياً لطاقات الأمة، وتبديداً لقدراتها.

وببراءة طرح السؤال الكبير: من يحمل لواء النهضة؟ وهل يمكن فهم وحدة المشروع في إطار تعدد المرجعيات للقادة الفكريين الذين يحملون عناء الأمة وآمالها؟

ليس سراً أن نقول إن أئمة النهضة الكبار بالرغم من عمائمهم التي تكفيك عناء الإيديولوجيا والتوجه فإنه لاقوا من التيار السلفي التقليدي هجوماً غير ودي، واعتبروا خارجين على الثوابت، وليس سراً أن نقول إن عددا من كليات الشريعة بما فيها جامعة دمشق لا تزال تدرسهم على أنهم مارقون مفتونون بحضارة الغرب، وأنهم لا يمثلون خطاباً إسلامياً مقبولاً، بل إن دراسات متعاقبة تبرعت بوصمهم بأقسى النعوت واعتبروا صنيعة للاستعمار والماسونية العالمية.

ولكن ذلك كله لم يشفع لهم عند كثير من العلمانيين العرب الذين رأوا فيهم أيضاً التفافاً سلفياً على إرادة النهضة، وأنهم يضعون العربة أمام الحصان وأن عمائمهم ظلت تحول بين مشروعهم وبين التقدم الحقيقي الذي تبتغيه الأمة.

اليوم نلتقي في سوريا على إعادة إحياء مشروع النهضة، في المكان الصحيح في اتحاد الكتاب العرب، حيث النخبة من المفكرين والكتاب ورجال النهضة برعاية كريمة من مكتب الإعداد في القيادة القطرية التي تحمل هم المشروع القومي العربي، وتجتهد في إشعال شمعة النهضة فيه، في هدف واضح وصريح وهو حشد طاقات الأمة الفكرية والثقافية من أجل بناء مشروع نهضوي واضح يعتمد القيم الكبرى للأمة.

لم نشأ أن نشير إلى رجال النهضة من قراءة أحادية، ولأجل ذلك فقد أطلت بين عمائم رجال النهضة وجوه مفكرين قوميين أحرار ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وشكيب أرسلان، والقائمة تتسع وتستمر، في إرادة واضحة إلى التشارك بين رجال الأمة في صناعة النهضة.

ومن المنطقي هنا أن يكون سؤال النهضة مباشراً وصريحاً وهو من يحمل لواء النهضة، وهل يسع العلمانيين العرب أن يتقبلوا لواء النهضة في يد التيار المؤمن بالغيب؟ وهل يسع الجمهور أن يتقبل خطاب التنوير المستند بالكامل على تجربة الأوروبية في الحريات، وما هو موقف الإسلام من الحداثة بوصفها حاملاً موضوعياً لآمال المشروع النهضوي، وبوصفها الإفراز الطبيعي لمشاريع النهضة؟

إن الإسلام واجه الحداثة في وجهها الغربي الاستعماري، ومن المنطقي عند ذاك أن يكون موقف الإسلام من الحداثة عاصفاً بالريب، ولكن الأمر كان سينحى منحى لآخر لو قدر للحداثة أن تحاور الإسلام بقماط فكري محض، يستهدف تعزيز المشترك والتواصل الحضاري، فهذه المفاهيم ليست طارئة على الفكر الإسلامي بل كانت من بدهيات النص الأول، ففي القرآن الكريم تتأسس علاقة المسلم بالعالم الحضاري من حوله على أساس التكامل والتواصل وليس الإلغاء والإقصاء، وفي القرآن الكريم يرد تعبير: مصدقاً لما بين يديه أربع عشرة مرة، في إرادة واضحة جلية لوجوب التواصل بين الرسالة الإسلامية وما يجاورها من الحضارات، وتعبير ما بين يديه يشمل النبوة السابقة والحكمة اللاحقة، ومع أن المواجهة لم تنك في ظروف هادئة ولكنها مع ذلك لم تؤد إلى تفكك المنظومة الروحية والفكرية للإسلام بالرغم من السطوة الحضارية الطاغية التي واكبتها، بل إن الذي حصل هو العكس تماماً إذ كانت الحداثة عامل تجديد وتغذية لمنابع الإسلام وأنظمته الرمزية، ووفقاً لذلك تكون الإصلاحية الإسلامية قد تمكنت إلى حدٍ مهم من السيطرة على التحديات والصعوبات المرافقة مما جعلها توفر الأرضية الأولية المناسبة لتأسيس خطاب إسلامي حديث متمايز عن الخطاب الإسلامي التقليدي.

ومع ذلك فقد ظل كثير من العلمانيين العرب ينكرون الوفاق بين المشروع الإسلامي والمشروع النهضوي، على أساس القطيعة الإبستمولوجية بين المنظومتين، وتبقى المواقف الأخرى تنوس بين الاتجاهين جيئة وذهاباً.

 

ربما يمكن فهم ذلك بشكل أكثر حيادية في تجربة رفاعة الطهطاوي فقد كانت تجربته نسبياً قبل فترة الاستعمار، وهنا فإن الحوار مع الغرب كان إلى حد ما بعيداً عن الاستفزاز السياسي، وبعد كتاباته المتعددة عن باريز والتجربة الفرنساوية فإن رفاعة الطهطاوي تحدث بأدلة كثيرة عن الوفاق بين الشريعة والحداثة، ولم يلجؤه ذلك إلى رد شيء من نصوص الشرع، ولكنه وسع قاعدة التأويل حتى أمكنه أن يصالح دوماً بين العقل والشرع، وظل ملتزماً بمبدأ الجمع بين العقل والنص.

ويستخلص محمد أحمد سالم في مقال له بمجلة التسامح أن ثمة نتيجة مهمة يمكن أن نصل إليها من سيادة التراث الأشعري على خطاب الطهطاوي في تعامله مع المكتسب الليبرالي الغربي وهي: إعطاء الأولوية للنقل على العقل، وللشريعة على القانون، وهنا نجد بعض التساؤلات الملحة تطرح نفسها وهي: إذا كان الطهطاوي قد أعطى الأولوية للنقل والشريعة في تعامله مع الغرب، فماذا كان يهدف الطهطاوي من وراء ترجمته لمواد الدستور الفرنسي في كتابه(تخليص الإبريز)؟! هل كان الهدف من ذلك بيان ما عندهم لكي أقارنه بما عندي وكفى؟! ولماذا ترجم أفكار روسو، ومونتسكيو، وفولتير طالما أنه أعطى الأولوية الكبرى لجهود الفقهاء حول الشريعة؟! هل كان الغرض من ذلك التعريف بما عند الغرب؟! أم هل كان الهدف من ذلك بيان أن التقدم الذي حدث في أوروبا في مجالات العلم والتقنية حدث في ظل منظومة فكرية، ونظام سياسي يقوم على الحرية؟!! ونحن لا نجد سوى إثارة بعض التساؤلات حول مواقف الطهطاوي الفكرية؛ لأنه في الكتاب نفسه(تخليص الإبريز) الذي يصور فيه الحياة الغربية في فرنسا نجده يقدم رفضاً واضحاً لمعظم جوانب حياة الفرنسيين فيقول: “إن أحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية، وإنما هي مأخوذة من قوانين أخرى أغلبها سياسي، وهى مخالفة بالكلية للشرائع، ويلحق بهذا الرأي بيتين من الشعر يعبر فيهما عن وجهة نظره إزاء القانون الفرنسي فيقول:

من ادعى أن له حاجة                              تخرجه عن منهج الشرع

فلا تكونن له صاحبا                                فإنه ضر بلا نفـــــــــــع

قد ترتب على سيادة الروح التقليدية على فكر الطهطاوي، ورغبته في نقل الأفكار الحديثة إلى وطنه أن عمد إلى التقريب بين الوافد والموروث، والتقليدي والحديث، معتمداً في ذلك على منهجية القياس والمماثلة بين الوافد والموروث، وقد وظَّف في ذلك أدوات لها أصول تراثية مثل الدعوة إلى الاجتهاد، والقول بأن باب الاجتهاد مفتوح، وأن على الفقيه أن يقدم اجتهادات تتوافق مع روح العصر، وذلك في كتاب ” القول السديد في الاجتهاد والتقليد” وقد وظّف الطهطاوي أيضا آلية التأويل لكي يوفق بين الوافد والموروث فيقول ” إنه قد لا تقتضي الأوضاع الشرعية المتأدب بها في المملكة عين المنفعة السياسية إلا بتأويلات للتطبيق على الشريعة.

ومع أن مذهبه في التوسع في التأويل وفق مصالح الأمة قد أكسبه عداوة التيار السلفي ولكنه في الواقع من وجهة نظرنا كان يمثل فهم النبوة المتجدد والمساير للأحداث، والذي يقبل النسخ حتى في نص القرآن الكريم، ويعتمد قاعدة: علينا أن نأخذ من تراث الآباء الجذوة لا الرماد.

لا يمكن وصف ما يقوم به اتحاد الكتاب العرب اليوم بأكثر من أنه صيحة جديدة في سياق مشروع النهضة الكبير، وأنها قول على قول، وإذ يتحرك بروح الأصالة وتوق الحداثة، ودمج التجربتين فإن من الوارد تماماً أن نتفاءل لنجاح تجربة كهذه، وأن ننتظر منها الآمال في إحياء مشروع النهضة العربي.

 

Related posts

الدكتور محمد حبش-إقبال …. هاتوا من تراث الآباء .. الجذوة لا الرماد!!

drmohammad

العلماني والفقيه

drmohammad

اغتيال الحضارات.. الصراع بين الفقه والنص. الدكتور محمد حبش 2016

drmohammad

Leave a Comment