وفي درس آخر من دروس الفتح الأعظم، فقد خرج النبي المنتصر من جوف الكعبة وحطم بيده الأصنام كلها وأعلن في يوم مجيد: أيها الإنسان إنه يوم الحرية، انتهى عصر الأوهام والخرافة، وبدأ عصر مجيد للعقل والمعرفة، ولتذهب الأصنام وما ترمز إليه إلى الجحيم، ونظر سدنة الهيكل إلى أوهامهم وهي تخر أرضاً لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً وقال بعضهم لبعض: حقاً لقد كنا في ضلال مبين.
وحين اجتاز من بوابة الكعبة أقبل عليه زعماء مكة وأشرافها يدعونه إل منازلهم وهي مطهمة بالوشي والحرير والوسائد والنمارق، وقالوا هلم يا محمد إلى دورنا وقصورنا، و لطالما صدوه عنها وأبعدوه وتآمروا على رسالته، نادوه إليها ولكنه كان في شغل آخر، وتعلقت به الأبصار أين يريد ذلك الظافر المنصور، وأي قصر ذلك الذي سيحظى بشرف وفادته عليه، وسيذكر إلى آخر الدهر على أنه خيمة النصر الأعظم،
كان من الممكن أن ينصب خيمة نصره في جبل الصفا أو جبل المروة أو جبل النور ، كان من الممكن أن ينصبها فوق ظهر الكعبة، فالحدث جليل والمشهد عاصف، ولكنه أعرض عن ذلك كله، وتجاوز زمزم والحرم والصفا والمروة وغار حراء وجبل النور،
و تولى رسول الله عن دورهم وقصورهم وتحرك ميلاً أو ميلين شمال البيت الحرام وقد تعلقت به الأبصار وخفقت له القلوب حتى دخل مقبرة الحجون، وهناك عند حجارة سود أمر أن تنصب خيمة انتصاره عند قبر خديجة!!
لقد رحلت قبل الفتح بعشر سنين، ولكنه لم ينس لها جهادها وفداءها، أراد أن يقول للعالم إن هذه المرأة كانت شريكة صبري ومن حقها اليوم أن تكون شريكة نصري، عاشت معي أيام الجراح ومن حقها اليوم أن تعيش معي أفراح النجاح، وهناك عند الحجارة السود ما جاءه مستغفر إلا استغفر له ولا معتذر إلا عفا عنه، كأنما صار الماء الذي روى ترابها طهرة للعالمين، ولو جاؤوه بملء الأرض ذنوباً لأتاهم بملئها غفراناً وفاء للروح الهادئة الوقور التي سكنت مقبرة الحجون.
لقد أراد أن يعلم العالم أن الحب الخالد لا ينتهي بالموت وإنما يتصل فيه شوق الدنيا بنعيم الآخرة، إنها صورة حب خالد طاهر زرع في الأرض وأينع في السماء.
أراد أن يقول للعالم إن قلوب الأنبياء الموصولة بمجد السماء هي أيضاً قلوب دافئة تعرف الحب والوجد والغرام والهيام والجوى والنوى وكلف والوجد، وتتقن تماماً كيف توقد شموع المحبة على فراش الحلال.
أراد أن يقول للعالم إن أصحاب الرسالات وهم يخوضون كفاحهم المرير، من أجل تغيير العالم هم أيضاً أصحاب قلوب، يبكيهم الشوق ويسهرهم النوى ويعزفون أعذب نشيد الحب على أطلال الذكريات.
لا تزال خيمته البريئة عند مقبرة الحجون تلهم العشاق درس الوفاء والحب الخالد.