وأكثر سؤال يواجهني في رسالتي في إخاء الأديان هو: إنك تقدم قدراً كبيراً من الاحترام للأمم ولكن هل تشاركنا هذه الأمم احترامها وتقديرها؟
أليس من المخجل أننا نمارس الحب من طرف واحد؟ فيما لا يصغي الآخرون لكل أشواقنا وأذواقنا ومشاعرنا؟
وفي الحقيقة فإن هذا السؤال الذي يحظى في الشارع الإسلامي بقدر كبير من الشعبية يفتقر إلى قراءة موضوعية لشكل العالم من حولنا، فالعالم يقارب ثمانية مليارات إنسان، وفيه 242 دولة وكيان سياسي وسبع قارات ونحو 5000 لغة منها 200 لغة مدونة ومسجلة في الأمم المتحدة، ونحو 4400 ممارسة دينية قائمة ولها تراث مكتوب، وهذه الحقائق اتفاقية تقريباً وهي تعكس الغنى والتنوع في هذا العالم.
وأمام هذه الحقائق فيمكنك ببساطة أن تجد كل ما تريد، فهناك من يحبنا وهناك من يكرهنا وهناك من لم يسمع بنا، ويخلق ما لا تعلمون.
سأحاول في سلسلة مقالات أن أقدم لك الجانب المضيء من العالم، وفرضيتي تقوم على أن أكثر من 95 % من سكان هذا الكوكب يحبون المسلمين ولا ثأر لهم مع العرب ولا مع الإسلام، وأننا قادرون على العيش في هذا العالم بحكمة واحترام.
جوته …. (1749-1832 م) شاعر ألمانيا وأبوها الروحي والثقافي، وليس في هذه الكلمة أي مبالغة، لقد دأبت الخارجية الألمانية على افتتاح معاهد في كل العالم، لتعريف الناس بالثقافة الألمانية واللغة الألمانية، وقد اختارت دون تردد اسم غوته على كل هذه المعاهد بلا استثناء وقد بلغ عددها هذا العام نحو 188 معهداً حول العالم تتوزع في 80 دولة
وغوته له بالطبع تماثيل ومتاحف وقاعات في مختلف أنحاء ألمانيا، إضافة إلى عدة جامعات اختارت اسمه، وقبره في فايمار يعتبر محجاً للمثقفين الألمان، فالرجل يمثل بصدق الضمير الألماني العظيم وهو رجل لم تتلطخ يداه ولا لسانه ولا شعره بالحروب الصليبية ولا بالحروب الدينية ولم يشهد العصر النازي، وظل رمزاً للقيم العليا في ألمانيا.
غوته طاف العالم وأحب الشرق وأتقن اللغات العربية والفارسية والتركية، وتمكن من قراءة الأدب العربي والفارسي بلغاته الأصلية وقرأ القرآن الكريم بتمعن، وتأثر للغاية بالشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، وقد اعترف أنه كان غير قادر على مقاومة الطوفان الروحي الذي أشعل قلبه من تأثير شيرازي، وكتب في نهاية مشواره ديوانه الكبير: الديوان الشرقي للشاعر الغربي.
في ديوانه الشاعر الشرقي يخصص الشاعر أرقى ما يملكه من قلم ولسان ليتحدث عن الإسلام كطوفان نور متدفق، في قراءة صادمة لأوروبا المنغمسة منذ قرون في حروب طاحنة مع الإسلام، بدأت نهاية القرن الحادي عشر بالحروب الصليبية ثم استؤنفت بالحروب العثمانية في عهد السلاطين الكبار، وما أفرزته من طوفان الكراهية بين الشرق والغرب، وجراح لا تندمل، ومع أن عدداً من فلاسفة القرن الثامن عشر كرسوا حياتهم للكتابة عن الإخاء الديني ولكن أحداً منهم لم يجرؤ على الحديث عن الإخاء مع الإسلام الذي كرسته الكنيسة في العصور الوسطى في مكان الشيطان والشر المطلق، وفي صورة غضب الرب الممقوت، وكانوا إذا تحدثوا عن الإخاء الديني يشيرون إلى المذاهب المسيحية ثم يقفزون إلى الديانة اليهودية والهندوسية والبوذية والأرواحيات والسيخ والشنتو والطاوية والكاكائية والزرداشتية ولكنهم لا يجرؤون على الحديث عن الإسلام كقيمة روحية، وظل الإسلام في نظرهم قوة سياسية غاشمة يقوم الفرسان المطهرون بقتالها بأمر الرب في حروب مقدسة، نصيب الغانمين فيها من الجنة بقدر إثخانهم في الإسلام!!
أما جوته فإنه لم يتردد أبداً في معراجه العميق إلى قلب الشرق أن يتحدث طويلاً عن الأرض الساحرة التي استقبلت الأنبياء وتوالى عليها ملائكة الله المقدسون يحملون روحه وأمره وقد اكتمل إشراقهم في أعظم صور طوفان الإيمان في غار حراء حيث تلقى الرسول محمد أقدس الكلمات عن الله.
في كتابه النور والفراشة يقوم عبد الغفار مكاوي بمقاربة قضايا جوته وغايات شعره، وربما لا يتسع هذا المقام لرواية كل ما قدمه غوته عن شعراء العرب وبوجه خاص قيس بن ذريح وزهير بن أبي سلمى وتأبط شراً وابن عربشاه والمتنبي والطغرائي وبالطبع أمير العاشقين حافظ شيرازي، وهو مواقف تستحق أن يخلدها الشعراء بما فيها من روح عالية ووعي فريد، ولكنني سأذهب مبشرة إلى وعيه بالرسول الكريم.
وفي قصيدة خاصة أسماها أغنية محمد يختار جوته مكانه في خيمة علي وفاطمة، حيث يختصر العروسان الطاهران كل معاني الشباب والفتوة والجمال، وتماماً كما كان وجهاهما المشرقان بالأمل والدهشة كان ثالثهما غوتة فاغراً فاه يشاركهما ذلك المنظر الخالد، وهو يرقب خطوات الرسول الأعظم:
ها هو يجري في الوادي متلألئًا بهيّاً
والأنهار الجارية في الوهاد
والجداول الهابطة من الجبال
حيث كل شيء جليل .. يناديه برجاء وحب
يا أخا الكل.. يا مصدر النور.. يا موعد السماء
خذنا إليك… خذنا إلى عالمك الخالد… إلى إشراقك الجليل…
حيث يلقانا الله بذراعين مبسوطتين..
ولو حذفت اسم الشاعر ودفعت الكلمات للصاوي شعلان أو زهير ظاظا أو أنس الدغيم فستظنها من شعر البوصيري أو البرعي، وأن شاعرها من شيوخ الصوفية المعجونين بالحب حتى الثمالة.
ويقترب أكثر مع صاحبيه علي وفاطمة، يريد أن يحظى بنور محمد ودفئه وحنانه، ويأوي إلى مصدر النور كفراشة تحن إلى مجد السماء فتلقي بنفسها في لهيب النور جذلانة فرحة، فليس من سبيل لذلك الطهر الخالد إلا بالاحتراق باللهيب، إنه يتحول في موقد المصطفى إلى لؤلؤة تشع ضياء بعد أن قهر الموت وحقق ذاته خالداً سرمدياً يشرب من شلال النور، ومع أنه يؤمن أن ماءه العذب ينبوع العالم، ولكنه ظل حريصاً أن يشرب من الكأس الذي خص به المصطفى علياً وفاطمة!!! ويتحدث بروح العروسين الجميلين: خذنا إليك .. خذنا إلى نورك.. خذنا إلى طهرك…..
ومع أنه كتب قصيدته محمد وهو في يفاعة الشباب، ولكنه ظل يحن إلى ذلك المعراج المقدس إلى آخر أيامه، وكتب وهو عجوز إلى صديقه تسلر: إن الدين الإسلامي بما فيه من ميثولوجيا وأخلاق يتيح لي أن أكتب شعرًا يوافق سِنِّي. فالتسليم المطلق بإرادة الله الخافية علينا، والنظرة المرحة المحيطة بالحياة الأرضية التي تبدأ وتعود على الدوام في صورة دائرية ………
وبعد أن يمضي طويلاً في شرح روح الرضا والأمل الذي يقدمه الإسلام، والنعيم الروحي الذي شهده في خيمة علي وفاطمة وهو يرقب خطوات محمد، ف يمهرجان النور الخالد راح يقول جذلاناً: ما الذي أبتغيه في خريف العمر أكثر من هذا؟!
وراح يرسم بحبور حلمه الجميل في ليلة القدر التي نزل فيها القرآن في غار حراء: أيمكن لهذا القلب العاشق أن يركب بُراق محمد ويحلق في السموات الفسيحة، ويحتفل بتلك الليلة المقدسة التي أُنزل فيها القرآن …..
ولم يتردد أن يقول وهو شاهد على أفول العصور الوسطى المظلمة: إذا كان معنى الإسلام هو التسليم لله، فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعاً..
لا أريد أن أتحول على هذا المنبر إلى واعظ ماكر يلتقط نثار الآخرين ويصيغ منها نرجسيته وغروره، ولكنني بالفعل شعرت بالهول وأنا أقرا للشاعر الغربي ديوانه الشرقي، بروح فريدة يرسم فيها الأفق العاطفي والروحي للقاء الأمم، لعلنا نوقف سيل الكراهية التي صار لها في بلادنا منظرون وفلاسفة، يستمعون القول فيتبعون أسوأه وأشأمه وأشقاه وألأمه، ويرسمون الشرق والغرب علاقة كراهية مطلقة، لايجمعها شيء حيث الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً إلا في ظلال السيوف!
إنني بالطبع لا أتحدث عن نبي مقدس، فقد ترجم غوته مسرحية بائسة لفولتير بعنوان محمد، جاءت في عكس هذه السياق الجميل، والكلام فيها يطول، ولا أظنه يرفع بها رأساً.
حين نروي عن غوته فنحن دون شك نروي عن ألف شاعر ألماني وألف حكيم أوروبي وألف مدرسة، ونروي عن ساحات عريقة ومسارح صاخبة ولوحات عميقة تعكس روح التنوير الأوربي، ولا مبالغة أبداً في هذه القراءة، فالرجل الذي بوأته الأمة الألمانية العظيمة مكان نبيها الروحي قد أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفاً، وقد قبلت الأمة الألمانية بحبور رسالته وشوقه، ويمكننا دون تكلف أن نلتمس هذا الاحترام العميق في البعد الإنساني لقوانين الهجرة واللجوء، التي تأسست على منطق الإنسان أخو الإنسان، والخلق كلهم عيال الله، وأن الغرب العظيم فقير إلى سحر الشرق وشلال النور وروح الأنبياء.