هكذا أعلن رئيس (ما تبقى من سوريا) بعد سلسلة هزائم مني بها الجيش لا يمكن تصنيفها إلا في باب الجنون والعبث بالإنسان والحياة….
ومعنى ذلك اننا مستمرون في القتال والموت حتى النهاية…..
لم يقل أبداً إن الارواح التي تزهق كل يوم يمكن أن تفيد في مكان آخر، وأن الموت ليس هو القدر الحتم الذي كتب على جيشنا وشعبنا، وأن العنف يأتي بالعنف، والثأر يستتبع الثأر، وأن القهر منبت التطرف، وأن علينا أن نصنع السلام مع شعبنا مهما كانت التنازلات مؤلمة، وأنه ببساطة يمكن لرحيل فلان أو بقاء فلان أن يغير هذه المعادلة المجنونة ويقي الناس شر الحرب، وأنه لا شيء جميل في الحرب، ولا حتى نهايتها….
سقطت أريحا يوم أمس وشاهد الناس هروب مئات الضباط والعناصر من الجيش هائمين إلى السهول والجبال، يتواثبون فوق جثث رفاقهم، وقد تقطعت بهم الأسباب، وهو مشهد يبدو أنه سيتكرر بتصاعد كبير خلال رمضان القادم حتى يبلغ تلبيسة والرستن في ريف حمص على أقل تقدير، حيث يستمر الثوار في تقدمهم ويدرك العسكريون بالتالي أنهم ليسوا أحجاراً على رقعة الشطرنج وأنهم ليسوا مضطرين للموت دفاعاً عن نظام متهالك بائس لم يعد قادرً على حمايتهم ولا يستحق هذه التضحيات.
على شاشة التلفزيون السوري صباح سقوط أريحا برامج إعادة للقاءات كئيبة حول المقاومة والممانعة، فيما الشريط الإخباري يزدحم بعنوانين لعيينين يكرران لعبة الموت إياها، عنوان يذكر الانسحاب التكتيكي من أريحا وأسماء قتلى الجيش من الرتب العالية والمتوسطة، وعنوان آخر يدعو المواطنين الراغبين بالالتحاق بالجيش من البنات والشباب التقدم إلى وزارة الدفاع، والمشهد هو هو، الموت وصناعة الموت والإعداد لموت جديد، ولا شيء يتغير سوى أعداد القتلى.
لم تشأ هذه القيادة الموتورة أن تدرك أنه من أصل نحو مائة وخمسين فصيلا محارباً في سوريا هناك أكثر من مائة فصيل مستعدون لوقف الحرب كلها، وتفكيك تشكيلاتهم العسكرية يوم يعلن بشار الأسد عن قبوله مبدأ هيئة حكم ليس فيها قاتل ولا متهم بالقتل، وهم مستعدون فوراً للعودة للحياة المدنية أو للانخراط في جيش تقوده كفاءات وطبية لا علاقة لها بداعش ولا بالأسد، ولا بالنصرة ولا بالبعث….. أليس هذا حلاً ينبغي ان نعمل لأجله؟؟ أليس توفير آلاف الارواح التي تزهق كل يوم خيراً من المضي في الحرب المجنونة إلى نهاية لا يتمناها ولا يفهمها أي عاقل؟
يصر بشار الأسد ومن حوله كهنة الموت على الاستمرار، وينهمر محللوه ومنظروه على البوط العسكري يمجدونه ويزخرفونه وينادون به خلاصاً وأملاً ، يغنون له ويقيمون له التماثيل، ويستقبلونه ضيفاً في المقابلات التلفزيونية يتلذذون بتقبيله أمام الكاميرات، ولا يتحدث أحد منهم عن العقل العسكري الذي يرفض الخوض في الحروب الخاسرة، ولا عن الشرف العسكري الذي يرفض توجيه السلاح إلى أهله ويرفض إلقاء البراميل على شعبه، وهكذا يموت العقل العسكري والشرف العسكري وتستيقظ غريزة البوط العسكري وما يحمله في جواربه وروائحه من مشاعر مائتة.
متى يدرك الإنسان أن الحرب جنون وليست حلاً ؟؟؟؟
للأم الثكلى بكاؤها وحسرتها، وللمشرد عذاباته، وصوت الطفولة تحت الركام يستخرج القهر من كل من يستمع إليه، وكل من على الأرض يقول أوقفوا الحرب، ولكن المجانين الذين يملكون السلاح لا يرون لهذه الكارثة آخراً إلا استئصال الطرف الآخر..
لم أكتم فرحتي بخلاص إدلب وبصرى وجسر الشغور وأريحا وهي انتصارات متتالية للثوار، ولكنني كنت في الجانب الآخر شديد القهر حين امتدت الحرب لتتحول إلى صراع طائفي يقتل الناس فيه على الهوية، وحين كتبت أرفض القتل على الهوية تلقيت كيلاً من الاعتراض والرفض، لقد تغير الناس، ولم يعد كثير من السوريين يرون في القتل على الهوية بأساً، فالعدو هنا هو الطائفة رجلاً أو امرأة، محارباً أو مسالماً، كبيرا او صغيراً، لقد استيقظت سادية الموت وأصبح السوري شيئاً آخر لا صلة له بالمآذن والمنارات المتعانقة، ولا بتلاحم السهل والجبل، ولا بثورة هنانو وسطان الأطرش وصالح العلي، ولا بثقافة الكلمة السواء، وشراكة رغيف الخبز الذي تزرعه طائفة وتحصده طائفة وتخبزه طائفه ويأكله الجميع….
ولو لحظة واحدة، يمكن أن نتأمل في الآخر بأنه أيضاً إنسان، كثير من المحاربين لا يحملون أي رؤية عقائدية عن قتالهم وحربهم، إنها مواقع وجدوا أنفسهم فيها، ولو كنت مكانهم لكنت واحداً منهم، ويشتد البؤس عند شباب التجنيد الإلزامي الذين تأخذهم وحدات التجنيد إلى مصارعهم، وحين يهربون منها تطالهم رصاصات الجيش المتربص بعناصره، فمن نجا لم يعدم رصاص الثوار المتربصين بالجيش والعاملين في فلكه وغاياته.
لقد رأيتهم أمهات المقاتلين من الجيش، الجنائز التي تودع كل يوم، الطيارة التي تهبط كل يوم في العاشرة والنصف في مطار حميميم، وسيارات الموتى التي صارت ملتزمة بشكل يومي بالحضور إلى المطار تمام العاشرة والنصف، فهناك موعد مع الموت لا يتخلف أبدأً، والدموع على مساحة الوطن، وأصبح لدى السوريين خزان من العاطفة والرثاء والبكاء يكفي سكان الأرض جميعاً لعدة قرون….
من يتحمل أقدار الموت اللئيم الذي يعصف بأبناء هذا الجيش من شباب الوطن المساكين الذين لا ذنب لهم إلا انهم وجدوا في المكان الخطأ.
ويستمر العناد والتيسنة (مصطلح شامي) بعد كل أهوال الموت للاستمرار في الموت إياه والقلتل إياه والبأساء إياها…
هل يشعر الأسد بمأساة طائفة فقدت جيلاً كاملاً من أبنائها في سبيل الجنون الذي قاده العقل المخابراتي الأمني الذي يتصرف بلا قلب ولا مشاعر، ولا يملك حلولاً في العقل العسكري ولا في الشرف العسكري، وينحصر وعيه في قدرات البوط العسكري الأعمى.
previous post