Uncategorized

الدكتور محمد حبش-الثورات البرتقالية والربيع العربي

لماذا نجح الأوربيون في الثورات البرتقالية نهاية القرن الماضي وتخلصوا من الديكتاتورية والقهر وانتقلوا إلى الدول الديمقراطية في حين جاءت لم تنجح ثورات الربيع العربي في تحقيق أهدافها وعادت على الناس بالكوارث والمصائب؟
الأوضاع متشابهة تماما بين مرحلة نهاية القرن الماضي وبين العقد الثاني من هذا القرن، فقد كانت أوربا الشرقية تئن تحت ضغط استبداد عنيف مارسه سياسيون باطشون محترفون لأكثر من نصف قرن برعاية رسمية من الاتحاد السوفياتي وجيوشه القاسية، ولم يكن يخطر ببال أحد أن المشهد السياسي العالمي سيتغير بهذه الدراما، وكانت دراسات المحللين تتجه إلى أن أي تفكير في تغيير الواقع السياسي سيقود إلى حروب ودماء، وسيعيد إشعال الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا ورسمت تاريخا أسود معمداً بالدم لكل أشكال الحياة.
ولكن ما جرى في أوروبا الشرقية كان مدهشاً، فقد خرج الشعب يهتف للحرية، وعلى الرغم من التاريخ الدموي المخيف للحكم الأحمر والجيوش الجرارة التي كانت تملك الترسانة النووية الجبارة فقد انهارت بسرعة كل أدوات البطش ووسائله وخلال شهور قليلة رحل الطغاة ووجدت هذه الشعوب سبيلاً للتكيف مع القيم الديمقراطية، ولا ننكر انها لا تزال تتعثر في طريقها إلى العدالة الاجتماعية المنشودة.
وخلال اشهر قليلة تغير وجه العالم مع صرخات الثائرين ورحل أريش هونيكر عن ألمانيا الشرقية في اكتوبر 1989 وأسعفه مرض السرطان الذي حال دون وقوفه وراء القضبان، حيث رحل من منفاه في تشيلي، وكانت صرخات ليخ فاليسا العامل النقابي الثائر تزلزل الأرض تحت الاستبداد البولوني العريض وتقاليده الرهيبة وغودئ العالم بالثائر البولوني في القصر الرئاسي 1990
أما نيقولاي تشاوسشيسكو الذي كان رمز الدولة الحديدية الصارخ، والذي جعل رومانيا كلها أكبر سجن في العالم، فلم يكن في خيال أحد أن يتم المساس به، وحين انتفضت عليه تيمشوارا دفعت ألف شهيد من خيرة أبنائها، وحين أمر الجيش باقتحام البلد اعترض قائد الجيش ميليا وتم قتله على الفور، وقيل للطاغوت إن الناس يحبونك ويؤيدون قتل هؤلاء الارهابيين، وكان ذلك بالفعل يملأ غروره ويقنعه للاستمرار في مواجهة شعبه، ولم يستيقظ من هذا الحلم الخادع إلا يوم 22/12/1989 حين كان يخطب من شرفة مبنى اللجنة المركزية للحزب أمام جمهور كبير يهتف له كما تعود خلال 25 عاما، وعندما تحول الهتاف الى صرخة تيمشوارا تميشوارا وهي المدينة المقموعة بدباباته والمطالبة برحيل نظامه لم يستوعب ذلك أبداً، وظن أنهم يهتفون له ليستمر في قمع تيمشوارا، حتى اقتحم الغاضبون عليه بوابة المبنى وفر مذعوراً إلى سطح المبنى حيث استقل طائرته المروحية التي قادته مباشرة الى محكمة ميدانية غامضة قضى نحبه فيها اعداما بالرصاص مع زوجته ايلينا وطويت في يوم واحد قصة استبداد وقهر استمر ربع قرن بدون توقف.
كان جدار برلين قد سقط قبل ذلك بعشرة أشهر وأصبح الطريق مفتوحاً للدول المقهورة للتخلص من الأنظمة الظالمة في أوربا الشرقية ونجحت الثورات البرتقالية كلها، ألمانيا الشرقية وبولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا وتم التحول إلى الديمقراطيات المتعثرة، والتي أكملت اليوم ربع قرن من قيامها دون دماء، وسرعان ما دخلت النادي الأوربي وأصبحت تباهي بالديمقراطيات الجديدة.
ولكن هذا الحلم البرتقالي لم ينطبق على ثورات الربيع العربي، التي كانت تعاني أوضاعا مشابهة، ومع خروج الشعوب في انتفاضات الحرية وهتافها في الشوارع وقبل أن تتمكن المقاومة السلمية من تنفس ربيعها العليل الذي هتفت له في الحرية والسلمية تحولت عدة ثورات منها الى المصير الدامي الأسود كما هو الحال في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، وبنسبة أقل في مصر وتونس.
لعل من السذاجة أن يتم تعليل ذلك بأنه نتيجة اتفاق غورباتشيف وريغان على السفينة الصاخبة في ريكيافيك 1986 وأن اللاعبان الكبيران قررا هذا التحول الدراماتيكي كما لو كانت الشعوب محض أحجار على رقعة الشطرنج على حد تغبير وليام غاي كار، إنها محض أوهام ومن الظلم اختزال إرادة الشعوب الهائلة بقرارات الكبار، بل إنها كانت من وجهة نظري نضجاً طبيعياً في الوعي المجتمعي الذي حدد ثورته في القضاء على الاستبداد والأمل بالحرية والسلام مع الجميع.
قناعتي ان مشكلتنا تتلخص في نقطتين اثنتين الاستبداد والعقل الانفعالي، أما النقطة الأولى الاستبداد فقد كنا شركاء مع جارنا الاوربي الشرقي ، ولكنه استطاع ترحيل الاستبداد بدون حروب ودماء، لقد كانت الارادة الشعبية الثائرة المنظمة والدعم الدولي المباشر كافيا لهروب الديكتاتوريات وقيام ديقمراطيات جديدة.
أما الفارق الكبير بين التجربتين فهو العقل الانفعالي الغرائزي الذي لم يستطع أن ينتج مواقف متوازنة في الأزمة، ولم يقبل نهاية الاستبداد على أساس بقاء الجميع واقتسام السلطة، وارتفعت عقيرة المطالبين بالاستئصال من الطرفين، واشتهرت عبارات مقيتة آثمة مثل: تم الدعس، فطايس، إلى جهنم وبئس المصير، ورأى النظام الحل في استئصال الشعب الثائر، ورأى الثوار الحل في استصال الطائفة، وغيرها من العبارات الانفعالية التي لا يجدي معها أي خطاب عقل رشيد.
لقد كان الثوار في البداية على وعي كاف بالحذر من الذهاب إلى المستنقع الطائفي، ورفع الثوار شعارات واعية وحكيمة، ولكن ذلك لم يدم طويلاً خاصة بعد دخول حزب الله والفصائل الطائفية العراقية في هذه الحرب، وبالتالي وثب العقل الانفعالي ليواجه التطرف بمثله، ويواجه الكراهية بمثلها، ودخلت البلاد في أتون حرب طائفية يملك كل طرف مئات الشواهد على وجودها لدى الطرف الآخر، ولكن أحداً لم يقل إننا نمارس الشيء نفسه أيضاً.
يمكن القول إن النظام لم يمارس الخطاب الطائفي ولكنه مارس السلوك الطائفي، وكان بارعاً في تجنب الخطاب الطائفي، وظل خطابه الرسمي خاليا تماما من المفردات الطائفية، مع أنه مارس الطائفية بشكل مقيت ودفع البنادق للجان الشعبية على خلفية طائفية واضحة، ووضع الناس على طرفي جهنم، وأدخل البلد في حمى الحرب الطائفية اللعينة، أو على الأقل هكذا رآها وفهمها الثوار، حتى ارتفعت أصوات عاقلة في النظام برفض هذا اللون من الممارسة وإلغاء اللجان الشعبية التي كانت بالفعل وقود الحرب الطائفية الأولى.
ولكن ما يجب أن نذكره هنا هو أن الجانب الآخر لم يكن واعياً أبداً لهذه المخاوف وانجرف مباشرة معها ونفذ بالحرف ما أراده النظام الأمني المتغول الباطش، وانطلقت رياح الطائفية المجنونة تحرق الأخضر واليابس وترسم صورة الكراهية المقيتة، وتطلق شعارات الاستئصال التي عادت على النظام بأفضل النتائج وحشدت من حوله الأقليات المذعورة، التي اقتنعت بأنها هدف حتمي لموجة الجهاد القادمة، وأن حلفها مع النظام مسألة حياة أو موت أمام طوفان الجهاد.
وتسود اليوم ثقافة سوداء لدى الثوار ضد كل ما هو مجتمع دولي ومجتمع عربي، وضد شركاء كثير في الوطن ربما يشاركونهم ثورتهم ونضالهم ولكنهم لا ينتمون إلى مذهبهم في الفقه، وبوسعك أن تتصور الحرج الكبير لثوار شرفاء من الطوائف يناضلون مع الثوار وهم يسمعون بآذانهم خطاب الاستصال الطائفي يتردد تحت رايات الثورة.
لقد انتهى الخطاب البريء الذي كان يحمله غياث مطر ويحيى الشربجي وجودت سعيد وطيب تيزيني وعبد العزيز الخير وغيرهم من دعاة السلمية والتغيير الإيجابي وتم تجاوزه تماما وأصبحت الكلمة لأمراء السلاح الذين نصبوا دولتهم المنشودة داعشيا أو نصروياً وفق تجارب موغلة في التاريخ، لا تمت للحاضر والعقل بصلة، وتستهدف بالضرورة أولئك الذين لا يشتركون معنا في الظائغة أو المذهب.
يتعاظم الشعور الطائفي بين الثوار، ويتزايد الإحساس باليأس من المجتمع الدولي والقانون الدولي والأمم المتحدة والمبادرات الدولية للخلاص، تماما كما يفعل النظام، ولا يتحركون إلا في إطار بنادقهم وقدراتهم القتالية، بعد أن نفض الطرفان يديهما من العالم نتيجة العقل الانفعالي الذي يحاكم الأمور بمزاج غاضب، ولا يقبل في القوى الشريغة في هذا العالم أن تكون صديقاً مساعداً، أو وسيط مصالحة وحوار، بل يتعين عليها أن تكون مقاتلاً معنا حتى النهاية أو أن تكون عميلاً متآمراً علينا.
لقد دفعت أوروبا ثمن الخلاص من العقل الانفعالي الغرائزي سلسلة حروب دامية عرفت بالحروب الدينية حرب الثلاثين عاما وحرب المائة عام وحرب الأربعين عاما وفي النهاية الحربان العالميتان.. الدرس الأقسى في حياة الإنسانية، ونتيجة هذه الحروب والدماء فقد انطفأت الغرائز الاستئصالية القاتلة والمشاعر الطائفية المجنونة، وأدرك الناس أن عليهم أن يعيشوا معاً في هذا العالم بكل تناقضاته، وفق بيان القرآن الأول: وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، وتمكن الناس من حصر نضالهم وكفاحهم في الخلاص من الاستبداد، ونجحوا في بناء علاقات صحيحة واعية على أساس من حقوق الإنسان والقانون الدولي.
ريما كانت يوفوسلافيا هي البلد الأكصر شبها ببلاد الربيع العربي وقد نجح الاستبداد بالفعل في تحويلها جزئيا إلى حرب طائفية، ودفعت ثمناً باهظاً من خيرة أبنائها وقوداً للحرب الطائفية المجنونة، ولم تستطع سوغوسلافيا الخلاص إلا بعد حرب طائفية دامية وتدخل دولي مباشر، وتقسيم صارم قضى على آمال العيش المشترك لعقود طويلة.
فهل يحتاج الربيع العربي إلى تذوق الكأس الأوربية الدامية التي استمرت قروناً حتى تخلصت من النزعة الالغائية والاستقصائية؟ أم أن العقل والتننوير يمكنه أن يحرق هذه المراحل ويجتاز عن طريق الوعي والخبرة والتجربة عذابات الأمم، ويقدم ثائراً مثقفاً يقاوم الاستبداد بشجاعة، ولكنه يقبل العيش في النهاية مع خصومه ولا يرضى دمار وطنه من أجل غريزة الانتقام.
سؤال برسم قادة التنوير في بلاد الربيع العربي المعذبة.

Related posts

أوروبا والإسلام… مستقبل الصدام والوئام

drmohammad

متواتر التنزيل

drmohammad

الدكتور محمد حبش-القراءة المنكوسة للإسلام.داعش نموذجاً

drmohammad

Leave a Comment