رحلت إليزابيث بعد سبعين عاماً على العرش وهي أطول فترة يمضيها ملك في الحكم، وقد اختتمت حياتها بتوديع بوريس جونسون وتكليف ليز رايس بحكومة بريطانيا العظمى، وبعد أن أنجزت الحدثين لوحت للصحافيين المشاركين في تغطية الحدث بابتسامة ودودة، وسلمت وصيتها لمن يقرؤها في محافل العالم، وانصرفت من فورها إلى فراش الوداع!
لا أعتقد أن أحداَ يملك قلباً ومشاعر يمكنه أن يغض الطرف عن المشهد العاطفي الهائل الذي يغمر هذه الساعة ملياري إنسان في العالم يعيشون في دول الكومنولث، ولا يعرفون ملكة سواها، ويشاهدونها في صدر قرارات حكوماتهم وعلى صدر العملة الوطنية في رمز لنجاح هائل حققته بريطانيا في التحول من العصر الاستعماري إلى العصر الديمقراطي.
حتى من بلغ الثمانين من العمر فلن يتذكر ملكة سواها على رقعة بريطانيا ودول الكومنولث التي تمتد في الأرض على 37 مليون كم2 ويعيش فيها 1921 مليون إنسان وتشمل الهند وباكستان وبنغلاديش وكندا ونيجيريا وجنوب أفريقيا وأستراليا وهي بذلك أكبر جغرافيا في التاريخ تنظمها تقاليد سياسية واحدة وتنتمي إلى عرش واحد.
وأعتقد أنه ليس فقط البريطانيون؛ بل المليارات الثمانية على هذا الكوكب سيراقبون بمتعة وفضول مشاهد الرحيل الفخم للمرأة التي جلست على عرش بريطانيا لسبعين عاماً، وسيشعر الغاضبون تدريجياً بأنهم يتعاطفون في مشهد الموت وجلاله، وإن كانت ثقافتهم لا تزال ترضع من ثدي أنظمة الصمود والتصدي والمقاومة التي تعتبر أن فشلها الماحق في الصعد جميعها كان بسبب الأجنبي وكيده وشروره وعلى رأسه بريطانيا.
لست بريطانياً، ولا أنتمي لأي من دول الكومنولث، والعرب جميعاً لم يدخلوا الكومنولث، ولكنني إنسان، وأشارك الناس حزنهم وفرحهم، وقناعتي أن هذا ما يجب أن يفكر به المسلم عندما يشاهد شعباً أو أمة يتحدث عن رموزه التاريخية باحترام وتقدير.
وقد تعمدت أن أتجنب الجدل الديني في الترحم على غير المسلم؛ إذ إن الجنة اليوم لها وكلاء حصريون دعاة على أبواب جهنم، يملكون مفاتيح الجنة والنار ويزجون الناس في النار على الهوية، وهم مستمرون في تفريغ قيم الدين من الرحمة وتحويلها إلى خطاب شماتة ومكر، وصرنا حين نذكر بالرحمة شخصاً غير مسلم، نعرضه لما لا يطاق من الإهانات والتسفيه ونمارس بذلك الإساءة إليه، حيث يتبارى المتعصبون في خطاب التكفير والتحقير بصورة بذيئة من الجهل والحقد والغرور لا تليق بأي دين!
ولكنني أتحدث عن الجانب الإنساني لشركاء لنا في هذا الكوكب، تقاطعت مصالحنا معهم آناً وتدابرت آناً آخر، ولكننا نعيش على الكوكب نفسه، وكان يجب أن نكتشف المتفق والمفترق ونتعاون على البر والتقوى، ولكن جولة سريعة في العالم الأخضر، ستجعلك على يقين أننا تلقينا في مناهجنا التعليمية توجيهاً مركّزاً لتفسير العالم كله من حولنا بما فيه من حضارة ونجاح وعلوم وتكنولوجيا بكلمتين اثنتين: فخطابنا السياسي يقول إنهم استعمار!! وخطابنا الديني يقول إنهم كفار!
وهكذا تشرّب جيل كامل ثقافة البعث الحاقدة على العالم، التي لا تفهم نجاح الأمم إلا تآمراً وكيداً ومكراً، وتترك المسلم في فضاء تائه، لا يثق بالعالم ولا يثق به العالم، وبذلك فلن يجد فرصة للتفوق ولا للنهوض، وهي تربية بنيت على سوء الظن بالبشرية، والحقد على كل حضارة ناجحة واتهامها بأنها مسروقة من خيراتنا وبلادنا، وتفسير كل تفوق حضاري بأنه مكر أوغاد، يوجب على السلطة التدخل القمعي لمنع تأثير هذه الحضارة في مسامع الجيل المقاوم الآتي وخاصة خطاب الديمقراطية والعدالة والمساواة والمواطنة الماكر الذي يهدف إلى تدجيننا وتحويلنا خرافاً يذبحها الأوربيون والأمريكيون في عيد الهلوين!
إنني أشعر بالأسف فعلاً أن يكون خطاب هذه الأمة في علاقاتها الدولية قائماً على الانضباع من الآخر والكفر بالآخر، وقد قام الاستبداد بغلق نوافذ المعرفة وأرسل جيلاً كاملاً من خيرة أبناء سوريا إلى جامعات ومعاهد روسية ورومانية وتشيكية وليتوانية وجورجية في حين أن المعرفة كانت في مكان آخر وبلغات أخرى، واستيقظ آلاف الطلبة الذين درسوا بحماس على حقائق صامة، وهي أنهم درسوا نخباً ثالثاً ورابعاً، ولن يستطيعوا المنافسة أبداً مع الجامعات التي آمنت بالعصر واحترمت نجاح الأمم وآمنت بقوة المعرفة.
وتكمن الدبلوماسية البريطانية في فكرة الكومنولث، وحين انتهى عصر الاستعمار في الستينات من القرن الماضي كانت بريطانيا أول من أتقن التحول والتكيف مع الواقع الجديد وخرجت جيوشها من البلاد المستعمرة، ولكنها حولت مستعمراتها إلى أصدقاء… ونظمت رابطة الكومنولث الخاصة بالدول التي كانت تحت الاستعمار البريطاني وهي 53 دولة ليس فيها أي بلد عربي، وكلها تصدر قراراتها باسم صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا العظمى…
والكومنولث رصيد دبلوماسي واقتصادي هائل للدول المشاركة، وقد أسهم تعاونها كثيراً في التنمية تعليمياً وصحياً وتجارياً، والانتماء إلى الكومنولث طوعي ولكن لا أحد يريد الخروج منه، والدول الإسلامية في الكومنولث وأحزابها الإسلامية تصر على التمسك به، وعددها أكثر من سبعمائة مليون مسلم في باكستان وبنغلاديش ونيجيريا وتنزانيا والهند وغيرها.
لست محامياً عن الحضارة الغربية ولكن يحزنني أن أنظمة الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة التي أهدرت ثروات الشام والعراق واليمن وليبيا ومارست الاستبداد بأسوأ صوره، وقسمت المجتمع شاقولياً وأفقياً، وفجرت روح العداوة والكراهية في المجتمع، وقسمت أفراده إلى مناضلين وخونة، وفق الولاء والتزلف، وتسببت في حروب أهلية ماحقة، لا تعترف ببؤس ما صنعت وبدلاً من الاعتراف بالفشل فإنها تتهم الأمم الناجحة بالتآمر علينا وسرقة ثرواتنا وخيراتنا.
إن القرآن الكريم لم يقل أوروبا ولا أمريكا، ولا الروم ولا الفرس، ولا الهند ولا الصين، ولكن قال قل هو من عند أنفسكم، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!
لا أبرئ بريطانيا من وعد بلفور، ولكنني لا أبرئ الحكام العرب في خيبتهم وفشلهم، فلا هم وقعوا على قرار التقسيم ليربحوا فلسطين، ولا هم نجحوا في تحرير الأرض ليربحوا أنفسهم، ولا زال الصراخ والعويل سيد الموقف.
رحلت إليزابيث، المرأة التي شهدت تحول بريطانيا من قوة استعمار غاشمة إلى قوة تعاون دولي، وكان رحيلها موعداً لمراجعة فهمنا للعالم، فحل حان الوقت أن ندرك أن مصالحنا تبنى على الشراكة مع هذا العالم، القائم على الدبلوماسية والقانون الدولي، وصحيح أن العالم ليس جمعية خيرية ولكنه ليس وكر ذئاب!!
أما ما حصل في التاريخ من فظائع واحتلالات وارتكابات أولها حرب الأفيون وليس آخرها تهجير الفلسطينيين في النكبة فهو ماض من المظالم لا يشرف أحداً، والغرب الحضاري يقوم كل يوم بمحاسبة تاريخه وانتقاد رجاله والبراءة من السلوك المتوحش، وبالمناسبة فهي كأس شربتها كل الأمم، ولم يكن أداؤنا في حروب الفتوح في العراق وفارس والهند وشمال أفريقيا والبلقان، أقل دموية من أدائهم في حروب الاستعمار، ولا بأس فقد كان هذا هو شكل العالم، وعلى هذه الأمم أن تبرأ من ماضيها المخزي سواء سمي استعماراً أو فتوحاً أو حروباً أو جهاداً مقدساً، وقد صار هذا كله بعجره وبجره من الماضي وعليه ينطبق قول الله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ.