مقالات

كورونا… موقف تربوي


كورونا … موقف تربوي

في البداية حين سمع الناس بكورونا كان الحديث الطاغي على مواقع المحافظين أن كورونا انتقام الله من الصين لأنها تعلن اعتقاداً لادينياً وتضطهد المسلمين الإيغور…. بعد أسبوعين صار مشهد المراقد الشيعية التي تتعقم مناسبة أخرى للحديث عن فساد عقائد الشيعة وأن مراقدهم هي مصدر الوباء ولذلك يعقمونها…. ولكن بعد فترة شاهد الناس مشهد الكعبة المشرفة نفسها وقد عصف بها الوباء، وعندها صار الجميع (أو يفترض أن الجميع) يشعر بالخجل………

متى نتخلص من هذه الأوهام التي تفرضها على المخيلة الشعبية ثقافة مسمومة ضارة، ناشئة من احتكار الله واحتكار الخلاص واحتكار الجنة واحتكار الأرض أيضاً…!!

متى نعلم أن الكوارث جزء من طبيعة الحياة وجزء من صراع الإنسان للبقاء فيها، وهي تتصرف بسنن فيزيائية صارمة لا مكان فيها لسواد العيون….

الدراسات مستمرة في كل الدول والمختبرات العلمية عن طبيعة هذا الوباء وآثاره ونتائجه، والوصول إلى علاج ينقذ البشرية، لقد تمت دراسة الوباء على أساس ذكور وإناث، وصغار وكبار، وأصحاء ومرضى، وبلاد حارة وبلاد باردة، وبلاد رطبة وبلاد جافة… وغير ذلك، وستستمر هذه الدراسات للوصول إلى طرف الخيط الهادي إلى السبب الجوهري لولادة الفيروس وانتشاره وسبل مقاومته…

ولكن لم يدرس أحد هذا الوباء بوصفه مصيبة سنة وشيعة، أو إسلام ومسيحية، أو اشتراكية أو راسمالية، أو لاهوتية أو إلحادية … ولو طرح أحدهم دراسة الوباء بهذه المعطيات لكان مجنوناً، فالوباء لا تعنيه هذه الفوارق الصنمية التي بتنا نقسم بها مجتمعاتنا ونشتت بها طاقاتنا، ولا معنى في نادي العلم للعصبيات الفارغة التي نغذي بها صراعاتنا البلهاء التي لا تخدم قيامنا ولا نهضتنا ولا مستقبلنا في شيء.

الجميع ينتظر اللقاح، ويصلي بنصوصه المقدسة المختلفة للوصول إلى العافية، ولم يعد المسلم مهتماً أن يصدر اللقاح عن المساجد أو أن يظهر كإعجاز علمي في القرآن، ولم يعد المسيحي مهتماً أن يكون العلاج بركة من زيت السيدة العذراء، ولم يعد الهندوسي ينتظره من سيفا أو فشنو أو كريشنا، وكذلك البوذيون والكونفوشيوسويون لا يبحثون عنه في معابدهم، وكلهم يدركون أن المكان الذي سيطل منه هذا اللقاح الإنقاذي للبشرية هو دون ريب مخابر العلم والتجربة، ولا يهم في شيء شكل المناسك التي يؤديها الخبراء، ولا طول لحيتهم ولا حجم صليبهم ولا شكل قلنسوتهم، بل قدرتهم العلمية المكللة بالتجارب الموضوعية الدقيقة.

ليس هذا توهيناً من رسالة الدين ولكنه تمييز لها، وارتقاء بها، فالعلم هو من يصنع العقار والدين هو من يصنع الأمل، والعلم هو من يسهر على مراقبة الوباء، والدين هو من يمنح المرضى التفاؤل، والعلم يجري التجربة على المتطوعين والدين يدفع الناس للتطوع، وحين يتولى الكهنة المخابر ويصعد الأطباء على المنابر فسيضيع الدين والعلم جميعاً، فإن الله أقام العباد فيما أراد، وكل ميسر لما خلق له، والحياة اختصاص.

لقد انتهى العهد الذي تسيطر فيها الديماغوجيا على عقول الجماهير، بحيث يتم استلابهم بصراخ الكهنة والتمائم المقدسة، وبات الإنسان أكثر من أي وقت مضى مدركاً أن النص مهما كان مقدساً فهو نور يهدي وليس قيداً يأسر، وأن تحميله ما لا يحمل هو إساءة إليه وافتراء على الله واجتراء عليه.

إنها دروس متعاقبة تلك التي تقدمها الجوائح عندما توقظ في الإنسان حسه الإنساني بعيداً عن انتمائه الإيديولوجي، وتدفعه لإدراك الحقيقة وهي اننا نقف جميعاً كأسرة إنسانية متضامنة على اختلاف أدياننا ومذاهبنا وثقافاتنا أمام تحدي الطبيعة الأكبر، وأننا لن ننتصر عليه إلا إذا تجاوزنا حروبنا الجانبية السخيفة، وطواحين الهواء التي نطاردها وأدركنا بعمق أننا أسرة واحد على هذا الكوكب، ولا سبيل إلى الخروج من المجتمع الإنساني مهما اشتدت بنا نزعات الأنانية والفردية. 

لقد بات الجميع يدركون أكثر من أي وقت مضى أنهم على سفينة واحدة، وأن الحدود الدموية للصراع الديني هي حدود من أوهام، وأن المستقبل للعلم، وحين ينجح اللقاح فهو لا يحتاج لفتوى من أي دين، ولا يلزمه تزكية من أي كاهن، بل هو فريضة صحية وعقلية ومجتمعية ودينية ملزمة لسائر بني آدم، بقوة العقل والواقع، وهو ما أكدت عليه وصايا الأنبياء الكرام، فقد صرنا نركب سفينة واحدة، وصار الناس في هذه القرية العالمية كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وأصبحنا وفق الوصف النبوي كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في الأسفل إذا استسقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا؟؟…. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً… وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً.  


كورونا – موقف أخلاقي

على الرغم من هول الكارثة، ورهبة الموت…..

ولكن بعض الكاتبين بات يكرس كتاباته للحديث عن فشل الدين في منع الكورونا، وباتت الأحداث مناسبة للسخرية من الإيمان الذي بدا عاجزاً ومشلولاً في مواجهة كورونا!! وصار إغلاق الحج والمساجد مناسبة لاعتبار الإيمان فاشلاً والمساجد مضيعة للوقت..!!!

لا أدري لم هذا التجني؟ ومن قال إن مهمة المساجد إنتاج لقاح لكورونا؟ وماذا تملك المساجد من مختبرات البحث العلمي؟ ولماذ يصبح الواعظ الديني هو المسؤول عن فشل العالم في مواجهة الكوارث؟

يا أخي… المساجد أغلقت في سياق ما أغلق من مؤسسات الحياة… الجامعات اغلقت والملاعب أغلقت والمطارات أغلقت والمسارح أغلقت، فهل سنقول عن كل هذه المؤسسات إنها كانت عبثية وفاسدة وزائفة؟

المسجد موعد لهدأة الروح ونقاء الفطرة وطمأنينة القلب، أو هو كذلك بالنسبة لنصف الناس على الأقل، وهو بذلك شريك أساسي لمؤسسات الطب النفسي والموسيقا والمسارح والملاعب التي تمنح الحياة بعداً جمالياً وحيوياً…….

قد يكون بعض الخطاب الديني العابث مسؤولاً بشكل ما عن تسطيح عقول الناس، وافتراض المعجزات وتخدير الناس، ولكن لا أعتقد ان نسبة الذين ينتظرون من رجال الدين حلولاً لمشاكل الحياة يبلغون عشرة في المئة من الناس، فيما أصبح المجتمع في سواده الأعظم يتعامل مع رجل الدين مجرد خبير في أحكام الصلاة والصيام والحج.

إنني أشعر أن خطابنا التنويري بات يطارد طواحين الهواء، وبدلاً من الحديث عن الأسباب الحقيقية للسقوط والانهيار فإننا نذهب لافتراض اعداء وهميين من رواة التراث قبل ألف عام نبعثهم من قبورهم ونحاسبهم على لزوم ما لا يلزم، ونفترض في رواياتهم المؤامرات والخيالات، ونغيب عن أسباب سقوطنا الحقيقية وهي الاستبداد والظلم وفشل الإدارة وإساءة استعمال السلطة.

لا أجهل الأثر السلبي لثقافة التكفير والتشدد، ولا أنكر مسؤوليتنا في مواجهتها، ولكنني لا أقبل ان ننسب كل أمراضنا لرواية التراث، فالماضي للماضي ولنا المستقبل، وتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعلمون.

Related posts

الإسلام بالأرقام

drmohammad

جهاد الدَّم… قراءة من الصومال

drmohammad

الصحوة الإسلامية…. قرار أنظمة أم خيار شعوب 6/10/2006

drmohammad