مقالات

معشوق الخزنوي – إمام الشهداء

قبل ستة عشر عاماً رحل الإمام معشوق الخزنوي أحد أبرز رجال الحرية في سوريا، ولعله الرجل الوحيد في تقديري الذي كان يستطيع ان يصنع فرقاً لو كتب الله له أن يشهد هذه الأيام السوداء…

كان يرفع على رأسه العمامة، ويختصر فيها شموخ المسلم وجذوره واستقلاله، وفي قلبه عذابات الشعب الكردي المظلوم، يطير بها من أفق لأفق ينشد وطناً من عدالة يعيش فيه الجميع بروح واحدة لا فضل لعربي على أعجمي ولا لكردي على عربي، فالكل سواسية والإنسان أخو الإنسان.

تعلقت به الآمال في كردستان، وصارت كلماته إلهاماً يبعث في الشباب الغاضب ذكرى كاوا الحداد، وتتدفق من نظراته مشاعر ممّ وزين التي كانت ترسم نيروز الكرد الأخضر، وتوقهم المستمر على القرون لإنشاء ارض الحب والمجال.

سعدت بفرحه بابنه مراد في قامشلو، حيث الآلاف شاركوه فرحة الأرض الخضراء، وهناك تكلم في الحب والجمال، والأمل والرجاء، والأسرة السعيدة، فكانت لوحته في الفرح والنضارة والزهور تسامي ما كتبه شعراء العشق والوجد، وتغمرك بنسيم المحبة والرضا وقرة العين، ولكن غير بعيد من هذا المشهد الوردي الجميل كانت وقفته الشجاعة مع الشهيد فرهاد الذي قضى تعذيباً في سجون النظام، وهناك أقسم لدم فرهاد بأنه سيخلد في تاريخ كفاح كردستان، وقال للجلاد الغاشم بشموخ فريد، فرهاد سيبقى وأنتم زائلون، وما ننشده من مجد التاريخ لا يشبه ما تبحثون عنه من زيف وغرور:

ممكن غنى أبرويز يشرى     وجراح فرهاد هيهات تشرى

والذي يجعل القلندر حراً       أنه لا يطيــــــــق للسر نشراً

هكذا كان معشوق يتحرك بعمامته الشامخة فيوقد الشموع في الكنائس ويرفع الأذان في المساجد ويحترمه الشيخ والقسيس، ويحتفي به المحراب والقداس، وينادي للمحبة بكل شجاعة كأحد أقوى أصوات الأمة في إخاء الأديان وكرامة الإنسان.

لقد خاض رسالته كمقاتل من أجل الحرية وفارس للكلمة، وخاض جولات طويلة مع طغاة الكهنوت الذين أرادوا العمامة في خدمة الاستبداد، ولن أنسى وقفته في مؤتمر عمان حين كان عدد من رجال الدين قد أعدوا خطة لمحاسبة كل من يفتي بغير إذن ومحاكمته، ومنع الناس ان يفتوا إلا بإذن من المرجعية، وتحت عنوان مواجهة فوضى الفتاوى أرادوا قمع الفكر وخنق الحرية الفكرية، وهناك صرخ معشوق إنها محاكم التفتيش الجديدة والله!! أننصب محاكم الفكر ونعيد قمع الكهنوت على رقاب الأحرار؟؟؟


كان حرياً بنا إذا أردنا قيام هذه الأمة ونهضتها أن نوفر منصة الحصانة لأصحاب الرأي، وأن نتعود سماع الرأي الآخر مهما كان مخالفاً في الفقه أو العقيدة، فالله جعل من أعظم آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم وأديانكم ومذاهبكم وقراءاتكم وتفكيركم، والأمة التي لا تقبل وجود الراي الآخر أمة هالكة بائدة، يحفر قبرها بيديها…

الهراطقة الذين تطاردونهم أيها السادة هم الأحرار الذين لا يخافون في الله لومة لائم، إنهم أحرار لا زنادقة، وشرفاء لا مرتزقة، ومبدعون لا ببغاوات، يقولون ما يعتقدون دون خوف من سطوة اللاهوت، وهؤلاء صورة مجد للأمة وإن كانوا قلقاً مضنياً لتجار الأوهام.


كان موقفاً صادماً لرجال الإكليروس الذين يحلمون بعودة السطوة اللاهوتية على عباد الله تلك السطوة التي تمنحهم دون سواهم صكوك الغفران، فكانت صرخة معشوق هي الصيحة التي ايقظتهم من أوهامهم ليدركوا أنهم في عالم جديد.

لقد فرض احترام العمامة وقدم أكبر دليل على أن التنوير والتجديد الحق هو ذلك القادم من ضياء العمائم ونور المحراب.

ستة عشر عاماً ونحن نعيش ذكراك، نرقب روحك العالية في المجد وأنت ترقى بها في الملأ الأعلى، حيث تخلد رسالتك في ضمائر الأحرار في الأرض، يرشفون بها نداءك الأسمى من عالم الملكوت، وأذكر كلمات كتبتها فيه أيام وداعه النبيل:

لماذا أيها الفينيق الخالد، لماذا يرسم القدر سطوته بهذه المرارة؟ أما أنت فقد أديت رسالتك ولكن ألم يكن في وسع هذا الدهر اللئيم أن يمنح أحبابك مزيداً من فكرك ورسالتك.

إنهم أيها الشاهين العالي يقرؤون رسالتك في كل مكان، فأنت لم تكن محض رجل محراب على أنه كان يشقق تحناناً لرهبة سجودك، ولم تكن محض مناضل سياسي على أن رسالتك ضربت جذرها في ضمائر شعبك، ولم تكن محض مفكر ثائر على أن كلماتك لتمزق صحائف الأسفار، ولم تكن محض مصلح اجتماعي على أن ذوي الحاجات يلوذون ببابك المتواضع، لقد كنت ذلك كله، وأكثر من ذلك.

من حق أهلك في وطنك الحلم أن يقرؤوك ثائراً كردياً يؤذن في مسمع العالم بمظالم شعبه، ويسمعه الناس كما لم يسمعوا أحداً من قبل في صيحة الحق والعدل، ومن حقهم أن يجعلوا يومك مناراً وذخراً، وأن يرسموا ملامح عمامتك الشامخة على قوس كردستان حيث جراح فرهاد لا تزال ترتوي بها روحك الطهور وتروي ذكراها.

ولكننا في كفاح التجديد نقرؤك من أفق آخر، نقرؤك ثائراً متمرداً على الأساطير العتيقة التي يتاجر بها كهنة المعبد باسم الرب، نقرؤك ثائراً متمرداً على الفريسيين والكتبة، تقلب عليهم موائد القمار الديني، وتحطم الأوهام المتربصة بكل صاحب فكر حر، آه للدهر أيها الجبار، لقد دفعت حياتك ثمناً لرسالتك الجريئة والشجاعة ولكنك تمكنت من رفع الصوت عالياً في حين جبن الآخرون عن اللحاق بركبك، ومن يستطيع أن يدركك على مراكب الشهادة إلا من باع حياته وروحه ثمناً للمبادئ الكبيرة.

وما قتلوك وما صلبوك ولكن شبه لهم، وإن رسالتك أيها الجبار أقوى من سياطهم وسجونهم وأخلد من قبورهم وجحورهم ومدافنهم، غداً سيركل الدهر ما ركموه وستبقى رسالتك في ضمائر محبيك وعداً في الغد الآتي، يبشر سائر الليل بشمس الحرية الآتية، وكل آت قريب.

ها نحن على مسافة ستة عشر عاماً من صيحاتك الأولى، وقد غدت كلماتك إلهاماً للروح المتوثبة التي ألهبت جيلا كاملاً ينشد الحرية ويسعى لبناء عالم جميل يتشارك فيه العرب والكرد قيم الإسلام الكبيرة في الحرية والكرامة.

لا يوجد شيء في العالم يمكنه أن يمحو ذكراك من قلوب محبيك، أو أن يخفف من وقع ثورتك في ضمير القلوب الظامئة للحرية وفق عدالة الرسالة الخااتمة التي كنت تنادي بها كل يوم: أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى

ثمة كلام كثير أيها الجبار لم نقله بعد ولكنها الأيام سجل ناطق، ودرب الحرية أيها العزيز مفروش بدماء الشهداء وللحرية الحمراء باب يدق بالأيدي المضرجة.

سيرحلون وتبقى كلماتك، ويطويهم الدهر بكلكله ولكنه لن يجرؤ أن يقترب من لوحة مجدك، نحن الذين نؤمن بأن الله خلق العالم من أجل نهاية سعيدة، وأن الخلود كما قضت سنة التاريخ وديوانه لن يكون إلا للأبرار والأحرار.

 أيها الجبار حكايتك لن تمحوها الأيام وستظل ذكراك تبعث في الأحرار روح المقاومة والرسالة وتطارد الأشرار في أوكارهم وتسمعهم الكلمة القاصمة إن العاقبة للمتقين.

Related posts

د.محمد حبش- الفرق بين الجهاد والفتنة…والإصلاح والفتنة 6/5/2011

drmohammad

طالبان… وفوبيا النساء

drmohammad

د.محمد حبش- رسالة مكة…الكفاح الفلسطيني أمام الله والتاريخ…قراءة في فقه عام الجماعة9/2/2007

drmohammad