تجري كلمات إقبال أغنية ظاهرة على لسان الهاتفين للحرية، حيث حلقت كلماته في الآفاق تخفق بأجنحة كثيرة، وأصبحت نشيداً وحلماً في ضمير كل تائق للحرية والكرامة والمجد، واستقرت كلماته في الضمائر مشروعاً لإحياء حركات نهضوية على اختلاف مشاربها، وغنى قصائده كل مشروع إسلامي من طالبان إلى أردوغان وما بينهما في الزمان والمكان.
كانت أول تأملات إقبال من بريطانيا الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، وكان الرغد الذي توفره العاصمة العتيقة للراغبين في نمط آخر من الحياة كافية لإقبال الطالب الهندي في جامعة لندن ليختار الجانب المزدهر من التاريخ، وينغمس في الرفاهية البريطانية التي توفرها له بسهولة شهاداته ونجاحاته وعلاقاته.
ولكن الرجل كان مسكوناً بهم آخر، حيث يحترق في فؤاده ذلك العشق الشرقي الساحر، وتتردد في مقلتيه مشاهد لا يراها الإنكليزي التائه، وللأسف لا يعرفها أيضاً ذلك المسلم المسكون بالرضا والهوان، وكان في غربته تلك يتطلع بجراة إلى السماء قائلاً:
ما زال فكري في سمائك حائراً فاحبسه في فلك من الأفلاك
تأبى علي ملائكيــــــة فطرتي أن أُستفزَّ بهذه الأشـــــواك
لم تستطع أوربا اللاهية ببريقها الفتان أن تسلب لب الشاعر، كانت عيناه الحاذقتان تكتشفان مباشرة ما تحت البريق من زيف، وكان يؤمن بأن عالمه الشرقي عالم جميل، وأن الحضارة الإسلامية كانت تزرع السنابل في حواضر الغرب، وأن رسالته الحقيقية هناك في أرض البنجاب التي تفيض لبناً وعسلاً حيث يعيش مائة مليون مسلم في القارة العجيبة، وأن حقهم في النهضة والقيام أكيد ومشروع، وعليه أن يعمل لبعث إرادة الحياة في شعب يوشك أن يستسلم للموت.
رأيت فلاســـــــفة بالألوف رؤوسهم تحت أطمارها
وذو الوحي يكشف عن رأسه ويهتـــــك أستار أسرارها
بريق الحضارة أوج الترف لدى الغرب لم تستطع فتتي
أنـــــا ابن المدينة ابن النجف غبارهمــــا كان في مقلتي
غبارهمـــــــا قطرة للعيون وأنفع طب لذي علـــــــــة
مقيم برغم ريـــــــاح القرون وما كان من مستــــبد عتي
ولكن ترفع إقبال عن التقليد الأعمى للغرب، وإصراره على التفوق الشرقي الساحر للروح على المجتمعات المادية الصاخبة بالسكك الحديدية والكهرباء ودخان المصانع لم يكن يعني له الرضا عن همود الأمة وسباتها، ولم يكن ليسلمه إلى سبات ساذج … لقد أعلن مشواره الإصلاحي في داخل البيت الشرقي الإسلامي، وهناك قرر إقبال أن يقول الحقيقة الكاملة، وأن يواجه بشجاعة وقوة ثقافة الإرث المعصوم الذي يوجب على السلف اتباع الخلف، ويأمر بالوقوف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا وأن كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، وهناك اختار إقبال أن يقول الحقيقة كاملة بلغة النثر لا بلغة الشعر، ليكون أكثر دقة ووضوحاً.
ولأجل ذلك كتب كتابه الهائل: التجديد الديني في الإسلام، ولعل من الصواب القول إن مجتمعنا الإسلامي الذي لا يزال يختار ظلام القرون على فجر المستقبل لم يقرأ كتاب إقبال بعد، وربما لن يصدق ذلك الأفق البعيد الذي أراد إقبال أن يبلغه خطاب النهضة الإسلامي قبل أكثر من مائة عام.
تغني المجتمعات الإسلامية اليوم كلمات إقبال، ولكنهم لم يطلعوا على ما كتبه إقبال في التجديد الديني، وربما لو أتيح لكثير من القساة التكفيريين أن يطلعوا على ما كتبه إقبال فيه لواجهوه باتهامات الهرطقة والزندقة كما يصنعون مع كل أصحاب الأقلام الحرة والأصوات الجريئة، ولكن يبدو أن قاعدة يحق للشاعر ما لا يحق لسواه ليست شأناً لغوياً بل هي شأن اجتماعي أيضاً ويغفر للشاعر ما لا يغفر لسواه.
وفي كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام يطالب إقبال بوضوح بالحاجة إلى عقل إسلامي مختلف، بملك الشجاعة على الاختيار لمستقبله، لا تأسره قداسة القديم ولا يبهره بريق الجديد، ويبدي إعجابه بالإصلاحات الكبيرة التي يقوم بها مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، ويبدي رغبته بأن يقوم أتاتورك جديد في كل بلد إسلامي ينفض عنه غبار القرون!! ويقول ما نصه:
إن تركيا، في الحق، هي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري، وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية، وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، تلك النقلة التي تستتبع كفاحاً مريراً في ميدان العقل والأخلاق.
ولا شك أن هذا الموقف الذي أشار إليه إقبال لم يكن محض مطالعة خاطئة رجع عنها فيما بل كانت جوهر ثورته وفقهه، وقد دعا إلى هذا الإصلاح نفسه وبدأ مباشرة بدعوة إلى الثورة على امتيازات رجال الدين وكهنوتهم، وقال:
فإلى متى صمتي وحولي أمة يلهو بها السلطان والدرويش
هذا بسبحته وذاك بسيفــــــــه وكلاهمــــــا مما نكد يعيش
ويحك أيها المسلم، لا كهنوت في الإسلام، إنهم يعيشون على غبائك، ومن حقك أن تأخذ فأس الخليل لتحطم به أوهامهم، إنها أقدارك التي تدعى اليوم لحملها بيمينك دون أن تنتظر ظهيراً من الدهر، لن تستطيع أن تملك قدرك إلا عندما تواجه بقوة أساطير التاريخ العتيقة:
يا إلهي كم لنا من كعبة في حمى البيت وظل الحرم
وفقاعات قباب فوقها جعلتنـــــــــا ضحكة للأمم
إن الرجل الذي يواجه الأساطير المؤسسة للعقل الخرافي الشرقي كان يطربه أي نداء يوجه ليقظة العقل، وفي لحظة ما سجل إعجابه حتى بالحركة البابية واعتبرها إصلاحاً داخل المؤسسة الدينية الشيعية المغلقة، ولست أدري إن كان قد تراجع عن رأيه هذا بعد أن تحولت البابية إلى الدعوة البهائية وخرجت بالكلية من المجتمع الإٍسلامي.
وفي هذه الاختيارات ناقشه بعمق المفكر الإسلامي مالك بن نبي وكذلك الدكتور محمد البهي والشيخ مرتضى المطهري، وكان الجميع يدونون إعجابهم بفكر إقبال ولكنهم يتوقفون بذهول عند اختياراته التجديدية.
في كلماته شكوى وجواب شكوى يخاطب الله بلسان الأمة الإسلامية التي أدت في التاريخ أروع دور نهضوي، ويرسم ببراعة لوحاته المتتالية لدور الحضارة الإسلامية في العالم يوم كنا رواد الحضارة الإنسانية:
هل أعلن التوحيد داع قبلنا وهدى الوجوه إليك والأبصارا
من قام يهتف باسم ذاتك قبلننا من قام يدعو الواحد القهارا
كنا جبالا في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
ويمضي بشباب الأمة إلى تذكيرهم بذلك النوع من الرجال الذين حملوا عناء الرسالة وتحركوا في الآفاق يبشرون بعالم جديد تعلو فيه قيم المرحمة والعدالة:
هذي الكماة عبادك الأخيـــــــار حملوا عناء العالمين وساروا
أصحاب سرِّك والسيادة طبعهم والنور في نظراتهم والنــــــار
فعلت كموسى في البحار عصيُّهم وتراجعت لخطــــاهم الأنهار
البحر حبة خردل في كفهم والعشق في أرواحهم إعصار
ولكن الفخر بالماضي لا يجوز أن يحول دون قيام المستقبل، وإنما نحتاج من الماضي لهيبه لا رماده، وهنا بالضبط كان إقبال يرى كارثة التفكير لدى المسلمين، ويرفع شكواه بصراحة ووضوح:
أمسيت في الماضي أعيش كأنما … قطع الزمان طريق أمسي عن غدي
فإلى متى صمتي .. كأني زهرةٌ …. خرساء لم ترزق براعة منشدِ
إنها دعوة للثورة على الماضي والبناء مع المستقبل، والالتحاق بالركب الحضاري في الأمم وترك أوهام التفوق الكاذبة، والاعتراف بتخلف الأمة عن ركب الأمم.
لقد كان لهذا التوجه عند دعاة الجمود معنى واحد هو رقة الدين وقلة اليقين، وتفضيل أوروبا الكافرة على الهند المسلمة، واستنفروا لذلك كل جنود الوهم، وكان يعلم بثورته تلك أنه يهدم الأيقونات جميعاً، ولقد أثارت صيحاته تلك غضب سدنة الهيكل، وتلقى سيلاً من النقد، ولكنه أعرب بشجاعة وبصيرة عن رغبته في المواجهة حتى ولو كانت المعارضة قد حشدت له في الأرض وفي السماء.
وفي ديوانه جناج جبريل يبلغ إقبال بصيحته عنان السماء، ويطرح الأسئلة الكبيرة هناك عن سبب همود المشروع الإلهي في الأمة المسلمة فيما تتوثب الأمم وتنهض، يطالب بتغيير ثوري في عقل المسلم وفكره، ويتحدث عن سباق الأمم ونهوضها، ويشير بشكل خاص إلى الصين في ثورتها الجمهورية ضد الأباطرة، ويعتبر نهوضها وتوثبها توجهاً مباشراً نحو مقاصد الإسلام في العدالة والتنمية والبناء، في حين أن الأمة الإسلامية هائمة نائمة عن مقاصدها ورسالتها:
لما اشتتكى لله إسرافيل من شكواي قال بحرقة وتنهد
هذا الفتى قبل الأوان يريد أن ينهي الوجود بشعره المتمرد!!
فأجابه صوت أليس أشد من هذي النهاية ما ترى يا سيدي
إحرام أهل الصين داخل سورها وهمود مكة في رحاب محمد!!
ولكن أروع ما كتبه إقبال في النهضة والقيام هي ذلك الحوار الشهير الذي عقده بين آدم وإبليس..
تبدو القصة عند إقبال صراعاً بين القيام والمنام، بين الهمود والنهوض، بين الأمة الراتعة في مجد الآباء، وبين الأمة التي تبني بكدها ويدها، بين الأمة المغرورة بما لديها من وحي ونبوءة وبين الأمة القائمة بالسعي لبناء الحياة، وبالتحديد بين المجتمعات الخاملة التي استسلمت للأقدار، بين فقهاء الصوفية فصولاً في فضل الخمول وفضيلة التوكل، وبين المسلم الحق الذي هو القدر نفسه، يصنعه بيمينه، ويختار له اتجاهه، حيث يبدو عند إقبال أن الإنسان وحده سيد القدر وأن الكون كله في خدمة الثائر الصارم ابن آدم..
لقد كان يرسم لوحته بين الكسول والعامل، بين إبليس الذي اعتاد رغد الجنة ونعيمها وبين آدم الذي مضى للكفاح على الأرض…
في لقائه بآدم يطرح إبليس أسئلة متتابعة.. ألا تشعر أنك تعرضت لخدعة سماوية؟؟؟ لقد وعدك أن لا تجوع فيها ولا تعرى ولا تظمؤ ولا تضحى … ولكنني أراك اليوم تحمل قدرك البائس على الأرض، وتشمر زندك الأسمر تحصد بالمنجل وتحرث بالمسحاة، وتذوق الجوع والحر والقر والمرض والعناء، يا لها من صفقة خائبة، وعدك النعيم وقدرك العناء…..
لم يشأ آدم أن يمضي في حوار إبليس إلى حيث يريد فكاشفه مباشرة بالقول:
قال يا إبليس نحن اثنان في الجنة كنا
أنت بدلت يقيناً وأنا بدلت ظنــا
أنا يا إبليس لست صدفة تائهة في هذا العالم، أنا لست كما تقول المادية البلهاء محض تركيب هيدروكربوني صدفي عاثر قذفت به رحى الديالكتيك السائبة أدركته ظروف مناخية صدفية فانبعث يمشي على قدمين… أنا لست كذلك أيها الأبله… أنا آدم .. خليفته في أرضه ووعده في جنته، خلقني بيمينه وأسجد لي ملائكته، وهذه الذاريات ذروا والحاملات وقراً والجاريات يسراً والمرسلات عرفا كلهم جند من جندي سجدوا لي في مهرجان الله، وسخرهم لخدمتي ….ويعلم ما لا تعملون….
إن سري حين نادى مهرجانـــــــه
أمر الكل فخروا فحباني صولجانه
وفي نظرة صارمة يلتفت آدم إلى إبليس ويسأله عن رسالة الإنسان ورسالة الملائكة، ولا يتردد أبداً في تفضيل رسالة الإنسان على رسالة الملاك، يسأله عن جدوى عالم الرغد والنعيم الذي يرتع فيها الملائكة في قصور السماء يأكلون من حصاد الآخرين كما شاء لهم القدر، فيما يكون الإنسان هو القدر الذي يحكم التاريخ:
ما الذي يفعله العباد في قصر السماء
بين ريحان وبخور وسجـــــــاد وماء
هم من الخلد سكارى وأنا أحفر لحدي
أحمل الدنيا شريداً أعصر الصخر لوحدي
وفي قراءة شامخة من عزيمة ويقين يلتفت آدم إلى محاوره، ويشير بسبابة أصبعه إليه في تحد كبير.. هنا في الأرض تكمن رسالتي، أنا لست محض رجل تضحك له الأقدار… أنا هو القدر، وأنا سيد هذا العالم، ورسالتي في خلافة الأرض هي التي أحمل وأفتخر:
أنــــــا لما أعبـــد الله بحرمـــــــاني وجوعي
لن ترى في الملأ الأعلى كمثلي في خضوعي
قل لمن يســــــــأل عني أنا شيخ الحضرتين
إن عبداً لوعتــــــــــــه الأرض عبد مرتين.
هل نجح إقبال في أداء رسالته؟
لقد مضى قرن من الزمان سكن فيه إقبال في القلوب عزيمة في الأفئدة وأغنية على الشفاه ولوحة في محادج العيون ترسم ما هو جميل ورهيب.
وكأني به يدنو من الثائر الشامخ بخطاب الحرية والكرامة والتضحية، يدعوك أن تكون سيد قدرك، وأن تقرأ كتاب التاريخ كما كتبوه، وكتاب المستقبل كما تخطه بيمينك وترسمه بريشتك وتصنعه بساعديك:
ثورتي البيضاء في أرض الحجاز بيــد قل لي أين منها ثورتك
أنا ماضيـــــــــك الذي تذخـــــره بيــــــد قل لي أينه مستقبلك؟