Uncategorized

الخوارج يفرضون الجزية… د.محمد حبش 2016

نشرت في بناة المستقبل عدد 6 مارس 2014
أعلنت داعش تطبيق الجزية على من تبقى من المسيحيين في الرقة، في موقف صادم لكل ما أنجزته البشرية من مبادئ المساواة والكرامة الإنسانية.
تماما كما هو متوقع فقد تبع هذا الأمر استنكار شديد من كل مراجع الفقه الاسلامي في سوريا، وقد صرح الجميع بان داعش ليست نموذجا اسلاميا صالحا، وأنها تتبع منهج الخوارج في حربها على الأمة، وان سلوكها الهائج وافتقارها للبيعة الصحيحة لا يخولها تنفيذ الحدود والأحكام، ويجعل فتاويها باطلة أصلاً وفرعاً ولا يصح التعويل عليها في شيء.
ولكن هذا الموقف الشخصاني من داعش لا يحل المسالة ويبقى السؤال الكبير إذا كانت داعش غير مؤهلة شرعا لتنفيذ هذا الحكم فهل معنى ذلك أننا ننتظر دولة أكثر عدلاً تنفذ هذا الحكم؟ وأن على داعش أن ترحل إذن ليأتي من هو أكثر منها تأهيلاً لاستلام الجزية من المواطنين النصارى!!
وهكذا يجد قسم من أبناء الوطن أنفسهم في مواجهة مباشرة مع الشريعة التي تريد أن تشرع الجزية قدراً لازباً ضد أولئك الذين يختارون أن يعتصموا بدينهم، ولا يرغبون بالتحول إلى الإسلام.
ومع أن مجلة بناة المستقبل ليست صحيفة متخصصة في الجدل الفقهي، ولكننا مضطرون لتجلية بعض الحقائق هنا دفاعا عن قيم الإسلام ومبادئه، في مواجهة هذا التشويش المتعمد الذي يسيء لرسالته في الرحمة والعدل.
فهل فرض الإسلام الجزية والصغار على الناس ليجبرهم على ترك اعتقاداتهم واعتناق الإسلام؟
وهل تعتبر الجزية من وسائل الإسلام للتمييز بين الناس، وفرض الإذلال على طائفة من المواطنين لصالح طائفة أخرى؟
وفي إطار الدفاع عن سلوك داعش راح بعضهم يكتب في محاسن الجزية، ويقول إنها ليست تمييزا ولا صغاراً ولا إذلالاً، وإنها تمثل فقط البدل العسكري عن المواطن المسيحي الذي لا يصح له الاشتراك في الجيش كما يفعل المسلمون، ولذلك يكلف بدفع هذا البدل النقدي.
والحق أن هذا الكلام الذي يقنع البسطاء لا يمكنه أبداً أن يقنع أهل الإنصاف، إذ يتعين مباشرة السؤال التلقائي: ولماذا لا يحق للمسيحي المشاركة في وظائف الدولة الهامة أو في جيشها ؟؟ إنه نوع آخر من التمييز لا يقل قسوة عن الجزية، كما أن بعضهم يذهب في تلميع الجزية إلى مستوى اعتبارها رسم طابع المجهود الحربي يؤديها المسيحي وهو مبتهج مسرور!! ولكن هؤلاء يغفلون عن دلالة النص الظاهرة في وجوب إذلال من ضربت عليه الذلة وقتاله حتى يعطي الجزية عن يد وهو صاغر، وهو مضمون النص القرآني بصيغته المباشرة.
قناعتي أنه لا يمكن على الإطلاق مهما زركشنا مبدأ الجزية أن نتقبله في مواجهة مبدأ إسلامي أصيل يعزز المساواة، وهو أنه لا إكراه في الدين، ولا شك أن الإكراه لا يقتصر على رفع السلاح في وجه امرئ ما ليدخل في الإسلام، بل إن الإكراه ألوان وأنواع، والحصار إكراه ومنع الوظائف إكراه، والتمييز بين الناس لون من الإكراه، ودفع الجزية عن يد وهم صاغرون إكراه، وهذه كلها قيم تتناقض مع النص القرآني نفسه، وكل ذلك مناقض لأصل من أصول الشريعة الغراء: لا إكراه في الدين.
إن التفسير الواقعي للجزية لا يمكن أن يتم إلا في سياق سبب نزول الآيات وظروف تنزلها، وهو كما ظاهر الآية أنها شرعت في مواجهة قوم يحاربون الإسلام ويمزقون وحدة الأمة، وقد تمثل هذ الجانب في صدر الإسلام في سلوك بعض الغساسنة من أهل الكتاب الذين وضعوا أنفسهم في خدمة المستعمر الروماني وقدموله كل ما يريد، وحين أرسل لهم النبي الكريم سفيره الخارث بن عمير الأزدي قام شرحبيل بن عمر الغساني فقتله خلافاً لكل قواعد المنطق والعرف وأن الرسل لا تقتل، ثم قاموا بحشد الجيوش على حدود جزيرة العرب الشمالية وأوشك بنو الأصفر أن ينقضوا على دولة الإسلام الناشئة بكيد مباشر من هذه المجموعة التي تزعم الانتساب لأهل الكتاب، فكان جواب القرآن الكريم واضحاً: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون وما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وواضح هنا أن فرض الجزية عليهم جاء بعد حرب طاحنة، ودماء وشهداء، وفي النهاية أجبروا على الاستسلام، وكان من العقل أن يفرض على هؤلاء المهزومين لون من الصغار والذل حتى لا يفكروا مرة أخرى باستباحة الدولة الإسلامية والتآمر مع أعدائها.
إن المقصود هنا بفرض الجزية هو المحارب المهزوم، وقد انكسر سيفه على نفس تغلي بالضغائن، ولا بد من اتقاء شره بالوسائل الممكنة.
والسياق واضح بأنه ليس المقصود بالجزية أبداً ذلك المواطن الذي ينتمي لأهل الكتاب في ثقافته ويعيش مع أهله وإخوانه في وطن واحد يتقاسم الرغيف مع أهله ويشاركهم الحلوة والمرة.
وهؤلاء جاءت في حقهم النصوص الواضحة في القرآن الكريم: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فكيف يجزم القرآن الكريم بأنه لا خوف عليهم ولا حزن ثم يفرض عليهم موقع الصغار والذلة ودفع الذهب جزية وهواناً وهو نقيض ما جاء في كتاب الله؟؟
إنني أحيي المواقف الباسل لعلماء الشريعة الإسلامية في إدانة ما فعلته داعش، ولكنني أحزن حين أجد اعتراضهم يقتصر على شكلانية السلوك الداعشي، دون الثورة على جوهر المسألة الذي يحتوي على التمييز الديني والطائفي المباشر، وتشريع الظلم ضد الناس بناء على اعتقادهم الديني.
إن الجزية في سياقها التاريخي شكل من أشكال الحرب، وتجد تفاصيل أحكامها دوماً في باب الحرب من كتب الفقه، وكما أشارت الآية فهي حكم يفرض بعد قتال مرير، ولا يصح بحال من الأحوال فرضه على جزء من المواطنين لم يمارسوا القتال ولا التآمر ولا الخيانة.
وحكم الجزية باق في حق المحاربين، وهو الحكم المناسب حين تقوم جيوش المسلمين الجرارة بقتال أهل الكتاب من المحاربين كالصهاينة المغتصبين، أو الصرب الذين ارتكبوا المجازر الدامية في سريرينتسا وكوسوفو، وعند الانتصار عليهم فإن فرض الجزية هنا يبدو منطقياً وواقعياً وأسلوباً مناسباً لرد كيدهم وقمع شرهم.
إن تجلية هذه الحقائق فرض واجب، وإن إخوتنا من أبناء السيد المسيح مدعوون معنا لقراءة القرآن الكريم بروح الإيمان والمحبة، ليقفوا معنا على الآية في سياقها وسباقها، موصولة الدلالة بالتعامل مع المحارب المتآمر المهزوم، وليست أبداً في مواجهة المواطن الذي يشارك في بناء وطنه عن مسؤولية والتزام.
إن سوريا التي قدمت أروع نماذج العيش المشترك واختارت فارس الخوري ليمثلها في المجلس النيابي ومجلس الوزراء وعصبة الأمم، لا يمكنها على الإطلاق تقبل ثقافة ظلامية تشوه الإسلام وتسيء إلى قيمه الحكيمة الرائعة، ولم نسمع واحداً من فقهاء سوريا الكبار الذين كانوا أقرب أصدقاء فارس الخوري وأعز رفاقه، يتخدث عن رفض لدور فارس الخوري في أعلى مناصب الدولة ناهيك عن الدعوة الباردة لدفع الجزية عن يد وهم صاغرون.
إنها دعوة لفهم الإسلام في مقاصده الكبرى، ومواجهة مباشرة مع تيار ظاهر النص الذي يطالب بتطبيق حرفي للنصوص دون النظر في مقاصدها الكبرى وغاياتها النبيلة.
إذاا أردنا أن يبقى الإسلام حياً فعلينا أن نأخذ من تراث الآباء.. الجذوة .. لا الرماد….

Related posts

د.محمد حبش- لماذا نحتفل برسول الله؟ 12/12/2016

drmohammad

سوريون في بلاد (الكفار)….محمد حبش 2016

drmohammad

رمضانيات-خيمة رمضان في الشام-د.محمد حبش-نشرت2010

drmohammad

Leave a Comment