مقالات

لاهوت الإخاء

ميلاد مجيد… المحبة بعيداً عن اللاهوت

نعيش اليوم أجواء عيد الميلاد المجيد، حيث يحتفل العالم بعيد ميلاد السيد المسيح، ويتبادل الناس التهنئة والتراحم والتواصل، وهي مناسبة نقدم فيها التهنئة للمسيحيين في هذه الأيام الأليمة والأثيمة حيث تزدهر الكراهية والظلم، ويعود الحب خاسئاً وهو حسير.

وبعيداً عن المسخرة المشهورة هل يجوز تهنئة الناس بأعيادهم، وهو سؤال لا يوجد في الدنيا أزنخ منه، وقد بات سمة فاضي الأشغال كل نهاية عام، وعادة ما يجد هؤلاء من يثير فيهم حفيظة الكراهية ويحرم على الناس أن يهنئ بعضها بعضاً، وهو موقف في غاية السخف، ولا معنى على الإطلاق لطرحه في حوار أو جدل، بل ينطبق على هؤلاء الموتورين من التهنئة والمحبة: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.

والإيمان الإسلامي بالمسيح قوي جداً، فهو أكثر من نبي وأكثر من رسول، ويعتقد كل مسلم أن المسيح رسول الله ونبي الله وروح الله وكلمة الله، وهذه أوصاف لم يحظ بها أحد من الأنبياء على عظيم منازلهم وعلو أقدارهم، ويعتقد معظم المسلمين أيضاً أن السيد المسيح لا زال حياً وأنه سيأتي إلى الأرض في وقت مناسب لتمتلأ الأرض بالخلاص والنعمة، ويسود العدل والسلام ويرعى الحمل مع الذئب والحمام مع الأفاعي ويعود الإنسان أخا للإنسان.

وفي زيادة لافتة في الإيمان فالمسلم يعتقد أيضاً أن المسيح تكلم في المهد، وهي معجزة لا وجود لها في الأناجيل الأربعة، ويعتقد المسلم ايضاً أن المسيح قد رفع عن خشبة الصلب وأكرمه الله بالنجاة ورفعه إلى السماء في مشهد جلال وتكريم، فيما يرى الإيمان المسيحي أن المسيح مات على الصليب.

ومن الجانب المسيحي فمن المنطقي القول إنه لا يوجد في النص الديني المسيحي ما يشير إلى الرسول الكريم، حيث تقدم الإنجيل على القرآن بستمائة عام، ولكن زخم الإيمان الإسلامي بالمسيح وطهارة أمه العذراء والروح القدس والحواريين المقدسين ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، وكذلك سورة آل عمران المخصصة لأسرة المسيح، وهي من أكبر سور القرآن وسورة مريم المخصصة للسيدة العذراء، كل ذلك فرض على اللاهوت المسيحي أن يتحرك للاعتراف بالإسلام وبالفعل فقد أدى ذلك التوجه ثمره وانعقد مجمع مسكوني عالمي كبير عام 1965 وقد صدرت عنه الوثيقة التاريخية المسماة “نوسترا آتيتا” Nostra aetate وهي الوثيقة التي تنص بوضوح باسم كل آباء الكنيسة الكبار أن الإيمان الإسلامي إيمان عظيم وأن الكنيسة تقدره وتحتفي به فهو إيمان إبراهيمي، وإن المسلمين وإن كانوا لا يقولون بألوهية المسيح ولكنه يقولون بنبوته ولا يتردد في ذلك مسلم.

ولكن مع كل هذه الحقائق لماذا لم يؤت هذا الإيمان أثره في بناء صف متحد؟ ضد الظلم والقهر؟

وقد ظهر هذا التحالف الإيماني بوضوح في مواجهة الانحرافات الأخلاقية من الشذوذ والإجهاض وسفاح المحارم ومحاربة الإدمان والقمار وغيرها…وكان ذلك أمراً جيداً، ولكنه لم يخط الخطوة الضرورية الأساسية نحو التلاحم في مواجهة الظلم والعدوان، وكانت محنة غزة أشد الأيام حزناً وبؤساً، حيث مضى الجانب المسيحي في الدول الأساسية في العالم للوقوف مع إسرائيل بشكل قميء دنيء لا يعكس أي قيمة أخلاقية أو ضمائرية.

زعماء الغرب الذين توافدوا على تل أبيب في تشرين الأسود لم يقرؤوا سطراً من روح المسيح الآمرة بالتسامح والمحبة أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم صلوا لأجل الذين يبغضونكم.. لم يقرؤوا شيئاُ من فصل إذا ضربك أخوك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر إذا طلب منك رداءك فأعطه إزارك..، بل وقفوا صفاً واحداً يرتلون مع نتنياهو نص أشعيا من العهد القديم وهو النص الذي كان يأمر بذبح كل فلسطيني وقتل النساء والأطفال وانتهى بعبارة ولولي يا فلسطين فقد ذبح كل أبنائك”!!… وهو كلام لا يليق ببلطجي فاجر، فكيف يصدقون أنه كلام نبي، وهو أحرى أن يكون من كلام القتلة وسفاكي الدماء، ولست أدري ما حاجة البشرية لأنبياء يقومون بتدمير المدن وقتل النساء والأطفال والولولة على فلسطين.

وحتى لا نتكلم في مخاوف غير واقعية ونحن نعلم أن هؤلاء الزعماء لا يمثلون المسيح، ولكنهم للأسف يصلون في الكنيسة في الصف الأول، وحين تولى جونسون منصبه قبل شهرين كرئيس للكونغرس صرح على الفور أنه كمسيحي مأمور بنص الكتاب المقدس أن يكونوا مع شعب إسرائيل لأنهم أبناء الرب!! في ترداد ببغائي للمقولة الفاجرة أبناء الست وأبناء الجارية، وعلى فكرة فالمعمدانيون عموماً مؤمنون بذلك إلى الغاية فهم أبناء السيدة سارة ونحن أبناء الجارية هاجر!

نعم لقد أفسد اللاهوت المسيحي هذه الجسور الخضراء من الود والمحبة، حتى في الجانب الإسلامي فقد تم إفساد هذه الملامح الربانية من رسالة المسيح، وبدل من انتظاره ليساعدنا في الخلاص من الظلم والقهر والحرب، ووحدة القلوب وصدق النوايا، أورد الرواة أحاديث محيرة!! مقتضاها أن الرسالة التي سيأتي بها المسيح في آخر الزمان هي أنه سيكسر الصليب ويقتل الخنزير!! وهي مهمة لا تحمل ذرة من تسامح ولا رحمة ولا نعمة… وهي إيذان بولادة حروب جديدة حين يأتي المسيح الذي سيدمر ما يؤمن به المسيحيون وسيفرض عليهم التحشد لقتاله ويشعل حروباً جديدة، هو حيث تبدو رسالته بلا معنى، وأسوأ من ذلك ان تكون مهمته قتل الخنازير، ولا أدري ما معنى أن ينزل نبي من السماء بهيبة الله وجلاله وتكون مهمته أن يقتل خنزيراً أو كلباً، وهي مهمة يمكن أن يقوم بها شرطي متدرب أو أي حارس حظيرة.


هي ملاحظات سريعة ولا أريد ان أسترسل أكثر ولكنني حزين أن أعترف أن الجسور التي وصلها القرآن والإنجيل بين الأمتين الأعظم قد تم تدميرها بالكامل عن طريق التعصب والجهل، وللأسف فهو ليس جهلاً ناشئاً عن غياب الكتاب والقلم، وهو ليس جهل الرعاة والسباكين، بل هو جهل المقيمين في البيت الأبيض وقصر فرساي ووستمنستر وغيرها من قصور العالم المتحضر المزخرفة بالذهب والخاوية من الروح.

عيد ميلاد مجيد لأمة السيد المسيح، نحن شركاؤكم أيها المؤمنون النبلاء..  فقد اختطفوا منا أيضاً ديننا، واعادوا حرب الأديان، ورصفوها متقابلة تتبادل أحقاداً لا تنتهي في التاريخ وتم عن عمد تغييب رسالة المسيح في السلام والمحبة…


عليك نور الله أيها الفادي، فانت في عيون المؤمنين نعمة ورحمة، ولعل كلماتك البيضاء التي كان غاندي يقرؤها كل يوم ويتعلم منها حقوق الإنسان.. لعل هذه الكلمات تعيد جمع شتاتنا وقلوبنا بعيداً عن أطماع السياسية وشروطها التي أفسدت بشكل ماحق كل كلام في إخاء الأديان وكرامة الإنسان.

Related posts

إلغاء التجنيد

drmohammad

مخيم الهول – أجساد مقهورة وأفكار منشورة

drmohammad

د.محمد حبش- ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج؟ 20/1/2006

drmohammad