Uncategorized مقالات

تبادل المحبة – تولستوي والنبي محمد

ليو تولستوي 1828-1910 أشهر أدباء روسيا وشعرائها، وأكبر فلاسفتها الإنسانيين، ويعتبر أبرز من أسس لثقافة اللاعنف في العالم، عبر سلسلة كتب في الحرب والسلام أشهرها كتابه: مملكة الرب بداخلك.

اشتهرت روايات تولستوي في العالم وطارت شهرتها في القارات السبع وخاصة روايته الحرب والسلام التي وصفت بأنها إلياذة العصور الحديثة، وفيها كتب تولستوي الجانب الإنساني من الصراع المتوحش المرعب الذي شهدته روسيا في مواجهة الغازي نابليون والمقاومة التي أبداها الروس بقيادة كوتوزوف، كان يقدم فيها بريشة بالغة التأثير مكان الإنسان في توحش الحرب، وحق الإنسان في انتظار المستقبل الأبيض على الرغم من غبار الحروب، وفي روايات تولستوي كلها لا يوجد إنسان شرير بالمطلق، وعلينا أن نبحث عن الإنسان حتى في حنايا أشد الناس فتكاً ودموية.

ولم يتوقف تولستوي عند حدود الصراع السياسي القائم، بل دخل إلى أعماق الإنسان وكتب فلسفة أخرى للحرب والسلام ومتأثراً بشكل خاص بالفيلسوف الروسي فيودوروف الذي كان يبشر بعالم من السلام، وكان يكتب بمرارة عن واقع الإنسانية المتوحش ويشرح بؤس الحضارة في عالم لا أخلاقي فبينما يُترك الفقراء تحت رحمة موجات الجفاف والفيضانات والحروب، تبقى الجامعات مجرد ساحات خلفية للمصانع وثكنات الجيش، حيث أصبحت في خدمة التصنيع والعسكرة.

يدرك تولستوي أن التاريخ الروسي هو تاريخ صراع طاحن تحكمه الحدود الدامية مع الإسلام وأشدها تلك الحروب التي لم تنقطع مع تركيا العثمانية ثلاثة قرون، وقد عاش الروس قروناً تحت حكم مغولي إسلامي سيطر على جنوب القارة الروسية أيام القبيلة الذهبية في قازان وسراتوف، وقد عرف تولستوي آثار الحروب المدمرة التي خاضها إيفان الرهيب وكاترين العظيمة ضد المسلمين في قازان والقوقاز وكذلك ضد الدولة العثمانية وخصوصاً معركة شيسما الساحقة 1770 وعاصر بنفسه حرب القرم الضارية بين روسيا والدولة العثمانية 1856 وكذلك الحرب الأرثوذكسية التي قادت فيها روسيا تحالفاً هائلاً من بلاد البلقان ضد الإسلام التركي، وكانت من أكثر الحروب همجية ودموية وغضباً وعصبية دينية.

لقد دفعت تلك الكراهية البلهاء جيوش روسيا الجرارة إلى ارتكاب أفظع مجازر التاريخ وتمت إبادة الآلاف من الأديغا والبشكيريين والشركس، وكانت تلك الحملات المتوحشة تحظى بتاييد ساحق حتى على مستوى الكنيسة الأرثوذكسية التي اعتبرتها أشد الحروب الصليبية ضرورة وثواباً وأجراً.

وكان أكثر ما أيقظ في نفسه الغضب ضد التوحش الديني هو خدمته الإلزامية التي أداها في تتارستان وبشكيريا والقوقاز حيث أتاحت له التعرف عن قرب إلى المسلمين، وعرف في تلك الشعوب الصابرة إرادة هائلة للحياة والكرامة، وأنهم ليسوا أمة مسكونات بجينات الإرهاب كما يقدمهم القياصرة الروس وحاشيتهم المتعصبة السوداء، وتعرف إلى مشاعرهم البيضاء وحياتهم الريفية النقية، وأدرك أن الرصاص يذهب في اتجاه مكر القيصر وليس في اتجاه حماية الحياة.

في هذا الأفق الدامي اختار تولستوي أن يقدم رسالة أخرى للعالم أن الأصل هو إخاء الأديان وكرامة الإنسان، وفي غبار الحرب الضارية ورائحة البارود التي لم تتوقف راح تولستوي يزرع بستانه بالمحبة والأمل والإخاء، ورفع صوته بشجاعة يخاطب الامبراطور الروسي والمحارب الروسي والشهيد الروسي أن الإسلام رسالة حب وسلام وأن محمداً من أعظم رواد الحرية والسلام.

ليست البطولة أن تكتب عن الحب في زمن السلام، ولكن البطولة أن تكتب عن الحب في زمن الحرب وعن الإخاء في عصر الكراهية.

تحدث تولستوي بلغة صادمة صاعقة على الأباطرة والأساقفة والشعب جميعاً، وكتب بأوضح صيغة أن الضفة الأخرى التي تحاربون هي أيضاً أرض ضمير ويقين وإشراق وأذواق، وأن محمداً الذي كان الكهنة الغضبون يصفونه بالشيطان الرجيم هو أشهر رجال الله في العصور الوسطى وهو الرجل الذي أنقذ آسيا من الوثنية إلى الإيمان، ويكفي محمد فَخْرًا أنه خَلَّصَ أُمَّةً ذليلة دموية مِن مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح أمام وجوههم طريق الرُّقي والتقدم، وأن شريعة محمد ستسود العالَم لانسجامها مع العقل والحكمة.

من هو محمد؟ هكذا كتب تولستوي: إنه مؤسس الديانة الإسلامية التي يدين بها في جميع جهات الكرة الأرضية مائتا مليون نفس.

ولد النبي محمد من أبوين فقيرين، ومال منذ صباه إلى الانفراد في البراري والأمكنة الخالية؛ حيث كان يتأمل في الله ويألم للجهل الذي ساد في قومه حين عظموا الأحجار واتخذوها آلهة وبالغوا في التقرب إليها واسترضائها، وقدموا لها الضحايا المختلفة؛ ومنها الضحايا البشرية، ومع تقدم محمد في السن كان اعتقاده يزداد بفساد تلك الأرباب، وأن ديانة قومه ديانة كاذبة، وازداد هذا الاعتقاد في نفس محمد حتى استقر الاعتقاد الراسخ في فؤاده، وقد دفعه عامل داخلي إلى أن ﷲ اصطفاه لإرشاد أمته، وعهد إليه هدم ديانتهم الكاذبة، وإنارة أبصارهم بنور الحق.

لكن تولستوي لم يكتف بإطلاق آرائه مرسلة، بل جمعها في كتاب خاص أطلق عليه اسم حكم النبي محمد، واختار فيها مجموعة من الأحاديث النبوية الكريمة، وكان يركز على حقيقة واحدة وهي أن الأديان متشابهة في دعوتها للخير، وأن الصورة التي ترسمونها عن النبي محمد ليست إلا حصيلة الحرب والأحقاد، وأن الأديان كلها تدعو إلى ذات الحقيقة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

وأكثر ما تحدث عنه تولستوي هو صفاء التوحيد في العقيدة الإسلامية ووضوح الرؤية بين الخالق والمخلوق، وحاجة البشرية لعقيدة واضحة ونقية كالإسلام، ووقف معجباً عند حديث الرسول الكريم: إذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت منه ذراعاً وإن تقرب مني ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة!

ويمكنك اليوم أن تقرأ كتاب حكم النبي محمد باللغة الروسية والعربية والإنكليزية، وقد ترجمه عبد الله السهروردي إلى العربية، وهو متاح في مواقع كثيرة.

لم يمر موقفه هذا بالطبع مرور الكرام فقد قامت حملة كنسية ضارية ضد أفكاره المعارضة للحرب الصليبية المستمرة واعتبر موقفه هذا توهيناً لنفسية الأمة وإطفاء لجذوة الحرب الواجبة دفاعاً عن الرب، ولكن تولستوي لم يتوقف أبداً عن مقالاته المتتالية في الدفاع عن المسلمين ومشروعهم الحضاري، وقدرة هذا الكوكب على استضافة الجميع، وأن الأديان كلها تدعو إلى حقيقة واحدة.

لم يكتم تولستوي نيته في بناء ديانة جديدة قائمة على السلام، ولكنه بالتأكيد لم يكن يبحث عن نبي جديد لهذه الديانة، فقد راى أن الأنبياء متوفرون وجاهزون وقد كتبوا ما يكفي ولكن الإصلاح المطلوب هو إصلاح الإنسان الذي دمرته الحروب وأطماع السياسة فحول حياته إلى جحيم، ودينه إلى كراهية وتسامحه إلى انتقام، وفي كتبه كلها كان يتحدث بعزيمة وإصرار عن قدرة الإنسان على صناعة الحب في زمن الحرب، كأنما يقرا قول الله: كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله.

تولستوي ليس مجرد صوفي محترق في عالم من الكراهية، إنه في العمق صورة لمجتمع عظيم ينتشر في روسيا كما في كل مكان في العالم يؤمن بالإنسان ويكره الحرب.

ملايين الروس والأوكرانيين اعتنقوا أفكار فيلسوف السلام والمحبة العظيم وقاموا بمحبة بتشييد تماثيله في كل مكان في روسيا وأوكرانيا، ونصبوا من تراثه متحفاً هائلاً في موسكو، ولا تزال أعماله تطبع اليوم في كل مكان وفيها حبه للرسول الكريم محمد، بكل اللغات العالمية.

في الجانب الإسلامي فقد دخلت في روائع الأدب العربي رسالة من الشيخ الإمام محمد عبده وجهها لتولستوي يشكر فيها موقفه الإيجابي المنصف، وقصيدتان رائعتان الأولى لأمير الشعراء أحمد شوقي

تولستوي تجري آية العلم دمعهـــــــا**** عليك ويبكي بائس وفقير

ورائعة حافظ إبراهيم ومطلعها:

رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى**** لمدحك من كتاب مصر كثير

 لا أروي بالطبع هذه المواقف لتولستوي من زاوية نرجسية قائمة على قاعدة: والفضل ما شهدت به الأعداء، فالعالم ليس عدواً لنا، واعتراف الناس بما لدينا من قيم خير، يوجب اعترافنا بما لديهم من قيم الخير، وإذا حييتم بتحية فحيّوا بأحسنَ منها أو ردوها، ووجود حكماء في كل أمم الأرض يحترمون رسول الله يوجب علينا احترام الأمم بأنبيائها وفلاسفتها وقديسيها مهما كانت جهة الصلاة والإشراق الذي يقصدون.

Related posts

في أولمبياد طوكيو خطوة نحو الفطرة

drmohammad

رمضان صلاة في محراب الإخاء الإنساني

drmohammad

وكيبيديا… الإيمان بالإنسان

drmohammad