الأزهر ومكانته عبر التاريخ د.محمد حبش
رحل سيد طنطاوي أكثر شيوخ الأزهر جدلاً في تاريخ مصر، وفرض رحيله جدلاً واسعاً حول مكانة هذه المؤسسة الفريدة في مصر والعالم الإسلامي.
منذ قدومه إلى منصب شيخ الأزهر تعود الطنطاوي أن يكون في وسط العاصفة وأن يخلق جدلاً كلما أتيح له أن يتحدث على منبر إعلامي أو منصة خطابية، فمن استقبال الحاخام اليهودي إلى مصافحة بيريز إلى دفاعه عن السلوك الفرنسي في منع الحجاب إلى دفاعه عن السلوك المصري في حصار غزة وأخيراً بناء الجدار الفولاذي حول غزة تحت عنوان حماية الأمن الوطني للأمة ومنع تسلل الإرهاب والمخربين!!
فهل كان صناع القرار في مصر على صواب حين ورطوا الأزهر في الدفاع المستميت عن مواقفهم السياسية بحيث تم إقحامه في تفاصيل السياسة اليومية وطلب منه باستمرار أن يؤدي دور المدافع الميتافيزيقي لإدارة السياسات المصرية.
من وجهة نظري فإن الأزهر هو أحد معالم مصر التاريخية التي لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، وهو في ذلك لا يقل شأنا عن أهرام مصر ونيلها الخالد وحناجرها التاريخية.
ولا أعتقد أنني أستطيع أن أقدم من خلال هذا المقال أرقاماً دقيقة لعدد الأزهريين في العالم ولكن يمكنك القول وأنت مطمئن بأنهم عدة ملايين، ويمكنك القول إن المدارس الأزهرية التي ننتشر في العالم وتتبنى نمط التعليم الأزهري تعد بالآلاف، وبحسبك إن تعلم أن كلمة أزهري وحدها تتيح للأندنوسي والماليزي والهندي والنيجيري أن يتجاوز مراحل كثيرة من المؤهلات وأن يتصدى مباشرة للنجاح في تبوء مناصب قيادية في الدولة.
تعود المصريون لعدة قرون أن يشاهدوا في باحات الأزهر نبضاً آخر للشارع المصري كان يختلف باستمرار عن مواقف الدولة والسلطة وكان يحتم على صانع القرار أن يعيد حساباته كلما أراد أن يتخذ موقفاً لا يعكس إرادة المصريين وآمالهم ورجاءهم.
ومنذ تأسيس الجامع الأزهر على يد جوهر الصقلي عام 361 هجري 972ميلادي أيام العزيز بالله الفاطمي، فإن دور الأزهر مضى يتعاظم تاريخياً، وكان الملوك الذين حكموا مصر يخلدون حكمهم بتوسعات مدروسة للأزهر تضم إليه مدارس جديد يخلدها الملوك بأسمائهم كما فعل الملك الظاهر بيبرس حين أجرى على الأزهر الأوقاف الكبيرة وأعاد الخطبة إليه عام 665، وكذلك فقد بنى الأمير طيبرس المدرسة الطيبرسية وضمها إلى الأزهر وبنى الأمير أقبغا المدرسة الأقبغاوية 740 هجرية، وكذلك فعل بعدهما السلطان برقوق والسلطان قايتباي.
ولكن الدور الوطني الأبرز للأزهر تجلى من خلال دوره الكبير في مواجهة الاحتلال الفرنسي فقد وقف الأزهر بصلابة بقيادة شيخه آنذاك الشيخ عبد الله الشرقاوي موقفاً صارماً ضد البرنامج الفرنسي، وتمكن من حشد الجماهير في الأزهر لتحدي الإجراءات الفرنسية بعد أن أعلن الشيخ الشرقاوي وصول المفاوضات مع الفرنسييين إلى طريق مسدود الأمر الذي دفع بالفرنسيين إلى محاصرة الأزهر وقصف أماكن قريبة من الأزهر وانتهى الأمر إلى قصف الأزهر نفسه وإزهاق أرواح كثير من الطلبة والمصلين في الأزهر تحت وابل من النيران الفرنسية، ومع أن الفرنسيين دخلوا إلى الأزهر لإظهار قبضتهم على مصر إلا أنهم سرعان ما اضطروا للخروج تحت ضغط المقاومة الشعبية الهائلة التي كانت تنطلق من الأزهر، وهي مقاومة استمرت إلى أن طعن خريج الأزهر سليمان الحلبي القائد الفرنسي كليبر وقتله، في رسالة أزهرية واضحة في مقاومة الاستبداد والظلم، وهو الحادث الذي كان له أبلغ الأثر في تسريع خروج الفرنسيين من مصر.
وبعد رحيل الفرنسيين ازداد دور الأزهر ونفوذه في قيادة الجماهير وصد المشروع الفرنسي والقضاء على أحلام الاستعمار الأول، ومارس الأزهر الدور نفسه بعد رحيل الفرنسيين وتمكن رجال الأزهر من إسقاط حكومة مراد بك، بعد ارتكابها سلسلة مظالم بحق الفلاحين الذين لجؤوا إلى مشيخة الأزهر لحمايتهم من ظلم الأمراء، وتمكن مشايخ الأزهر آنذاك من وضع حد لسلوك الأمراء ومنعهم من الاعتداء على أموال العباد وأجبرهم على رد ما أخذ من المسروقات للشعب.، وكذلك وقف الأزهر الشريف قلعة منيعة في وجه أطماع البريطانيين وكانت باحاته دائماً منطلقاً للثورات والتمرد ضد البريطانيين.
وفي عام 1956 اختار جمال عبد الناصر منبر الأزهر الشريف ليخطب فيه معلناً مسؤولية الأمة الإسلامية في مواجهة العدوان الثلاثي الذي استهدف ظاهرياً مصر ولكنه كان في الواقع يستهدف العالم الإسلامي كله.
ولكن مع غياب عبد الناصر وغروب المشروع القومي في مصر، ودخول مصر في قطار التسويات تعرض الأزهر لسلسلة متتالية من الإجراءات التي حولت منه أداة في خدمة السلطان بعد أن كان قدراً ضارياً في مواجهته، وهكذا فإن الاغتيال الممنهج لدور الأزهر في بناء ثقافة المقاومة وتحويله إلى واجهة للمصالح السياسية للنظام يعتبر من وجهة نظري تفريطاً خطيراً بواحد من الثروات القومية للبلاد، وهدراً لأهم منابع الكرامة في مصر ومحيطها العربي.
ينتظر الناس من الأزهر أن يكون العين الحمراء التي يهدد بها المفاوض المصري قسيمه الإسرائيلي على أساس أن عندنا أزهر وأن الشارع يغلي ولا نستطيع كبح جماحه، وهو أسلوب لا زالت إسرائيل تلعبه منذ عقود حين يقول مفاوضوها لدينا حركات متشددة ولدينا إسرائيلو بيتنا وكاخ وشاس وعلى الأمريكيين أن يتفهمونا، فلا نستطيع أن نواجه الشارع اليهودي الغاضب، في حين أن إدارة المفاوضات في مصر ألقت بورقة الأزهر من الجولة الأولى وحولته إلى قط وديع يسبق تطلعات المفاوضين ويبادر إلى إلقاء التحية للعدو، ويستقبل حاخاماته ويهدم الحاجز النفسي المقاوم للمشروع الصهيوني.
وهكذا فقد تم عن عمد تغييب الأزهر عن دوره مقاوماً، وعن دوره مفاوضاً، وتحول في يد الإدارة السياسية إلى لعبة عيال يدار بطريقة رديئة لا تخدم أحداً وتعود أفدح الخسائر للدور التاريخي لهذه المؤسسة الكبيرة.
أشعر بالحرج وأنا أكتب ذلك، ولكنني موقن تماماً بأن مكان الدين هو في طليعة التيار المقاوم وهو ما شهدناه في السنوات الأخيرة في المقاومة الملتهبة في جنوب لبنان وفي أرض غزة، وهكذا يرسم المقاومون ملامح الدور التاريخي لعلماء الإسلامي في الدفاع عن كرامة الأمة والتضحية من أجل المستضعفين في الأرض وهو المسهد الذي رسمته خلال تاريخ طويل عمائم كريمة رأيناها في عز الدين القسام ورشيد عالي الكيلاني وأمين الحسيني وعبد الحميد الزهراوي وجمال الدين الأفغاني.
لقد مضى طنطاوي راحلاً إلى الدار الآخرة، وسيذكر له التاريخ ما كان فيه من مواقف ومشاهد، وليس منبر الموت مكاناً مناسباً لمحاكمة الرجال، فالتاريخ هو الحكم العدل، ومن الواجب أن نعزي أسرته وذويه برحيله، ومن الواجب أيضاً أن نشير إلى دراسته الأصولية الجيدة حول النظام المصرفي في الإسلام، وهو ما نعتبره بحق اجتهاداً مضيئاً موثقاً بالأدلة.
وأختار في رثائه من كلام الأول:
وكانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حياً