نشرت في بناة المستقبل عدد 1 أكتوبر 2013
إنهم يرسمون المستقبل على وفق شتاتنا
ومارك سايكس هو وزير خارجية بريطانيا وفرانسوا جورج بيكو هو وزير خارجية فرنسا، واشتهرت الوثائق باسم الرجلين عندما تم التفاهم بينهما على رسم خريطة بلاد الشام والعراق في عام 1916 وبقيت اتفاقا سرياً حتى قامت الحكومة الروسية بالاعلان عنها في عام 1917 بعد قيام الثورة الحمراء.
وتحظى هذه الاتفاقية بسمعة سيئة في كل الأدبيات العربية التي أرخت لمرحلة سقوط الدولة العثمانية واعتبرت ذلك تآمراً على العرب والوحدة العربية، وهكذا تعلمنا في المدارس منذ أكثر من تسعين عاماً.
كما ارتبطت هذه التفاقة السوداء بتكريس الانقسام العربي وبأنها ردة على أدبيات الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين والتي كانت في الحقيقة بهدف قيام كيان عربي واحد من المحيط إلى الخليج، ولكنه كرس انقساماً جلياً في الشرق العربي ولم ينتج أي حالة وحدة في المغرب العربي.
ولكننا لم نسأل أنفسنا السؤال الحقيقي إزاء هذه ا الضلال التاريخي، من هو المسؤول حقيقة عن هذا الهوان السياسي وضياع الكرامة الذي جعل العرب لعبة للأمم وجعل مصائرهم تقرر نيابة عنهم في دهاليز السياسة الاوروبية؟
قناعتي أن سايمس وبيكو والوزير الروسي الذي ظل اسمه مغفلاً في الاتفاقية ولولا قيام الثورة الحمراء لكان اسم المتآمرين ثلاثة، قناعتي أن هؤلاء الثلاثة لا يتحملون في الحقيقة إلا دور مهندس الغرافيك في أي عمل درامي، فقد تكفل الخصام والشتات العربي والريب والانقسام الثقافي والحضاري للعرب بمهمة الإخراج لواقع الانقسام والتجزئة، فيما قام الحكام العرب فيما بعد بأداء دور المخرج المنفد لكل مخرجات سايكس بيكو على الأرض.
من المدهش أن سايكس بيكو رسما صورة المشرق العربي على الورق، فيما قام الحكام العرب خلال الأعوام التسعين الآتية برسم ملامح هذه الحدود في الجغرافيا والواقع، وشدوا الأسلاك الشائكة وأحياناً الملغمة على طول الحدود، ونشروا قوات الهجانة الصارمة ببنادقها لتضرب في الميان كل من تسول له نفسه الأمارة بالسوء رفع الحدود بين العرب، والدعوة إلى الوحدة العربية، وهكذا فإن حكام العرب قاموا بلعن هذه التفاقية تسعين عاماً بدون توقف ولا يزالون، ولكنهم في الواقع مارسوا حراسة هذه التجزئة بكل حماس واندفاع، وقاموا بتعميدها بالدم، وتحولت خراط سايكس يسكو إلى مسلمات وطنية يقاتل عليها العرب، وتصدرت هذه الخرائط كل مراكز الثقافة والسياسة العربية من المتاحف والمدارس والجامعات والمراكز الثقافية والصحية والخدمية وأمانة العاصمة والسفارات في الخارج، وكأنما نزل تكريس حدود الدولة القطرية في القرآن أو الإنجيل، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسجلت في سبيل الدفاع عن هذه الحدود الملعونة نحو تسعة حروب خلال هذه الفترة بين العرب أنفسهم، منها غزو العراق للكويت وحرب تحرير الكويت بالتعاون مع الامريكان ومنها الحرب الأهلية في لبنان والحروب في اليمن الشمالي والحنوبي والصراع الجزائري المغاربي على الصحراء، ونزاع حلايب ومواجهات رفح وأخيراً حروب الثورة السورية وظلالها الكردية وأمراء الحرب.
قناعتي أن سايكس بيكو لم تفرض على العرب واقعاً جديداً وإنما قرأت الواقع المتشظي للعرب، وعكسته على مرآة محايدة، ورسمته على الورق، فيما قام بالدور الانفصالي بكل حماس حكام العرب من أصحاب الجلالة والعظمة والفخامة والسمو، يأمرون الناس بالبر والوحدة وينسون أنفسهم في قوقعة الخصام والتفرقة والتجزئة والضياع.
ومع انتشار المد القومي في الخمسينات ووصول القوميين إلى الحكم في الستينات فإن هذه الصيحات الثورية للوحدة العربية التي كرستها حنجرة عبد الناصر القوية، والخطابات الرنانة لحكام سوريا والعراق، لم تتعد طبول الإيكو، فيما استمر الحكام العرب بختم سايكس بيكو بكل أمانة على كل جواز يتحرك في ربوع العرب، وظلت العملات الوطنية وفية لسايكس بيكو ولم يستطع الحكام العرب على الرغم من صراخهم وعويلهم حول السيادة والوحدة العربية والكرامة العربية أن يوحدوا بين درهم أو دينار أو ليرة أو جنيه، ولم يتمكنوا من توحيد قوانين الهجرة أو الحنسية أو التعليم أو القضاء أو الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو التصدير، وظل لكل مشيخة عربية أنظمتها ومراسيمها وبلاغاتها وإراداتها الملكية والأميرية والمشيخية والرئاسية والسلطانية والجماهيرية … وظل كل ديك على مزبلته صياحا، وظل العرب في شتات، وظل مأمور الحدود يتلقى يوماً بعد يوم مزيداً من الأوامر حول ضبط الحدود، وتعقيد الشروط، وضبط الطوابير وتفنيش المخالفين ورصد مجانين العرب الذين ظلوا يحلمون مع غوار الطوشة بغربستان وشرقستان العربية في فلك الحدود.
اليوم يتلمظ كيري ولافروف لجنيف اثنين، والمطلوب والمتوقع من جنيف اثنين هو استكمال خرائط سايكس بيكو في التقسيم ولكن هذه المرة على مبدأ تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، وهم لا يخفون نواياهم الصريحة في هذا السياق بأن المطلوب هو إحداث توازن على الأرض يسمح بانعقاد مؤتمر جنيف، ودون أدنى شك فإن كلمة توازن هنا كما يفهما أي ذكي وأي أهبل، هي إحداث تقسيم على الأرض يكفي لإطلاق الخريطة الحديدة التي ستكون أكثر ألواناً وأضيق بستاناً، وستبدو سايكس بيكو القديمة حلماً قومياً وحدويا غير قابل للتطبيق أمام الخريطة الجديدة لكيري ولافروف التي سيطلقانها في العشاء الرباني في جنيف الثانية.
ولكن السؤال الكبير هنا من يتحمل وزر سايكس بيكو الجديد بكل هوانها وشرذمتها وانقساماتها؟
الجواب برايي هو نفس ما قدمه الفيلسوف العربي الكبير مالك نبي تحت عنوان القابلية بالاستعمار، وهو ما يسميه كتاب عرب آخرون الاستحمار، حين يبحث المرء عن فوائد التبعية والذيلية، ويزخرف عيدان قفص سجنه، ويشك في ذاته وقدراته ويتكئ على إرادة الغرباء، ويتعلق بها بوصفها السلوك الأكثر سلامة والأقل خظراً، وهو اليوم ما تقدمه حركات عربية كثيرة على مذبح الصراع في الشرق الأوسط.
كيري ولافروف ليسا شيطانين ماردين يتصرفان لحساب مافيا كليبتوقراط، وليسا بالتالي خلفاء راشدين يعبدون العدالة، إنهما باختصار وزيران يمثلان القوى الكبرى، وفي غياب قرار موحد لمجلس الأمن فإن كلاً منهما لا يملك قرار حسم، ولكنهما يبحثان عن مصالح بلادهما في ركام الصراع.
كيري ولافروف، إنهما باختصار لا يصنعان التاريخ، وإنما يقرآنه، إنهما يرسمانه على وفق شتاتنا وخصامنا وحصائد الاستبداد الإجرامي على أرض سوريا، ولا أشك أن الألوف من الاتكاليين العرب ينتظرون بفارغ الصبر وثيقة كيري لافروف ليبدؤوا طقوس اللعن الأبدية لهذه الوثيقة الاستعمارية، ولكنهم في الوقت نفسه سيبدؤون الدفاع عنها والقتال على وفق دلالتها لعقود قادمة، وسيعمِّدون اتفاق الوزيرين الكبيرين بالدم العربي تحت عنوان حماية السيادة الوطنية، حتى ولو تحولت هذه السيادة من الوطن العربي الكبير المنشود إلى أمارة ضيعة ضائعة وما يحيط بها من شبيحة ومنحبكجيين.
قال مارتن لوثر كينغ: لا يستطيع أحد أن يركب على ظهرك إلا إذا وجده محنياً.
previous post