النبي الديمقراطي
دراسات في الملامح الديمقراطية في كفاح الرسول
محمد حبش
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين
تمهيد
قد يبدو صادماً أن تستخدم عنواناً كهذا في وقت لا تزال كثير من المؤسسات الإسلامية لا تؤمن بالديمقراطية، وترى فيها انحرافاً عن نهج النبوة، وهو المعنى الذي دفع طلائع الإسلام السياسي في الخمسينات إلى رجم الديمقراطية بالحجارة واتهام البرلمانات بأنها أوثان القرن العشرين والدعوة إلى وجوب البراءة منها ومن تبعاتها التشريعية التي تم توصيفها بأنها مناوأة مباشرة للشرع.
ومع أن هذه الأصوات خفتت في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ولكنها اليوم تحظى بجمهور كبير بعد المغامرات التي أشعلها بوش في الشرق الأوسط تحت شعار الديمقراطية، الأمر الذي رسم صورة سوداء للآمال الديمقراطية، وبالتالي أساء غاية الإساءة للحوار الإسلامي مع الغرب وعزز فرص التطرف والراديكالية ووفر لهم بيئة خصبة لنمو فكر التعصب والانغلاق وبالتالي أعاد المشروع الديمقراطي عدة عقود إلى الوراء في الشرق الأوسط.
وبعيدا عن الراهن السياسي فإن هذه المقالات معنية بإثبات حقيقة واحدة وهي أن الرسول الكريم قدم للعرب مشروعاً ديمقراطياً متنوراً سواء في التشريع أو في الإدارة، وهي حقيقة نجتهد هنا لإثبات أنها لا تتناقض أبداً مع الوحي المعصوم بل تشد أزره وتحقق رسالته وتبلغ به غايته، وتستلهم الأدوات التي منحنا إياها النص نفسه في بعث العقل واستخدام الخبرة البشرية للوصول إلى معرفة السنن الكونية التي عرفها الإنسان بعد عناء طويل، وسلم بها بيقين، وهي السنن التي يحق لنا أن نستخدمها في التشريع لإخراج ما هو خير للعباد والبلاد.
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
لقد عاش حياته في خدمة الأمة ولم يجمع ثروة طائلة، يأكل كما يأكل العبد وينام كما ينام العبد، وفي وثيقته الأولى التي كتبها دستوراً لدولة المدينة الناشئة يظهر احترام المواطنة على أساس من المساواة بغض النظر عن الدين والنسب، وحين رحل إلى الله لم يكن في وصيته فرض حكم ثيوقراطي على الناس وإنما ترك الأمر شورى وتم تداول السلطة بعده في الخلافة الراشدة على وجه جيد من الشورى بغض النظر عن الأحساب والأنساب والثروات، قبل أن تتحول الخلافة إلى ملك عضوض.
إنها محاولة لقراءة الرسول الكريم رجل كفاح ديمقراطي، آمن بالعدالة وكفر بالاستبداد، وعمل للحرية وقارع الظلم، وأنجز المساواة في ظروف المجتمع الجاهلي، وعمل بإخلاص وكفاءة لبناء مجتمع العدالة والتنمية في الأرض.
الإسلام والديمقراطية: جدل المصطلح والمقاصد
اعتاد كثير من الباحثين أن يطرحوا الإسلام والديمقراطية خيارين متقابلين بحيث يلزمك الاستغناء عن أحدهما من أجل القبول بالآخر، فإما أن تلزم الديمقراطية وتتخلى عن الإسلام، وإما العكس بحيث تلتزم الإسلام وتتخلى عن الديمقراطية!!
فإلى أي مدى كان الخيار الديمقراطي نقيضاً للمشروع الإسلامي؟
ظل إشكال علاقة الإسلام بالديمقراطية يؤرق الباحثين منذ أمد بعيد بهدف الوصول إلى مشترك حقيقي بين الإسلام والديمقراطية، ومضى كثير من الكتاب الإسلاميين إلى تبني التناقض المطلق بين الإسلام والديمقراطية واختاروا رجم الديمقراطية بالحجارة كما لو كانت سلعة أمريكية يتعين مقاطعتها في غمار حملة مقاطعة البضائع الأمريكية.
وهكذا أصبحت الديمقراطية تقدم اليوم كما لو كانت منتجاً غربياً استعمارياً يراد فرضه على المنطقة، خاصة بعد المشروع الأمريكي الدموي في العراق الذي يستعمل شعار نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويمارس ما يمارسه أبشع الجلادين في القهر والبغي، الأمر الذي أدى إلى ريبة وتحفظ في الشارع الإسلامي من مشاريع نشر الديمقراطية.
ومضى كثير من الكتاب الإسلاميين إلى رجم الديمقراطية بالحجارة، كما لو كانت بضاعة أمريكية يتعين مقاطعتها في إطار مقاطعة البضائع الأمريكية.
ولإدراك هذه الحقيقة فإنه يتعين تقديم قراءة تحليلية للعلاقة التشريعية بين النص الديني ومصالح الناس المعتبرة التي أنتجت الديمقراطية وتحقيق الميز بين الإلهي والبشري، وإلى أي مدى يمكن أن يكون الإسلام ديمقراطياً أو تكون الديمقراطية إسلامية، وهل الديمقراطية والإسلام مصطلحان متقابلان، بحيث يتعين الترجيح بينهما، أم أنهما مصطلحان متوازيان لا يلغي أحدهما الآخر، ويمكن أن يتعاونا على تحقيق مصالح الناس؟
الديمقراطية إنجاز إنساني لتحقيق العدل
لن نطيل هنا في تعريف الديمقراطية والمدارس السياسية التي تتولى التعريف بها، وأعتقد أنها أصبحت من باب المعروف الذي لا يعرف، وغاية ما نذكره هنا هي أنها مرادفة للعدالة في اللغة العربية، وبإمكانك أن تسقط مفردة العدل على كل مفرزات الديمقراطية فهي المساواة بين الناس وتداول السلطة واحترام القانون واحترام الحريات وتحقيق الشورى، ويدخل في مقاصدها كل ما أنجزه الإنسان في باب العدالة الاجتماعية، وقد كان من الممكن أن نكتفي بالاسم العربي القرآني وهو العدل، ولكن المصطلح اكتسب صفة عالمية إنسانية، وأصبح له تراث وتاريخ تجتهد الأمم في شرحه وتمثله والعمل في سبيله، ولا أعتقد أن من المصلحة في شيء أن يدير المجتمع الإسلامي ظهره للمنجز الإنساني في العدالة بحجة أنه يستخدم مصطلحاً آخر، بل المنطق يقتضي أن نستفيد من الكفاح الإنساني وتجارب الأمم وفي قاعدة قرآنية شريفة : نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم.
ومن نافلة القول أن نشير أن هذه المقالات ليس بحثاً محكماً متراصاً بقدر ما هي دراسات متناثرة نشرت في عدد من الصحف العربية والأجنبية والذي يجمع بينها هو قناعة الكاتب أن النبي الكريم أراد في كفاحه أن يقدم للناس مشروعاً حضارياً متنوراً لتحقيق العدالة والتنمية في الأرض وبالتالي لتحقيق إخاء الإنسان للإنسان.
الديمقراطية من وجهة نظري هي المرادف العالمي لكلمة العدل، وهي تشتمل على ما أنجزه الكفاح الإنساني من تطوير للعدالة وتحقيق لأدواتها ومقاصدها، وتأكيد على أهدافها في الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، وهي غاية ما جاء من أجله الرسل، كما قال تعالى في القرآن الكريم: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.
إن ما نتجه إلى تقريره هنا هو أن الديمقراطية في مؤداها العالمي ليست منجزاً إقليمياً ولا يحق احتكارها فلسفة ولا منشأ ولا تطبيقاً لأي شكل من أشكال النظام السياسي في العالم، وعلينا إدراك أن الديمقراطية وحقوق الإنسان منجز إنساني عالمي دفع الإنسان خلال التاريخ ثمنه بدمه وكفاحه، واشترك في إنجازه وبنائه، ومن حق سائر الأمم أن تنعم بما تم إنجازه في هذا السبيل على أساس أنه تراث عالمي متاح لكل شعوب الأرض.
ولإدراك هذه الحقيقة يتعين أن نجري قراءة تحليلية للعلاقة التشريعية بين النص الديني ومصالح الناس المعتبرة التي أنتجت الديمقراطية، وإلى أي مدى يمكن أن يكون الإسلام ديمقراطياً أو تكون الديمقراطية إسلامية، وهل الديمقراطية والإسلام مصطلحان متقابلان بحيث يتعين الترجيح بينهما، أم أنهما مصطلحان متوازيان لا يلغي أحدهما الآخر ويمكن أن يتعاونا على تحقيق مصالح الناس.
وبغض النظر عن اشتقاق الكلمة وجذورها ومنابتها فإن من الممكن القول بأن الديمقراطية خيار أممي تنضوي تحته الإنجازات الإنسانية الكبيرة في إطار الحرية والعدالة والمساواة، ويلتقي عنده كفاح الإنسان في مقارعة الاستبداد.
الديمقراطية وحاكمية الله
ومع أن تياراً أصولياً لا يزال يرى في الديمقراطية انحرافاً عن الأصول الإسلامية أو عدواناً على النص، أو خرقاً لمبدأ الحاكمية، فإن ما يمكن تقريره هنا بثقة هو أن هذا التيار آخذ في الانحسار، وأن بقاءه مرهون بهمود الوعي بحيث تكون النتائج مختلفة إذا تم التنوير.
وقد ظهر ذلك في ما كتبه كثير من الكتاب الإسلاميين في الخمسينات والستينات من قراءة نقدية للديمقراطية على أساس أنها معارض حتمي لمنطق حاكمية الله، وأنه لا يمكن القبول بحكم النص الديني والاحتكام إلى إرادة الشعب في آن، ذلك أن إرادة الناس منبثقة في الغالب من الهوى وهو ما يتعارض بشكل حاد مع الشريعة الإلهية المنبثقة عن مصدر مختلف تماماً هو الوحي!
وهكذا فإن بعضهم ذهب إلى حد القول إن العدالة والمساواة وغير ذلك من القيم الإنسانية النبيلة ما هي إلا انحرافات عن هدي الوحي الذي يدل ظاهره على عدم المساواة بين الرجل والمرأة وبين الحر والعبد وبين المؤمن والكافر، وأن البحث عن إرادة الأغلبية هو جحود لمنطق القرآن الكريم: ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وقوله: وإن تطع أكثر من في الأرض جميعاً يضلوك عن سبيل الله.
وصرح بعضهم بالقول: إن الديمقراطية هي وثنية القرن العشرين، وأن البرلمانات هي الأصنام الجديدة!
وبالمقابل فقد أطلق منكرو الوحي خطابهم في الحكم على الإسلام بأنه معاد للقيم الإنسانية وأنه غير معني بالمساواة في الأرض، وراحوا يستحضرون الدليل تلو الدليل على الاستبداد الذي وقع في التاريخ الإسلامي، للتدليل على أنه كان نتيجة اعتماد خيار الوحي وتنكب الخيار الديمقراطي!
إن الثيوقراطية الدينية مرفوضة في الإسلام، وإن إقامة حكم ديني في الإسلام بالمعنى القروسطي الذي عرفته أوروبا هو منطق مرفوض إسلامياً، وأن ما يتوجه الإسلام لبنائه في الأرض هو نظام مدني، بشروط ديمقراطية تتفاوت اتساعاً وضيقاً بين علماء السياسة الشرعية في الإٍسلام.
إن المشكلة تتمثل في أننا نعمد إلى منهج انتقائي في قراءتنا للتاريخ الإسلامي بحيث نعمد إلى أشد الآراء تطرفاً وظلامية فنحمل الأمة بأسرها وزر ذلك، وكأن ليس في التاريخ الإسلامي غير هذا الخيار، وفي مسألة الديمقراطية فإن ما يستحضره العلمانيون من مخاوف على الحريات والديمقراطيات إنما يتبدى من شعار مثل لا حكم إلا لله، وهو بالضبط الشعار الذي تقاتل اليوم تحت لوائه اليوم الحركات الراديكالية في العالم الإسلامي، وهو ما أسس مباشرة لثقافة الإلغاء والإقصاء ولموجات متلاحقة من العنف والعنف المضاد الذي اصطلى به العالم الإسلامي في العقود الأخيرة وهي ذكريات مرة دامية لا يريد أحد أن يتذكرها في الخيال فضلاً عن استدعائها في الواقع.
ولكن شعار لا حكم إلا لله على طهارته ومصداقيته هو شعار حاربه الوعي الإسلامي إبان الرشد وخاض الإمام علي حرباً ضروساً في مواجهة الخوارج دفاعاً عن حقوق الناس في الحريات والإرادة الشعبية، مع عدم الاعتراض على الشعار من جهة المبدأ، وهو ما قال عنه الإمام علي: كلمة حق أريد بها باطل .
إن التنوير الإسلامي عاش مصاحباً لحركة الفكر في الإسلام ومضت حركة ترجمة العلوم والمعارف الإنسانية وهي في قماطها اليوناني والسرياني على يد أبرز الخلفاء الأمويين والعباسيين، إلى حد زنة الكتاب المترجم بالذهب، على الرغم من أنه بداهة قد يكون طافحاً بمعارضات حادة مع أساسيات العقائد الإسلامية، والأمر نفسه كان في مكتبات الأديرة والمعابد التي كانت طافحة بثقافات الشرق المسيحي السرياني والآرامي واللاتيني ولم تمتد إليها يد إساءة على الرغم من اشتمال كتب كثيرة منها على عقائد التثليث والأقانيم وقدم العالم، وذلك كله مخالف للشريعة، ومع ذلك لم يمسسه المسلمون بسوء، وبقاؤها إلى اليوم حاضرة شاهدة خير دليل على ذلك الانفتاح الذي عاشه المجتمع الإسلامي أيام الرشد وهو أولى بكل تأكيد في الاعتبار من الأساطير التي راجت عن إحراق المسلمين لمكتبة الإسكندرية وهي الأساطير التي تورط في روايتها للأسف مؤرخ محترم كديورانت، ومضى ذلك إلى حد تقبل العقل الإسلامي وجود فلاسفة إسلاميين كبار كانوا لا يكتمون ميولهم المشائية، كالكندي والفارابي وابن سينا، بل إن هذا الأخير منح لقباً هاماً ذا مغزى حين سمي بالمعلم الثاني، وأصبح الحديث عن المعلم الأول واضحاً في الإشارة إلى أرسطو، على الرغم من التفاوت الهائل من الجانب الفكري بين كل من الاتجاهين الإسلامي واليوناني .
لقد ظلت العلوم الكونية لعدة قرون علوماً مسيحية أو صابئية، وسجل لهم في هذا السبيل إبداع كبير، وبسبيل من ذلك ترد أسماء كبيرة مثل حنين بن إسحاق، وحنين بن ماسويه، ويوحنا بن بختيشوع، وجبرائيل بن بختيشوع، ويوحنا بن ماسويه، وإسرائيل بن زكريا الطيفوري، وغيرهم، ويرجع ذلك إلى معرفة هؤلاء باللغات السريانية واللاتينية واليونانية التي كانت تحتوي على معارف الطب القديم.
بالطبع فإن هذه الإنجازات الديمقراطية الهائلة ينظر إليها المتشددون على أنها تفريط من الحكام بإقامة حدود الله، وأن هؤلاء الحكام اختاروا مرجعية العقل بدل مرجعية النص وكان عليهم أن يقاتلوا الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وليس أن يجاملوهم وفق الشروط الديمقراطية، على الرغم من أن الشريعة طافحة بنصوص الرحمة والإحسان إلى الخلق بدون تمييز، قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
إن حالة الانفتاح و(الديمقراطية) التي قدمت شواهدها هنا كانت دائماً تواجه مداً ظاهرياً يشتد آناً، ويهن آناً آخر، ولكن يجب التأكيد في الواقع أن هذا التيار التجديدي الانفتاحي هو الذي كتب له النصر أيام مجد الحضارة الإسلامية وأن الاتجاه الظاهري الماضي إلى إلغاء الآخر وتطبيق ظاهر النص بدون اعتبار المصالح هو تيار منهزم عبر تاريخ المجد الإسلامي؟
وباختصار فإن القيم الديمقراطية ليست في الحقيقة إلا خلاصة ما أنجزه الإنسان في كفاحه من أجل العدالة والمساواة، وهي ليست احتكاماً إلى الشعب ضد إرادة الله، وإنما هي اكتشاف إرادة الله من خلال خيار الجماعة، أو البحث عن حكم الشريعة من خلال الإجماع، وهو فقهياً لا يبعد كثيراً عن نظام الأغلبية الديمقراطي، إذ الإجماع لا يشترط فيه عدم وجود مخالف، ولا شك أنها بهذا المعنى تتلاقى مع ما بشر به الإسلام، ولا يصح أبداً طرح السؤال على صيغة: الإسلام أم الديمقراطية، بل يتعين القول: الديمقراطية من أجل إقرار القيم الإسلامية، أو الإسلام من أجل ترشيد الديمقراطية.
ملامح ديمقراطية في الفقه الإسلامي
أيهما أقرب لروح الإسلام العدالة أم الاستبداد؟ الجواب بالطبع العدالة، ولكن يجب أن لا تغرنا العناوين فالتراث الإسلامي طافح بشواهد العدالة كما هو طافح بشواهد الاستبداد، والمنابر تتحدث عن العدالة ولكنها أيضاً تسوق في خدمة المستبد عشرات النصوص التي تجعل الحاكم ظل الله في الأرض والرعية بعض متاعه، وهناك خلط لدى الواعظين بين احترام القانون وبين الخضوع للمستبد، (اسمعوا وأطيعوا، ولو أُمِّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ولو أخذ أموالكم وضرب أبشاركم)، أو كما أوردته أحاديث ضعيفة مشهورة: (يا عبادي! لا تشغلوا قلوبكم بسب الملوك، ولكن تقربوا إلى الله تعالى بالدعاء لهم يعطف الله قلوبهم عليكم!!)، وفي رواية أخرى: (لا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك، ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع أكفكم ملوككم!!).
وبالطبع فإن هذه الروايات تصادم بشكل حاد الوصية النبوية الذهبية: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
ومن وجهة نظر الكاتب فإن المطلوب هو الانتصار لنصوص الحرية والمساواة ورفض الاستبداد، ورد النصوص الداعية إلى الخضوع والخنوع أو تأويلها بما يستقيم مع حرية الإنسان وكرامته ومنزلته.
وهذه القيم التي بناضل من أجلها الشرفاء صار اسمها في الثقافة العالمية: الديمقراطية، وهو ما يجب أن نقدمه للمجتمع الإسلامي وفق هدي النبوة وخيارات الراشدين.
وخلال قرون طويلة من الكفاح الإنساني بلغ الإنسان شاطئ العدالة في الإطار النظري على الأقل، وهو ما صار يسميه الديمقراطية، وبدا واضحاً أن الأمم التي تتبنى الخيار الديمقراطي تعيش في رغد من العيش، وتقترب من المساواة والعدالة الاجتماعية، الأمر الذي جعل الشرط الديمقراطي أساسياً للانخراط في المجتمع الدولي، وأصبحت منجزاته يتبناها الإنسان في سائر المحافل الدولية.
ولكن هذه الديمقراطية التي تباهي بها المجتمعات المتحضرة تتعرض لعناء كبير في الشرق؛ إذ لحقتها آفة الريبة في كل وافد من الغرب، وهو ما يجتهد المحافظون في مقاومته من منطلقات مختلفة.
ويمكن إجمال الأسباب التي تَحُول دون قبول المنجز الديمقراطي من الوجهة النظرية في أمرين اثنين:
الأول: قدوم الدعوة إلى الديمقراطية عبر مؤسسات ودول غربية، الإدارة الأمريكية بشكل خاص، الأمر الذي أشاع جواً من الريبة حول دوافع هذه الدعوات وغاياتها، ومن خلال ذلك فقد رأت بعض القيادات الوطنية فيه محاولة لتسلل الاستعمار من جديد على مركب الإصلاح، وقد تم تبرير مقاومة ذلك وفق منطق الخوف من التبعية الفكرية والاستلحاق.
الثاني: الجدل الفلسفي في المنطق الديمقراطي، حيث مضى عدد من رواد الصحوة الإسلامية إلى تقرير حتم التناقض الفلسفي بين القيم الإسلامية والقيم الديمقراطية، على أساس أن الإسلام احتكام إلى الله، فيما الديمقراطية احتكام إلى الشعب، وبذلك فإن المنطلق والغاية في سبيل تناقض، ولا يمكن أن يتأسس على ذلك أدنى وفاق.
وقد ظهرت هذه الفكرة بشكل واضح في كتابات سيد قطب الذي تحدث عن الوثنية البرلمانية الجديدة التي تحول دون الحكم بما أنزل الله، ولم يتردد في اعتبار العمل البرلماني عملاً وثنياً مناهضاً للحكم بالشريعة!!.
ولا شك أن هذا الفهم يتناقض أول ما يتناقض مع منهج النبي الكريم r الذي أسس أول دولة حقيقية في جزيرة العرب بإعلان دستور المدينة، وفي أول سطر منه عبارة أن محمداً ومن معه ويهود بني عوف -الذين كانوا آنذاك مواطنين في المدينة- أمة واحدة من دون الناس، وهذا يقتضي تأسيس العلاقات الاجتماعية على أساس المساواة والعدالة، }وأن ليس للإنسان إلا ما سعى{، وليس على أساس الاصطفاف الديني.
وحين قام النبي الكريم بعقد أهم صلح سياسي في حياته، بين دولته الناشئة وبين الزعامة التقليدية العربية في قريش، وهو صلح الحديبية نص بصراحة أن من شاء الدخول في حلف محمد دخل فيه ومن شاء الدخول في حلف قريش دخل فيه، وبغض النظر عن الدين دخلت قبائل عربية في حلف محمد وصارت جزءاً من الدولة الإسلامية، وبعضهم مسيحيون كنصارى نجران وآخرون يهود كيهود فدك وآخرون وثنيون كقبيلة خزاعة، ونال هؤلاء حقوقاً متساوية من جهة المواطنة والحريات وحماية الدولة لهم بغض النظر عن دينهم، بل إن فتح مكة وهو أكبر أيام النبي محمد وأهمها كان هدفه المباشر هو حماية بعض الوثنيين من مواطني دولته من خزاعة الذين تعرضوا لاضطهاد مباشر وكان على الدولة الإسلامية أن تحميهم وتدافع عنهم.
وهذه الحقيقة تؤكد تماماً أن النبي لم يكن يؤسس في مدينته لدولة ثيوقراطية ولا لدولة دينية يحكمها الملالي بل كان يؤسس لدولة ديمقراطية مدنية يتساوى فيها الناس في الحقوق والواجبات.
وبالتأكيد فإنني لا أزعم أن كل التراث الإسلامي مضى على وفق هذه الصيغة من تقبل القيم الديمقراطية، بل إن كثيراً من الاستبداد أيضاً تمت ممارسته باسم الرب والنصوص المقدسة، وهو ما أعتقد أنه التحدي الأكبر أمام خطاب التنوير العربي لانتقاء ما هو أكثر ملاءمة لقيم العدالة في التراث الإسلامي.
إن رعاية مصالحة حقيقية بين الفهم الإسلامي والشأن الديمقراطي سيؤدي بكل تأكيد إلى إغناء الديمقراطية التي سترى في التجربة الإسلامية الغنية رصيداً حقيقياً للتجربة الديمقراطية، وسوف يسهم في تجريدها من اللبوس الغربي الذي يؤدي إلى تغريبها وغربتها في الشارع الإسلامي، وفي الوقت نفسه فإن التيار الإسلامي مدعو أن يدرك أهمية الإصلاح الديمقراطي وشأنه في تحقيق فهم أصح وأدق لرسالة النبي الكريم، وبالتالي سيمنح قناعة أكبر بقدرة الإسلام على تقديم الحلول الحقيقية في كل زمان ومكان.
الرأي والرأي الآخر
كان مؤتمر الديمقراطية والحكم الرشيد الذي عقده مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث في الرياض ظاهرة تستحق التأمل، فقد فتحت المؤسسة الفكرية في السعودية أبوابها للبحث في مسألة تعتبر من المحرمات، وقد تحدثت بإسهاب عن القيم الديمقراطية في الفقه الإسلامي، وكان ذلك صادماً في مجتمع تعود على منطق: دليلك من الكتاب والسنة!! مع أن الفقه الإسلامي فيه عشرة مصادر أخرى إلى جانب الكتاب والسنة وهي ديمقراطية عقلانية ديناميكية تتمثل في الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف وشرع من قبلنا والاستصحاب، وهي قيم ديمقراطية متنورة أسهمت في بناء حضارتنا التشريعية والإنسانية ولكن تم فيما بعد تعطيلها بضراوة لصالح المصدر النصي، وتم إطفاء عشرة مصابيح والاكتفاء بمصباح واحد، وحين أفاض السيد صلاح الدين الجورشي في شرح القيم الديمقراطية في الإسلام مؤكداً على حرية الرأي وحق الإنسان في اختيار دينه رد عليه أحد الشيوخ بغضب:
“كيف تريدنا أن نقبل حرية الاعتقاد في الإسلام؟ إنه شيء لا مكان له إلا في أوهامك وفي أوروبا المائعة التي ضاع دينها ودنياها!! نحن هنا ننتمي إلى دين لا يساوم في الحق، ولا يتردد في العقيدة، ويلتزم قاعدة (من بدل دينه فاقتلوه)!!! ولا مكان في الأمة للمرتدين والحاقدين والخونة!!”
لست أدري أين ذهب الشيخ بخطاب القرآن الكريم: }لا إكراه في الدين{، وقوله: }لست عليهم بمصيطر{، وقوله: }وما أرسلناك عليهم وكيلاً{، وقوله تعالى: }وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر{، وهي نصوص كثيرة كلها تحمل أوضح معاني الحرية الدينية وأجلاها، وهو ما أكد لديّ القناعة التامة بأن منجم الفقه الإسلامي غني إلى الحد الذي يكفي حاجتنا ويزيد، ولكن المسألة في موقفنا من هذا المنجم الكبير واختيارنا من كنوزه.
إن البحث عن دليل على الاستبداد من التراث ليس أصعب من اختيار دليل على الديمقراطية والحرية، وقديماً قالت العرب: اختيار الرجل قطعة من عقله!!
إننا نؤمن في الإسلام بحرية التعبير، ولا اعتراض لنا على هذه الحقيقة، نحن ننتمي إلى الأمة التي يقول فيها القرآن الكريم: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ويقول لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، ويقول ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم.
وفي تاريخ الإسلام فإن الأديان والطوائف ظلت تعيش في كنف الإسلام ، ونحن مدينون للصابئة والمسيحيين واليهود الذين أسهموا في نشر الحضارة الإسلامية وطرحوا قيمها في العالم، وقد ظلت العلوم الكونية لعدة قرون بيد المسيحيين والصابئة العرب، وكانوا جسراُ معرفيا نقلوا لنا ثقافات الأمم الأخرى ولم يتعرض أي من هم للاضطهاد أو القمع، وظل هؤلاء في معابدهم وكنائسهم يمارسون دينهم ويحظون بحماية الدولة والمجتمع، بل إن الدهريين أنفسهم وهم الملحدون الذين لا يؤمنون بالخالق وجدوا فرصتهم للتعبير عن آرائهم وكلنا يعرف القصة المشهورة عن حوارات أبي حنيفة مع الدهريين ، وهو الحوار الذي كان ينعقد في بغداد على شاطئ دجلة بإشراف الخليفة أبي جعفر المنصور حيث كان الدهريون يقدمون آراءهم وأفكارهم المختلفة أمام أبرز رجال الدولة في العراق، وكانوا بعد الحوارات ينصرفون إلى بيوتهم ويمارسون دورهم في العريف بأفكارهم ومنها قدم العالم والعقل الكلي وهي أفكار صنفت فقهياً على أنها كفر، ولكن الدولة المسلمة لم تقمع هؤلاء بسطوة السلطة طالما أنهم كانوا يمارسون التعبير عن آرائهم باحترام ومسؤولية.
بل إن القرآن الكريم قدم مثلاً أبلغ من ذلك حين حاور الله إبليس وأعرب إبليس عن عدم قناعته ولا رضاه بالمشروع الإلهي في خلق آدم، ورفض السجود له بل إنه أعلن موقفه بوضوح أنه ماض لغواية بين آدم ، ولآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين، ومع ذلك فإن القرآن الكريم أشار بوضوح إلى هذه الحقيقة، وحين طلب إبليس بعض الحريات ليتمكن من تنفيذ برنامجه المعارض لله أعطاه الله على الفور ذلك، قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، ثم قال اله القرآن : واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
كان في قدرة الله بالطبع أن يمحق إبليس من الوجود ويجعله أثراً بعد عين، لم يفعل أراد أن يبقى جدل الحق والباطل وأن يدافع الحق عن نفسه بالحجة والبرهان وليس بالبطش والسلطان.
ولكن الشرط الوحيد الذي تفرضه الشريعة على حرية الفكر هي احترام الآخر المختلف، واحترام مقدسه الديني.
مواقف ديمقراطية في حياة الرسول
بخلاف ما تعودته الناس من الأساطير التي تنسج عن رجال الغيب والناطقين باسم الرب، فإن النبي محمداً رسم لنفسه ملامح أخرى تتأكد فيها بشريته وضعفه الإنساني أكثر من أي شيء آخر، تقرأ ذلك مئات المرات في نصوص التنزيل: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي، قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم!! الأمر الذي جعل يهود المدينة يقولون: كيف نتبع رجلاً لا يدري ما يُفعل به ولا بنا؟؟
إنه نبي شحاع بكل المقاييس، لقد وقف أمام الناس وهو يحدثهم عن حجم معرفته البشرية بأمانة: أيها الناس إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأسمع منه فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما هي جمرة من النار فليأخذها أو ليدعها.
في موقف آخر أورد المحدثون أن النبي الكريم لما وصل المدينة رآهم يؤبرون النخل، وتأبير النخل شيء في غاية الغرابة إذ لا يشتمل على تلقيح مادي مفهوم، بل هو تعليق غصن صغير من شجرة على شجرة أخرى حيث يرسل الله الرياح لواقح فيصل بعض طلع النبات ببعض بحكمته وأمره فيكون في ذلك العافية والنشاط للثمرة وتورق بعد جدب وتزهر بعد قحط.
وصل النبي الكريم المدينة المنورة فرأى أهل المدينة يؤبرون النخل، لم يكن معنى التأبير واضحاً وتبادر إلى ذهن النبي الكريم أن الأمر لا يعدو أن يكون واحدة من الخرافات التي سادت في الجاهلية واشتملت على الأوهام وسرعان ما أنكرها فيهم وقال: ما أرى ذلك يغني عنها شيئاً؟؟
كانت القداسة التي تحيط بأذهانهم عن النبي الكريم تحول بينهم وبين استيضاح الأمر فبادروا إلى السمع والطاعة من دون حوار، وهم على يقين بأن ما دعاهم إليه النبي الكريم أبرك وأفضل، ولكن مع ظهور الموسم لم يشاهد الناس شيئاً مما توقعوه وكانت المفاجأة أن الشجر لم يحمل إلا شيصاً، لا زهر وفيه ولا ثمر!!
في تلك اللحظة كان على النبي الكريم أن يخوض امتحاناً دقيقاً فكيف يمكنه أن يقول إنه أخبر الناس بأمر ظهر خطؤه؟ وأن توقعه لم يكن صائباً؟
كان في إمكانه أن يقول غير ذلك، وأن يدفع باتجاه حل غامض يربط فيه شح الأرض بإرادة سماوية علية، لا تحيط بها الأفهام ولا تدركها الأوهام، ولكنه مضى أمام الناس بكل شجاعة قائلاً : أيها الناس، إذا أمرتكم بالشيء من أمر دينكم فهو مني وأنا قلته، وإن أمرتكم بالشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم بأمور دنياكم!!
إنها تماماً إرادة مباشرة للرجل الذي ألقي على كاهله إعادة رسم خريطة العالم أن يقول للناس أنا بشر مثلكم
إنها قراءة قرأها إقبال من قبل، ونظمتها على شكل سؤال يطرجه حيران بن الأضعف:
ما النبوات التي كانت لكم غير أشواق وأذواق ونور
رقرقت شوقاً على أسماعكم وجرت أنغامها فوق السطور
فلماذا ختمت أنوارها رغم ما يشهده العالم هذا
ولماذا طويت أسرارها ولمــاذا ولمـاذا ولمــاذا؟؟
وعلى عادة إقبال في شكوى وجواب شكوى،كان في جوابه:
إن مصباحي الذي أوقدته نورك الباقي على مر العصور
إنما زيتك من يسرجــه ليس زيتي وأنا ابن القبـور
مجدكم في الأرض لا ترسمه أنفس تسكن في جوف المقابر
فخذوا أقداركم وانتبهوا واصعدوا أنتم على تلك المنابر
إنها قراءة أخرى لنور النبوة لا تشبه في شيء تلك القراءة الأسطورية التي تختصر كفاح النبي الكريم وجهاده وجراحه في سلسلة من العجائب التي جادت بها قرائح المحبين، كان فيها يركب الهواء ويمشي على وجه الماء، ويسارع ربه في هواه، وتأتي لدعوته الأشجار ساجدة تمشي إليه على ساق بلا قدم، ويفوق جوده الدنيا وضرتها، وتشتمل علومه على علم اللوح والقلم.
بإمكانك أن تقرأ السيرة النبوية الكريمة كما سطرها أئمة كبار في تاريخ الإسلام الأول كأبان بن عثمان بن عفان ومغازي عروة بن الزبير والواقدي وابن سعد والبخاري ومسلم، وغيرهم من المحدثين والرواة حتى تصل إلى ما حرره ابن حجر في المواهب اللدنية ثم النبهاني في الأنوار المحمدية، وهو تراث عارم فيه الغث والسمين وفيه الأصيل والدخيل، ولكن ذلك كله لن يكون وافياً لأولئك الذين يريدون في حباته رمز كفاح إنساني تقتدي به الأمم.
إنني أرحب بكل ما أنجزوه في السيرة النبوية، ولكن أدعوكم لقراءة السيرة الكريمة مرة أخرى على منهج محمد عبده ومحمد إقبال وعبد الرحمن الشرقاوي وحسين هيكل وعباس محمود العقاد وروجيه غارودي ومراد هوفمان ومالك بن نبي ووحيد الدين خان وجودت سعيد.
إنه بكلمة واحدة: النبي الذي نقل العالم من ضباب الخوارق إلى ضياء السنن.
الإسراء والمعراج
حوار في السماء من أجل الحياة في الأرض
المعراج والإسراء اسم لواحد من أكثر أيام الإسلام إلهاماً وإشراقاً، وقد أعاد الأدب العالمي رواية الإسراء والمعراج في رسالة الغفران لأبي العلاء 449 هجرية، ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي 426 هجرية، كما أعاد صياغتها في القرن السادس عشر دانتي في الكوميديا الإلهية 1265م وكذلك ملتون 1667 م في الفردوس المفقود.
ولست هنا في معرض الحديث عن المعراج والإسراء في تفاصيل الحدث الكبيرة، وظروف الإكرام التي وافى الله بها نبيه يوم المعراج، كما لا أود الخوض في الجدل حول معجزة الإٍسراء والمعرج وهل كانت بالروح والجسد كما هو رأي الجمهور أم كانت مجرد رؤيا منام كما هو رأي عدد من كبار الصحابة فيهم عائشة زوجة الرسول ومعاوية بن أبي سفيان، وهو جدل لا بد من الإشارة إليه.
ولكنني أود التوقف هنا عند موضوع أجمعت كل كتب الرواية على ذكره في رحلة المعراج وهو موقف الرسول أمام الله والحوار القدسي الخالد الذي نقله الرسول، في محاورة الله حين فرض عليه الصلاة، وقد فرضت خمسين صلاة في اليوم والليلة، وفي سياق نص الحديث الشريف فإن النبي الأكرم وقف أمام الله ليبدي وجهة نظره بثقة قائلاً: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك!! وهنا يخفف الله عن الرسول خمس صلوات فتصبح خمسة وأربعين في اليوم والليلة، ولكن الرسول كمحام بارع ماهر شجاع: يطالب مرة أخرى بتخفيض عدد الصلوات ويتم تخفيفها خمساً وتستمر المطالبة ثم تخفف خمسا فخمساً إلى أن تستقر عند خمس صلوات في اليوم الليلة، يقول فيها الله قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.
وبعد……… فما معنى هذا الجدل الديني على صفحات بلدنا في أمر جرت أحداثه قبل أربعة عشر قرناً في السماء؟
الواقع أن الموقف النبوي الشجاع يطرح سؤالاً في غاية الأهمية وهو: هل ندرك الأفق الكبير الذي منحه الإسلام للحوار والبرهان، بحيث يتاح لك أن تحاور الله نفسه، وتقدم حجتك ورأيك بالبرهان والتفصيل، ويتم من خلال الحوار تعديل المرسوم الإلهي بما يتفق مع مصالح الإنسان؟
بالتأكيد هو سؤال كبير، ولكننا نضعه في هذا اليوم الشريف أمام الاستبداد الذي قام بقمع الفكر الحر منذ قرون باسم الرب، في حين أنه يقرأ علينا في كل يوم سورة الإسراء وفيها خبر النبي الشجاع العظيم الذي تمسك بمعطفه أمام الله وراح يدافع عن رأيه وحجته إلى النهاية!!
بالتأكيد فإن الله لا يجهل الحجج التي ساقها النبي الأكرم وهو أعلم بعباده، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ولكنه ببساطة أراد أن يشترك الإنسان في اقتراح الشريعة، وهو بالضبط ما فعله النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، واستجابت له السماء.
مطلوب من المؤمن أن يفكر ويحاور، ولا يوجد في الإسلام تابو في وجه العقل، وليس من الإيمان في شيء أن تسير مغمض العينين، وأن تقفو ما ليس لك به علم، وأن تقول إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، إنه سلوك مصادم لإرادة الرسول الكريم الذي جاء ليخرج الناس من ضباب الخوارق إلى ضياء السنن، وليقول للعالم هذه رسالة العقل والحجة والبرهان.
أياً كان المعراج، رحلة بالروح والجسد، أو رؤيا حق تعلم منه الإنسان، أواستغراق في غار تأمل، فإنه في النهاية حوار جرى في السماء من أجل أن تتعلم منه الأرض ثقافة العقل والحجة والبرهان.
على فراش الرسول
علي بن أبي طالب أول فدائي في الإسلام، وهو وسام حق ناله أسد الله الغالب يوم الهجرة العظيمة حين عهد إليه الرسول أن ينام على فراشه إلى الصباح من أجل أن يموه على المشركين أمر خروج النبي الكريم من داره، وهو ما سيساعد في تأجيل خروج المشركين في مطاردة النبي الكريم عدة ساعات وهي ضرورية ليكون المهاجر قد غادر مكة..
ولكن مهمة أخرى عهد بها إلى علي وهي بالغة الدلالة نمر علها عادة مرور الكرام وهي أنه كان مكلفاً من قبل الرسول الكريم بإعادة الأمانات إلى أصحابها، فقد كان النبي الكريم أوثق أهل مكة عند قريش وكان اسمه الصادق الأمين، وكانت قريش تضع عنده الودائع، وحين أراد الهجرة رأى من واجبه أن يرد الأمانات إلى أصحابها فعهد بذلك إلى علي بن أبي طالب، وقد كلفه ذلك عناء الخطر الأكيد في سبيل الأمانة.
قال ابن إسحاق : وأقام على بن أبى طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله الودائع التى كانت عنده.
لم يكن النبي الكريم يجهل أن قريشاًَ ماضية إلى استباحة ماله ومال أصحابه فقد استباحت دمه قبل ذلك، وما إن خرج من مكة حتى وثبت قريش عبر أبي لهب ومن معه من بني هاشم فباعوا بيت الرسول ومتاعه وبيوت أصحابه وأملاكهم وراحوا يجهزون بها قوافل التجارة إلى الشام، واعتبروها غنيمة مشروعة!!
وحين عاد النبي الكريم بعد ثمانية أعوام يوم فتح مكة قالوا له يا رسول الله ألا تنزل في دارك قال لهم بمرارة: وهل أبقى لنا عقيل من دار؟؟؟
حين أقرأ هذا الموقف النبوي الكريم تأخذني الحيرة من فتاوى باستباحة مال الكافر ومتاعه، والكافر هنا كلمة مطاطة يمكن أن تشمل تسعين بالمائة من سكان الكوكب بدءاً من شارون وبوش إلى بوتين إلى شافيز إلى بانكي مون ثم إلى الشعوب الغربية بحالها، ثم تنسحب هذه الفتاوى على المخالف في العقيدة والمذهب ورأى العالم المشهد العراقي في استباحة الدم والعرض والمال في الحرب الطائفية المقيتة، وحتى لا نتهم بالتهويل فقد سمع العالم تلاوة سوداء لهذه الفتاوى عبر شاشات الإعلام الغربية حين بدأ يطل على الناس القرصان أبو حمزة صاحب اليد الشنكل الذي جعل منه الإعلام الغربي نجماً تلفزيونياً يملأ شاشات الفضاء الغربي ليمارس دوره في الدعوة إلى الله بالقنبلة والبندقية الحسنة، وحين سئل عن إقامته في الغرب بلاد المشركين لم يتردد في قوله: نحن نقيم هنا اضطراراً وهذه الأرض نجسة، ونحن ندخلها لقضاء الحاجة، وباختصار فإن أوروبا هي مرحاض المسلمين!!!
أشعر بالخجل وأنا أروي كلاماً ساقطاً كهذا، وكان من اللائق أن لا أذكر هذه الكلمة هنا لولا أن القرصان المذكور ذكرها في ثلاث محطات أوروبية وشاهدها نحو مائة مليون أوروبي وهو ما يعني تقريباً خمسمائة ضعف من يقرؤون جريدة بلدنا على أقل تقدير!!
هل يمكن أن تكون ثقافة لئيمة مسمومة كهذه تنتمي إلى ثقافة المهاجر الأول الصادق الأمين، الذي ترك علياً على فراشه يتعرض لخطر الموت من أجل أن يرد الودائع لأصحابها:
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
إنها رسالة خالدة قرأها العالم في سلوك الرسول: لا يجوز أن يخرجك سلوك الجاهلية عن موقفك الرباني.
أيام ديمقراطية في حياة الرسول:
لم تستوف الدراسة ما يكفي من أيام الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ولكنني أورد لك هنا طرفا مما يجب دراسته من السيرة النبوية مما يشكل برأيي مواقف ديمقراطية ممتازة قدمها رسول الله ولكنها لم تحظ بما تستحق من الدراسة والبحث:
في الشورى:
موقفه من خوض غزوة بدر حين لم يقرر الخوض في هذه الحرب إلا بعد أن استمع رأي أصحابه من أهل المدينة خاصة نظراً لالتزامهم بالدفاع عن الرسول في المدينة ولا بد من فهم رأيهم والاستماع إليه قبل اتخاذ قرار الحرب، وهذا يؤسس لحق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة.
موقفه في أسارى بدر حين لم يختر أن يبت في أمرهم إلا بعد شورى بين أصحابه، وكان رأي فريق عمر قتل الأسارى ورأي فريق أبي بكر العفو عن الأسارى وكانت نتيجة الشورى هي اختيار حصيلة رأي الجمهور، وهو إطلاق الأسرى بشرط دفع الفدية، وهو ما يحقق طرفاً من العفو الذي طالب به فريق أبي بكر وطرفاً من العقوبة التي طالب بها عمر.
موقفه من اختيار مكان المعركة يوم بدر فقد رجع عن رأيه وقبل رأي الحباب بن المنذر حين ظهر له وللصحابة أن رأي الحباب كان أحكم وأنسب للأمة
موقفه في يوم أحد حين قرر البقاء في المدينة والدفاع عنها من الداخل ولكنه فيما بعد ترك رأيه واستجاب لرأي الأغلبية الذين كانوا يرون أن الأفضل هو الخروج من المدينة ومواجهة العدو خارجها، وقد استجاب لرأيهم وترك رأيه وقد شعر الصحابة بذلك ودخلوا عليه وقالوا يا رسول الله لعلنا أكرهناك ؟ فإن شئت فالزم رأيك.. لا نعصك أبداً !! ولكن الرسول الكريم لم يرجع إلى رأيه وظل ملتزماً بخيار الجماعة، وقد أغضب موقفه هذا عبد الله بن أبي سلول الذي كان يرى رأي الرسول ويرفض الخروج من المدينة، وهكذا فإنه رفض تغيير رأيه إلى خيار الأكثرية وخرج من المسجد مغضبا وقال: أطاع الصبيان وعصاني!! والله لا أدري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس!!
وبعد أن تلقى أمر الله تعالى: وشاورهم في الأمر لم يكن رسول الله ليترك الشورى في شأن من شؤون حياته، وقد وشف القرآن الكريم واقع مجتمع الرسول الكريم بقوله: والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم.
في المساواة:
كان دستور المدينة أول وثيقة مساواة في جزيرة العرب تحقق المواطنة بغض النظر عن النسب والعرق والدين الذي كان العرب يؤدونه للمسألة برمتها، وكان في نص الميثاق أن محمداً ويهود بني عوف أمة واحدة من دون الناس لهم معاقلهم وربعتهم التي كانوا يتعاقلون بها.
وبذلك فإن هذا النص قطع الامتياز الديني الذي هو أس الدولة الثيوقراطية، حيث كان الناس على دين ملوكهم وفي أحسن الأحوال فإن المخالف في الدين مواطن من الدرجة الثانية، وهو ما ترفضه القواعد الإسلامية رفضاً شديداً، وهنا يقوم الناس أمام مسؤولية مشتركة متساوية يحكمها منطق القرآن الكريم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
وبالمنطق إياه يمكن قراءة نصوص القرآن الكريم التي تحدثت عن الآخر بحقوق كاملة في ظلال الشريعة وهو ما أقره الفقهاء في إطار السياسة الشرعية بل إن هذه الدراسة ماضية لتقرير أنه هو حكم الله في الدنيا وفي الآخرة:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
ومن الجدير بالذكر أن هذه الآية نزلت مرة ثانية في سورة المائدة بنفس الصيغة إياها مع تغيير طفيف في ترتيب الطوائف.
وفي سورة آل عمران في سياق حديث القرآن الكريم عن أهل الكتاب: وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين.
وفي النص القرآني: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً.
في خطابه في حجة الوداع كان يرسم الملامح النهائية للإسلام في رسالته نحو المساواة أيها الناس إن أباكم واحد وإن ربكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
قال لأبي ذر الغفاري حين سب بلالاًً: أعيرته بأمه؟؟ أعيرته بأمه؟؟ إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم.. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ملا لا يطيقون فإذا كلفتموهم فأعينوهم.
في حرية الرأي والتعبير
دعا إلى احترام حرية التعبير ونهى أن يكره الناس على ما لا يعتقدون ونص القرآن الكريم واضح جلي في ذلك: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.
وفي سبب نزول الآية أن ناسا من أهل المدينة كانوا قد أرسلوا أبناءهم إلى أحبار اليهود يتعلمون منهم الدين فتهودوا فلما جاء رسول الله إلى المدينة أمرهم آباؤهم أن يتركوا اليهودية ويتبعوا الرسول فامتنع بعضهم فأراد الآباء أن يكرهوهم على الإسلام فأنزل الله تعالى: لا إكراه في الدين.
وفي شاهد ذي دلالة فإن القرآن الكريم أشار أن الله استمع إلى حوار إبليس مع أنه أعلن أنه سيناضل ضد إرادة الله وقال ولأضلنهم ولأغوينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله، وفي مكان آخر قال: فبما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين، وقال: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين.
ومع ذلك كله فإن الله لم يشأ أن يقمع إبليس وأن يمنعه من حقه في الاختيار بل مكنه من فعل ما يريد وحين سأله أنظرني إلى يوم يبعثون، استجاب له بقوله: إنك من المنظرين، وقال: واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
وخلال التاريخ الإسلامي ظلت الكنائس المسيحية والكنس اليهودية تقوم بممارسة دورها بحرية داخل المجتمع الإسلامي وظلت كتب التثليث والأقانيم محفوظة في الكنائس ولم يسجل خلال التاريخ أي اعتداء عليها على الرغم من مخالفتها الصريحة والواضحة لقيم العقيدة الإسلامية في التوحيد.
بل إن كتب الصابئة والدهرية والملاحدة ترجمت إلى العربية على يد أمهر علماء اللغات، ودفع ثمن ترجمتها وزنها ذهباً ومن بيت مال المسلمين على الرغم من أنها كانت في العمق تتناقض تناقضاً تاماً مع قيم الإسلام في التوحيد.
في حقوق الإنسان
نص القرآن الكريم على تكريم الإنسان بقوله تعالى: ولقد كرمنا بني آدم، وفي سياق هذا التكريم أمر الله ملائكته بالسجود لآدم فسجد الملائكة كلهم أجمعون وهو سجود تسخير وخدمة وليس سجود عبادة ، ومن الواضح أن هذا التكريم لبني آدم كان قبل النبوة وقبل الدين، ولم يكن بسبب تميز آدم أو سعة علمه أو كثرة عبادته، لقد كان تكريماً للإنسان لمحض أنه إنسان وشرح للسياق الذي اختار الإسلام أن يضع فيه الإنسان خليفة لله في الأرض.
ومن أجل ذلك فإن الإسلام حدد ببرنامج طويل الأجل طريقاً للخلاص من الرق والعبودية وتحقيق حرية الإنسان وكرامته، وذلك عبر الدعوة إلى الإعتاق وبيان أحجر المعتقين، وما قام به بنفسه من إعتاق الناس والإحسان إليهم، ثم فرض نظماً متعددة للخلاص التدريجي من الرق كنظام المكاتبة والتدبير وأم الولد وهي نظم معروفة في كتب الفقه تهدف إلى شيء واحد وهو منح الإنسان حريته، كما اعتبر الإعتاق كفارةمفضلة للخلاص من كثير من المخالفات الشرعية كاليمين والظهار وكفارة القتل الخطأ وفداء النذر وغير ذلك.
وبحسبك إشارة إلى ذلك أنك لا تجد في كتب الفقه كلها باباً واحداً للرق، بل إن سائر كتب الفقه تختار عنوان: كتاب العتق، في إشارة واضحة إلى تشوف الإسلام للإعتاق.
في حقوق المرأة
لا شك أن النبي الكريم كان نصيراً لقضايا المرأة، وقد دافع عنها بحكمة وبصيرة، وأعلن مساواتها التامة بالرجال وقال: النساء شقائق الرجال، وأخبر القرآن الكريم بأن النساء والرجال بعضهم أولياء بعض وهذه الولاية هي أعلى درجات المساواة وهي بيان جلي أنه لا يجوز أن ينتقض من حقها من شيء، قال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وبحسبك أن تعلم أن المرأة التي كانت من قبل جزءاً من متاع الرجل وميراثه قد أصبحت في الإسلام فقيهة وعالمة وخطيبة وشاعرة، وقادت الجيوش ومارست المعارضة السياسية، ووليت أدق المسؤوليات العامة.
بل إن القرآن الكريم منح المرأة في أكثر من مناسبة شرف الوحي ومخاطبة السماء، حتى نص ابن حزم وابن حجر والقرطبي أن عدداً من النساء بلغن رتبة النبوة وهي أرقى رتب السمو البشري.
وقد كتبت كتاباً خاصاً من قبل عن حقوق المرأة في الإسلام تحت عنوان المرأة بين الشريعة والحياة، وقد طبع الكتاب عدة طبعات، وأثار جدلاً واسعاً.
وتتركز فكرة الكتاب في بيان موقف الرسول الكريم كرائد تحرري في قضايا المرأة، دافع عنها وانتصر لها، وحقق لها الضمان التشريعي لحقوقها على وجه كريم.
في حقوق الطفل
ذاق النبي الكريم مرارة اليتم وعرف عناء الطفولة المعذبة، وكان له مواقف هامة في الانتصار للطفولة البريئة، وقال: أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وقال خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يكرم وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يهان، وحرم التبني وأجاز الكفالة وشجع عليها، حماية للطفل أن يكون ضحية الكذب والتغرير.
وكان هو نفسه من يلاعب الأطفال ويدافع عنهم ويعرف حوائجهم، وقد منع من استغلالهم جسدياً ومعنوياً، ومنع من إجبارهم على اعتناق ما لا يريدون، وفي حق الأطفال في اختيار اعتقادهم نزلت الآية الكريمة لا إكراه في الدين.
وقد كان الرعيل الأول حول النبي الكريم في معظمه من الأطفال الذين لم يبلغوا الحادية والعشرين بل إن كثيراً منهم لم يبلغ الثامنة عشرة، وقد سطر التاريخ أخبارهم ومواقفهم وموقف النبي الكريم من توفير الظروف التي تمنحهم حق الحياة الكريمة وتمنع كافة أشكال استغلالهم وقهرهم.
وعلى سبيل الإشارة فإن أسامة بن زيد وهو طفل لما يبلغ الثامنة عشرة كان على رأس جيش عظيم من جيوش الفتح فيه أبو بكر وعمر!!
وقد أصدرت كتاباً خاصاً بعنوان أطفالنا أكبادنا، تحدثت فيه عن موقف الإسلام من اتفاقية حقوق الطفل التي أقرتها الأم المتحدة، وطالبت بالانضمام إليها بدون تحفظ حماية لأطفالنا وتأكيداً لدور الإسلام في رعاية الطفولة والأمومة.
في احترام الخبرة العلمية:
دخل النبي المدينة فرآهم يؤبرون النخل والتأبير هو لون من تلقيح النخل غير المباشر يعتمد على غبار الطلع في تلقيح الأشجار، ولم يكن لهذا التأبير أثر ظاهر في الشجرة الأمر الذي دفع النبي الكريم لإنكار ما يصنعون وقد حسبه من تأويلات الجاهلية وانتظار تأثير الجن، ولكن النخل في ذلك العام لم يحمل شيئاً، وحين عرف الأمر خضع للحق وقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم فإنما أظن ظناً.
وفي شاهد آخر شكا الناس للنبي الكريم الغيلة وهي الجماع وقت الرضاع، وأخبره بعضهم أن الغيلة قد تضر بالأبناء فهم أن يمنع الناس من ذلك ولكنه استعان بخبرات متعددة وعلم أن لا أثر للغيلة على الرضاع لأن جهاز الإرضاع لا يرتبط بالجهاز التناسلي، فقال في شجاعة نادرة: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ولكن علمت أن فارس والروم يصنعونه ولا يضرهم فافعلوه.
وهنا فإن موقفه جلي في وجوب الاستجابة للخبرة العلمية والخضوع لها ولو كانت الأفكار المسبقة تقول بخلاف ذلك.
في الرجوع عن الخطأ والخضوع للصواب:
جاء القرآن الكريم صريحاُ في شرح الطبيعة البشرية للرسول الكريم، وقطع أي احتمال للجدل في ناسوته وبشريته، والمتأمل في القرآن الكريم سيجد ذلك مسطوراً فيه على أتم غاية من الوضوح والبيان.
في موقفه من اقتراحات قومه للتخلي عن قيم المساواة في الإسلام والاستجابة لطلبهم في فرز الناس إلى طبقتين أغنياء وفقراء جاء القرآن الكريم واضحاً : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين، وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين.
وحين هم النبي الكريم أن يستجيب لطلبهم رجاء تألف قلوبهم، جاء القرآن شديدا صارما: وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً!! ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاُ قليلاً!! إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً
وجاء القرآن الكريم في آيات أخرى يدعو النبي الكريم للاستغفار من ذنبه والعودة عن الخطأ إذا ما تبين له الصواب: فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار.
أما الرسول نفسه فقد أعلن ذلك على الملأ وقال: إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أجد غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني.
ولا شك أن حلف الرجل على شيء لا يكون إلا على خلفية يقينه بما يحلف فيه، ولكنه على ذلك لم يتردد في العودة عن يمينه والرجوع عن رأيه إذا ظهر له أن الثواب في تركه.
في تقرير احترام القضاء والخضوع للقانون:
وفي سنة النبي الكريم كثير من النصوص التي تدلك بوضوح أن النبي لم يستخدم أبداً امتيازات سماوية للحكم بين الناس وإنما كان يتصرف وفق العدل والقانون:
أيها الناس إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها.
وكذلك نشير هنا إلى موقفه الشجاع الذي كرره مراراً بقوله: إذا قضيت لكم بالشيء من أمر دينكم فخذوه وإن قضيت لكم بشيء من أمر دنياكم فإنما أظن ظناً، أنتم أعلم بأمور دنياكم.
وأحاديث السيرة النبوية كثيرة في هذا المعنى وحين كان يرسل أصحابه بأوامر واضحة كان يقول لهم: إن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب فلا تظلموا الناس في شيء، وكان علي بن أبي طالب قد سأله يوماً يا رسول الله أحدنا ترسله في أمر أيكون كالسكة المحماة أم إن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب؟؟ قال: بل إن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
ورفض مراراً أن يتكلم باسم الرب فيما لم يفوض فيه ونزل القرآن الكريم بعتابه عشرات المرات، وبإمكانك أن تتأمل في هذه الآيات الكريمة التي نزلت في إطار معاتبة النبي الكريم على تسرعه في القضاء ضد يهودي لمصلحة رجل من المسلمين اسمه طعمة بن أبيرق وكان طعمة هذا قد سرق متاعاً من بعض الأنصار فلما أوشك أن يفتضح نقل المسروق إلى رجل يهودي اسمه زيد بن السمين وحينما ادعى أصحاب المتاع المسروق على طعمة بن أبيرق تنصل من ذلك ودفع بالتحقيق إلى بيت زيد بن السمين حيث ضبطت عنده المواد المسروقة، وبدافع من الدفاع عن المؤمنين جرى بسرعة اتهام اليهودي زيد بن السمين بالسرقة بقرينة وجود المتاع المسروق ولم تتح له فرصة تقديم البينة والشهود على براءته، وهنا ينزل القرآن شديداً في معاتبة النبي الكريم:
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً، واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفيهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله عليماً حكيماً، هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً؟
فإذا كان النبي الكريم وهو مصدر التشريع يصدر عنه الحكم مراراً ثم يراجع فيه ، ويقر عشرات المرات بأن غير ما قضى به كان أحكم، وفي سياق قريب من ذلك نذكر مسألة تحول القبلة مرتين ومسألة أسارى بدر وندمه على ما قضاه بشأنهم بعد عتب القرآن عليه، وإذنه للمتخلفين ثم مراجعة القرآن الكريم له، وإباحته لحوم الحمر الأهلية ثم نهيه عنها، وإباحته للمتعة ثم نهيه عنها، ومنعه من ادخار لحوم الأضاحي ثم إباحته لها، وفتواه بالمفارقة في مسألة الظهار ثم رجوعه عن ذلك وإقراره الكفارة بعد مجادلة المرأة بالحجة والبرهان، وفتواه بالحد على ثابت بن قيس حين قذف امرأته بشريك بن سحماء ثم رجوعه عن ذلك، وتشريع الملاعنة في قاذف الزوجة خصوصاً، وإعداده الصلح مع غطفان وهوازن يوم حنين ثم اتباعه لرأي السعدين في الكف عن المصالحة، وقراره لزوم المدينة لمواجهة جيش أحد ثم تغيير رأيه فيما بعد وخروجه إلى جبل أحد، وهي مواقف تعد بالعشرات إن لم نقل بالمئات وكانت ترسم في النهاية استجابة واضحة لمقتضى الحال سواء أكان ظهوراً لحقيقة علمية أو استجلاء رأي شعبي أو مصلحة عليا للأمة.
ولا أعتقد أن ثمة تعارضاًُ بين التعبير الأصولي (النسخ أو طرو النازل) وبين التعبير العصري الاستجابة للسياق الديمقراطي، بجامع أن كلاً من الأمرين في المآل هو عدول عن حكم شرعي مبرم إلى فيه مصلحة الأمة والشعب، وعدم صحة الاعتذار بالمقدس والمبرم في مواجهة مصالح الأمة الحقيقية.
ديمقراطية الرسول والإسلام السياسي:
ليس من شرط هذه الدراسة أن نمضي إلى بحث أصولي فقهي ولكن ما أردت تعزيزه هنا هو أن الشرط الديمقراطي لا يتناقض من وجهة نظري مع حضور النص الديني، ولا يستلزم الإقرار بالديمقراطية في سن القوانين ومراقبتها أي حاجة لرفض النص المقدس أو استدباره.
ولعل أوفى دراسة في هذا السبيل هي ما قدمه العلامة علي عبد الرازق في كتابه الشهير الإسلام وأصول الحكم الذي أعاد كتابة الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية في ضوء المنجز الديمقراطي العالمي، وقسم الحضارة الحديثة في إصلاح علاقة الحاكم بالمحكوم.
وهكذا فإن دعوة الجمهور الكريم لإدراك إسلامية المنطق الديمقراطي في الحكم وأنه ليس متعارضاً مع الشريعة يقع على رأس أولويات الخطاب السياسي الديني لحركة التغيير الاجتماعي.
وهنا ببساطة فإنني ضد قيام أحزاب ثيوقراطية تنتج الاصطفاف الديني في المجتمع، وتسلب السلطة من الشعب إلى الإكليروس، أو الملالي، وهنا فإنني أدفع باتجاه قيام أحزاب ذات مرجعية إسلامية، لا تحتكر اسم الإسلام وتقبل صراحة بالشرط الديمقراطي من تداول السلطة وتكافؤ المواطنين وتساويهم أمام القانون ومنع تغول الإكليروس وتقرير حق الأمة في التشريع وفق مصالحها الكبرى.
إن قيام الأحزاب الدينية بالنطق باسم الرب في الشأن السياسي أمر بالغ التأثير في الحياة العامة وسيؤدي إلى مضاعفات خطيرة خاصة في بلد تسكنه طوائف كثيرة تختلف مرجعياتها الدينية والطائفية ويجاوره بلدان جاران يصطليان بنيران الفتنة الطائفية التي قادتهم إلى حرب أهلية كلفت مئات الآلاف من القتلى.
وبالجملة فمرحباً بالأحزاب الملتزمة لحماية الفضيلة والأخلاق والعفاف والعدالة والتنمية، ولكن ليس من المفيد في شيء بروز كتل سياسية تحمل اسم الإسلام الأمر الذي سيجعل الآخرين مباشرة في مواجهة غير مرغوبة مع الإسلام في حين أنهم في الحقيقة غنما يواجهون برامج سياسية لكتل محددة من الناس.
ولكن هذه الرغبة والقناعة لدي لا يتعين فرضها على الناس، وإنما هي برنامج ثقافي يتعين علينا أن نقنع به الناس وحين نخفق في ذلك ولا يتفهم الشعب عدالة مطلبنا فإن الاستجابة هنا لمطالب الشعب يبدو أكثر ديمقراطية من استئثارنا بالتفكير والتقرير نيابة عنه، ومن المطلوب حينئذ إتاحة الفرصة لهذا للون من التدافع السياسي والقبول بنتائجه تحت شرط الديمقراطية الواضح من القبول بالمساواة وتداول السلطة.
وفي إشارة ذات دلالة نهى النبي أصحابه بوضوح أن يتحدثوا باسم الرب وفي حديث حازم قال لأحد أصحابه وهو يسيره في مهمة قتالية وهو بريدة بن الحصيب امض باسم الله وإن أرادوك على أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا ولكن أنزلهم على حكم نفسك.
ولا شك أن هذا الذي أوردناه هو محض شواهد عابرة، وردت على سبيل الاستئناس وإنني آمل أن تساعدني الأيام لتقديم دراسة استقصائية إحصائية تتناول سائر ما ورد عن الرسول الكريم من مواقف ديمقراطية لحماية الإنسان والأوطان.
النائب والناخب أمام الله
ليست المسألة علاقة بين النائب والناس وإن كانت بالطبع من أهم ما ينبغي أن يهتم به النائب، ولكن عليه أن لا ينسى أنها علاقة بينه وبين الله، وأن الله على أبر هذا وأصدقه وأوثقه، وأن الله ولي المؤمنين، وكفى بالله حسيباً وكفى بالله وكيلاً.
إن أول ما ينظم علاقة النائب بالناخب هو قول النبي الأكرم r من استعمل على المسلمين رجلاً وهو يرى أن غيره خيراً منه فقد خان الله ورسوله.
فالنيابة أمانة وهي من مسائل التكليف الشرعي التي لا يجوز التفريط فيها بحال من الأحوال، وعلينا أن نتذكر هنا أن النبي r رسم للأمة جانب المسؤولية الشرعية في الكلمة، وبإمكانك أن تستعرض في كتب السنة النبوية عشرات الأحاديث النبوية الشريفة التي تصدرها قول النبي الأكرم: من قال كذا، وقوله أيضاً وهل يكب الناس على مناخرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم وأشار إلى لسانه، وقال مراراً لمعاذ: أمسك عليك هذا، وهو بذلك يشير إلى قدسية الرسالة التي ينبغي أن يعمل لأجلها المؤمن، ومسؤولية الكلمة أمام الله.
هذا الوعي يجب أن يكون في ضمير الناخب حين يدعى إلى صندوق الانتخابات ليقول كلمته الصادقة على أساس من مراقبة الله سبحانه، والله على أبر هذا وأوثقه وأصدقه، فالصوت ضمير المؤمن، وهذا يقتضي أن يجتهد المؤمن في البحث عمن هو أصلح للأمة وأوثق في معرفة مصالح الناس، وعلى القادر الواثق أن يقول كما قال يوسف عليه السلام: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، وعلى العارف أن يقول لصاحب القرار: إن خير من استأجرت القوي الأمين، وحين ندعو الله أن يولي علينا خيارنا ولا يولي علينا شرارنا فإن المطلوب هنا أن تجعل مع الدعاء عملاً وسلوكاً، وأن يسعى المؤمن في الأرض ليصل الثقاة المخلصون إلى مواقع العمل العام ليقوموا بخدمة الخلق، وقد قال النبي r إن لله عباداً اختصهم بقضاء حوائج الخلق حببهم إلى الخير وحبب الخير إليهم أولئك الآمنون يوم القيامة.
ومن هدي الرسول الأكرم في ذلك أيضاً قوله: من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام.
إنها إذن علاقة في المقام الأول بين النائب وبين الله، وبين الناخب وبين الله، وأن الله ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر.
لم يحدد النبي r شكل العلاقة بين النائب والناخب ولكنه حدد مضمونها، وتعين على الأمة أن تكون بمأمن من ذلك كله حين تدعى إلى الله ورسوله وتفهم مقصد الإسلام في الدعوة إلى الحق والخير والعدالة والتنمية.
قال لي محاوري في إحدى الفضائيات وهو يحاورني: كيف تقبلون أن يكون الرسول r لم يذكر اسم خليفته بالنص عليه؟ ولو كان لديك عقار أو غنمة أو دجاجة وأردت السفر فإنك لا بد أن توصي بها وتعين عليها وكيلاً أو حفيظاً؟؟ فكيف يتصور أن النبي الكريم لم ينص بصراحة على خليفته من بعده؟ قلت له: إن النبي لم يترك وراءه غنما ًولا دجاجاً، وإنما ترك أمة راشدة واعية قيادها العقل والبرهان، ولهذا السبب فقد كانت وصيته لهم هي الشورى وأمرهم شورى بينهم، ومن خلال الشورى يمكنهم أن يصلوا إلى الأصلح والأنفع لشؤونهم وأحوالهم في الحاضر والمستقبل، وهذا بالضبط ما كان.
أما شكل هذه الشورى فهو أيضاً لم يتحدد بنصوص سماوية وإنما تحدد بمصالح المسلمين الكبرى فالملاحظ أن أبا بكر رضي الله عنه تولى الخلافة ببيعة من أهل الحل والعقد، جماعة الشورى في سقيفة بني سدة ثم بايعه الناس فيما بعد، أما عمر فقد وليها بالنص الصريخ من أبي بكر، ثم بايعه الناس، وأما عثمان فقد وليها بالشورى بين الستة من العشرة المبشرين الذين عهد إليهم عمر بن الخطاب بذلك، ثم بايعه الناس، أما علي رضي الله عنه فقد وليها في ظروف مختلفة وبايعه الثائرون في ظروف أشبه بحالة الطوارئ ثم بايعه الناس فيما بعد، فهذه أربعة أنماط من البيعة تختلف فيما بينها اختلافاً واضحاً وهي ترسم أفق الاختيار للأمة فيما فيه رشدهم ومصالحهم، وتمنح الأمة هامشاً واسعاً من الاختيار فيما يتناسب مع ظروفهم وأحوالهم، وهذا الأمر هو عينه ما نشير إليه اليوم في حاجة الأمة وظروفها.
فمن المؤكد أن النبي الكريم لم ينصَّ صراحةً على شكل النظام الشوروي الذي يريده ولكنه رسم خطوطه العامة وترك للأمة أن تختار، وتبحث عن الإرادة الجماعية في ذلك كله.
وهنا بالضبط ينبغي أن نتذكر أهم مقاصد الرسالة الإسلامية وهو ما أشار إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي بقوله إن الله أرسل النبي الكريم ليخرج الناس من ضباب الخوارق إلى ضياء السنن ، ووفق ذلك فإن النبي الأكرم r قاد كفاحه في الأرض ليحرر الإنسان من التبعية العمياء إلى الإرادة الحرة، كان الإنسان من قبل إذا أراد البيع أو الشراء أو الطبخ أو النفخ يحتاج إلى من يأمره وينهاه ويبين له ما ينبغي عليه، وفي قصة بني إسرائيل لجأ القوم إلى الأنبياء من أجل معرفة لون البقرة ومن أحل معرفة عمر البقرة وصفات البقرة!! وهو يعكس لك صورة شعب اتكالي كسول خامل لا يملك من زمام المبادرة من شيء، ويحتاج دوماً إلى إرشاد من السماء في أمر طعامه وشرابه ومبيته ومنامه ومقامه!! أما جوهر الرسالة في الإسلام فلم يكن كذلك على الإطلاق إنه دعوة للعقل أن يتفتح وللروح أن تنطلق، ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين؟؟ والمؤمن يقوم بأداء رسالته على الوجه الذي تتحقق فيه مصالحه، ولا يظلم فيه الناس بعضهم بعضاً، وهو معنى المسؤولية التي أمر الله سبحانه بها سائر الذين يعملون في الشأن العام من الناس.
نعم ليس كل مصل يصلي إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي وكف شهواته عن محارمي ورحم المصاب وآوى الغريب وأغاث اللهفان، فذلك الذي أظله بظلي، وهو معنى يؤكد الحقيقة التي لا يجوز أن تغيب عن البال وهي أن المؤمن مدعو للقيام بواجبه في الدعوة والحجة والبرهان.
لا يوجد شيء يحل المسلم من مسؤوليته أمام الله في الكلمة والصوت، فهي أمانة عهد الله بها إلى الإنسان، وليست الكلمة في الإسلام محض تجويف صوتي ينتج من احتكاك الأعضاء في سقف الحلق واندفاع الهواء من الجوف، بل هي في العمق أقدس ما أؤتمن عليه الإنسان، فالنكاح كلمة والطلاق كلمة والبيع كلمة والشراء كلمة، والإيمان كلمة ينطق بها المؤمن وهي فرق ما بين المؤمن والكافر، وكان النبي الكريم عندما ينادي العرب إلى رسالته يقول لهم بكل براءة : أعطوني كلمة واحدة تدين لكم بها العرب وتذل لكم بها العجم، ولم يكن يطلب منهم أكثر من كلمة التوحيد. بل إن الله عز وجل عندما أراد أن يمنح السيد المسيح تكريماً من لون خاص فإنه أضاف إلى ألقابه الشريفة الكريمة نبي الله ورسول الله أضاف الكلمة التي ميزها به وهي أنه كلمة الله، ولهذا المعنى فإنه أصبح من أولي العزم من الرسل وبوأه الله مكاناً علياً بين الأنبياء، إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
إنها الكلمة، مكانها في الإسلام مكان الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال، لا يجوز بيعها ولا شراؤها، ومكانها في ضمير المؤمن مكان الإيمان والعمل الصالح، وعلى الأمة أن تتذكر أن الله تعالى لا يصرف الأنظار عن هذه الحقيقة.
يعتذر بعض الناس بأنهم لا يملكون سلطان الحرية والكلمة، وأنهم يختارون ما اختاره لهم الكبار، وحين يقف الناس أمام الله سبحانه وتعالى ويقول هؤلاء ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناًَ كبيراً فإن ذلك كله لن يشفع لهم بشيء ويظل الخطاب القرآني واضحاً في مسؤولية الأفراد: لكل ضعف ولكن لا تعلمون، إن الله آتاك العقل والبرهان، ومنحك الحرية في الاختيار ولم يجعل لأحد من خلقه سلطاناً على عقيدة أحد، وقال للنبي الأكرم r لست عليهم بمصيطر، وقال لا إكراه في الدين، وحين ينفي الإكراه في الدين فكيف سيقبل منك الاحتجاج بالإكراه في أمور الدنيا، إنه لا إكراه في الإسلام، وعليك أن تكون هنا في بينة من هذا الأمر، ولن يقبل الله يوم القيامة احتجاجك بأنك كنت مكرهاً، فالإكراه فيما سلب فيه الاختيار أما والاختيار قائم ، فإن الله ينتظر من عباده أن يقولوا ما يعتقدون، ولا أشك أبداً أن الله سبحانه سيمنح المؤمنين فرصة القول الحق فيما يكونون فيه.
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
البرلمان الإسلامي
هل هناك إمكانية لقيام برلمان إسلامي? أما من حيث الطموح فالجواب نعم وتجربة البرلمان الأوروبي واضحة وجلية ولا يوجد عليها أدنى مزيد, فقد قامت الوحدة الأوروبية بعد قرون دموية طبعت علاقات أبناء القارة العجوز, وبعد نزاع ديني مرير لا يزال إلى اليوم يصر كل طرف فيه على احتكار الخلاص وإلقاء الآخر المختلف دينياً في جهنم, ولكنها قامت على الأرض بعد أن وضعت تاريخها في سياق السنن القرآنية تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون, وبعد أن أبعدت اللاهوت عن قرارها السياسي, وحصرت جدله بين العظة والقداس, رغم أنها لا تزال تحتفظ بالصليب في ضمائرها رسالة حب وفداء وقد رسمته في صدر العلم في أربع عشرة دولة أوروبية ولاتينية, وهكذا نجحت الوحدة الأوروبية وأصبحت خياراً ملهماً لكل شعوب الأرض لاكتشاف فائدة التوحد وإمكانيته, وللعمل على تكرار التجربة بأشكال وأبعاد على مقاس شعوبه وقضاياه.
إن سؤال البرلمان الإسلامي يقودنا إلى سؤال الأمة الإسلامية, فهل هناك أمة إسلامية بالفعل? البعض يشكك في ذلك ويرى أنه من غير الواقعي أن تقر بالمشترك بين الأندنوسي والنيجيري والموريتاني والبوسني لمجرد أنهم يؤدون شعائر مشتركة في المساجد ويقصدون قبلة واحدة في الصلاة.
سيكون جوابي مجروحاً لو انفردت بالجواب فأنا مهووس للعظم بفكرة الاتحاد الإسلامي, ومؤمن بكل تفاصيل هذا اللون من التوحد, ولا ينقص ذلك أبداً من يقيني بإمكان توحد العالم الإيماني بأطيافه السماوية جمعاء, ولا من إيماني بإمكانية توحد العالم الإنساني, فالعالم أسرة واحدة والخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
ولكني أفضل أن أدع الجواب هنا لكاتب أمريكي كبير وسياسي شهير, لا يمكن اتهامه بأنه متعصب للعالم الإسلامي أو أنه يتحرك في كتاباته بدوافع أصولية أو سلفية.
في كتابه الشهير الفرصة السانحة يؤسس نيكسون لقراءة خطيرة للعالم اليوم من وجهة نظر أمريكية بالطبع بل من وجهة نظر الجمهوريين الأمريكيين, ويؤسس لدور أمريكي مسيطر على العالم على أساس أن الله اختار أمريكا لتكون عالمه الأخير وأنها بشكل أو بآخر نهاية التاريخ, إلى غير ذلك من الأساطير التي يتغنى بها الأمريكيون عموماً ويتبناها المحافظون اليمينيون اليوم في البيت الأبيض.
كتب نيكسون كتابه هذا في آخر أيام حياته وهو لا يملك أدنى فرصة للعودة إلى البيت الأبيض وهو في سنوات الوداع, في الساعة التي يتوب فيها الفاجر ويؤمن فيها الكافر, وهو ما يجعل دراسته بعيدة عن الشبهات, وفي سياق رؤيته التحليلية يقدم للمعرفة نقطتين في غاية الأهمية فمن جهة الشكل يؤسس نيكسون دراسته إلى تقسيم الأمم وفق المشترك في تاريخها وواقعها, فيخصص فصلاً للولايات المتحدة وآخر لأمريكا اللاتينية وفصلاً لأوروبا الغربية وفصلاً لأفريقيا وفصلاً للاتحاد السوفيتي وآخر للصين ولكنه يختار تسميته العالم الإسلامي بوضوح للشعوب التي تسكن من المحيط إلى المحيط, ويدافع بحرارة عن رأيه على أساس أن هذه الشعوب ترتبط بالعقيدة الإسلامية وهي أكثر من رابط ثقافي وهي عقيدة بالغة التأثير في سلك هذه الشعوب عن بكرة أبيها.
ويقول إن الشعوب الإسلامية هي متحد حقيقي وإن عجزت السياسة عن ترجمة ذلك عملياً, ولكن الروابط الروحية في الإسلام أبقى أوثق من أن يتم تجاهلها, وهي قادرة بالقوة على تأسيس رباط اجتماعي ومتحد سياسي أقوى مما نظن.
وحيث يخوض في التفاصيل يقدم نيكسون رؤية جد متطورة وواعية لدور الإسلام في الحياة ودور الإسلام في البناء الحضاري, ويشير إلى أن الحضارة الإنسانية ازدهرت طويلاً في ظلال الحكم الإسلامي وإن علينا أن نحترم القيم الإنسانية النبيلة التي تجمع بين هذه الشعوب وتشج من أزر مصالحها.
إن سؤال الوحدة الإسلامية ليس تنطعاً في الغيب ولا هو مكابرة في المحسوس, بل استجابة طبيعية لهموم يتحسسها الناس من الناس من المحيط إلى المحيط ويأملون في بناء حياة مشتركة تكون فيها القيم الإسلامية مصونة محفوظة, وتستنهض المخزون الإيماني الكبير من أجل حماية المقدسات لإنجاز السلام في النهاية على أرض فلسطين ورفع البؤس الذي سببه إصرار الدول الغربية على تعذيب الشرق بإسرائيل ومشتقاتها ليتخلص الغرب من هموم الشعب المختار وتبعات الهولوكوست.
ربما ليس مطلوباً أن نكثر من الأدلة خاصة أن من قرأ هذا المقال هم من أبناء سورية التي ظلت تاريخياً جزءاً من برامج التكامل مع العالم الإسلامي, ولكن مناقشة هذا الحلم الجميل ستصطدم بشكل مروع مع واقع العالم الإسلامي المؤلم المعتد عبر سبعة وخمسين دولة عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي لا تكاد تشترك منه اثنتان.
في رسم سياسة خارجية موحدة, وغالباً ما تتشتت مواقفها في القضايا الكبرى مما يخلف أسوأ الأضرار على فكرة الوحدة والتوحيد.
وفي قراءة أشد إيلاماً فإن الحديث عن الوحدة الإسلامية كان في الماضي هو العنوان الذي يلتزمه الخطاب الرسمي لهذه الأمم ولكن عبارة الوحدة رحلت لتحل محلها عبارة التضامن الإسلامي لأنها أكثر واقعية وملائمة, ثم انسحبت كلمة التضامن بعد أن عجزت عن إقناع الناس بواقعيتها ونتحدث اليوم عن التعارف الإسلامي, وفي العراق مثلاً صار الحديث ممكناً فقط عن التعايش الإسلامي, وفي فلسطين تناحر الإخوة أبناء القضية في خنادق الكفاح, على الرغم من توحدهم في الدين والمذهب والقومية والعقيدة والرسالة, وانتقلت البندقية من كتف إلى كتف, ووجد المسلم نفسه في مواجهة غبية مع أخيه, لا يدري فيها القاتل لم قتل ولا المقتول لم يقتل, وكانت في صراعها العابث على حد قول البحتري في وصف الحرب الأهلية لبنى تغلب:
وفرسان هيجاء تجيش صدورها بأحقادها حتى تضيق دروعها
إذا احتربت يوماً فسألت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
أما حركات العنف الوالغة في الدماء الإسلامية اليوم في العراق فإنها تكتفي من هذه المعايير بالدعوة إلى الرحمة عند قتل المخالف على أساس ان الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته!!
ألا يجعل هذا كله كلامنا عن البرلمان الإسلامي لوناً من العبث? وهل هناك حقاً مشترك إسلامي يكفي هكذا طموح? لقد قرأنا الصورة من أشد زواياها إحباطاً وبؤساً, ولكن دراسة واعية للتاريخ وللحاضر ستجعلنا ندرك أن آمالنا في التوحد ليست شيئاً خارج تاريخ العالم, فنحن أبناء هذه الأرض, وتاريخنا شهد كثيراً من الدماء ولكنه أيضاً شهد فترات هائلة من التوحد, عصفت بما كان من الخصام والشقاق وأسست لروح من التلاقي والتراحم.
إن الكلام عن الوحدة هو شأن النخب المؤمنة بالحوار والتكامل, والناس فروقيون وجمعيون, ومنهم من يبحث عن المشترك ومنهم من يبحث عن المختلف, ولا شك أن الذين يجعلون رسالتهم في تأكيد التمايزات لن يصلوا إلى أي لون من التوحد, وسيكون عناؤهم في غير غاية, فالتوحد بمعنى إلغاء الآخر, وإعادة قولبة الناس على نسق محدد صارم هو مشروع حرب, ولن يصل الإنسان إلى هذا اللون من التوحد على مستوى الضيعة والقرية بل في إطار الأسرة حتى مع نفسه إياها, بدءاً من أصابع يديك إلى أظفار رجليك إلى سرورك وحزنك إلى قبضك وبسطك إلى فرحك ورضاك: وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب
بعيداً عن الجدل الفلسفي فإن الحلم بالبرلمان الإسلامي ليس وهماً هلامياً, بل هو مشروع حقيقي لنهضة هذه الأمة, وهو ليس بالضرورة شيئاً مضاداً للبرلمان العربي ولا للبرلمان الآسيوي ولا لبرلمان بلاد الشام, إن بالإمكان مراقبة ذلك كله ورسم صيغة توافق وتكامل بين كل الروابط التي يمكن أن تعود على الناس بالفائدة والخير.